التخلّي أم ضريبة الحماية؟

ترامب والسعودية

يحي مفتي

يشعر حكام السعودية اليوم كأنهم باتوا في ضيافة رجل غريب، مجبرون على الاقامة عنده، ويتملكهم الخوف من تصرفاته الغريبة. ولا بد من تسجيل رباطة الجأش، والقدرة على الصمت، اللتين تمارسهما الرياض تجاه سيد البيت الابيض الجديد، وسط حالة من الارتباك في صفوف الاعلاميين السعوديين، الذين تعودوا على الثرثرة في كل موضوع خارجي، منصّبين انفسهم وعاظاً ونُقّاداً ومعلمين لكل شعوب الارض، والآن يجلسون على مقاعد الدرس كالتلاميذ المهذبين، بانتظار تعليمات المعلم.

لماذا وجدت السعودية نفسا في هذا المأزق، تواجه المجهول، وهي التي تبحث عن اي كلمة او موقف يعزيها ويطمئنها، في ظل مرحلة التحول الصادمة والمشكلات المتفاقمة؟

لا شك ان المستشارين المتحلقين حول الامراء النافذين في النظام السعودي، يعرفون عمق الازمة بينهم وبين واشنطن، بعيدا عن المزايدات الاعلامية، ومحاولات التمويه او التسوية الديبلوماسية. فالمسألة اعمق من سياسة هذا الرئيس او ذاك، واكثر خطورة من الخلاف السياسي في الملفات المطروحة: الازمة تتعلق بالدور الوظيفي للنظام السعودي، الذي استهلك تماما، وبات بحاجة الى تطوير جوهري في أدواته وطبيعته، اذا ما اراد ان يحافظ على مكانته في الاستراتيجية الامبريالية، بوجهها الاميركي وفروعها البريطاني والفرنسي والاسرائيلي.

انها مملكة انتهى زمانها، وهي بدل ان تتكيف مع التطورات، تسعى للعودة بالعالم الى الوراء، من خلال أيديولوجيا وهابية جامدة، تصر على البقاء في العصور الغابرة.. لذا لن يكون مفاجئا ان وضعت خارج الاستعمال، او أعيد تدويرها.

وهذه الازمة لم تبدأ مع انتخاب ترامب، بل لعلها بلغت ذروة جديدة الآن، واتخذت شكلا فاقعا على وقع اللغة الفجة والموقف المباشر الذي يعبر به الرئيس الاميركي الجديد دونالد ترامب عن افكاره وسياساته.

وبالعودة قليلا الى الوراء، الى بداية عهد الرئيس الاميركي الحالي باراك اوباما، الذي وصل الى السلطة قبل ثماني سنوات، وفي اولى خطواته باتجاه المنطقة، تعمّد تهميش السعودية، وتبنّى سياسة التغيير النشط في دول الشرق الاوسط، انطلاقا من فرضيته عن الاسلام المعتدل.. واختار لهذه الغاية القاهرة واسطنبول لالقاء خطابين موجهين للعالم الاسلامي، وبالتحديد لشعوب المنطقة، دعا فيهما الى التغيير، واقامة الانظمة الديمقراطية التي يمكن للولايات المتحدة التعاون معها، باعتبارها سيدة العالم بلا منازع والقطب الوحيد فيه. واهمل اوباما حينها السعودية، ولم يأخذ امكاناتها ومكانتها بعين الاعتبار.. بل تجاوز ما تتمسك به دولة الامراء من حديث عن العلاقات التاريخية، وهي لغة خشبية لم تعد تعني شيئا في مرحلة التحولات الكبرى.

يومها رأى البعض ان هذه السياسة التي تبناها البيت الابيض قبل ثماني سنوات بنيت ـ من جهة ـ على اساس ايديولوجي، ومن جهة ثانية، بُنيت على تراكم سياسات وردود فعل، تمتد الى مرحلة هجمات الحادي عشر من سبتمبر، التي فجرت العلاقة التاريخية التي يلوكها آل سعود، وكادت ان تنقل البلدين الى مرحلة العداء المطلق، ووضع السعودية هدفا للعدوان الاميركي المباشر، قبل ان يستبدلها جورج بش الابن بالحرب على افغانسان والعراق، وبالمال والتغطية الشرعية السعودية الكاملة.

