مصر التي يصعب على آل سعود هضمها!

عبد الوهاب فقي

في كل يوم يزداد النظام السعودي عزلة. ويوما بعد آخر، يصنع له المزيد من الخصوم والأعداء، ويفقد المزيد من الحلفاء او شبه الحلفاء.

لم يبق من الدول العربية الكبيرة مؤيداً لآل سعود إلا مصر.

لكنها أكبر من ان يبتلعها آل سعود بأموالهم.

هم يظنون ان بالأموال يمكن ان يحققوا انتصارات عسكرية وسياسية وقيادية على مستوى العالم العربي والاسلامي.

الذي ثبت هو ان آل سعود بدون المال لا يجدون نصيرا.

وحتى بالمال فإن الدعم لهم من الدول والجماعات والأشخاص، محدود ومؤقت.

حتى المواطنين المسعودين ليسوا مضموني الولاء أبداً بدون المال، وتجربة الأزمة الإقتصادية الحالية تكشف هزالة الولاء لآل سعود ولشرعيتهم المؤسسة على الدفع.

فعلى خلاف الانطباع الذي خلفته زيارة الملك سلمان الى مصر في أبريل الماضي، والمشاريع الاستراتيجية الطموحة التي أعلن عنها خلال الزيارة، بما في ذلك نقل سيادة جزيرتي تيران وصنافير الى السيادة السعودية، وبناء جسر رابط بين سيناء والسعودية.. فإن ما أعقب الزيارة لم يكن لافتاً سوى لناحية دخول العلاقة مرحلة الغموض والمجهول. حينذاك، كان سلمان يبذل أقصى ما لديه من مهارات وإمكانيات مالية لإقناع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وفريقه الحاكم بجدوى تصحيح العلاقة مع تركيا، تمهيداً لتشكيل تحالف ثلاثي يضم (تركيا مصر السعودية)، لمواجهة إيران وحلفائها.

لم ينجح سلمان في تحقيق هدفه الطموح، وإلى حد كبير غير الواقعي، وفضّل تخفيض سقف توقعاته، الأمر الذي انعكس فتوراً في العلاقة مع أنقره والقاهرة على حد سواء، تماماً كما الحال بالنسبة لأفكار أخرى طموحة مثل التحالف الإسلامي العسكري المعلن عنه في منتصف ديسمبر 2015.

كان أول مؤشر على خلاف مستتر في الجانبين السعودي والمصري: بطلان اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية والتي تضمنت وقف نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير الى السيادة السعودية، وفق محكمة مصرية في 21 يونيو الماضي. وتضمن الحكم بطلان ما ترتب على ذلك من آثار «أخصّها استمرار هاتين الجزيرتين ضمن الإقليم البري المصري وضمن حدود الدولة المصرية واستمرار السيادة المصرية عليهما وحظر تغيير وضعهما بأي شكل أو إجراء لصالح أي دولة أخرى» حسب المحكمة الدستورية المصرية. ومع أن مجلس الشورى السعودي وقّع الاتفاقية بالاجماع يوم 25 إبريل، لكن لم يصادق البرلمان المصري عليها حتى اللحظة.

مؤشرات أخرى أومأت الى الخلاف من بينها المشاركة شبه المعدومة لمصر في التحالف الذي تقوده السعودية في العدوان على اليمن، ورشحت حينذاك عبارة للسيسي «جيش مصر لمصر»، وليس لأحد آخر. وأيضاً، كان لكشف التسجيلات السريّة بين السيسي ومعاونيه والتي يتهكم فيها على حكومات الخليج، وخصوصاً السعودية دور ما في الارباك الذي أصاب العلاقة بين القاهرة والرياض.

السعودية لم تفي بتعهداتها المالية لمصر، الا على نطاق محدود. وكان سلمان قد قرّر استبدال المساعدات المالية بمشاريع استثمارية مشتركة، مع ما تحمل من إشارات سلبية بالنسبة للجانب المصري.

ملف السياسة الخارجية لا يختلف كثيراً، فالرياض والقاهرة غير متفقتين حيال العلاقة مع تركيا والأزمة السورية وكذلك العراق والى حد ما اليمن.

بعد فشل الجهود السعودية في تسوية الخلاف التركي المصري، ظهر أن القاهرة لا تميل نحو الموقف التصعيدي السعودي حيال الأزمة السورية. وزير الخارجية المصري سامح شكري جدّد موقف بلاده من المسألة السورية والذي كان قد أعلنه في 16 فبراير الماضي حين اعتبر قرار السعودية بالتدخل البري في سوريا «أمراً سيادياً منفرداً»، وهو موقف أعلن عنه بنفس القدر من الصراحة سلفه نبيل فهمي.

 
تحالف؟ يا فرحة ما تمّت!

