(الإحتساب) الوهابي في معرض الكتاب!

يحي مفتي

أطلق معرض الرياض الدولي للكتاب نشاطه الثقافي بفاعليات أدبية وثقافية وفكرية، شارك فيها عدد من المتخصصين والضيوف الأجانب، صاحبت معرض الكتب، التي شارك فيها عدد من دور النشر العربية.. وجذب الفولكلور الشعبي الماليزي، في جناح ضيف الشرف، زواراً عبروا عن وجود تقارب كبير بينه وبين الفلكلور والفن العربيين.

وقال المشرف على الفرقة الماليزية محمد الزوري بن باتشو، إن تاريخ الفولكلور الماليزي يعود إلى العام 1830، في منطقة ملاكا التي كانت على طريق التجارة القديمة بين اليمن والصين، مبيناً أن الفن الشعبي عبارة عن أهازيج كان يرددها التجار الأجانب مع السكان، وأصبحت خليطاً من الثقافات، ثم تحولت إلى الفولكلور الأول هناك على مدى 187 عاماً.

الا ان الامر لم يمر بهذه السلاسة، وكان لا بد أن يخرج أحدهم، ليقول للمحتفين والمثقفين والزوار: قفوا فأنتم في السعودية.. ولا بد من تنغيض أفراحكم، وتذكيركم بأن هذا البلد لا يحكمه القانون، وان الوهابية التي زارتكم عبر دواعشها ودعاتها القادمين من القرون الوسطى، هي ـ هنا أيضاً ـ سيدة الكلمة، وصاحبة القرار الفصل، حتى في مسائل لا تفقه فيها شيئا. المهم ان تفعل شيئاً يذكّر الناس بوجودها.

ويحرص المتشددون دائما على تصدر المحافل الثقافية في السعودية سنوياً، وخصوصاً معرض الرياض الدولي للكتاب، عبر قصص مثيرة يفتعلونها اعتراضاً على كتاب، أو على اختلاط مزعوم، أو على نشاط.. وهو ما حدث هذا العام عبر مشهد جديد تصدره محتسب، على غرار أقرانه في السنوات السابقة، حين تهجم على عرض للفولكلور الماليزي، قائلاً: (هذا لا يرضاه الله ولا رسوله، ولا الرجال، ومن رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، ثم قام بالتنفيذ مباشرة، ورمى المايكروفون، غير عابئ بصراخ امرأة باللغة الإنكليزية: (نحن ضيوف شرف يجب أن لا تعاملونا بهذه الطريقة).

وهكذا بتنا أمام مشهد جديد من مشاهد الإحتساب في معرض الكتاب، وهو عنوان يذكّر بمانشيت فيلم عادل إمام: (الارهاب والكباب). ففي الحالتين نحن أمام عرض من السخافة والسذاجة في التعامل مع النص الديني، ومحاولة افتراء على القيم الدينية بإقحامها في حياة الناس، دون وعي ودون بصيرة، وعبر مجموعة من الصبيان الذين يحركهم الحقد والضغينة، لا الرغبة في توعية الناس وهدايتهم ونشر الايمان والفضيلة. فهم ينطلقون مما ترسخ في اذهانهم بأنهم هم القابضون على ناصية الدين، والذين أوكل اليهم الله تعالى مهمة تطبيق رسالته، على العالمين الجهلاء الغافلين.

وفي الحالتين نحن أمام كوميديا سوداء، يضحكك كل ما يجري فيها أمامك في اللحظة، لتكتشف بعد قليل عمق المأساة والجرح في نفسك وضميرك، أمام هذه الممارسات التي لا ينطبق عليها حكم سماوي، ولا تنسجم مع الفطرة، ولا مع تطور الحضارة والقيم الانسانية.

