الحقيقة في تناقص الاحتياطيات الأجنبية

ما هي حقيقة اختفاء ترليون ريال من خزينة الدولة؟

د. حمزة بن محمد السالم

وقعت على مقال، لأستاذنا الكبير جمال خاشقجي، فيه أخبار استنكَرتُها عقلا، منقولة عن تصريحات محمد آل الشيخ، وزير الدولة وعضو مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، لمجلة «بلومبرغ» في نيسان (أبريل) ٢٠١٦.

وهي، كما قال استاذنا، «تستحق أن تنشر مرة أخرى». ومنوها في إشارة لطيفة لمن كان وراءها، بوصف محمد آل الشيخ بأنه من «القيادات الفاعلة في عمليات «إنقاذ» الاقتصاد السعودي لا إصلاحه فقط»، وبهذا برر استاذنا الخاشقجي حال آل الشيخ بأنه «كان أكثر تفصيلاً في شرح خطورة الوضع الاقتصادي».

فعدت أدراجي الى بلومبرغ لأتأكد من دقة فهمي للترجمة، فوجدت ما هو أشد إنكاراً للواقع فضلا عن إنكار العقل.

وتصريحات آل الشيخ تنقسم إلى قسمين رئيسيين:

الأول: يتناول الاحتياطيات السعودية الخارجية، وكيف أنها كانت تنهار في بداية النصف الأول لعام ٢٠١٥، حتى تم استدراكها والتخفيف من تناقصها، في التسعة أشهر التي تلتها. وهذا عكس الحقيقة تماما، وهو الذي سنبينه هنا.

الثاني: أنه كان هناك هدر مالي شديد في الدولة، حتى تم استدراكه بإجراءات التقشف، وبالإجراءات التي أسماها استاذنا الخاشقجي «أزمة تأخر الدفعات لشركات المقاولات الكبرى».

والهدر المالي قبل ٢٠١٥، بسبب الفساد والجهل، حقيقة نعلمها بعموم ملامستنا للأوضاع. ولكن انه قد تم استدراكه فهذا غير صحيح، ليس بعموم ملامستنا للأوضاع، بل ان الأرقام الرسمية تثبت عكسه. فالهدر المالي قد زاد ولكنه أصبح غامضا، لا يُعرف أين ذهبت الأموال. فالأرقام الرسمية تظهر اختفاء مئات المليارات، ولكن لا ندري أين اختفت.

فإلى بيان ذلك من الأرقام الرسمية لمؤسسة النقد بوصف تجريدي، لا مدخل فيه للظن او الهوى أو تأثير التصورات.

الاحتياطيات السعودية في الخارج
 
الخبير الإقتصادي الدكتور حمزة السالم

في تقرير آل الشيخ «لكبح الإنفاق الحكومي»، كما وصفت بلومبرغ حديث آل الشيخ، ذكر آل الشيخ ما نصه «إن إحراق الاحتياطيات بمعدل ثلاثين مليار دولار شهريا في النصف الأول لعام ٢٠١٥م، قد بدأ في النزول». وهذا القول ليس بعيدا عن الصحة فقط، بل عكس الواقع تماما. وذلك حسب المعلومات الرسمية المنشورة لمؤسسة النقد.

والاحتياطيات المقصودة هي الأصول الأقرب للسيولة في استثماراتنا الأجنبية ـ ما عدا الذهب - كوضع الاحتياطي في الصندوق الدولي، وحقوق السحب، والأوراق المالية الحكومية.

وهذه الاحتياطات كانت تشكل ٧٠٪ من صافي استثماراتنا الأجنبية، وتناقصت هذه النسبة الى ٦٠٪ مع الربع الثاني ٢٠١٦.

أولا: واقع الأرقام الرسمية يخبرنا عن هذه الاحتياطيات، بأن معدل تناقصها الشهري في الستة الأشهر الأولى، كان أقل من تسعة مليارات ونصف دولار، أي أن آل الشيخ ضاعف الرقم أكثر من ثلاثة مرات.

والأهم أن الأرقام تخبرنا بعكس ما قاله آل الشيخ بأن معدل الإحراق للاحتياطيات قد تناقص الان، فهذا عكس الصحيح بالضبط. فحديث آل الشيخ كان في ابريل ٢٠١٦، أي ان معلومات الاحتياطيات كانت متوفرة لشهر مارس ٢٠١٦. فهذه تسعة أشهر بعد منتصف ٢٠١٥م الذي أشار اليه آل الشيخ.

وقد ارتفع معدل حرق الاحتياطيات فيها إلى قرابة العشرة المليارات دولار. بل أن الأشهر الثلاثة التي سبقت تصريحاته بشهر، قد جاوز معدل الإحراق فيها الخمسة عشر مليار دولار.

ثانيا: وأما إذا ما نظرنا إلى استثماراتنا الأجنبية التي تشمل أصول الاحتياطيات، والأصول الأخرى الأقل سيولة، كالأسهم وصناديق الاستثمار وغيرها، فسنجد صورة أوضح وأقوى في تفنيد تصريحات آل الشيخ، وإثبات عكسه.

فتناقص صافي موجوداتنا الأجنبية، بما فيها الاحتياطيات في الربع الأول من ٢٠١٥، كان بمعدل ملياري دولار فقط شهريا، ثم ازداد التناقص إلى قرابة ستة مليارات شهريا في الربع الثاني ٢٠١٥، ثم جاءت مرحلة ما زعم آل الشيخ بأن الاحتياطيات بدأ يخف تنازلها، لنجد الحقيقة عكس قوله في صورة مرعبة، أي في التسعة أشهر التي زعم آل الشيخ انه تم استدراك الاحتياطيات فيها.

فقد أزداد النزول في الربع الثالث ليصل لثمانية مليارات دولار شهرياً، ثم واصلت الانحدار في الربع الرابع، ليصل معدل النزول أحد عشر مليار دولار، ثم دخلت مرحلة شبه انهيار في الربع الأول، أي نهاية مارس ٢٠١٦، ليصل معدل النزول لقرابة خمسة عشر مليار دولار شهريا. وهي أخر معلومات كانت متوفرة قبل تصريحات آل الشيخ.

والذي يفسر ذلك، أنه لعله كان هناك تسييل للأصول الأجنبية من غير الاحتياطيات، لتخفف وطأة حدة النزول المتزايد بعد النصف الأول من ٢٠١٥، وذلك لكثرة مراقبة ارقام الاحتياطيات الأجنبية من الإعلام والعامة والسوق، بخلاف أرقام الاستثمارات الأجنبية جميعها.