لم يدرك النظام السعودي خطورة التطورات في الموقف الاميركي خصوصا، والغربي عموما، الا في مرحلة متأخرة، وبعد ان بلغت الرؤية الغربية مرحلة التنفيذ، وتمثلت بأربع خطوات لافتة:

1- استراتيجية اوباما وفرضية الاسلام المعتدل.

2- قانون جاستا لمحاسبة داعمي وممولي الارهاب.

3- تفويض تركيا برعاية انظمة سياسية في مرحلة الربيع العربي.

4- توقيع الاتفاق النووي مع ايران.

الشرق الاوسط المعتدل!

الرئيس الاميركي باراك اوباما يوصف بأنه مثقف وصاحب رؤية فكرية، وهو بالتالي يختلف عن سلفه الجمهوري جورج بوش الابن، الذي استطاعت السعودية ان تمد معه الخيوط من جديد، وتوقف مفاعيل تفجيرات برج التجارة العالمي، على يد انتحاريين بينهم خمسة عشر سعوديا. وقد جاء اوباما تحت شعار تصفية النتائج الكارثية لاستراتيجية سلفه بوش الابن، وحروبه المدمرة، ونتائجها السلبية على الاقتصاد والهيبة العسكرية الاميركية، وهو يعلم ان النظام السعودي لا يمكنه ان يقود عملية تغيير بحسب المنظور الاميركي، اذ انه نظام لا يمكن اعتباره قدوة في اي مقياس ديمقراطي او تحديثي، بل لعله الاوجب بالتغيير. وانساق اوباما وراء الخيار التركي، ليكون نظام رجب طيب اردوغان اداة التغيير المطلوبة.

وبدأت الآلة الاعلامية الاميركية تروج لنظرية الاسلام المعتدل الذي تمثله تركيا، المتصالحة مع العلمانية الغربية، والمنخرطة في الحلف الاطلسي والايديولوجيا الغربية. وعلى الصعيد العربي ارتأى صناع القرار في الادارة الاميركية اهمية الاستناد الى الازهر الشريف باعتباره رمزا للاسلام المعتدل.

والحديث عن الاعتدال يستوجب تظهير الصورة المقابلة، اي الاسلام المتطرف، او الارهاب الاسلامي، بحسب ما رسخ في العقلية الغربية والاميركية تحديدا.. وغني عن القول ان هذا الارهاب او التشد الاسلامي يجد في الوهابية نموذجه الاوضح. اذ لم تغب احداث الحادي عشر من ستمبر عن الذاكرة الاميركية، بل لعلها لا تزال في صلب التفكير السياسي ومشاعر الرأي العام في الولايات المتحدة.

وعلى الرغم مما في التسمية من تعميم سلبي، تحاول بعض الدوائر استغلاله للنيل من الاسلام كعقيدة والمسلمين كجماعات وأمة، او تكريس ظاهرة الاسلاموفوبيا لاهداف سياسية مباشرة لبعص القوى العنصرية، الاوروبية والاميركية، فإنه بات واضحا في السنوات الاخيرة، ان الاكثرية الساحقة من كتاب وسياسيي الغرب، يميزون بين الاسلام وعموم المسلمين من جهة، وهذا الفكر المتشدد من جهة أخرى، وقد نُشرت مئات المقالات والدراسات التي تعرف الارهاب باعتباره منتجا سعوديا وهابيا.. بل ان الخيط الاول الذي تتبعه الاجهزة الامنية عند حصول اي هجوم ارهابي، هو تتبع صلة المنفذين بالفكر الوهابي وبالدولة السعودية.

وليس هناك اجماع على شيء في الولايات المتحدة، مثل الاجماع على الدور السعودي في تفريخ وتمويل الارهاب العالمي. ولعل قانون جاستا الاخير، والاجماع الذي حصل عليه في الكونغرس الاميركي، خير دليل على القناعة العامة الاميركية والغربية بعلاقة النظام السعودي وفكره الوهابي بالارهاب.

