وما نيلُ المطالب بالتمنّي والأحلام والأموال!   رب يوم بكيتُ منه فلمّا   صرتُ في غيره بكيتُ عليه

لماذا على السعودية أن تخشى ترامب؟

نهاية الحلم السعودي: ترامب رئيساً!

عبدالحميد قدس

وصول ترامب الى الحكم جعل العالم كلّه يشعر بالوجل والقلق، وليست السعودية وحدها، بل شمل حتى الولايات المتحدة الأمريكية المعنية الأساس بأمر انتخابه. فلماذا تكون السعودية قضية مختلفة؟.

لماذا الخشية من ترامب؟

لكل دولة أسبابها الخاصة بها، ولكن المبررات متقاربة.

فالقضية ليست فقط أن لدى ترامب سياسات مختلفة عمّن سبقه؛ فهذا أمرٌ طبيعي، وليس لأنّه قليل الخبرة في السياسة، فقد وصل من هو بلا خبرة ولا فهم حتى، ونقصد جورج بوش الإبن. وليس القضية ان الرجل يتصف بقدر لا بأس به من التهور، فما أكثر الرؤساء الذين كانوا متهورين. وأيضاً ليس الأمر يتعلق بحجم التغيير في السياسات الذي يقول ترامب انه يريد اعتمادها، فكثير من الرؤساء في التاريخ الأمريكي، مارسوا بعض السياسات الراديكالية في قضية أو أكثر، سواء تعلق الأمر بالشؤون الداخلية أو الخارجية.

مشكلة الآخرين (أمريكيين او غيرهم) أن ترامب جاء من خارج السيستم، من خارج المؤسسة، وهذا يعني أن ضبطه ضمن السيستم الأمريكي، كما يحدث مع كل الرؤساء المنتخبين، امرٌ في غاية الصعوبة، فإما أن ينضبط بضوابطها، وهو أمرٌ صعب بالنسبة لشخص بلغ السبعين، واعتاد قدراً من الإنفلات.. أو يرحل بطريقة أو بأخرى.

ومعنى ان ترامب جاء من خارج السيستم، أن سياساته وتحركاته يصعب التنبؤ بها، وهذه مشكلة العالم معه، ومع وعوده التي أطلقها للناخبين، فإلى أي حد يمكنه الالتزام بوعوده، وسياساته المعلنة، او يصرّ على تنفيذها، وأي سياسات أخرى يمكن أن يقدم عليها؟

شخص لا يمكن التنبؤ بسياساته الراديكالية، هو خطير في عرف السياسة.

ترامب، يمكن أن يُحدث في أمريكا ثورة إصلاحية على المستويات كافة، وبنفس القدر هناك احتمال أن يهبط بها الى الحضيض أيضاً. وتلك هي مشكلة المؤسسة الأمريكية معه (المخابرات، والكونغرس، والمؤسسات المالية، والعسكرية، والأكاديمية).

ترامب وإنقاذ الإمبراطورية

ينبغي الإلتفات الى حقيقة ان واحداً من أعمدة (السياسة الترامبية) هو اعتماد (مبدأ العزلة)، او العودة اليه، ولو جزئياً. هو لم يقل هذا بالنصّ، لكن فحوى تصريحاته يعني ذلك. فالمعلوم أن أمريكا كانت تعيش العزلة السياسية كما الجغرافية الى الحرب العالمية الثانية، وهي اتخذت قرار فك العزلة والمساهمة بدور قيادي على مستوى العالم، بعد تلك الحرب، او ما قبل نهايتها بقليل، حين تأكد لها أن العالم يعيش فراغاً سياسياً باندحار القوى الاستعمارية التقليدية (فرنسا وبريطانيا)؛ ومع هزيمة ألمانيا، لم يبق إلا القوة السوفياتية الستالينية الصاعدة يومئذ، وكان لا بدّ من وريث، فورثت هي القوتين الاستعماريتين التقليديتين.

الآن، وبعد أن تمددت أمريكا عسكرياً، وصارت لديها قواعد عسكرية في مائة وثلاثين دولة في العالم، كانت تمثل فيما تمثل أداة استحواذ اقتصادي، ليس فقط قادراً على تغطية نفقات التمدد العسكري للإمبراطورية الأمريكية، بل وأيضاً، حقن الاقتصاد الأمريكي بموارد هائلة، وفتح أسواق للمنتجات الأمركية في كل الدنيا..

