القحطاني.. التخلّي عن الوهابية جوهر سياسة ابن سلمان

السعودية.. مملكة علمانية!

عمرالمالكي

حدثني صديق أنه سمع الاعلامي والصحافي السعودي المخضرم عثمان العمير يقول انه يفخر بأنه (وهابي علماني)!

اعتبرت الامر مجرد طرفة، او واحدة من الشطحات الفكرية للاستاذ العمير، الذي تولى رئاسة تحرير صحيفة الشرق الاوسط السعودية، الذراع الخارجي للاعلام السعودي، قبل ان يتولى رئاسة تحرير صحيفة ايلاف الالكترونية.

التناقض واضح بين اللفظين المتجاورين، تجاور الابيض والاسود، حتى ينطبق عليهما قول الشاعر: والضدّ يظهر حسنه الضدّ. بل انه هنا يظهر حقيقته وتناقضه معه.

ودون الدخول في التعريفات الاكاديمية، فالعلمانية تعني نقيض ما تريده الوهابية، او ما أرسته هذه المدرسة المذهبية، على صعيد الفكر والاعتقاد والنظرة الى الاخر، وخصوصا ما يتعلق بالسلوك الاجتماعي، والقيم السياسية الحديثة.

فكيف يمكن لمثقف ان يجمع بينهما على نحو جدي ومقبول فكريا؟

الا ان هذا العجب والاستغراب تبددا اخيرا، بعد ان اصبحت الدعوة علنية، ومن قبل جهات رسمية سعودية، وعاد استخدام لفظ العلمانية الى الانتشار في وسائل الاعلام بشكل غير مسبوق، بل جرى تداوله في مستويات قيادية في السلطة.

بحيث بات السؤال ليس حول امكانية الجمع بين (الوهابية) و(العلمانية)، بل حول دلالات هذا الجمع، وضرورة العودة الى قراءة جديدة لهذه العقيدة السلفية وابعادها السياسية.. زد على ذلك سؤال حول مصير الوهابية، واذا ما كانت ستحافظ على دورها ومكانتها في المجتمع السعودي!

خلفيات الحملة

شرارة البدء في الجولة الاخيرة من هذا الجدل، اطلقها سعود القحطاني، المستشار في الديوان الملكي السعودي، الذي هاجم السلفية الوهابية، ونفى عنها هالة كانت ملتصقة بها، وهي انها تحفظ وحدة المملكة السعودية، وتشكل عصب النظام واللحمة التي توحد النخبة النجدية الحاكمة. وذهب القحطاني ابعد من ذلك باتهام الوهابية بأنها تسببت في سقوط الدولة السعودية الاولى!، وهي الان عقبة في تطور الدولة واندماجها في المجتمع الدولي، وانها كانت جزءا من الشرعية الايديولوجية، ليس الا.

والحقيقة ان هذا المقال الذي نشره القحطاني تحت عنوان: (الدولة الوطنية والشرعية الأيديولوجية)، في صحيفة الرياض، لم يكن مجرد رأي مما تنشره الصحف السعودية، بل نظر اليه الكثيرون باعتباره بياناً رسمياً حول سياسات المرحلة القادمة، واعلانا عن نهج جديد يتبناه ولي العهد الامير محمد بن سلمان.

مشروع ولي العهد

القحطاني صرح بنفسه ـ وبشكل صريح ـ ان ما يكتبه ليس من رأسه، بل هو ترجمة حرفية لما يدور في رأس سيده ولي العهد السعودي. وواضح هنا، ان الامير محمد بن سلمان يريد ان ينأى بنفسه عن التيار الديني المتشدد، عبر استهداف ما يعرف بتيار الصحوة أو الإسلام الحركي.. ذلك انه على علم بأن المدرسة الوهابية التقليدية، شديدة الحرص على التزام العقد الموقع معها، بالدفاع عن العائلة المالكة، وانها مقابل الامتيازات التي تتمتع بها، مستعدة لان تميل مع رياح السلطة، في كل وقت، ومهما تكن الظروف.

اما الفئة الثانية من المؤسسة الدينية، فهم المتطرفون المستعدون للقتال والموت تحت لافتة الجهاد. وهؤلاء رغم خطورتهم الظاهرية.. يمكن السيطرة عليهم، اما بالقمع والسجن، او بإعادة توجيههم الى مناطق صراع اخرى.