وخلاصة أولا وثانيا: فكما بينت أعلاه، سواء نظرنا للاستثمارات الأجنبية جميعا، أو للاحتياطيات التي ذكرها آل الشيخ، فما ذكره آل الشيخ هو عكس الحقيقة، اللهم أنه اشد عكسا للحقيقة إذا ما نظرنا للموجودات الأجنبية جميعا، وإشارة إلى التلاعب في الموجودات الأجنبية لإخفاء انهيار الاحتياطيات.

ثالثا: هناك في تصريحات مبالغ فيها يستنكرها عقل الرجل العادي. وهذا ما شد انتباهي. فقوله ٣٠ مليار دولار كل شهر لستة أشهر، يعني أن مجموع تناقص الاحتياطيات في الستة الأشهر الأولى من عام ٢٠١٥ بلغ مقدار ١٨٠ مليار دولار، أي ثلث الاحتياطيات، وهو رقم لا يخطئ به أحد.

هناك أدلة على وجود هدر عظيم للمال، لا يُعلم أين أهدر وفيم صُرف، وقد حصل في الثمانية عشر شهر الماضية، ومازال يحصل، ليُضيع مصروفات الحكومة فلا تبين. ويستهلك هذا الهدر، الغامض العظيم، شحيح ما جاءت به إيرادات النفط، ثم يعود الهدر على احتياطيات واستثمارات قد بُنيت في عقد من الزمان فيحرقها، ليتفرغ الهدر الغامض لإعادة بناء هم سطوة الدين الأجنبي.

إن خطورة تصريحات آل الشيخ في كونها تضليلية للقيادة وللمسئول وللبلاد، لهو أعظم من خطورة ما حملته من معلومات لو أنها كانت حقيقية. ولإدراكي لخطورة التضليل، أيقظت همة البحث والاستقصاء، وحفزها ونشطها وصف بلومبرغ لتصريحات آل الشيخ بأنها كانت كتقرير «كبح الإنفاق الحكومي»، قدمه الوزير المستشار المالي لولي الأمر.

أين اختفى التريليون ريال؟

ارقام الميزانية والنقد وميزان المدفوعات هي مقياس نجاح خطط الاقتصاد. فهذا قياس ادائك يا وزارة الاقتصاد؛ لا نريد عروضا ملونة، وارقاما ملفقة. وهذا نتيجة عملك يا نزاهة.

فباختلاس نظرة خاطفة على الأرقام أدركت زبدة الواقع، الخص أهمه في النقاط التالية، قبل الخوض في طريقة حسابها:

(ألف) إن مقدار النقد الأجنبي، من ريع النفط، ومن السحب من الاحتياطيات، ومن الاستدانة الأجنبية، والذي دخل على الحكومة في عام ٢٠١٥ وتسعة اشهر من ٢٠١٦، هو أعظم مقدار دخل على البلاد في تاريخها. فقد بلغ قرابة ١.٩ ترليون ريال، منها ترليون إنفاق أكثر من متوسط إنفاق الأعوام الخمسة الذهبية لطفرة النفط، التي جعلها معالي الوزير مرجعا لقياس النجاح والفشل.

(باء) لو أننا انفقنا في الثمانية عشر شهرا مثل ما كنا ننفق في السنوات الذهبية، لبقى لدينا ترليون ومائة مليار ريال، بعد خصم توقعات كلفة حرب اليمن. فأين الترليون والمائة مليار.

هذا المبلغ المفقود يساوى خمسة عشر عاما من قيمة الغاء البدلات جميعها دون استثناء. أي مدة دخول الطفل السعودي الابتدائية الى تخرجه من الجامعة. الترليون الشارد يشتري اكثر من ٣٦ ألف طائرة حربية من طراز إف ١٥، ويبني عشرة سدود كسد جورج ثلاثة في الصين، اعظم سد انتاج طاقة في العالم. الترليون المفقود يبني مليوني منزل للسعوديين.

هل لم نعد نفرق بين المليار والترليون، بعدما ضيعنا الفرق بين المليار والمليون. الترليون هو مليون مليون. والترليون هو الف مليار. والمليار هو الف مليون.

اعتقد أننا اصبحنا لا نميز المليار بلا شك، بدليل عدم تمييزها من معالي الوزير، الذي لم يميز معنى نقصان الاحتياطيات ثلاثين مليار دولار شهريا.

(جيم) كيف لا يُشد الانتباه والوزير المستشار، يشيد بحال الثمانية عشر شهرا، وقد كان معدل متوسط تناقص الاحتياطات ٣٧ مليار ريال شهريا في الثمانية عشر شهرا. رغم انه قد توقفت فيها المشاريع السابقة لإعادة التقييم، وأوقف الابتعاث، وفرضت الضرائب واستهلكت الاحتياطيات، وعاد الدين الأجنبي.

(دال) كيف لا أرفع حاجبا وقد تصاعد انهيار صافي الاستثمارات الأجنبية من غير الاحتياطيات بشكل مريع. فقد خسرنا في السنة الأخيرة ١٠٠ مليار ريال تقريبا، بعد أن كانت تزداد بمعدل ١٠٠ مليار ريال تقريبا، من عام ٢٠١٠ الى نهاية ٢٠١٤. فلم نر نزولا بعد خسارة صندوقنا ٧٠٪ من قيمته في عامي ٢٠٠٨، ٢٠٠٩.

فهل كان خسارة ١٠٠ مليار ريال بدل ربح ١٠٠ مليار، هو تغطية لتخفيف انهيار الاحتياطيات؟ أم هو سوء إدارة للمحافظ الاستثمارية؟

فإن كان الثاني، فكيف نبيع أرامكو ثم نضع ريعها في صندوق سيادي استثماري وصنيديقنا «السيادي» الصغير الذي لدينا خسر ٣٧٪ من قيمته في السنة الاخيرة ٧/٢٠١٥ - ٦/. ٢٠١٦؟ هل تولي مدير جديد لإدارة الاستثمارات الأجنبية سيقود صندوقنا السيادي الموعود، لنخسر ثلثه كل عام، فتضيع علينا أرامكو في ثلاث سنين.