الآن، وقد تغيّرت المعادلات الاقتصادية العالمية، وفي ظلّ المنافسة المحتدمة اقتصادياً، شعر القادة الأمريكيون بعبء التمدد العسكري للإمبراطورية، ووجدوا أن كثيراً من الإمبراطوريات في التاريخ، قد انتهت بسبب هكذا نوع من التمدد، وهكذا استهلاك للموارد.

منذ عهد أوباما في فترته الرئاسية الثانية، بات واضحاً، ان القيادة الأمريكية قد أدركت بأنها ستخسر في المستقبل المنافسة الإقتصادية، وبالتالي المنافسة على مستوى قيادة العالم، إن استمرّت في ذات النهج التي هي عليه اليوم، وقد ظهر الحنين واضحاً لدى كثير من الباحثين والسياسيين الأمريكيين لسياسة العزلة القديمة.

الرأي المؤيد لهذه العزلة يقول بأن الصين والهند واليابان وغيرها من الدول التي قفزت اقتصادياً في امريكا اللاتينية، لا تتحمل أعباء عسكرية، وبالتالي فإن نموها الإقتصادي يمضي بوتيرة أسرع من الإقتصاد الأمريكي نفسه، وعلى مدار سنين طويلة.

لهذا، كانت الولايات المتحدة أمام خيارين:

ـ الخيار الأول، تخفيض دورها العسكري على المستوى العالمي، والتنازل عن عدد كبير من قواعدها العسكرية؛ وعدم اقحام نفسها في مغامرات عسكرية مكلفة اقتصادياً، خاصة بعد التجربة المرّة في العراق وافغانستان. وهذا الخيار يعني تخفيض الدور الأمريكي القيادي في العالم؛ وظهور عدّة أقطاب سياسيين يتشاركون معها في القيادة، وتحويل أمريكا الى لاعب من بين اللاعبين الكبار على المستوى السياسي والعسكري، مع احتمال بقائها لمدة أطول كأقوى قوة اقتصادية عالمية.

ـ الخيار الثاني، وهو الذي يؤمن به ترامب، وايضاً أوباما، والنخبة الحاكمة عامة، وهو يقضي بتحميل الحلفاء ثمن الخدمات العسكرية، بما يخفف الأعباء عن واشنطن من جهة، ويمدّد لفترة طويلة دور (الدولة الامريكية القائدة) في كافة الميادين السياسية والعسكرية والإقتصادية والعلمية.

لهذا، ومنذ عهد أوباما، كان هنالك ضغط على الاتحاد الأوروبي، ليزيد من مساهمته في دفع تكاليف حلف الناتو، حيث تدفع امريكا نحو سبعين بالمائة من النفقات، فيما تلتزم اوروبا بالباقي، في حين أنها المستفيدة الأكبر من المساهمة الأمريكية. وفعلاً قررت اوروبا زيادة مساهمتها في نفقات الناتو، ولكن ترامب يريد أكثر، وبالضغط العلني الصريح ايضاً، وهو يقول علناً بأن اتفاق حلف الناتو لم يلتزم به الحلفاء من جهة المساهمة في نفقاته.

أيضاً، فإن اليابان التي استقرت فيها القواعد الأمريكية منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، بغية عدم نهوضها عسكرياً، وأن لا يكون لها دورٌ سياسي فاعل على الساحة الدولية.. جاء ترامب ليطالبها بأن تدفع من مواردها ثمن الوجود العسكري الأمريكي، أو تشارك فيه، على حساب نهضتها الاقتصادية. وقد اجتمع المسؤولون اليابانيون مع ترامب مؤخراً، وخرجوا بشعور مطمئن، إذ يبدو أن اليابان لا مانع لديها من المساهمة في النفقات العسكرية الدفاعية، لمواجهة تحديات كوريا الشمالية والصين وحتى روسيا.

ولهذا السبب: أي تخفيض النفقات العسكرية، كرر ترامب في حملته الانتخابية مراراً بأنه لن يحمي السعودية إن لم تدفع (جزية اكبر!) من مداخيل النفط، الى حد المطالبة بمشاركتها امريكا في مدخولاتها النفطية!

هذا المنهج (الترامبي) غرضه توفير أموال لإعادة بناء أمريكا من الداخل، او كما قال تجديد وبناء البنية التحتية المتهالكة في امريكا، وكذلك انعاش الاقتصاد الامريكي ليقف على أرض صلبة في المنافسة الدولية، خاصة مع الصين.