وتبقى الفئة الثالثة، الاكثر وعيا وثقافة وتمسكا بالنص الديني، والاكثر تنظيما وتطلعا الى الفعل الاجتماعي.. وفي هذه الفئة تكمن مشكلة النظام الملكي، الذي يتعايش معها في علاقة انتهازية صريحة، وشكوك متبادلة.

وقد سبق لمحمد بن سلمان ان تحدث عن ذلك صراحة، بحسب ما نقل عنه مراسل فورين افيرز الاميركية مطلع يناير 2017. اذ كتب الباحث بلال صعب ان الامير محمد أبلغهم بأن إجراءات عقابية سيتم وضعها في الاعتبار إذا أقدم أي رجل دين على التحريض على العنف، أو ممارسته كرد فعل على الخطة الإصلاحية. وذكرت المجلة أن الأمير محمد يقسم التيار الديني الى ثلاثة اقسام، وانه يؤمن بأن نسبة قليلة فقط من رجال الدين في المملكة لديهم جمود فكري، في حين أن أكثر من نصف رجال الدين يمكن إقناعهم، وان الباقين مترددون أو ليسوا في وضع يسمح لهم بالتسبب في مشكلات.

وقد اقدمت السلطات السعودية بالفعل حتى الان على القيام بعدد من الخطوات لتقييد ما يعرف بتيار الصحوة وترويضه.. والرسالة واضحة للمؤسسة الدينية: لا مجال لازدواجية السلطة في مملكة محمد بن سلمان، وان الهامش الذي استفاد منه التيار الاصولي في السنوات الماضية قد تقلص الى ابعد الحدود.. وبالتالي ها هو يرسم معالم الدور الجديد للمؤسسة الدينية: (تغطية وتبرير سلوك القيادة السياسية، في جميع المجالات دون استثناء، ولا مجال لهامش المناورة).

دور السفير الإماراتي

هذه الخطوات الجريئة التي اقدم عليها محمد بن سلمان كانت بتوجيه ورعاية من عرابه السياسي، ولي عهد ابو ظبي محمد بن زايد، كما تقول معظم التقارير الصحافية الغربية والعربية. ولان الامر كذلك، كان لا بد من العودة الى التصريح الشهير لسفير دولة الامارات في واشنطن يوسف العتيبة. فقد قال سفير الإمارات: إن الخلاف مع قطر ليس دبلوماسيا بقدر ما هو خلاف فلسفي حول رؤية الإمارات والسعودية ومصر والأردن والبحرين لمستقبل الشرق الأوسط. وأضاف العتيبة، في برنامج حواري على قناة بي بي إس (PBS) الأميركية، نشرت السفارة الإماراتية في أميركا مقاطع منه، في 29/7/2017: (إن سألت الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين: ما هو الشرق الأوسط الذي يريدون رؤيته بعد عشر سنوات من الآن؟، فسيكون متعارضاً في الأساس لما أعتقد أن قطر تريد رؤيته. ما نريد أن نراه هو حكومات علمانية مستقرة مزدهرة وقوية).

وحتى لا ندخل في جدل حول ما اذا كان السفير العتيبة يعني حقيقة العلمانية بمفهومها الغربي ام لا، فإن ما يمكن استخلاصه، بالحد الادنى، ان التوجه الذي يريده هذا الفريق هو: ابعاد الانظمة عن هيمنة رجال الدين، والاتجاه اكثر نحو نمط الحياة الغربية.

واذا كان الامر لا يعني الكثير في جميع دول العالم، فإنه بالغ الاهمية في السعودية، التي وحدها دون كل الدول تقول انها قامت على اساس تحالف القبيلة والمنطقة مع المذهب، وان الوهابية هي اساس اللحمة الوطنية السعودية، او على الأقل اللحمة النجدية الحاكمة، وهذا ما اثار الجدل في الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ودق ناقوس الخطر الى التغيرات الدراماتيكية التي ينوي ولي العهد السعودي احداثها.

إنفجار الجدل النخبوي

العتيبة قذف بالكرة الى سعود القحطاني، الذي تولى بأسلوبه الفج والمباشر، والمستوحى من دوره في ترويج الافكار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تولى القحطاني تفصيل الفكرة واسقاطها على الوضع الداخلي السعودي، ليحدد الخطوط العريضة للمشروع السياسي الجديد لعهد محمد بن سلمان.