(هاء) وحرب اليمن ليست السبب، فكلفتها إن بلغت فلن تبلغ حرب الخليج، حسب ما ذكر المحللون. فحرب الخليج، على ضخامتها، كلفتنا نحو ٧٠ مليار ريال تقريبا، حسب تصريحات وزارة الدفاع الأمريكية. وأما حرب اليمن فحسب توقعات الخبراء البريطانيين والفرنسيين، لا تزيد الكلفة إلى الآن في أسوأ الأحوال عن ١٥ مليار ريال سعودي. وهذه اقل من ١ ٪ نحو 0.7٪ من النقد الذي ثبت دخوله الخزينة السعودية.

 
وزير الدولة محمد آل الشيخ وعضو مجلس الشؤون الاقتصادية

(واو) كان عام ٢٠٠٩ شاهدا ودليلا على المشكلة الخطيرة التي حصلت في الثمانية عشر شهرا الماضية. فقد كان انهيار الايرادات النفطية في عام ٢٠٠٩م اعظم من انهياره في ٢٠١٥، ومع ذلك لم تتوقف التنمية ولم نستدن من الخارج، بل سددنا جزء من دين التسعينات، بل لم يشعر السعودي بالأزمة، ولم تنزل الاحتياطيات بربع المعدل الذي نزلته في الثمانية عشر شهرا الماضية.

(لام) كيف لا استنكر يا معالي الوزير وقد انهار النفط ٢٠ عاما في انهيار الثمانينات والتسعينات، ولم تنزل الاحتياطيات، ولم يخسرنا انهياره مع التقشف وهدر الفساد إلا ٤٠٠ مليار ريال، وهي قيمة الدين جميعه بعد طرح زيادة الاحتياطات، أي أن الانهيار كلفنا خسارة بمعدل مليار ونصف شهريا، وقد كان هناك هدر فساد. فما بالك تفخر بثمانية عشر شهرا، سبب انهيار النفط خلالها خسارة ٢٥ ضعفا من خسارة عقدي الانهيار النفطي الأول؟.

(ميم) لو أننا فقط استدركنا الهدر الذي ذكره آل الشيخ وادّعى استدراكه، أقول فقط الهدر، كما تثبته الأرقام الرسمية التي سأوضحها لاحقا، لاستطعنا ان نواصل نفس انفاق السنوات الذهبية المباركة، ودون الحاجة لسحب ريال واحد من الاحتياطيات، بل لأضفنا للاحتياطيات.

هذه الأرقام.. لا لعب عروض الخواجات باللصق والنسخ.

هذه الارقام تصدق سائلها، ففي متونها العلم والقلم. حسابات موثقة، لا تخرصا واحاديث ملفقة. فأين الريادة، بل أين العوض في خبرات أجنبية لم تأت إلا بالكسل والغش؟. فجلاء الشك والريب يأتي في ارقام الميزانية، وفي عرض النقد إذا ما إذا ما اجتمعا و ميزان المدفوعات.

كيف تكون الثمانية عشر شهرا الماضية افضل تدبيرا من سنوات الطفرة الخمس الذهبية - التي جعلها آل الشيخ مرجعا للقياس - والسنوات الخمس الذهبية كانت أقل تحصيلا للنقد الأجنبي والمحلي؛ ومع ذلك ضخت السنوات الخمس نصف ما انتهت إليه الاحتياطيات قبل أن يتم استهلاكها في الثمانية عشر شهراً الماضية، والتي يفخر آل الشيخ بحسن تدبيره فيها.

سنوات خمس مباركة قامت بتسديد قرابة نصف الديون التي تراكمت في خمسة عشر عاما بسبب السنوات العجاف.

سددت هذه السنوات ضعف قيمة الدين الذي تحصل بسب كلفة حرب الخليج التي تحملتها بلادنا. سنوات خمس مباركة نهضت باقتصاد البلاد لتجعله العصر الاقتصادي الماسي بلا منازع للعهد السعودي.

سنوات خمس، أعادت بناء البنية التحتية للبلاد بعد أن اُستهلكت وقاربت قيمتها المحاسبية الصفر، ففيها شُيدت عشرات الجامعات والمستشفيات والمدن الطبية والمرافق التنموية العملاقة، ومُدت الآلاف من الطرق و السكك الحديدية. وشعر المواطن السعودي وكانه لن يخاف فقرا أبدا.

تلك السنوات الخمس كانت فيها نهضة صاروخية بالصرف الفلكي، وقد صاحبه هدر الجهل والفساد، والذي قدره آل الشيخ في تصريحاته الرسمية للعالم أمام ولي الامر، بنحو ربع الميزانية لكل عام من تلك الأعوام المباركة.

فإذا ما نظرنا، وجدنا إن ذلك الإنفاق الفلكي على نهضة البلاد ورغد عيش العباد، ومع الهدر المالي، فإنه لم يبلغ في السنة ثلثي ما استُهلك في عام واحد بعدها، رغم تقشف اقتصاد البلاد وفرض الضرائب على العباد، وخنق القطاع الخاص، وتكبيل الاقتصاد في وقت كان في أمس الحاجة للسياسة الاقتصادية التيسيرية، لمواجهة الأوضاع السياسية، ودعم اقتصاد البنية التحتية حتى نتوصل لخطة عملية تطبيقية لمواجهة ضياع فرص النمو، وإيجاد الوظائف لمئات الآف من الشباب والشابات.

مقارنة آل الشيخ لم تكن غير صحيحة فحسب، بل وغير عادلة. صحيح أنه كان هناك في السنوات الخمس الذهبية هدر وفساد إداري ومالي وأخلاقي ومهني، ولعله بحجم أكبر مما قدره آل الشيخ بأنه ربع الميزانية في سنوات الطفرة الخمس أو ما قبلها.

نعم هذه مقولة حق، والهدر جاء مع الإنفاق على المشاريع، وأسبابه تقع على اختيار القيادات من المسئولين. فكيف بقيادات المسئولين الذين حملوا الأمانة في الثمانية عشر شهرا، فأحدثوا هدرا مضاعفا ثلاث مرات عن هدر السنوات الذهبية، دون وجود مشاريع لتمرر الهدر خلالها.

ثم يصرح آل الشيخ أنه قد تم ضبطه الآن! فالذي تشهد الأرقام الرسمية المروعة بعكس تصريحاتك يا معالي الوزير.

وخلاصة ما شهدت به الأرقام:

اولاً ـ إن كان الهدر معلوما في السنوات الخمس، فقد أصبح مجهولا في الثمانية عشر شهرا الماضية.

ثانياً ـ وإن كان آل الشيخ قدر الهدر في تلك السنوات المباركة بربع الدخل، فإن الهدر في الأشهر الثمانية عشر التي يتغنى بها، تقدره الأرقام بنصف ما دخل على الخزينة السعودية، وليس ربعه فقط.