شكري، وفي مقابلة مع ثلاث صحف مصرية (الأهرام)، و(الأخبار)، و(الوطن) في 23 سبتمبر الماضي، كشف عن تباين في الرؤى بين مصر والسعودية حول النزاع في سورية، سيما فيما يتعلق بـ»تغيير نظام الحكم أو القيادة السورية»، وقال ما نصّه: «هناك موقف من قبل المملكة (السعودية) كان يركّز على ضرورة تغيير نظام الحكم أو القيادة السورية، مصر لم تتخذ هذا النهج». ورفض الحديث عن مستقبل الرئيس بشار الأسد، ربطاً الأمر بإرادة السوريين في تقرير ما يرونه مناسباً لبلادهم.

ما كان لافتاً هو اللقاء الذي جمع شكري مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 سبتمبر الماضي، وتناول موضوعات من بينها دور حركة عدم الانحياز، ومواقف الدول الاعضاء تجاه القضايا الإقليمية والدولية المختلفة، وعلى رأسها الملف السوري. في المقابل، لم يسجّل أي لقاء بين سامح شكري ونظيره السعودي عادل الجبير.

من جهة ثانية، كانت كلمة عمرو أبو العطا، سفير مصر في الأمم المتحدة في 26 سبتمبر الماضي مخيّبة للسعوديين، سيما لناحية وصفه الحرب في سوريا بأنها «حرب بالوكالة، وأن وقف نزيف الدماء يتوقف على تلك القوى المشاركة في العمليات العسكرية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة»، الأمر الذي يخرج النظام السوري من لعبة اللوم التي اعتادها السعوديون على مدى سنوات الأزمة.

في المنظور السعودي، يعد الموقف المصري بمثابة «إقرار غير مباشر بتراجع دور مصر، ودفاع مبطّن عن الأسد باتهام كل الأطراف داخلية وخارجية إلا هو»، بحسب الأكاديمي النجدي خالد الدخيل.

من مؤشرات الفتور في العلاقة المصرية السعودية، تفادي محمد بن نايف، ولي العهد السعودي والذي رأس وفد بلاده الى نيويورك اللقاء مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي برغم من تواجدهما في الأمم المتحدة في وقت واحد، برغم من أن لقاءات من هذا القبيل تبدو متوقعّة، بل حتمية، خصوصاً بين الأصدقاء فضلاً عن الحلفاء والشركاء.

وفي حقيقة الأمر، فإن الخلاف مع مصر أبعد من ذلك، فقد سبقه هيجان إعلامي سعودي على خلفية مشاركة وفد رفيع من الأزهر في مؤتمر غروزني حول هوية «أهل السنة والجماعة» في 25 أغسطس الماضي، والذي استثنى التيارات السلفية، وحصر أهل السنة والجماعة في «الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علمًا وأخلاقًا وتزكيةً». وقد حمّل الاعلام السعودي الأزهر مسؤولية «إقصاء» الوهابية عن دائرة «أهل السنة والجماعة».

وفي السياسة، فهم السعوديون ذلك على أنه مناكفة مصرية تبتغي ابتزاز الرياض لعدم التزامها بقرار تقديم مساعدات مالية كانت قد وعدت بها خلال زيارة الملك سلمان الى مصر في إبريل الماضي. وفي وجه آخر، فإن المشاركة الأزهرية الكثيفة والمتميّزة في مؤتمر غروزني هي استعادة لدور الأزهر في العالم الاسلامي، وأيضاً كجزء من ترتيبات العلاقة الروسية المصرية على الأرض الشيشانية لناحية تعميم نموذج الإسلام الصوفي والأشعري، في مقابل النموذج الوهابي الذي أنهك أمن واستقرار الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى.

من الواضح، أن العلاقة بين الرياض والقاهرة ليست مستقرة، وهي عرضة لتقلبات حادة، وبخلاف ما بنى سلمان وفريقه على زيارته الأخيرة الى مصر من آمال، فإن ما تحقّق منها أو بالأحرى ما شرع الطرفان في تحقيقها ليس بلافت. في الحقيقة إن المشاريع الطموحة التي طرحت في الزيارة مثل جسر الملك سلمان فوق خليج العقبة والمنطقة التجارية الحرة في سيناء ومشاريع أخرى لا تزال حبيسة الأدراج إن لم تكن دفنت في رمال سيناء.

لجوء مصر الى اقتراض 13 مليار دولار من صندوق النقد الدولي يمثّل إشارة لافتة الى أن بطاقة العبور السعودية الى مصر انتهت صلاحيتها، وإن التعهدات السعودية والاماراتية بتقديم المساعدات المالية لمصر السيسي لم تعد قائمة، على الأقل في القادم من السنوات.

إن المبرر الذي روّج له في فبراير من هذا العام من أن السعودية تنوي وقف المساعدات لمصر لا يزال قائماً. حينذاك، نقلت صحيفة (المصري اليوم) نقلاً عن مصادر حكومية في مصر بأن الملك سلمان وعد السيسي بعد أن تم الإعلان عن المجلس التنسيقي المصري السعودي بضخ استثمارات كبرى في مصر، وتقديم مساعدات نفطية، لكن المملكة رفضت كل المشاريع التي قدمتها الحكومة المصرية كاستثمارات لمبلغ 30 مليار ريال سعودي. ونقلت قناة «سكاي نيوز عربية» التي تبث من أبو ظبي بالإمارات في تقرير لها عن المساعدات السعودية لمصر في 8 إبريل 2016، بأن قيمة استثمارات السعودية في مصر بلغت نحو 27 مليار دولار، على مدى خمس سنوات، أي منذ ثورة 25 يناير وحتى تاريخه.