واعتاد المحتسبون ـ رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ على القيام بغزوات على أي تجمع بشري، وخصوصا تلك التي يقيمها مثقفون، ليسوا من مروجي دعوات الشعوذة الفكرية التي يقوم عليها الفكر الوهابي في السعودية، والذين يسمونهم تغريبيين او ليبراليين او علمانيين.. ومع تحفظنا على التسميات جميعاً، إلا أننا نوردها فقط للتدليل على وجود هوّة، أو مسافة بين الطرفين المتصارعين، على الهوية الثقافية لهذه البلاد.

وهذه الغزوة على معرض الكتاب، ليست الاولى التي يحدث فيها اشتباك أساسه الثقافة والسلوك الاجتماعي، كما أنها ليست المرة الأولى التي يخرج فيها محتسبو هيئة الامر بالمعروف، احدى ادوات المؤسسة الوهابية المخصصة لضبط المواطنين، ومنع أي تمرد على قوانين الفكر التي يعدها كهنة المعبد بدقة وصرامة.. فلطالما ـ كما تقول صحيفة الحياة ـ خرجوا ملوّحين بلواء الفضيلة لمصادرة كتاب، أو الترصد للزائرات بدعوى منع الاختلاط، أو منع اغنية أو حفل أو ندوة، يتحدث فيها صاحب فكر، حتى أضحى وجود المحتسبين مشهداً متكرراً في نسخ المعرض الذي أصبح من وجهة نظر أحد الكتاب (تظاهرة للثقافة والإحتساب معاً)، وتحولت رسالته إلى (التعايش مع المحتسبين).

هذا ما شهدناه في العام 2011، حين اقتحم القاعة في حفل الافتتاح عشرات المحتسبين وأشاعوا الفوضى فيه، بعدما تهجموا على وزير الثقافة والإعلام الأسبق عبدالعزيز خوجة شخصياً، بألفاظ نابية، وحملوه مسؤولية نشر كتب تحمل (أفكاراً كفرية)، حسب اعتقادهم.

وفي العام ذاته، هاجم محتسبون ندوة شعرية، شاركت فيها الشاعرة الإيرانية فاطمة محمدي، محتجين على عدم ارتدائها العباءة الخليجية، رغم ارتدائها الحجاب الإسلامي.

وإثر دعوات لمقاطعة محاضرتها، دعتهم الكاتبة بدرية البشر في مقالة صحافية، إلى مقاطعة المعرض فعلا، مؤكدة أنها تريده معرضاً لا يدلفه إلا المهتمون بالكتب والقراء، بدلاً من أن يصبح مهرجاناً للنميمة والمخاصمات.

وتكررت دعوات المقاطعة في العام 2013.. وفي العام 2014، اقتحم عدد من المحتسبين الإيوان الثقافي في أحد الفنادق الكبرى، عندما رأوا كاتبة دنماركية تجلس في القسم المخصص للنساء، وطلبوا منها تغطية وجهها، لتنسحب الكاتبة التي كانت في زيارة قصيرة إلى السعودية.

ولا يغيب عن الذاكرة ما تعرض له الأستاذ في جامعة الملك سعود الدكتور معجب الزهراني، من عنف وتهجم لفظي، خلال وجوده في المعرض العام 2015.. وتوالت غزواتهم ودعوتهم لمقاطعة عرض أفلام سعودية، تصاحبها موسيقى تصويرية، بالتكبير والصراخ والتذكير بالآخرة وعذاب النار، وهاجموا عرض فيلم (سكراب) للفنانة سناء بكر يونس، بعدما أغضبهم وجود مشهد قيادة المرأة للسيارة خلاله.

هذه نماذج فقط من غزوات الإحتساب الوهابي ضد أي نشاط ثقافي، والتي باتت جزءا من المشهد الثقافي ذاته.. ومع ذلك تتكرر المواقف نفسها كل عام، سواء من المثقفين أنفسهم، أو من السلطة الحاكمة.

موقف النخبة
 
محتسب الفرقة الماليزية!