ونعود الى السؤال القديم الجديد: مالذي يجعل السعودية ـ دون بقية دول العالم ـ الأكثر قلقاً من ترامب؟

الإيرانيون ـ مثلاً ـ قلقون منه فيما يتعلق بالاتفاق النووي، والحصار الاقتصادي على بلدهم. فهل هذا يخفّف من وطأة الخشية السعودية؟!

السعودية وحدها بين دول مجلس التعاون تشعر بالخطر من ترامب، في حين أنك قد تجد الحكم في البحرين، اكثر استرخاءً بوصوله، ولكلٍّ اسبابه.

فمع ان أمريكا لديها قواعد في كل دول الخليج بلا استثناء، فإنها إما قادرة على دفع ثمن الحماية، أو هي في غنى عنها في الأساس، لأنه ليس لديها خشية من عدو يفتك بها: سلطنة عمان مثلاً.

دولة مثل قطر، لديها القدرة ان تدفع ثمن حمايتها إن أرادت؛ وفي العادة فإن بعض دول الخليج تستفيد اقتصادياً من وجود القواعد، او تستلم مبالغ مقابل الحضور العسكري الأمريكي: البحرين نموذجاً!

ثم ان دول الخليج ـ غير السعودية ـ ليس لديها جوانب خلافية ذات قيمة مثلما هو الحال بالنسبة للرياض.

تختلف السعودية، في مقدار الخشية من وصول ترامب الى سدة الرئاسة الأمريكية، عن كل دول العالم الصديقة او الحليفة او المنافسة او العدوة لامريكا.. فهي الأكثر قلقاً والأكثر هشاشة في مواجهة المخاطر.

كيف؟

السعودية والعداء المطلق لترامب

لم تكن هناك دولة كانت لها خصومة سياسية مع ترامب الى حدّ الشخصنة مثل السعودية.

فالأخيرة كانت ومنذ البداية حاضرة كمادّة في الإنتخابات الأمريكية الأخيرة، ولم نشهد حضوراً لدولة أجنبية في الانتخابات وفي تفاصيل موضوعاتها ذات الأبعاد المحلية والخارجية مثل السعودية. لا أوروبا مجتمعة، ولا اسرائيل، ولا روسيا، ولا المكسيك، ولا أية دولة أخرى كانت حاضرة كالسعودية.

السعودية ابتداءً، كانت تعمل كجزء من الحملة الإنتخابية لهيلاري كلينتون، وحسب محمد بن سلمان، ولي ولي العهد، ووزير الدفاع، فإن بلاده قدمت نحو عشرين بالمائة من نفقات الحملة الانتخابية لكلينتون. هذا القدر من التدخّل لم تجرؤ دولة أخرى ان تقوم به، او تتبجّح بالقيام به. وهذا ما دعا الحملة الانتخابية لترامب الى مواجهة كلينتون مراراً مندداً بالتمويل السعودي.

والسعودية من جهة ثانية، ليس فقط راهنت على كلينتون، وكانت متأكدة من فوزها، بل الأهم انها ـ دون غيرها من الدول ـ لم تُبقِ حتى شعرة معاوية فيما لو حدث المستحيل وفاز ترامب! ولهذا، كانت مواجهة السعودية لترامب علنية في إعلامها، صريحة هجومية، لم تكن ترَ اية عواقب سلبيّة في ذلك.

وللأسف، فهذا هو دأب الرياض، ليس فقط في هذا الموضوع، وإنما في قضايا ومواضيع أخرى، حيث تأخذ الخصومة الى حدّها النهائي، ويكون تراجعها صعباً وأحيانا يكون مستحيلاً، ولا أدلنا على ذلك عدوانها على اليمن، ومواقفها في سوريا والعراق ولبنان وغيرها.

ثم أضافت السعودية ـ بالنسبة لترامب ـ الملح على الجرح، وكلّفت الوليد بن طلال للسخرية بترامب، وتعييره بأنها هي التي أقامته مرتين من أزمات اقتصادية ألمّت به؛ والسعودية عبر الوليد هي الوحيدة التي طالبت ترامب بالإنسحاب من الانتخابات، لأنه حسب تعبير الوليد، يستحيل عليه الفوز؛ ما دفع بترامب للرد على الوليد بن طلال والقول بأن السعودية تعتقد ان بامكانها شراء السياسيين الامريكيين، وأن ذلك لن يحدث إذا ما فاز في الإنتخابات.