جاستا وتظهير الخلاف

واذا كانت الاستراتيجية الاميركية التي تبناها الرئيس اوباما قامت على اساس تجاهل السعودية وتهميشها، فإن قانون «العدالة ضد رعاة الارهاب» نقلها الى وضعية الاستهداف المباشر.

ففي 28 سبتمبر 2016، أقرّ الكونغرس الاميركي القانون، وبطريقة دراماتيكية ذات دلالة عميقة، من وجهين:

1 - فالمشرعون الاميركيون اصروا على تمرير القانون، واسقطوا الفيتو الرئاسي الذي سبق ان اتخذه الرئيس اوباما ضده، وهي من الحالات النادرة التي تحدث في النظام الديمقراطي الاميركي، والتي تؤشر الى قضية تهم الرأي العام الاميركي بشكل قاطع.

2 - ومن جهة أخرى جرى اقرار القانون بما يشبه الاجماع في مجلس الشيوخ حيث نال تأييد 97 صوتا مقابل صوت واحد فقط، ثم صوت مجلس النواب أيضا على رفض الفيتو بأغلبية 348 صوتا مقابل 76. واصطف المشرعون الديمقراطيون الى جانب نظرائهم الجمهوريين ضد فيتو الرئيس الديمقراطي، بما يتجاوز كل الخلافات او الصراعات الحزبية التقليدية.

ان هاتين الملاحظتين اذا ما اضيفتا الى مضمون القانون، الذي لا يشك اي محلل سياسيس، او مراقب داخل السعودية وخارجها، انه يستهدف العائلة المالكة السعودية ونظامها المتشدد، والمولد للارهاب، فإن النتيجة تعني ان وضع السعودية في وضعية المتهم الذي يجب ان يحاسب، ليس مجرد ابتزاز سياسي او مالي، رغم ان الابتزاز امر حاصل بالفعل، ولا هو موقف سياسي او رئيس دون غيره، ولا هو وليد مرحلة او ظرف سياسي عابر، كما هو الحال في الكثير من المواقف الاميركية!

الا ان الوضعية السعودية الجديدة في نظر صانع القرار الاميركي، مسنودا بالرأي العام والمزاج الشعبي، هي وضعية ادنى مما يأمل به ارباب النظام، ولا تتواءم مطلقا مع الحديث عن الصداقة والعلاقات التاريخية، ناهيك عما يردده البعض عن التحالف بين الدولتين.

الربيع المرعب

لم تلتفت السعودية كثيرا الى احداث الربيع العربي في بداياتها، وتعاملت مع الحدث التونسي كأنه حدث عابر فاستقبلت الرئيس الهارب زين العابدين بن علي، دون ان تحسب حسابا للمضاعفات التالية.. الا انها سرعان ما استفاقت على النار تشب في مصر، على حدودها الغربية، فحاولت جهدها اخماد الثورة على حليفها حسني مبارك، الا ان محاولاتها ذهبت ادراج الرياح، وسقط نظام كامب ديفيد.

لكن ما أذهل النظام السعودي هو ان تقف الولايات المتحدة في صف الداعمين لاسقاط احد حلفائها، وقد اسقط بيد آل سعود وهم يرون ان تغيير النظام المصري جاء لحساب الاخوان المسلمين، الذين لا يخفون العداء معهم، والقلق من نفوذهم الى حد تكفيرهم على يد الكثيرين من علماء الوهابية السعودية.

والانكى من ذلك، ان تركيا الاسلامية اصبحت مرة أخرى على الضفة الغربية للبحر الاحمر مشرفة على الحجاز من جديد.

لقد كان استهداف النظام المصري الدفعة الاولى من الجائزة التي تقدمها الولايات المتحدة لرجب طيب اردوغان. فمصر هي الاقرب تاريخيا الى تركيا، واليها هرب قادة ومثقفو الخلافة العثمانية بعد ان قامت الدولة العلمانية الاتاتوركية، التي جرمت الاسلام السياسي، ومضت في التغريب الى حدوده القصوى في مراحلها الاولى، الى حد التنكر للاسلام نفسه، ومنع شعائره.