بدأت اقتنع فعلاً أن بعض رموز النخبة الاعلامية والثقافية المحلية، قد اصبحوا جزء اساسياً من مشكلة التخلف الذي يعانيه الخطاب السياسي والديني في السعودية. وبدأت أشكك في أن يفضي هذا الجدل الى دفع العربة الى الامام، وانه لن يكون اكثر من معركة تعمل على توسيع مستنقع الخلاف العقيم، والجدل الذي يطيل عمر الأزمة، ويبعد الناس عن مواجهة مشكلتهم الحقيقية مع النظام الديكتاتوري، القادر على تسخير جهود الجميع لإبعاد المشكلة عنه، وليقول للسعوديين أن الأزمة ليس في التشريعات، بل في خلاف النخبة مع المجتمع، وعجزها عن تحديد المسار، والقيام بأعباء التغيير الذي يزعم أنه فتح الباب له.

الكاتب محمد آل الشيخ وتحت عنوان: (نقد التراث ضرورة لا غنى عنها).. يقول ما نصه: «نعم سنقضي على داعش والقاعدة، وربما الرحم الذي أنتجهما، جماعة الإخوان المسلمين، ولكن تراثنا الذي أنتج كل هذه الحركات الإرهابية قادر وبجدارة، أن ينتج قاعديين ودواعش وإخونج أُخَر، وسنبقى على هذا المنوال، ما لم نذهب إلى جذور التراث الذي أفرز هذه المنظمات العنفية الدموية، ونضعه تحت مجهر النقد، والتحليل بطريقة معاصرة ومُجربة”. ويضيف: «كما أعي أن هناك (تجار) تخلف، وطحالب مرضية تعيش من إبقاء هذا التراث مقدسا لا يمس، لكن من يراقب النتائج الكارثية التي تشهدها الساحة العربية، سيصل حتما إلى ما أدعو إليه”.

وليست هناك مشكلة بالدعوة الى نقد التراث وتنقيته مما علق به من افكار واجتهادات  مشايخ السلاطين، ومفتي البلاط، الا ان تعمد الكاتب توجيه النقاش الى مصادر الفكر الإخواني، دون تسمية الفرع الأكثر نشاطا وتأثيرا في السلفية، والمتمثل بما يعرف بالوهابية، ليس الا محاولة لصرف الانتباه عن السبب الحقيقي. وآل الشيخ بهذا، يمارس عملية تضليل واضحة، ويعبر عن جمود فكري حزبي، بالتصويب على الفكر الاخواني، وهو ما تريده السلطات السعودية، ليس كرها بالاخوان وحسب، بل لابعاد التهمة عن الفكر الوهابي المسؤول الفعلي والحقيقي عن هذه الموجة من التوحش، والذي لا يحتاج البحث عن مسؤوليته الى تحليل وتفسير! اذ انه يصرح بذلك، سواء من حيث فتاوى الكراهية والتكفير والدعوة للقتل، او من خلال تبني الارهابيين أنفسهم هذا الخطاب كمرجعية معلن عنها.. وبالتالي فالكاتب بذلك لا يساهم في نقد التراث بل يحاول تجهيل الفاعل، مما سيساعد على انتاج جيل جديد من الارهابيين في كل فترة.

وبينما ترى صحيفة (المدينة) ان خطاب الكراهية متغلغل في المجتمع.. وان علاجه يتم بالقانون.. وهذه اشارة جوهرية يمكن التوقف عندها، ترى صحيفة (اليوم) ان خطاب الكراهية استعلائي ويمكن هزيمته بالتسامح..

التسامح مطلوب ولكن في العلاقات بين الناس، وداخل البيئة الاجتماعية، الا ان تناول مسألة شائكة كالتعصب المبني على منظومة قيم دينية وسياسية ومؤسسات رسمية، تمارس مهمتها باسم القانون والدولة وباسم الدين، يحول الدعوة الى التسامح سذاجة وافراطا في السلبية، او عدم الرغبة في المواجهة، مما يطيل عمر الأزمة ويبقي الحال على ما هو عليه.