ومن جهة ثالثة، فإن تصرفات السعودية، وليس فقط أموالها واعلامها، كانت مادة انتخابية أساسية في حملات المرشحين، خاصة فيما يتعلق بدورها في تفجيرات سبتمبر ٢٠٠١، وفي ضرورة فتح ملف التحقيق واعادة الصفحات الثمان والعشرين التي تمّ إخفاؤها في عهد بوش الإبن. حتى هيلاري اضطرت الى المطالبة بالكشف عن تلك الأوراق أسوة بترامب نفسه.

وكانت الرياض حاضرة في خطابات ترامب، باعتبارها المموّل الأساس للإرهاب الداعشي، وعبر هذا، كانت حملة ترامب توجه الصفعات لكلينتون بأنها أخفت دور السعودية في هذا الشأن، وأن ادارة اوباما واصلت دعم الرياض عسكريا، وهي الممولة للإرهاب.

والسعودية فوق هذا كانت حاضرة في المسألة الإقتصادية سواء حين الحديث عن القواعد العسكرية، وضرورة دفع آل سعود ثمن الحماية؛ أو فيما يتعلق باستغناء أمريكا عن النفط السعودي، وهو أمرٌ كرره ترامب بعد الفوز، أو ما يتعلق بإجبار السعودية على دفع ثمن جريمة تفجيرات سبتمبر، لرعايتها للإرهاب ـ حسب قانون جاستا الذي أقره الكونغرس، وربما الإستيلاء على أموالها واستثماراتها في امريكا وبالذات في الخزينة الأمريكية.

وهكذا لا توجد دولة في العالم كان لها حضوراً في الإنتخابات الامريكية مثل السعودية.

ولم توجد دولة في العالم تدخّلت في الإنتخابات بشكل صارخ مثل السعودية، حتى ان البعض علّق بأن الإنتخابات الأمريكية كأنها كانت تجري على الأراضي السعودية، البلد الديكتاتوري الأكبر في المنطقة.

ولم توجد دولة في العالم واجهت ترامب وبصفة شخصية في كثير من الأحيان ـ وبمبررات ضعيفة وبدون سقف للهجوم ـ كما فعلت السعودية.

وبناءً على هذا كلّه.. يتوقع أن لا تُوجد دولة ستدفع ثمن تغيير السياسات الأمريكية في عهد ترامب، وثمن هذه الرعونة، مثل السعودية نفسها.

ومن هنا، حقّ لآل سعود أن يكونوا أكثر قلقاً من غيرهم، حين توّج ترامب رئيساً منتخباً للولايات المتحدة الأمريكية.

كيف تفكّر السعودية؟

لماذا أعلنت الرياض حرباً شرسة على ترامب حتى قبل وصوله الى السلطة؟ فهو في كل الأحوال محسوب على الجمهوريين المحببين في معظم الأحوال للعائلة المالكة. والرياض في الغالب لا تميل الى الديمقراطيين، كونهم أقلّ تطابقاً معها في الرؤى، وأنهم عادة ما يزعجون ال سعود، بمطالبات اصلاحية اجتماعية خجولة.

الرياض لا تخفي غضبها من أوباما. ففي عهده، انحدر نفوذ آل سعود في المنطقة بشكل غير مسبوق.

وفي عهده وصلت العلاقات بين البلدين الى مرحلة النقد المباشر من كلا الطرفين لبعضهما البعض.

وفي عهده أيضاً، خسرت الرياض الكثير من مكانتها وأحدقت الأخطار بها، وانتصر خصومها.

كل هذه المآزق لا يرى آل سعود أنهم السبب الأساس فيها، بل يعتقدون ويروجون بلا خجل، أن أمريكا هي التي نكبتهم، فهي التي سلّمت العراق لإيران بزعمهم، وهي التي رفضت التدخّل عسكرياً للإطاحة ببشار الأسد ونظامه؛ وهي التي وقعت الاتفاق النووي مع ايران وأعطت الأخيرة المكانة وفكّت الحصار عنها على حسابها بنظرهم؛ وأمريكا هي التي تخلّت عن حلفائها وليس فقط عن مصالحهم، كما هو الحال مع بن علي تونس، ومبارك مصر. وفوق هذا، فأمريكا، من وجهة نظر آل سعود، هي التي انتقدتهم علناً، ونسبت الإرهاب الداعشي اليهم، والى أيديولوجيتهم الوهابية.