ولاول مرة يخرج من تحت عباءة النظام، ومن الديوان الملكي من يعلن أن الشرعية الحقيقية التي حفظت الدولة تتمثل في العائلة المالكة، وهذه هي الشرعية (الواقعية الحقيقية) في منجزاتها، التي حافظت على البلاد وحمت وحدتها وتماسكها.

هذا نقيض ما درجت على تعميمه وتكريسه المؤسسة الدينية والعائلة المالكة على السواء، حول دور الوهابية. والقحطاني لم يكتف بالتمييز بين الشرعيتين واعطاء الاولوية للعائلة المالكة، بل دعا إلى إقصاء الطرف الآخر من الشرعية، مصوبا على كلفته الباهظة على الوطن والمواطن في آنٍ واحد.

والقحطاني هنا يتجاوز الصراع التقليدي الذي عرفته السعودية في مراحل سابقة، وفي فترات متعددة، بين الليبراليين ورجال الصحوة، اذ دعا إلى تجاوز ما يسميه مفهوم الأمة، الذي يقوم عليه الفكر السلفي عموما، والذي لم يعد متناسبا مع معطيات الواقع وما آلت اليه فلسفات الاجتماع السياسي.. لصالح الدولة القُطرية، التي يريدها دولة المواطن التي يتساوى فيها الجميع، ويتعايش فيها مختلف المذاهب.

وهذه الفكرة، تسديدة محكمة الى جوهر العقيدة الوهابية الاحادية والاقصائية، والتي لا تقبل بالمساواة بين ابناء الوطن، في نظام قائم على التمييز بين المناطق والطوائف والمذاهب والقبائل!! ويتركز في ايدي النخبة من ابناء نجد، او حتى بعضهم او بعض عوائلها ومدنها.

هذا ما فهمه السعوديون من موقف القحطاني، اذ انه وفي اطار الهجوم عليه، اعتبر د. جميل اللويحق، أستاذ الشريعة بجامعة الطائف، أن (المقال يمثل تدشينا لمرحلة جديدة)، بينما قال الناشط السعودي أحمد السليطي: (إن المقال جزء من حملة بدأها العتيبي)، وأضاف في تغريدة له: (سعود القحطاني يرى أن سقوط الدولة السعودية الأولى والثانية كان بسبب تمسكها بالمنهج السلفي.. علمانية العتيبة ليست من فراغ).

استنفار التيار (الاخواسلفي)

المؤسسة الدينية في السعودية هي مؤسسة وهابية صرفة. وهي ليست معنية لا من قريب ولا من بعيد بالفكر المعاصر، ولا بالجدل والحوار مع الاخر، سواء كان اسلاميا او علمانيا. وهي أعدت نفسها للدفاع عن الدولة السعودية، وحصنت نفسها بأحكام ومفاهيم تحرم الصدام مع الحكام، وتفرض الدفاع عنهم حتى ان جلد ظهور مشايخها والعامة معا.

الا ان التيار الأخواسلفي في المؤسسة الدينية السعودية، تحسّس أبعاد الهجمة الداهمة.. وفهم انه بات مستهدفا بالحملة الجديدة التي يهيئ لها القحطاني، فانبرى رموزه للرد عليه، بأساليب مختلفة.

جمال خاشقجي في مقاله: «دكان العلمانية» يرى ان العلمانية ليست دكاناً يدخله أحدنا، يقلّب بضاعته، ينتقي منها شيئاً أو اثنين يعجبانه ويترك البقية، ولكن البعض يفهمها هكذا، ففجأة انهالت على الصحف السعودية مقالات في فضائل العلمانية، ويريد أصحابها أن يزجوا بها إلى داخل نظام طبيعته وتركيبته لا تتفق معها، بل إن قليلاً منها يمكن أن يفسد المزاج، ويفقد الدولة أهم مقوماتها وركائزها في الحكم. ويحذر خاشقجي من أن استبدال (أيديولوجيا التأسيس) ببعض من العلمانية، مخاطرة بنسف البناء بأكمله.. اي بسقوط الدولة.

خاشقجي لم يكن وحيدا في الرد على الدعوة الى علمنة الدولة، الا ان المحتجين كانوا قلة، واغلبهم ادرك ان المواجهة لن تبقى فكرية، بل هي آيلة للصدام مع السلطة، فأحجمت عن الخوض في النار الموقدة.

واذا كان خاشقجي حاول ـ لاسبابه العقائدية ـ الخاصة ان يقارب المسألة مواربة، فإن الردود المضادة كانت اكثر دقة ومباشرة في التقاط دعوة العتيبة والتبشير بها.