مصر شكلت الملاذ الامن لكل دعاة استعادة الخلافة. وهي القاعدة التي انبنى عليها فكر الاخوان المسلمين اساسا، رغم انه اتخذ ابعادا جديدة تبعا لمعطيات تطور الفكر الاسلامي، بحسب ما يعتقد مفكرون سعوديون، ومن بينهم الدكتور عبد الله بن هامل الشمري.

ومنذ ذلك الحين، توثقت الروابط بين جناحي الاسلام السياسي السني من اهل السنة والجماعة، في مصر وتركيا. ومن هنا يمكن فهم الحنين الكبير لقادة الاخوان المسلمين، بل انحيازهم السافر الى قيادة اردوغان والتجربة التركية. ولم يكن من الصدفة ان يتحلق قادة النظام المصري، في فترة حكم الاخوان القصيرة، بمن فيهم الرئيس محمد مرسي، مع قيادات اخوانية اخرى ومشايخهم حول اردوغان، والمناداة به خليفة للمسلمين. كم يمكن ايضا على هذه الخلفية ان نفهم الاحساس بالمرارة، التي تتعدى الابعاد السياسية والمصالح الوطنية، التي يشعر بها الرئيس التركي لخسارته مصر في مرحلة لاحقة.

ثورة البحرين

وعلى بعد ايام من سقوط النظام المصري، ومحاولة السعودية الحفاظ على حياته، اندلعت ثورة شعبية حقيقة في البحرين، وخرجت الاكثرية الشعبية لتطالب بتعديلات دستورية اصلاحية لنظام المملكة العائلية، تقربها من النموذج الديمقراطي، وترسي حكم الاكثرية الشعبية. ولا يخفى ان انتفاضة شعب البحرين حظيت ايضا بعطف اميركين في مراحلها الاولى، تمثل في التصريحات الاميركية المتتالية للحوار بين الملك والمعارضة، وصولا الا توجيه الدعوة الى ذلك على لسان الرئيس الاميركي باراك اوباما من على منبر الامم المتحدة، مسميا بالاسم جمعية الوفاق الوطني الاسلامية، كشريك للملك في الحوار والسلطة. كل ذلك جرى دون اي اعتبار للسعودية ودورها الاقليمي، وخصوصا فيما يتعلق بدولة خليجية، تعتبرها السعودية امتدادا لسلطانها ونفوذها.

الاتفاق النووي مع ايران

السعودية جعلت مواجهتها مع ايران جزءا اساسيا من سياستها الخارجية، ومن استراتيجيتها لاقامة منطقة نفوذ في المنطقة.. وهي بنت ذلك على حسابات مدروسة اساسها الصراع بين ايران والولايات المتحدة، ونفوذ اللوبي الصهيوني والكيان الاسرائيلي لمنع اي حل سياسي لازمة البرنامج النووي الايراني، بحيث يفضي هذا الصراع الى حرب اميركية او اسرائيلية لتدمير ايران، كما دمر العراق، واستفراد النظام السعودية بالهيمنة على المنطقة.

الا ان هذه الاستراتيجية منيت بضربة قوضت اسسها كافة.. فبعد مفاوضات ماراثونية، توصلت ايران والدول الست، في 2 ابريل 2015 إلى بيان مشترك يتضمن تفاهماً وحلولاً بما يتعلق بالبرنامج النووي الايراني، على ان يتم انجازه نهاية يونيو 2015. واعتبرت طهران أنه وضع حداً لحلقة مفرغة لم تكن في مصلحة أحد، فيما وصفته واشنطن بالتاريخي.

واكتشفت الرياض ان هذا الاتفاق بني على اساس تفاهم ثنائي اميركي ايراني، تم التوصل اليه بعد محادثات سرية رعتها سلطنة عمان لاشهر عديدة.

حالة من القلق والخوف انتابت اركان النظام السعودي، دفعته الى سلوك هستيري وتصريحات غير مسؤولة وغير مفهومة، فانبرى المسؤولون السعوديون يهاجمون الولايات المتحدة، واصدار التهديدات بسحب الاموال ووقف التعاون العسكري والامني، وصولا الى مسرحية البحث عن تحالفات بديلة وعقد صفقات، مرة في فرنسا وفي روسيا ومرة في الصين وسواها.