ثالثاً ـ وإن كان آل الشيخ قد قدر الهدر السنوي بـ ٣٣٠ مليار ريال سعودي في السنوات الخمس قبل تولي الملك سلمان، فإن الهدر المجهول السبب في الثمانية عشر شهر الماضية التي يفخر بها تقدره الأرقام الرسمية بأكثر من ترليون ريال.

إن كون هذه تصريحات المستشار «لكبح الإنفاق الحكومي» قد ألقيت في محفل اعلامي عالمي، وفي صورة وكأنها تقرير بين يدي ولي الأمر، أمر خطير قد دفعني لمحاولة معرفة حقيقتها، لإيضاح الحقيقة لولي الأمر.

هو جهد سعودي لا يخرج عن إطار جهد مواطن محب لوطنه ووفي لقيادته. رغم أني والله، أحرص على أن أتجنب سماع أو تحصيل معرفة عما يجري في بلادنا. لأنه سيضيق صدري وتعجز حيلتي، ولا ينطلق لساني. فقد انهكتني التجارب، ورأيت العجائب حتى يئست. فأينما نظرت وجدت أمورا، لا يتصور العاقل حدوثها.

فلا يسعني حينها السكوت أمانة وطنية، ووفاء لبيعة ولي الأمر، وحبا فطريا للوطن.

والحديث عنها يحملني تبعيات مسئولية الإيضاح والتبيين. وهي تبعيات دائما ما تضر بي نفسيا واقتصاديا، واجتماعيا. وقد كبر سني، وضعف بدني، ورقّت عظامي، وضاق تحملي، ودون أي منفعة للبلاد.

ولكني لم أتصور أن أرى قط ضياع أكثر من نصف الدخل، واختفاء أكثر من ترليون ريال في عام ونصف. فكيف لي أن أقدم راحة نفسي وخمولها، على ضياع موارد الوطن، الحاضرة والسابقة؟.

لم أقدر ان امنع نفسي هذه المرة، فاختلست نظرة على الأرقام الرسمية المنشورة في احصائيات مؤسسة النقد، فإذا بالذي لا يمكن تصديقه، يعرض نفسه بوضوح أمامي. فكذبت نفسي، وبذلت جهدي في ساعات طوال اسلك طرقا متنوعة، ومصادر معلومات مختلفة، ممنّياً النفس بأن أجد ما ينقض الأرقام الصريحة الواضحة أمامي، إلا أني اعود لنفس النتيجة أيما طريقا سلكت أو أسلوبا تحليليا أتبعت.

وقد اجتهدت اجتهاد الناصح المحب لوطنه. واتبعت وفق اجتهادي الطريقة الموضحة لاحقا، فتوصلت للنتيجة المرعبة التي حاولت تفاديها باتباع طرق متنوعة.

توصلت إلى نتيجة لا أستطيع صرفا لها، وهي أنه بالمقياس والمرجع - الذي استخدمه آل الشيخ في تصريحاته الرسمية العالمية في إبريل - فإن هذا المقياس يظهر بأن هناك ترليون وتسعمائة مليار ريال سعودي تقريبا قد دخلت خزينة الدولة في الثمانية عشر شهرا الماضية.

وإن مما دخل على الخزينة قد اختفى نصفه، فإن هناك أكثر من ترليون ريال لا تُعرف مصارفه. والترليون ريال ضخم في حجمه وفي نسبته للإيرادات. فهو ثلاثة أضعاف ريع النفط لعام ٢٠١٥. وهو أكثر من نصف مجموع ما دخل الخزينة من ريع نفط ،ومن سحب للاحتياطيات، ومن الاستدانة.

ورؤية هذه الحقيقة لا تحتاج لخبير محاسبة ولا اقتصاد. فنحن لا نتحدث عن فقدان مليارات، أو حتى عشرات المليارات، ليجد الإنسان مبررا هنا أو هناك، بل فقدان مئات المليارات.

وطريقة الحساب سهلة، وقد توصلت لها كحل لعائق المعلومات الشحيحة المتوفرة رسميا.

فأما بالنسبة لمصدر المعلومات، فلا تكلف أحدنا إلا أن يرجع لثلاثة جداول في تقرير مؤسسة النقد:

جدول الأصول الاحتياطية.

وجدول الإيرادات والمصروفات الفعلية السنوية للدولة.

 
محمد بن سلمان.. هل سرق التريليون ريال؟

وجدول الدين العام، لتطلع بأرقام مجموع ما تم صرفه في تلك السنة. وبذلك نتجنب الخوض في المصروفات والعجز والفائض في جدول المالية، ففي أرقامها الشحيحة الموجزة، مكامن يسهل قلب الحقيقة فيها أو إخفائها.

رابعاً ـ أما مرجع معلومات المبالغ المفقودة فمصدره تصريحات آل الشيخ وتطبيقها حسابيا. فقد افادنا معالي الوزير المستشار في تصريحاته لبلومبرغ، بأن الهدر كان في الأعوام الخمسة الماضية نحو من ٨٠ -١٠٠ مليار دولار سنويا، أي ٣٣٠ مليار ريال. وصرح بأن الهدر قد تم القضاء عليه بجهود معاليه، فيما وصفه استاذنا الخاشقجي بـ «أزمة تأخر الدفعات لشركات المقاولات الكبرى». وبما أنه تم إيقاف المشاريع والابتعاث وغيرها، ولم تستحدث مشاريع جديدة، فبأشد التحفظ ينبغي أن يكون الانفاق في الثمانية عشر شهر الماضية على الأقل مماثلا لمتوسط الصرف في سنوات الطفرة الخمس. وهذا يتضمن الهدر الذي كان موجودا.

لذا فعلينا طرح الهدر الذي حكم به آل الشيخ، لنرى ما يمكن أن نبرر المبالغ المستهلكة من المبالغ التي دخلت على خزينة الدولة، وما عدا ذلك فهو مفقود غير معلوم مصيره. فإضافة التغيير في الاحتياطيات والدين إلى الإيرادات، ينتج عنه مجموع ما دخل على الخزينة من نقود سرية أو علنية، أو اعتمادات، مرحلة مجموع كل ما دخل الخزينة.

وهو نفسه يساوي مجموع ما صرف في تلك السنة حقيقة. سواء مما أعلن عنه أو لم يعلن أو كان سريا أو اعتمادات سابقة لم تصرف أو طوارئ، أو أي ما يحتمل أن يخرج به المسئول بأي تبرير.