ومع هذا كله، فإن آل سعود، رأوا أن المشكلة تنحصر في شخص أوباما، وليس في سياسة أمريكا، وتبدّل استراتيجياتها، ولا في رؤية الرياض لنفسها ولدورها، ولا في سلوكها السياسي الإرهابي تارة والعدواني تارة أخرى.

وعلى هذا الأساس كان الأمراء ينتظرون بفارغ الصبر نهاية عهد أوباما، فلديهم مشاريع سياسية كبرى، تمّ طمسها وعدم الاستجابة اليها، وأملوا حين تأتي هيلاري كلينتون، وهي ديمقراطية ايضاً، فسيتمّ إحياء الدور الأمريكي العسكري في الشرق الأوسط، وقد يصل الأمر حدّ التدخل في سوريا ومواجهة روسيا. كما أملوا: تمديد المظلّة السياسية والحمائية لهم، كي يستمروا في حربهم في اليمن؛ وايضاً أملوا ان الغرب لن يطلب بعد التجربة المرّة للربيع العربي، ان يغيّروا من سياستهم ويعتمدوا إصلاحاً سياسياً وحقوقياً من نوع ما.

الآمال السعودية على عهد كلينتون كانت كبيرة. فالرياض تبحث عن رئيس يرد الصاع صاعين لإيران، ويعيدها محاصرة تحت ضغط عسكري لم ينفذه أوباما كما كانت الرياض وحتى اسرائيل تؤمّلان. والرياض حلمت باستعادة نفوذها فوق موجٍ أمريكي تراجع بشكل صاروخي، منذ عقد على الأقل؛ وانحدر معه دور السعودية نفسها. والأكثر ان ال سعود كانوا يأملون بلفلفة قانون جاستا مع كلينتون دون أن تحدث مضاعفات سياسية.

اذن، كلينتون كانت الحلم لآل سعود. الحلم الذي هو قاب قوسين أو أدنى من التحقّق، لولا إزعاج هذا (الدخيل على السياسة) ترامب!

وكلينتون، ومنذ عهد زوجها كانت لصيقة بدول الخليج، وهي صديقة، وقابلة للفساد والإفساد أيضاً. والأموال السعودية سيكون لها مكان في سياستها، حتى مع حضور قوي لمؤسسة الحكم الأمريكي.

إذن لا بد من الإنخراط في دعمها، ومواجهة خصمها ترامب، الذي هو في الأساس يبدو وكأنه ضد السعودية؛ مع أنه والى هذا الوقت لديه عدّة شركات تعمل هناك في مجال الفندقة والاستشارات الفندقية.

وصول ترامب الى الرئاسة يعني نهاية الحلم السعودي.

والأهم هو يعني ان التحالف التاريخي والإستراتيجي بين امريكا والسعودية، سيهبط بشكل حادّ بأكثر مما كان عليه الوضع منذ أحداث سبتمبر ٢٠٠١.

والمشكلة الأكبر هنا، هو أن آل سعود لم يلتفتوا الى أمر أساس، يجعلهم يعيدون النظر في تبريرات أخطائهم، فيعودوا الى أنفسهم ويراجعوا سياساتهم بشكل عام، لتأسيس وضع قوي يضمن استمرار حكمهم، ألا وهو: أن مكانة المملكة السعودية في الإستراتيجية الأمريكية انخفضت بشكل حادّ. والأسباب عديدة، من بينها:

ـ التحوّل في الاستراتيجية الأمريكية نفسها، واهتمامها بالمنافسة في منطقة جنوب شرق آسيا، وعدم قبول الاستمرار في استهلاك قواها في محيط الشرق الأوسط، بصراعاته التي لا تنتهي.

ـ ضعف المملكة الإقتصادي، بعد نزف طويل، وانخفاض اسعار النفط، وبعد اكتشاف بدائل النفط (النفط الحجري)، وتحول الولايات المتحدة الأمريكية من مستورد للنفط الى مصدر له.