أين السعودية من كل ذلك؟

ادرك النظام السعودي ان ما يجري ليس اخطاء تكتيكية، بل هو جزء من استراتيجية اميركية، وادرك ان العلاقة السلبية بينه وبين الولايات المتحدة تعدت مرحلة التهميش التي عرفتها السعودية في بدايات عهد اوباما. وبدأت الرياض تشعر انها فعلا باتت في مرحلة الاستهداف، وان نظامها بات مهددا من جهتين: مصر التي تمثل ثقلا سياسيا واعلاميا لا يمكن تجاهله على الداخل السعودي، وخصوصا منطقة الحجاز ذات الروابط التاريخية بمصر، دينيا وثقافيا واجتماعيا، ولا يخفى ان النخبة الحجازية مصرية الهوى، وقد تربت على الفكر والثقافة المصريين. هذا من جهة الغرب اما من الشرق فقد انطلقت الانتفاضة في البحرين التي تعتبر امتددا طبيعيا وتاريخيا للمنطقة الشرقية في المملكة السعودية الغنية بالنفط، وكذلك الغنية بالتراث السياسي المثقل بالازمات والمظالم مع المركز النجدي.

 
آل سعود: من أيام صعبة الى أيام عصيبة!

فسارعت السعودية الى التدخل العسكري المباشر في البحرين لاجهاض انتفاضتها، كما مولت ودعمت التحركات الشعبية المدعومة بالجيش، لقلب نظام الحكم الاخواني في مصر.

ودون الخوض في التطورات اللاحقة للاحداث في المنطقة، وما جرى عليها من تعديل وتبدل، فرضته الازمة السورية، التي اجهضت المشروع الاميركي بالكامل، ونجاح الثورة المضادة في مصر، بدعم واضح وسخي من النظامين السعودي والاماراتي الاكثر عداء للمشروع التركي.. ومن ثم تفجير الاوضاع في اليمن بدفع سعودي لتوسيع الفضاء السياسي للنظام الذي بدأ يشعر بالاختناق.

لقد شهدت تلك المرحلة الكثير من الملابسات، التي استفاد منها النظام السعودي، ودون الدخول في ملابسات هذا التحول الدراماتيكي في الاحداث، فإن ما يهمنا هنا هو تحديد اطار للعلاقة السعودية الاميركية في مرحلة اوباما. والتي اتسمت بعنصرين اساسيين:

الأول ـ فقدان السعودية مكانتها السابقة كدولة محورية في السياسة الاميركية في منطقة الشرق الاوسط.

والثاني ـ اعتبار النظام السعودي عائقا امام الاستراتيجية الاميركية التي طرأ عليها تغييرات جوهرية، جعلت من جنوب شرق آسيا محورها، ولاتزال تلك الإستراتيجية قيد التشكّل، وهي تفرض تخففاً أمريكياً من أحمال الشرق الأوسط، وتكييف حلفائها لأوضاعهم بما يخدم الاستراتيجية الجديدة. وبالفعل فإن الأردن على سبيل المثال، قد هيّأ نفسه للعب دوره الوظيفي الجديد، او المستجد. لكن الرياض لا تريد من أمريكا ترحل قبل أن تمنحها النفوذ الذي تريده، وهو امر لا تستطيع واشنطن تأمينه لها حتى لو أرادت. ومن جهة ثانية أصاب السعودية العطب، فلم تعد قادرة على تكييف نفسها مع متطلبات دورها الوظيفي الخادم للسياسة الأمريكية، لأسباب بنيوية في النظام نفسه.

وفي كلتا الحالين فإن النظام السعودي اصبح نسخة قديمة يجب تغييرها، ولم يعد يتناسب مع المعطيات السياسية الاميركية الجديدة. واذا اضفنا الى ذلك انخفاض قيمة السعودية المالية والنفطية، ندرك ان المأزق السعودي جوهري واساسي وليس مجرد صراعات سياسية او خلافات مرحلية.

ومن هنا فإن الحديث عن مرحلة ترامب، او السياسة التي بدأ الرئيس العتيد يرسم معالمها تجاه هذه الدولة السعودية العجوز، ليس الا مرحلة تستند تماما الى ما قبلها، ولا يصح حصرها بمزاج دونالد ترامب، والصورة النمطية السلبية التي يحاول الاعلام اظهاره بها.