لذا دع عنك معادلات السياسة المالية التقليدية المتبعة، فهي لا تناسب سياستنا المالية البسيطة. ولا تنفعك شيئا في ظل شح المعلومات الرسمية وتجميعها لعشرات البنود في بند واحد، فتضيع ملامحها وتخفى تفاصيلها. واتبع معادلة بن سالم البسيطة التي سأضرب لها مثالا ليتضح بساطتها مع دقتها. وسأضرب مثلا ايضاحيا لمعادلة بن سالم.

فتصور لو كنت لا تدري كم صرفت الشهر الماضي، وشككت بضياع بعض النقود من جيبك، وأردت أن تعرف مقدار مجموع ما صرفت بالضبط، وتريد أن تعرف تقريبا مقدار مبلغ النقود الضائعة: فما عليك إلا أن تأتي براتبك الشهري (وهو الإيرادات) ثم تطرح منه سداد قسط البنك، أو تضيف إليه أي استدانة قمت بها (الديون). ثم تطرح أو تضيف قيمة المبلغ الذي أودعته أو سحبته من حسابك الادخاري (الاحتياطيات). فما يبقى من الراتب أو يزيد عنه بعد ذلك، فهو مجموع ما دخل عليك ذاك الشهر، وهو نفسه مجموع ما صرفته في ذلك الشهر بالضبط.

لكن يبقى عليك أن تقدر قيمة كم ضاع من جيبك من مبلغ الصرف. فهنا يجب وضع مرجع ترجع إليه لعملية التقريب بالقياس المقارن. فمن المنطقي أنك ستجعل مستوى الصرف في الأشهر السابقة مرجعا لك، وتستثني من الأشهر أي مصروفات استثنائية، أي تجعل متوسط انفاق الاشهر الستة الماضية فيكون هذا المتوسط من الإنفاق الشهري، هو مرجعك لمعرفة إنفاقك هذا الشهر،. ثم تقارنه بما دخل عليك من نقد، فالذي ينقص هو المقدار الضائع تقريبا ( بعد حسم الصرف الغير اعتيادي في شهر ما).

إذن، فمعادلة اكتشاف مقدار الضائع من نقودك هي: (الراتب +/- التغير في قيمة حسابك الإدخاري +/- السداد/ الاستدانة - متوسط مصروفاتك الاعتيادية الشهرية في الأشهر الماضية = النقود الضائعة عليك).

إذن، فالمعادلة لحساب مصروفات الدولة في اي عام من الأعوام هي (مجموع الإيرادات النفطية وغير النفطية التي أقفلت وزارة المالية الحسابات على ارقامها المعلنة +/- التغير في الاحتياطيات من مؤسسة النقد +/- سداد/ استدانة من المؤسسة النقد ) = مجموع ما دخل على الخزينة السعودية = مجموع الصرف تماما.

إذن، فناتج ما دخل على الخزينة هو ما تم صرفه بالضبط. لأن التغيير في الاحتياطيات والتغيير في الدين يغطي أي إنفاق سري أو علني أو اكتساب لم تتضمنه الميزانية الفعلية المعلنة، أو اعتماد ولم يتم صرفه. فبهذا تجنبنا خطأ مضاعفة الحساب (دبل العد) وحللنا مشكلة عدم توفر المعلومات. وهذا أصح من أي حساب للمصروفات الحكومية، بمقدار صحة معلومات الإيرادات والدين والاحتياطيات المعلنة. اللهم الا أن يكون قد أُنفق أو سُحب من حساب الاستثمارات الأجنبية. وأرقام الاستثمارات الأجنبية منطقة ضبابية حمالة احتمالات، سنبيها لاحقا.

وعموما لو أخذنا بها فهي لا تزيد النتيجة إلا تأكيدا، وتزيد من حجم المبالغ المفقودة. وسأتي بها في آخر المقال، ولكني تجنبتها هنا لأن آل الشيخ ذكر الاحتياطيات، ولم يذكر الاستثمارات الأجنبية، ولكي لا تصبح احتمالياتها، هي الطبل الذي يُضرب عليه للإزعاج عن رؤية الحقائق المسرودة هنا.

لكن لا يتبين لنا قيمة الضائع مما دخل على خزينة الدولة إلا بمرجع مقارنة. وهنا علينا اتباع المرجع الذي وضعه الوزير المستشار آل الشيخ، وهو متوسط إنفاق ما دخل على خزينة الدولة في السنوات الخمس الماضية ٢٠١٠-٢٠١٤ الذي هو كذلك متوسط ما صرف فيها سنويا.

إذن، فالمعادلة لاستخراج المرجع هي: «متوسط مجموع إيرادات متوسط السنوات الذهبية ٢٠١٠- ٢٠١٤ + متوسط التغيير في الاحتياطيات + متوسط سداد الدين = متوسط المصروفات السنوية في السنوات الخمس الذهبية مع الهدر المالي).

فنقارن متوسط الصرف السنوي مع هدره المالي بما دخل على خزينة الدولة في عام ٢٠١٥ وتسعة اشهر من ٢٠١٦، فما زاد فهي مبالغ ضائعة بلا شك. لأننا نقيس سنوات القمة في الانفاق على المشاريع والابتعاث مع الهدر، ونقارنها بفترة التوقف عن الانفاق والتقشف وعدم الهدر. فعلى الاقل تتماثل الاعوام في الانفاق. فكيف اذا وجدنا أن فترة الإنفاق التقشفي للعام والنصف الماضي تبلغ ١٥٠٪ من الإنفاق الذهبي، أي مرة ونصف.

ونسبة ١٥٠٪ ليست دقيقة، لأنه يجب علينا أن نقوم بطرح قيمة الهدر المالي الذي حكم به بن الشيخ (٣٣٠ مليار ريال ). لسببين: الأول أن وجود الإنفاق على المشاريع هو الذي أوجد فرصة الهدر. والانفاق قد توقف في ٢٠١٥- ٢٠١٦. والسبب الثاني أن آل الشيخ صرح مفتخرا بأن هذا الهدر قد تم وقفه. فمتى طرحنا الهدر من المصروفات التي نتجت عن المعادلة السابقة سيتبقى لنا مستوى الإنفاق السنوي الذي لا هدر فيه، وعندها سنجد أن فترة الإنفاق التقشفي تبلغ ٢٥٠٪ من متوسط الإنفاق الذهبي.