ـ انحسار النفوذ السياسي السعودي، وادراك امريكا بأن الرياض لا تستطيع ان تقيم نفوذاً منفصلاً قابلاً للحياة بدون ان يكون متوازياً مع نفوذها هي ومعتمداً عليه. فضلاً عن أن الرياض أبدت عدم قدرة على التكيّف مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، بعكس بلدان اخرى في المنطقة، كالإمارات والأردن وقطر.

ـ انغماس الرياض في العنف الداعشي وتبنيها أيديولوجية وهابية مولّدة للعنف ومهددة لمصالح الغرب. وهذا الإنغماس كان مطلوباً في البداية، ولكن الرياض رفضت التخلّي عنه، والذهاب به بعيداً كما فعل بندر بن سلطان، واستمرّت عليه حتى الآن. أي انها لم تتقيّد بمتطلبات استخدام داعش والقاعدة كما تفعل امريكا نفسها، ما ادى الى الإضرار بنشر العنف عالمياً وبين دول حليفة في افريقيا وفي اندونيسيا وبنغلاديش وماليزيا وغيرها، ما أدى أيضاً الى فقدان الرياض مكانتها كدولة قائدة للعالم الاسلامي فضلاً عن أنها لم تعد قائدة للعالم العربي.

ـ عدم قدرة الرياض على إصلاح ذاتها، رغم الإلحاح الأمريكي فيما بعد أحداث سبتمبر. فقد كشفت آل سعود بأنهم لا يستطيعون ـ حتى لو أرادوا ـ ان يسيطروا على العنف الداعشي القاعدي، ولا أن يتنازلوا عن الأيديولوجية الوهابية، ولا التوقف عن نشر هذه الأيديولوجية خارج البلاد. وأيضاً، فإن الأمراء يرفضون إجراء اصلاحات اجتماعية وسياسية قابلة لتمديد حياة نظام حكمهم.

لهذه الأسباب وغيرها، لم تعد السعودية تحتل نفس الأهمية القديمة التي كانت تحوزها في الإستراتيجية الأمريكية. بل تحولت في بعض الأحيان الى عبء سياسي، أكثر من كونها بلداً يخدم اقتصاديا وسياسياً امريكا والدول الغربية عامة.

عدم التفات ال سعود الى هذا الانحدار في قيمتهم الاستراتيجية من حيث قيمتهم الوظيفية، هو السبب الرئيس في التحول الأمريكي تجاههم، منذ أواخر عهد بوش الإبن، ومروراً بعهد أوباما، وسيستمر بصورة مضطردة في عهد ترامب.

وبناء على هذا كيف نرى السعودية في المستقبل.. في السنوات القادمة؛ وأين ستتغير سياساتها في عهد الرئيس ترامب؟

الموضوع السوري

ترامب أقرب الى سياسة أوباما، بعدم التدخل عسكرياً، خاصة في الموضوع السوري. بل اكثر من هذا، فإنه لو قدّر له التدخّل في الشأن السوري، فسيتدخل ضد الطرف الذي تدعمه السعودية وتركيا. أي ضد جبهة النصرة وغيرها. وعليه، لا تستطيع الرياض أن تؤمل موقفاً أمريكياً أفضل من موقف أوباما، بل هي تتوخى الحذر من ان موقف ترامب سيكون الأقرب الى الموقف الروسي. وفي الأصل لا يوجد الشيء الكثير لتكسبه السعودية من سوريا، بعد ان حققت بغيتها الأساس بتدمير البلد. فاللاعبون في الساحة السورية كثر، والسعودية مجرد لاعب من عشرة لاعبين، وحصتها في حال الفوز ستكون قليلة، فكيف بها وقد خسرت الحرب فيها بنحو شبه كامل؟

الصراع مع إيران

في الموضوع الإيراني، هناك أملٌ سعودي، وخشية إيرانية، من أن يقوم ترامب بتعطيل مفاعيل الاتفاق النووي الايراني. هذا الأمل مبنيّ أيضاً على حسابات ان الكونغرس واللوبي الصهيوني يدفعان باتجاه ذلك، والى المزيد من العداء لإيران، وابقائها محاصرة ولو أمريكياً فقط. وقد أعلن الكونغرس تمديد الحصار لايران لعشر سنوات قادمة. لا شك ان هذا يرضي السعودية ويمنحها بعض العزاء، وهو ما تتمناه اسرائيل؛ لأنه في اضعف الأحوال، يضعف ايران ويوقف زخم تمدد نفوذها على حساب النفوذ السعودي.