ففي مقالته بعنوان: (الهوية الوطنية بين الأزمة والمشروع)، يقول عبد الله الجنيد في صحيفة مكة، بأن عالمنا العربي والإسلامي يعتبر مثالا على غياب الهوية الوطنية، نتيجة تراجع مكانة الثقافة الوطنية، لصالح الهوية الروحية، التي يسهل معها أسلمة الصراعات أو طأفنتها.

وفي اطار هذا الجدل يقول الكاتب السلطوي يحيى الامير في مقاله بعنوان: (الانتصارات الفكرية السعودية) ما نصه: (لم يؤسس المغفور له الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن دولة دينية ثيوقراطية، بل أسس دولة إسلامية مدنية على مستوى الرؤية والتطلع، ذلك أن الوسط الاجتماعي الذي شهد قيام الدولة كان بدائيا للغاية، ويصعب إقحامه السريع في ثقافة جديدة، ويغلب على ذلك المجتمع فكرة الخوف والممانعة؛ الخوف من كل جديد، والممانعة أمام كل ما ليس بمألوف).

وهذا الكلام غير مفهوم في الواقع، اذ ان الكاتب ينفي صفة الدولة الدينية عن دولة تعتبر القرآن والسنة دستورها، وترفض كتابة دستور بالمعنى الحديث كما تعارفت عليه الدول، زاعمة ان القرآن دستورها، بل هي تتحاشى تسمية (النظام الأساسي)، بـ (الدستور).

وفي مثال اخر على الفوضى الفكرية التي تنتاب الكتاب السعوديين، انه في الوقت الذي يؤكد فيه د. محمد بن سعود الجذلاني في مقاله بعنوان: (بيان النائب العام ألا يستحث مجلس الشورى؟) بأنه: (ما من شك أنه لا يوجد فراغ تشريعي في هذا الجانب في المملكة، في ظل تحكيمها لشريعة الله عز وجل الشاملة العامة، وفي ظل وجود الكثير من النصوص النظامية العامة التي تكفل التعامل مع كل ما يستجد من أحداث وأفعال).. نقرأ في مقال بعنوان: (خطاب الكراهية وخطره على المجتمع) للكاتب عبدالله فراج الشريف قوله: (نحن فعلاً نحتاج لنظام يجرّم كلاً من خطاب التكفير، وخطاب الكراهية، وخطاب الطائفية، والخطابات الثلاثة هي أشد الأمراض التي تصيب مجتمعات المسلمين اليوم).

هل يمكن قيام مملكة علمانية؟

لا شك ان هذا الجدل العقيم من الناحية العملية، يشير الى تفاعلات جوهرية في المجتمع السعودي. فقيام دولة علمانية في المجتمع السعودي اقرب الى الاستحالة في الوقت الراهن، لان العلمانية ليست مجرد نظام سياسي، بل هي تحولات شاملة في الثقافة والوعي السياسي والتنظيم الاجتماعي، وهذه كلها غير متوفرة في مجتمع أصابه القمع والديكتاتورية بالكثير من التشوهات التي تحتاج الى وقت ليس بالقصير ليشفى منها. كما ان التغيير الاجتماعي بحجم نقل المجتمع من حالة الى نقيضها، يحتاج الى رجال يؤمنون بهذا التغيير، وليس مجرد حاكم يتوسل الوصول الى السلطة، ونخبة انتهازية تطبل للحاكم دون تردد.

ولكن على الرغم من ذلك فإن هذا الجدل يوضح حقيقة لا جدال فيها، وهي ان النخبة السعودية الحاكمة باتت تدرك في قرارة نفسها، ان الاسس التي قامت عليها الدولة السعودية تضعضعت وضعفت، ولم تعد قادرة على مواجهة الحراك الشعبي من جهة، ولا التعايش مع المجتمع العصري من جهة أخرى. فلو كان محمد بن سلمان مقتنعا بأن (اكليروس الوهابية) قادر على حماية عرشه، كما فعل مع ابيه واعمامه، لما ذهب للبحث عن قوة جديدة، تسهل له التفرد بالسلطة والتحكم بالمجتمع.

ان هذا الجدل حول العلمانية لن ينتج دولة حديثة كما يتوهم البعض، بل سيزيد هذه الدولة الضعيفة تهالكا وضعفا.

الصفحة السابقة