وثم بعد ذلك وفي عملية للتأكد، سأخرج عن مقياس آل الشيخ، واقارن مجموع ما دخل علي خزينة الدولة مع ارقام الانفاق الفعلي التي اعلنت عنها وزارة المالية، وهذه لا تتوفر الا لنهاية عام ٢٠١٥. لأرى هل النتائج عموما متفقة مع النتيجة المتوصل إليها أم لا. وسنجد انها متفقة.

إلى الأرقام

فحسب الأرقام الفعلية للميزانيات التي تنشرها وزارة المالية،(فالمتوسط السنوي لمجموع إيرادات الدولة الفعلية من ٢٠١٠ إلى ٢٠١٤ من النفط وغير النفط بلغ ١.٠٦ ترليون، اي ( ١٠٦١ مليار ريال سعودي - سداد دين التسعينات ٣٧ مليار ريال بالمتوسط السنوي - متوسط ايداع في الاحتياطيات سنويا ٢٤١.٧ مليار ريال سعودي= ٧٨٣.٦ مليار سنويا، هو معدل الصرف السنوي في السنوات الذهبية الخمس).

والأرقام الفعلية التي تنشرها وزارة المالية، تنص على أنه نقص دخل النفط عام ٢٠١٥ بأكثر من أربعمائة وست وستين مليار ريال سعودي. ولكن سُحِب من الاحتياطيات في نفس العام ما يقارب أربعمائة وخمسين مليار ريال سعودي، كما تم استدانة مائة مليار ريال تقريبا. وهذا يعني أن مجموع ما دخل على خزينة الدولة لعام ٢٠١٥ زاد عن التريليون بمائة وخمسين مليار ريال سعودي (مجموع إيرادات الدولة الفعلية ٦١٦ مليار ريال سعودي + ٩٨ مليار استدانة + سحب من الاحتياطيات ٤٣٥ مليار ريال سعودي = ١١٥٠ مليار عام ٢٠١٥).

وأما عام ٢٠١٦ فلم تظهر ارقام الإيرادات الفعلية بعد عند مؤسسة النقد (وطبعا وزارة المالية تبكي حالها في المعلومات، فهي لم تنشر عام ٢٠١٥ الى الآن، فما بالك بمعلومات شهرية. فلولا الفتات الذي نجده عند مؤسسة النقد، ما وجدنا الا المعلومات من المصادر الاجنبية لنرجع اليها).

وعموما، فأسعار النفط في ٢٠١٥ و٢٠١٦ في الرسم البياني تظهر وكأنها صورة مرايا تطابقا. فقد انخفضت الاسعار في نهاية ٢٠١٥ حتى وصلت القاع بين العامين، ثم عادت وارتفعت وكأنها تحاكي نزول ٢٠١٥. فإذا عرفنا أنه في الاشهر الماضية قد زاد حجم التصدير للنفط زيادة كبيرة، فهذا يعني ان حجم ايرادات النفط ينبغي ان يكون في التسعة الاشهر الأولي لعام ٢٠١٦ اكثر من التسعة الأشهر الأولى لعام ٢٠١٥. ولكن تحفظا، فسنفترض نفس الإيرادات، ثم نضيف اليها التغيير في الاحتياطيات التي تزودنا ساما به شهريا. فهو متوفر لنهاية شهر سبتمبر. والدين معلوم قد طنطن به الاعلام حتى أسمع من في أذنه صمم. فعجبا لنا فقد أصبحنا نفخر بقدرتنا على الاستدانة. وافتخارنا بالاستدانة يحكي حقيقة خطورة الوضع القائم. فليست الاستدانة مما يُفخر به.

 
ألقيا بالأزمة على عهد عبدالله، فكان عهدهما الأكثر فساداً

عموما نرجع الى ما دخل على الدولة في التسعة اشهر الأولى من ٢٠١٦ = ٤٦١ مليار ريال ايرادات نفطية وغير نفطية (قياسا على ٢٠١٥) +٢٣١ مليار ريال سحب من الاحتياطيات فعلي + نحو ٦٥ مليار ريال الدين الذي طنطنا به = ٧٥٧ مليار ريال.

إذا، وقبل إدخال مقارنة آل الشيخ وحكمه، فإين ذهبت ثلاثمائة وسبعة وستون مليار ريال الزيادة في ٢٠١٥ (١١٥٠مليار ريال - ٧٨٠ مليار ريال متوسط السنوات الذهبية = ٣٧٠ مليار ريال؟ أين ذهب الفرق وقد توقف الانفاق في ٢٠١٥ وحصل ما أسماه استاذنا الخاشقجي «أزمة تأخر الدفعات لشركات المقاولات الكبرى»؟ واستهلكت الاستثمارات الأجنبية؟

فكيف إن أضفنا تصريحات آل الشيخ، بأن الهدر البالغ ٣٣٠ مليار ريال قد توقف؟ فهو يجب أن يتوقف لان الصرف على المشاريع قد توقف. فهنا يصبح السؤال فأين ٣٣٠ مليار ريال قيمة الهدر + ٣٦٧ مليار ريال قيمة الفرق السابق. هذه نحو٧٠٠ مليار ريال لا ندري اين ذهبت فقط في عام ٢٠١٥.

واذا أضفنا التسعة اشهر المنصرمة في عام ٢٠١٦، فسنقارنها بتسعة اشهر من متوسط السنوات الذهبية. يعني (٧٥٧ مليار عام ٢٠١٦ - ٥٨٥ مليار ريال متوسط الانفاق في تسعة اشهر في فترة السنوات الذهبية ) فأين ١٧٢ مليار ريال.

فإذا حسبنا الهدر الذي ادعى آل الشيخ القضاء عليه فيصبح الضائع ( ٧٥٧ مليار ريال لما مضى من ٢٠١٦ وبعد القضاء على الهدر - ٣٣٧.٥ مليار ريال متوسط الانفاق في تسعة اشهر في فترة السنوات الذهبية بدون هدر). فالمفقود في التسعة أشهر الماضية ٤١٨ مليار تقريبا.