وشملت المساعدات المجالات السياحية والزراعية والصناعية. كما تناولت تأمين حاجات مصر من الوقود لمدة خمس سنوات وكذلك حركة النقل في قناة السويس. ووعد الملك بضخ 8 مليارات دولار في مشاريع استثمارية في مصر في القطاع السياحي ويفترض أن تساهم السعودية في تنمية بعض الموانىء والمنشآت التجارية. ولكن في حقيقة الأمر، أن مبلغ الـ 27 مليار دولار هي مجرد أرقام لا واقع لها، وإن ما حصلت عليه مصر حتى لا يتجاوز 8 مليارات دولار منذ ثورة يناير وحتى الآن. وإن ما يقال عن استثمارات جديدة لا نصيب لها على الأرض، سيما بعد دخول السعودية في أزمة اقتصادية تحول دون انخراطها في مشاريع استثمارية أو حتى تقديم مساعدات. ومن الضروري التذكير على الدوام بأن ما تعلن عنه الرياض من مساعدات أو حتى ابرام عقود هي بمثابة شيكات بدون رصيد، أو اعلان نوايا وسوف تبقى كذلك الى أمد غير معلوم.

في تطوّر لافت، أوقفت شركة أرامكو في مطلع أكتوبر الجاري مخصصات المساعدات البترولية السعودية لمصر على مدى خمس سنوات ضمن اتفاق جرى توقيعه خلال زيارة الملك سلمان لمصر وبمعدل 700 ألف طن شهرياً بموجب اتفاقية بقيمة 23 مليار دولار بين شركة أرامكو السعودية والهيئة المصرية العامة للبترول، ما اضطرها الى زيادة مناقصاتها سريعاً برغم من النقص الحاد في الدولار وزيادة المتأخرات المستحقة لشركات إنتاج النفط. لم يكشف عن سبب التوقّف، ولكن المعطيات الواردة أعلاه تلمح بصورة ما الى رد الفعل السعودي المتوقّع والمألوف في معاقبة أو الضغط على الدول التي تتعامل معها. تجدر الإشارة الى أن الكمية المقترحة لتقديمها شهرياً أي 700 ألف طن عبارة عن 400 ألف طن من زيت الغاز (السولار) و200 ألف طن من البنزين و100 ألف طن من زيت الوقود وذلك بخط ائتمان بفائدة إثنين بالمئة على أن يتم السداد على 15 عاماً.

وفي رد فعل على توقف الشحنات قرر الهيئة المصرية العامة للبترول الدخول الى السوق الفورية «لتغطية الفجوة معلنة عن أكبر مناقصة لها في أشهر تشمل طلب شراء نحو 560 ألف طن سولار تصل في أكتوبر تشرين الأول وذلك بارتفاع حاد مقارنة مع نحو 200 ألف طن في سبتمبر».

إن قرار إيقاف الشحنات المقررة شهرياً الى مصر ينبىء عن موقف سياسي سعودي ويأتي في وقت تتصاعد فيه اللهجة السعودية ضد الموقف المصري في مجلس الأمن وتأييد مشروع القرار الروسي بشأن سوريا، ما دفع بعبدالله المعلمي ممثل السعودية في الأمم المتحدة الى انتقاد مصر علناً، وقامت الصحف السعودية بمهاجمة مصر، واستدعت الرياض سفيرها من القاهرة بحجة التشاور؛ فيما ظهر السيسي على القنوات المصرية ليؤكد ان موقف مصر تجاه سوريا سيادي ومستقل وانه لن يتغير مهما كانت الضغوط.

وفي الوقت الذي تقول فيه الرياض انها لن تخضع للإبتزاز المصري؛ فإن مصر تقول ذات الأمر أيضاً، بأنها لن تقبل بابتزازها بالمال السعودي من اجل تغيير مواقفها الاستراتيجية كما في الموضع السوري.

في كل الأحوال، سوف يكون أمراً بالغ الصعوبة على الرياض وهي ترى حليفاً افتراضياً مثل مصر وهو يغرّد خارج سربها، أو يعتنق عقيدة في السياسة الخارجية وفي العلاقات الدولية غير تلك التي هو عليها، بناء على معطيات غير مكتملة لدى القيادة السعودية، على الطريقة الاسرائيلية بأن السيسي مجرد تابع طيّع لرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو.

مصر آخر سهم في كنانة آل سعود.

ان خسروها وناصبوها العداء، كما يحرض الإخواسلفيون وبعض رموز الحكم، فستكون القشة التي تقصم ظهر الدولة السعودية النجدية.

والحل لا يعدو ان تتابع الرياض سياستها عبر دفع المال، وتصمت، وأن لا تطلب أثماناً كبيرة لذلك!

الصفحة السابقة