فشل المراهنة على كلينتون

بقدر ما استفادت السعودية من التطورات اللاحقة في ازمات المنطقة، لتخفيف الضغط الاميركي عليها، ولاعادة تلميع صورتها الكالحة والمهترئة بالمنظور الاميركي، فإنها اخطأت في المراهنة على فوز المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون.

اذ ان النظام السعودي استطاع اعادة ربط الخيوط مع بعض اصحاب المصالح واللوبيات الاميركية، مقدما نفسه بصورة اللاعب المشاغب، القادر على تحمل عواقب المغامرات والقيام بالمهمات القذرة، دونما خوف لا من رأي عام محلي ولا من الضغط الدولي عبر المنظمات الحقوقية والرأي العام الغربي. وساعد دولة الامراء في ذلك تراجع الدور الاميركي في المنطقة امام محور المقاومة، وعدم استقرار ووضوح العلاقة الاميركية الايرانية بعد توقيع الاتفاق النووي، والذي تمكن اللوبي الصهيوني من عرقلة تنفيذ بعض بنوده، ومنع الادارة الديمقراطية من الاستفادة من مفاعيله داخليا، وهو ما جر تشددا ايرانيا مقابلا، انعكس في الميدان صمودا للنظام السوري، وتقدما في قوة المركز في العراق لمواجهة الارهاب الداعشي، والتمرد السياسي الكردي.

لذا فقد راهنت السعودية بكل ثقلها على المرشحة الديمقراطية، بكل ما تمثله من استمرارية لعهد اوباما، والعلاقات الخاصة التي تجمعها بالشركات المستثمرة في الاقتصاد السعودي. وببساطة فقد راهن النظام السعودي على قدرته في استمرار ابتزاز واشنطن، عبر المجموعات الارهابية التي باتت جزءا رئيسيا من ادوات واشنطن، في لعبتها السياسية في المنطقة. وغني عن الشرح ان كلينتون بالذات من اكبر المتحمسين لسياسة التدخل العسكري لاسقاط الانظمة المعادية، والاكثر تورطا في الاعتماد في ذلك على الجماعات الارهابية، بحسب ما كشفت مراسلاتها وبريدها الالكتروني التي تم نشرها، وأصبحت في عهدة الاف بي اي للتحقيق فيها.

ولكن حسابات البيدر السعودي لم تأت بحسب توقعات الحقل، ومرة اخرى خابت المراهنة السعودية وخسرت كلينتون خسارة مدوية في السباق الرئاسي، لم تكن بحسبان الطبقة السياسية الاميركية، ولا ادواتها المخابراتية والاعلامية ومراكز ابحاثها.

وليس من قبيل المبالغة القول ان السعودية هي اكبر الخاسرين من حلفاء الولايات المتحدة بهذه الخسارة. بل الحقيقة ان السعودية هي من ابرز الاسباب التي دفعت كلينتون الى الهاوية والخسارة في السباق الرئاسي.

ومرة أخرى تجد السعودية نفسها امام وحش سياسي لم تحسب له اي حساب، ولم تستعد لمواجهته.

ترامب والخيارات المحدودة

تقول الالة الاعلامية السعودية، ان واشنطن احتلت العراق واسقطت نظامه الدكتاتوري، ولكن الذي استفاد هو ايران!

وفي مرحلة لاحقة سحبت الولايات المتحدة جيوشها من بغداد نهاية العام 2011، فملأت ايران الفراغ وكرست نفوذها في العراق!

وعندما حشدت السعودية وقطر وتركيا بدعم من المخابرات الاميركية والغربية جيش الارهابيين من كل انحاء العالم لتدمير سوريا واسقاط نظامها، انتهت المبارزة بعد خمس سنوات بمزيد من النفوذ الايراني في سوريا!

وبعد ان اتهمت الحوثيين بأنهم على علاقة مع ايران، دفعت باتجاه التأزيم ومنعت الحوار والمصالحة بين اليمنيين، فاستعدت جميع اليمنيين ودفعتهم باتجاه التحالف مع ايران!