فالنتيجة المروعة هي: أنه قد دخل خزينة الدولة في ثمانية عشر عاما ما يقارب ١.٩ ترليون ريال ( ٧٠٠ مليار عام ٢٠١٥+ ٤١٨ مليار في التسعة الأشهر الماضية) لا نستطيع أن نجد تفسيرا معقولا لإنفاقها. وبالتحفظ الشديد بمقارنة بإنفاق سنوات الطفرة الذهبية الخمس، وقلنا أن حرب اليمن قد استهلكت ١٨ مليار ريال خلال ١٥ شهر منذ بدايتها إلى ٩/٢٠١٦، سنجد أنه على الاقل قد شرد ٧٠٠ مليار عام ٢٠١٥ + ٤١٨ مليار عام ٢٠١٦ - ١٨ مليار ريال حرب اليمن = آلف ومائة مليار ريال قد شردت في ثمانية عشر شهرا، فتاهت عن سجلات مؤسسة النقد.

وهو مبلغ عظيم في حجمه وفي نسبته لدخل الدولة، فالضائع أكثر من نصف مجموع ما دخل على الدولة.

وأما التأكد من وجود الخلل، خارج هذه السنوات، فلننظر في عام ٢٠٠٩م، فهو انسب الاعوام لان فيه اعظم نكسة في دخل النفط. فقد نقص دخل النفط ١١٨٪ نسبة لنقصان ٢٠١٥م أي نقص بمقدار ٨٢ مليار ريال أكثر من نقصانه عام ٢٠١٥. فقد بلغ النقص في عام ٢٠٠٩ مبلغ ٥٤٩ مليار حسب سجلات المالية، بينما بلغ نقص دخل النفط ٤٦٧ مليار ريال في ٢٠١٥. ومع ذلك لم تنقص الاحتياطيات في ٢٠٠٩ إلا بنسبة ٢٨٪ مما نقصت في ٢٠١٥. أي ١٣١ مليار ريال نقصان في الاحتياطيات عام ٢٠٠٩ مقابل ٤٣٥ مليار ريال نقصان الاحتياطيات في ٢٠١٥. بالإضافه أنه قد سُدد في ٢٠٠٩ مع ذلك من الدين نحو عشر مليارات ريال، بينما استدنا عشر اضعاف ذلك في ٢٠١٥، و استهلكنا أربعة اضعاف ما استهلكه انهيار دخل النفط ٢٠٠٩.

خلاصة نظرتنا لعام ٢٠٠٩:

المشاهدة: نقصان دخل النفط في ٢٠١٥ كان اقل من نقصان ٢٠٠٩.

الإجراء الذي حصل: أن جميع نقصان دخل النفط في عام ٢٠١٥ عن سنوات طفرة النفط، قدم تم تعويضه من الاحتياطيات والاستدانة. بينما لم يعوض إلا أقل من ٢٠٪ من النقصان الذي حصل عام ٢٠٠٩.

الأثر: سبب انهيار النفط في ٢٠١٥ شللا شبه تام على البلاد والعباد رغم تعويضه بالسحب من الاحتياطيات، بينما لم يغير ذلك شيئا على الانفاق في ٢٠٠٩.

النتيجة: ان عام ٢٠١٥ كان أكبر الأعوام على الإطلاق في الدخل الحكومي، ولكنه كان الأضعف والأقل انفاقا على الإطلاق. والتسعة اشهر المنصرمة قريبة من نفس الحكم على عام ٢٠١٥.

ومقارنة أخرى بعكس عام ٢٠٠٩. فلم يحدث قط أن وصل ما دخل حقيقة لخزينة الدولة إلى حد ما تم انفاقه في عام ٢٠١٥ في أي ميزانية أبدا.

فأكبر إيرادات نفطية دخلت على الحكومة، كانت في الأعوام ٢٠١١ و٢٠١٢ و٢٠١٣. حيث انها تجاوزت الترليون بمائة وبمائتي مليار ريال في كل سنة. ولكن قد تم تحويل ثلثها للاحتياطيات وسداد دين التسعينات. مما يجعل الدخل الفعلي على الخزينة لأي سنة من سنوات طفرة النفط لا يتجاوز ٦٨٪ من دخل عام ٢٠١٥. فمثلا عام ٢٠١٢ يمثل اعظم سنة في إيرادات النفط. فقد بلغ مجموع الإيرادات النفطية والغير نفطية ١.٢٥ ترليون ريال. اطرح منها ٥١.٦ مليار ريال سداد دين التسعينات. ثم اطرح ٤٢٢ مليار ريال قد استودع في الاحتياطيات، مما يبقى فقط ٧٧٣.٦ مليار ريال لصرف عام ٢٠١٢ أعظم عام في الإيرادات.

فإذا قارنتها بعام ٢٠١٥، نجد ان (مجموع إيرادات الدولة النفطية والغير نفطية بلغ ٦١٦ مليار ريال سعودي + ٩٨ مليار استدانة + سحب من الاحتياطيات ٤٣٥ مليار ريال سعودي = ١.١٤٩ ترليون ريال سعودي دخل فعلي لعام ٢٠١٥).

ولو قارنا طريقتنا السابقة في تحديد ما دخل على خزينة الدولة ثم طرحناه من الأرقام الفعلية للمصروفات للأعوام ٢٠١٠ -٢٠١٥ لوجدنا أن هناك فائضا عن المصروفات في الدخل بأكثر من مائة مليار في كل سنة من سنوات الطفرة الذهبية، بينما نجد عجزا بأكثر من ١٧٠ مليار عن المصروفات الفعلية التي أعلنتها وزارة المالية لعام ٢٠١٥ م.

لا شك أن الأرقام كافية بإعطاء صورة مروعة، قد وصلت حدا من الضخامة، يبتلع أي مصرف أو متسرب للأموال يمكن أن يُتعذر به.

فكيف إن أضفنا إلى ذلك أننا نعرف أن سنوات الطفرة قد أتت الاقتصاد السعودي بعد استهلاكه ٢٠ عاما في السنوات العجاف. فقيمة بنية اقتصادنا التحتية محاسبيا كانت تساوي صفرا تقريبا عام ٢٠٠٥، لأنها قد اُستُهلِكت في سنوات انهيار النفط في العقدين السابقة. فحصل التوسع في الإنفاق لتعويض العقدين العجاف، وتُوسِع في البناء والمشاريع وجاء معه هدر الفساد حصاد عقوبة الجهل وأثر المحاباة، ودفعت البلاد كلفة الترزيز لغير المؤهلين في المناصب واللجان.