وبالرغم من حقيقة ان الاتحاد الاوروبي قد حذر ترامب علناً من المساس بالإتفاق النووي، باعتباره اتفاقاً دولياً وليس اتفاقاً يخصّ امريكا وحدها، إلا أن أحداً لا يمكن له القطع بما سيتخذه ترامب من مواقف. ولكن الشيء شبه المؤكد، كما ظهر من خطابات المسؤولين الإيرانيين، فإنهم مستعدون للردّ على خرق امريكا للإتفاق، الى حد يحتمل معه العودة الى الصفر، وربما العمل هذه المرّة بصدق وجد لإنتاج سلاح نووي، مهما كانت التحديات.

والأرجح، ان عهد ترامب لن يكون مريحاً في العلاقات الأمريكية الإيرانية، ولن تصل الأمور الى اصطدام مسلّح، ولا الى الغاء الاتفاق النووي. ولكن قد نشهد تنصلاً امريكياً فيما يمكن لواشنطن ان تتنصّل بشأنه، كموضوع حصارها وحدها لإيران، وهذا سيتم مقابلته برد إيراني من نوع ما. وقد يكون من حسن حظ ايران، وربما كان بتخطيط منها، ان لا تكرر تجربتها مع جيمي كارتر وريغان، حين رفضت حل ازمة الرهائن مع كارتر، وانتظرت سقوطه، فكان الوضع مع ريغان سيئاً. هذه المرة، استبقت نتائج الانتخابات بعقد الاتفاق النووي.

وفي كل الأحوال لا يوجد شيء كثير، يمكن للرياض ان تستثمره في حال ساءت العلاقات الأمريكية ـ الايرانية أكثر، ولا يوجد ما يعوّض مصيبتها هي مع ترامب!

حرب اليمن

في موضوع حرب اليمن، فإن من رأي ترامب إيقاف الحرب، واذا التزم بوعوده او بتصريحاته الانتخابية، فإن السعودية لن تطمع باستمرار المظلّة الأمريكية للعدوان. ولن تطمع بأن تشارك امريكا في الحرب مباشرة، كما فعل أوباما، وإن تنصّل من جرائم السعودية نفسها.

وعموماً فإن حرب اليمن خاسرة بالنسبة للسعودية. العالم يدرك ان السعودية هزمت في الحرب، ولكن الرياض تصرّ على استمرارها بلا أي أُفق لها في النجاح. كل آمالها، ان شيئاً ما قد يتغيّر لصالحها في حال فازت هيلاري كلينتون، وها هي قد فشلت، وعلى الرياض أن تحتمل ـ مجرد احتمال ـ أن تقاتل وحيدة في اليمن، وليس معها سوى بريطانيا، المنتفع الأكبر والحريص على استمرار بيع السلاح والقنابل العنقودية للحليف السعودي.

حرب اليمن انتهت، دونما اعتراف سعودي بالهزيمة.

وترامب قد لا يعطي السعودية ـ اذا ما تعنتت ـ الوقت الكافي للخروج منها بحل سياسي يحفظ بعض ماء وجهها.

قانون جاستا

يتوقع أن يكون عهد ترامب وبالاً على ال سعود، خاصة في مسألة قانون جاستا، الذي تمّ تفصيله على مقاس السعودية. ويرجح ان تكثر الدعاوى على الرياض، وان يتم السطو على بعض أو كل الإستثمارات الخارجية. والأكثر من ذلك، يتوقع ان تُحمّل الرياض مسؤولية دعم ورعاية الإرهاب.

ربما لو كانت كلينتون قد نجحت في الانتخابات، ان يتم إيجاد حلّ، من خلال تدوير الزوايا، واستثمار نصوص قانونية في جاستا وضعت خصيصاً لتوسعة دائرة المناورة والإبتزاز الأمريكي من خلال اجراء مفاوضات مع السعودية، لا تدين الأخيرة بمسؤولية الإرهاب، مع أخذ بعض التعويضات المالية والتنازلات السياسية. هذا ما كان يؤمله آل سعود.