واليوم تجد السعودية نفسها امام رئيس اميركي، لاسباب مختلفة طبعا، يصرح بأنه يريد القضاء على داعش، وليس نظام الاسد، ويعتبر محاربة الارهاب اولوية له، وليس تغيير الانظمة القوية والراسخة حسب تعبيره، وانه ينظر بايجابية الى الدور الروسي في سوريا، دون ان ينبس ببنت شفة تجاه الدور الايراني ودور حزب الله في سوريا. بل اكثر من ذلك ـ بحسب ما نقلت هافينغتون بوست في 11 نوفمبر الجاري ـ فإن فوز ترامب سينهي دعم أمريكا للحرب السعودية الوحشية على اليمن.

وتقول الصحيفة الاميركية، ان الشعب اليمني هو الذي يدفع ثمن تصميم الرياض على إعادة تشكيل حكومة لا تحظى بشعبية، لكنها على علاقات ودية مع العائلة المالكة في السعودية. وهذا الإصرار على الخراب يأتي من ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الشاب المعروف بأنه أكثر طموحا للسيطرة على الحكم، لكن الرئيس القادم دونالد ترامب سينهي التورط الأمريكي في عدوان الرياض على اليمن.

ولفتت الصحيفة الأمريكية إلى أن الولايات المتحدة ارتكبت إلى حد كبير نفس الخطأ الحالي في اليمن، عندما تدخل الرئيس رونالد ريغان في الحرب الأهلية اللبنانية لدعم الحكومة الشرعية، وحينها تلقت القوات الاميركية ردة فعل من المعارضة وكانت السفارة الأمريكية وثكنات مشاة البحرية هدفا لها. وكذلك الرئيس باراك أوباما يغرق في حروب الشرق الأوسط الجديد، لكن على ما يبدو أن تورط الإدارة الأمريكية في حرب اليمن جاء لشعورها بالحرج من انتقادات الرياض للاتفاق النووي الإيراني.

موقف ترامب من آل سعود

موقف الرئيس ترامب من النظام السعودي يندرج ضمن منظومته السياسية الشاملة، فهو لا يريد ان تتحمل بلاده مسؤولية دور شرطي العالم، ويدعو الى الكف عن حماية الانظمة التي تحولت الى عالة على الاقتصاد الاميركي، بدءا من اليابان الى كوريا الجنوبية الى السعودية.. بل انه لا يوفر حلف الناتو بكل ما يمثله على صعيد الصراع العالمي والعلاقة مع الحفاء الحقيقيين للولايات المتحدة في اوروبا.. وهذا يعني ان هذا الموقف جدي واستراتيجي، ولن ينفع السعوديين المراهنة على تغييره بالاغراءات التي لم يعودوا يملكون منها الكثير.  

فالرئيس ترامب هدد الرياض صراحة، وأكثر من مرة، بضرورة دفع «ضريبة الحماية» التي تقدمها لها الولايات المتحدة!! والرجل كان واضحا في شعاراته الانتخابية، التي كررها عدة مرات،بأن على السعودية إما الدفع او سترفع الحماية عنها.

وقال ترامب: (نحن دولة تقدم الكثير مقابل خدمات الحماية، ودولة عليها ديون واجب ان يتم تغطيتها.. قد يضطروا إلى الدفاع عن أنفسهم أو عليهم مساعدتنا، فنحن دولة لديها ديون تبلغ 20 ترليون دولار.. والسعودية تجني ثروات هائلة بسبب حمايتنا لها.. ومن استمرار «العلاقة التاريخية» مع المملكة، على آل سعود ان يشاركوا الاميركيين بثروتهم). هكذا بكل بساطة وبما يتعدى الصفقات والعقود والودائع التي باتت مرهونة في الخزائن والبنوك الاميركية.

الخيارات السعودية

لقد فقدت السعودية الكثير من اوراقها، التي كانت تلعب بها في خدمة المشروع الاميركي.. فهي قدمت الغطاء الشرعي والسياسي للحروب الاميركية ضد الدول العربية والاسلامية، في الصومال والسودان وافغانستان والعراق واخيرا في سوريا.. وبررت الحروب الاميركية طيلة العقود الماضية، عطفا عن تقديم خدماتها لقمع ثورات الشعوب لمصلحة الهيمنة الاميركية في اميركا الجنوبية وافريقيا، كما تشهد بذلك وقائع موثقة عديدة.