فأين الهدر المالي الذي ذكره معالي الوزير المستشار محمد آل الشيخ، وأدعى انه ضبطه. وأي الهدرين أعظم وأخطر و أكثر غموضا. هدر مشاريع سنوات طفرة النفط، ام الهدر الغامض للثمانية عشر شهرا التي بعدها، والتي يفتخر آل الشيخ بانه قد ضبط الهدر الان، بل وأنه قد انقذ البلاد من انكسار وانكشاف كامل بعد ثلاثة اشهر من الان. فحسب قوله في بلومبرغ: «Saudi Arabia would have gone “completely broke” within just two years, by early 2017, Al-Sheikh says.» لولا أنه استدرك الهدر.

بل الصحيح انه لو استدرك الهدر دون فقط المساس بالمشاريع التنموية وعدم ايقاف الابتعاث ولم توضع ضرائب ولم يشعر الناس بأي تقشف، لما لجأنا لسحب ريال واحد من الاحتياطيات، بل لأضفنا للاحتياطيات، فقط لو كان استدراك الهدر صحيحا. فمتوسط الانفاق في السنوات الذهبية بعد طرح الهدر منه يبلغ تقريبا ٤٥٠ مليار سنويا، ودخل النفط على مستوى ٢٠١٥ و ٢٠١٦ فقط كاف لتغطيته. ثم نضع ١٥٠ مليار ريال عائدات غير نفطية كفوائض في الاحتياطيات.

يا معالي الوزير المستشار: لو لم نبع برميلا واحدا، مع المواصلة على نفس مستوى انفاق سنوات الطفرة الخمس الذهبية مع وقف الهدر، لكفتنا الاحتياطيات ١٠ سنوات، لا كما زعم انها ستنتهي وننكشف بعد ثلاثة اشهر من الان. فقد كانت الاحتياطيات أكثر من ٢.٧ ترليون في نهاية ٢٠١٤. ومتوسط انفاق سنوات الطفرة الذهبية دون هدر وبطرح العائدات الغير نفطية قد بلغ ٢٥٠ مليار ريال.

يا معالي الوزير انهار النفط عام ١٩٨٥ تقريبا وكانت الاحتياطيات نحو ١٠٠ مليار ريال، ورجع النفط عام ٢٠١٥ والاحتياطيات كانت ٣١٤ مليار ريال بنهاية ٢٠١٤. وتحملنا دين انتهي بـ ٦١٠ مليار ريال بنهاية ٢٠١٤. أي أن انهيار النفط لم يخسرنا إلا ٤٠٠ مليار ريال، بمعدل مليار ونصف شهريا. فما بالك تفخر بثمانية عشر شهرا كان يُفقد فيها بطريقة غامضة أكثر من ٦١ مليار شهريا.

ودعونا لنحاول أن نجد العذر ونكشف سر الغموض. فهل حرب اليمن سبب في ذلك. لا ليست سببا في ذلك، ولا تشكل شيئا من الإنفاق. فلننظر لحسابات الخبراء الرسميين. ثم لننظر لحرب الخليج عام ١٩٩١.

ففي مارس ٢٠١٥ نقلت رويتر عن خبراء بريطانيين أن كلفة الطلعات الجوية في حرب اليمن بمعدل ١٠٠ طلعة شهريا ستكلف ١٧٥ مليون دولار، أي نحو عشر مليارات ريال في ١٥ شهر.

بينما حسب خبراء فرنسيون رسميون كلفة الشهر بـ ٩٠ مليون دولار أي نحو خمس مليارات ريال إلى الآن، وكلفة تدخل بري لو حدث، لمدة ستة أشهر بأكثر من نصف مليار دولار، أي ما كلفته خمس مليارات ريال للحملة الجوية مدة ١٥ عشر شهرا مع كلفة حملة برية لمدة ٦ اشهر لا سمح الله.

ولنقل أن هناك ما لا نعلمه، فلنضاعف الكلفة المتوقعة، ولنعتمد حسبة البريطانيين المرتفعة، فهذا يعني ٢٠ مليار ريال سعودي كلفة حرب اليمن، على أعلى التوقعات بعد مضاعفتها، فأين هذا مع ترليون وتسعمائة مليار ريال دخلت على الخزينة، ضاع منها اكثر من ترليون ريال لا نعلم اين صرفت في ١٨ شهرا؟.

‏http://www.reuters.com/article/us-yemen-security-saudi-cost-idUSKBN0MR1KZ20150331

وحرب الخليج قد كلفت حسب وزارة الدفاع الأمريكية مبلغ ٦١ مليار دولار، تحملت دول الخليج ٣٦ مليار منها، فلنقل اننا تحملنا ثلثيها، فهذه سبعين مليار ريال تقريبا. وحرب اليمن لا تقارن بحرب الخليج على الاطلاق.

‏http://www.cnn.com/2013/09/15/world/meast/gulf-war-fast-facts

قومي فدعي عنك الخمول، يانزاهة.

قومي فابحثي وأخبري الوزراء بعظم جلل الخسارة، واديني وزارتهم بفساد الجهل وسوء الإدارة، بالأدلة القاطعة. فالجهل المركب والفساد الإدراي هو ما جعلنا نرضى بأن نسمن من اكل طعام غيرنا. فنصف قرن من النفط قدم لنا طعاما فاخرا وسلب منا عقولا وحلوما، فيا ليت شعري من منا يدرك فداحة الخسارة. وأنى يجتمع عقل وتخمة، وهل يحمل الهم من لا يدرك المصيبة؟.

هذه هي القصة الصحيحة مع تبعياتها للاحتياطيات، لا رواية آل الشيخ. وإني إذ أرفع التقرير لنظر ولي الأمر فيه، إنما باعتقاد مني أنه يحض السعوديين على تبيين الحقائق بالأدلة ودون مبالغة ولا تهويل.

وقد تأكدت من صحة اعتقادي برغبة ولي في ابداء المواطنين للرأي وبيان ما قد يخفى عليه.

تأكدت من ذلك بتأجيل هذا المقال عدة أيام لكي أتراجع عن نشره إذا ما وجدت أن عدم النشر هو رغبة ولي الامر، كإيحاء من الديوان أو نحو ذلك. فلما لما أجد شيئا من هذا، تأكدت أن رغبة ولي الأمر هي ان ينشر كل بيان حقيقة مدعم بالأدلة.

فأسال الله أن يكون جهدي هذا نافعا وأن يحظى برضا ولي الامر على ما فيه من تقصير، واسال الله التوفيق والسداد لولي أمر بلادنا، وأن يسخر له الرجال الصادقون الإكفاء وأن يحميه بلطف منه وقدرة إنه لطيف قدير.

* نقلاً عن صحيفة «الرياض بوست» الإلكترونية.

الصفحة السابقة