الان في عهد ترامب، فصوت التهديد، والقيام بفعل، قد يسبق التحذير والنقاش حتى. ستدفع الرياض التعويض، قليلاً كان أم كثيراً، ودفع التعويض بحدّ ذاته يمثل ادانة للسعودية بتمويل الإرهاب، واعتراف منها بذلك. اللهم إلا اذا واجهت ورفضت الأمر، وأُخذ مالها رغماً عنها. وهذا لن يتم إلا في حالة المصادمة مع الحليف الأمريكي، وتحوّل هذا الحليف الذي كان يحميها بالأمس، الى عدو بالمطلق. ولا نظن ان الرياض ستغامر باستعداء امريكا الى هذا الحد، خاصة وانه لا يوجد لها بدائل في علاقاتها الدولية، بسبب ارتمائها الكلي في حضن امريكا والغرب لعقود طويلة.

تحول الحلفاء

تعتقد الرياض أن بإمكانها مجابهة ترامب حتى قبل ان يستلم زمام الحكم في يناير القادم.

الجنون السعودي يمكن اكتشافه بسهولة من خلال الإعلام السعودي، وقنواته الفضائية، حيث الحرب معلنة على ترامب، والتغطية اليومية الواسعة لكل ما هو ضدّه، وكأن الرياض تتعامل مع جيبوتي او الصومال، وليس مع أقوى دولة في العالم.

يظن بعض المسؤولين السعوديين ان هناك امكانية لرحيل ترامب إما قبل ان يصل لمقعده في البيت الأبيض، او بعد ان يصل بفترة وجيزة. ولذا بدل أن يستثمروا في التصالح معه، مضوا الى آخر الشوط في العداء، حتى بعد انتهاء معركة الرئاسة والإنتخابات.

وتعوّل السعودية على دول الخليج ان تقف معها، وتتخذ ذات الموقف، وبدأت تتحدث كممثلة عن دول الخليج. وكذلك هي تأمل ان تقف معها مصر والملكيتان في الأردن والمغرب. وهذا من الجنون السياسي وليس فقط من الأوهام والأحلام.

لن تقف أية دولة خليجية مع السعودية، لأنها ليست متضررة من وصول ترامب الى الرئاسة. حتى البحرين ـ ذيل السعودية ـ لا يخفي المسؤولون فيها فرحهم بوصول ترامب، فعلى الأقل تخلّصوا من رئيس ديمقراطي، أزعجهم بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وضغط عليهم هنا وهناك، ورفض ان يقابل ملكهم منذ فبراير ٢٠١١.

كذلك مصر، ولذات السبب، شعرت بارتياح من وصول ترامب، ليخف الضغط عليها من قبل الديمقراطيين، في ذات ملفات حقوق الإنسان والسياسة المحلية. وهذا ما يفسر أن السيسي كان أول حاكم عربي هنّأ ترامب بنجاحه في الانتخابات.وصول ترامب الى الحكم جعل العالم كلّه يشعر بالوجل والقلق، وليست السعودية وحدها، بل شمل حتى الولايات المتحدة الأمريكية المعنية الأساس بأمر انتخابه. فلماذا تكون السعودية قضية مختلفة؟.

كذلك مصر، ولذات السبب، شعرت بارتياح من وصول ترامب، ليخف الضغط عليها من قبل الديمقراطيين، في ذات ملفات حقوق الإنسان والسياسة المحلية. وهذا ما يفسر أن السيسي كان أول حاكم عربي هنّأ ترامب بنجاحه في الانتخابات.

ومصر التي تعاني اليوم اقتصادياً بسبب توقف الدعم النفطي السعودي، وكذلك عدم تنفيذ وعود الدعم المالي، فاضطرت الى رفع اسعار الوقود، وتعويم الدولار في مجازفة كبيرة مع الشارع، هي اليوم ليست في وارد الوقوف مع الرياض مقابل امريكا.

السعودية ان واجهت ترامب، فستواجهه وحيدة، فلا يوجد لديها اصدقاء ذوي وزن لم تستعدهم؛ ولا لديها ما يطمع فيه الآخرون؛ ولا سلاحها الديني الداعشي له فائدة اليوم في التهديد، فضلاً عن ان هذا السلاح بات محفزاً للابتعاد عنها.

قد نشهد تحولاً معاكساً تماماً.

ان تتقوى الروابط بين مصر وايران، مثلما عادت العلاقات بين المغرب وايران، وهي علاقات تم قطعها لاربع سنوات، تماشياً مع الرغبة الخليجية، ولم تكن لها مبررات حقيقية.

نجم السعودية آفل، وسيأفل أكثر.

انه عهد الانحدار السعودي المتسارع الذي قد يودي بدولة آل سعود الى حتفها.

الصفحة السابقة