ووفرت السلطات السعودية التمويل اللازم للحروب والمؤامرات الاميركية، وساهمت بكل ثقلها في اطلاق ورعاية الثورات المضادة، في مصر واليمن وسوريا وباكستان وايران.

وجهزت ومولت جيشا كاملا من الارهابيين ليخوضوا الحروب الاميركية، في افريقيا وافغانستان واليوم في الشرق الاوسط.

كما انها ساهمت في اجهاض الثورة الفلسطينية، ودأبت على تثبيط المقاومة، والدفع باتجاه المصالحة مع الكيان الصهيوني، وصولا الى اقامة علاقات شبه رسمية محدودة معه، مع ابداء الاستعداد للمزيد.

ورهنت السعودية ثروتها الوطنية واقتصادها وفائض اموالها للشركات والبنوك الاميركية طيلة العقود الماضية..

وفي الواقع ان كل هذه الاوراق السعودية باتت من الماضي، وهي اما انها قد استهلكت، واما انها اصبحت مشكلة يجب التخلص منها بدل رعايتها، كما هو الحال مع الارهاب التكفيري، والفتن المذهبية، وتسعير الصراعات الاقليمية.

فماذا لدى السعودية بعد لتقدمه للرئيس الاميركي الجشع الذي يريد مزيداً من الأثمان لحماية العرش السعودي؟

لم يعد عندها الكثير او المثير لتخرجه من جعبتها.. وقد انكشف واقعها الداخلي عن انقسامات حادة، ومجتمع غير مترابط، بسبب العصبية الجهوية والمذهبية التي يتبناها النظام على حساب الاكثرية الساحقة من سكان السعودية، وعلى حساب التنوع الغني الذي يميز هذه المنطقة.. كما ظهرت هذه الدولة العملاقة بالمقاييس الاقليمية والمالية، معزولة عاجزة عن ان تقيم تحالفا ذا معنى، لا على الصعيد العربي ولا الاسلامي الاوسع، ناهيك عن العلاقات القهرية داخل البيت الخليجي.

وحتى لو تأخرت الضربة الاميركية للنظام السعودي، ولم يحدث تخلي الادارة الجديدة عن النظام السعودي لاسباب موضوعية او ذاتية، فإن ذلك لا يغير الحقيقة بل يؤجل ظهورها.. حيث ان النظام السعودي امام ثلاثة خيارات:

اولا: ان يعود الى رسم سياساته وتحالفاته، الداخلية والخارجية، والتخلي عن تاريخه الطويل في العيش في كنف الحماية الاجنبية، من اجل اقامة دولة طبيعية لكل سكانها، عبر المشاركة الفعلية في السلطة والثروة.. وهذه من اقوى الاسلحة لمواجهة الازمات والمخاطر الخارجية.

وستزداد السعودية قوة وصلابة لو انها تخلت ايضا عن نهجها التكفيري والعدائي والاستعلائي عن جيرانها وشركائها في الواقع الجغرافي والتاريخي.

وهذا احتمال لا يبدي الامراء، والقلة المتحلقة حولهم، اي بوادر للسير فيه.

ثانيا: ان يواجه النظام السعودي مصيره المحتوم بعد رفع الغطاء الاميركي، الذي ليس له بديل، عنه؛ والسقوط في حمأة الاضطرابات والتفكك والحروب الداخلية والاقليمية.

ثالثا: ان يقبل النظام بشروط ترامب فيدفع المزيد من الجزية صاغرا، ويرضى بضريبة الحماية على حساب معيشة شعبه وكرامته الوطنية. وهذ الاحتمال الذي يبدو مغريا لنسق التفكير المعروف عن امراء آل سعود المتحكمين بمصير البلاد. الا ان هذا الخيار حل غير مضمون، والنظام السعودي ان امن رضا الاميركي، فهو سيزيد من الاحتقان الداخلي، وسيقرب ساعة الانفجار.

خيارات احلاها مر.. لكنه زمن الحقيقة التي واجهتها كل الدول والمجتمعات.. وليست السعودية استثناء من أحكام التاريخ.

الصفحة السابقة