وخلال محاضرة عن: (خطاب الكراهية في شبكات التواصل)، يشير الناقد سعيد السريحي الى ان الخلل قائم في الوسط الاجتماعي.. فخطاب الكراهية متجذر في المجتمع، ينخر فيه منذ عقود من الزمن. ويضع الدكتور محمد المحمود اصبعه على الجرح بالقول ان الانتماء لأي طائفة لا يورث الكراهية للآخر، وأن الانتماءات يجب ألا تدفعنا للإساءة للآخرين، مشدداً على أنه لا علاج للكراهية إلا بالقانون.

ويفصل الكاتب والمفكر سعيد السريحي في مقال يتناول فيه الموضوع ذاته بالقول ان خطاب الكراهية الذي ازكمت رائحته الأنوف في مواقع التواصل الاجتماعي، كانت رائحته قد فاحت قبل ذلك حين كانت جماعات لا هم لها غير تقسيم المجتمع الى طوائف ومذاهب واتجاهات، تصنفها كما تشاء وتتهمها بما تشاء، حتى اوشكت تلك الجماعات أن تمزق جسد الوطن الواحد، والشعب الواحد الى سنة وشيعة، والى ليبراليين وعلمانيين؛ وعليه فإن (خطاب الكراهية، هو من زرع هذه التقسيمات فينا وعزلنا عن الأمم، وبتنا نظن أننا ضحية مؤامرة نتيجة هذا الخطاب).

ويذهب الكاتب هاني الظاهري الى أبعد من ذلك في عرض الصورة في بعدها التاريخي. اذ ان مشكلة الإنسان الظلامي في كل العصور تتمثل في إيمانه التام بأنه ليس كذلك، ومن شبه المستحيل أن يوجد ظلامي في هذا العالم يظن أنه لا يمتلك الحقيقة المطلقة، أو أن الأقدار لم تصطفه لمحاربة الشرور، حتى أن الظلامي في العالم الإسلامي يعتقد جازماً بأنه حصن الأمة، وحامي بيضة الدين، وما إلى ذلك من خزعبلات يقنع بها أتباعه، فيحولهم إلى (روبوتات) لتكرار هرطقاته وترويجها! الى ان يصل الى القول انه لا يكبح هذا الجهل عادة إلا يد السلطة المتنورة، كما قال.

ويبدو عبد الله بن بجاد العتيبي، الذي كان يوماً من جُند الوهابية العنفيين قبل ان يلتحق بالسلطة، اكثر تفاؤلا بانتصار الحداثة على الجمود الوهابي، ويقول ان تيارات الإسلام السياسي تستخدم (التحريم الحزبي) أداة للتجييش وفرض السلطة، ولكنهم وبحسب تاريخهم ما إن يجدوا المسائل التي حرّموا قد انتشرت، حتى يغيروا رأيهم ويعودوا لصوابهم، بل وأكثر من هذا يزاحمون الناس عليها، والأمثلة كثيرة، من تحريم القهوة إلى تحريم تعليم البنات، إلى تحريم التصوير، وتحريم التلفاز وتحريم الفضائيات.

 
محتسبو الوهابية في معارض الكتاب

وفي المقابل وفي الصحيفة ذاتها التي نشرت هذه الافكار نقرأ خطابا مغايرا هو ببساطة جزء من خطاب التضليل والتعمية التي تطيل عمر التخلف الذي نشكو منه. ففي عملية تسطيح للوعي، وتجهيل للفاعل، تقول الشاعرة والاديبة ميسون ابو بكر، ان ما حصل في معرض الكتاب من فوضى هو تصرف (فردي) لشخص متهور يريد إحراج المملكة أمام ضيوفها. وعلى ذات المنوال يغزل الكاتب الصحافي فواز عزيز، ويرى بأن المشكلة ليست في الإحتساب، بل في الفوضى التي تمارس بها هذه الشعيرة، وانه لا بد من ان نحسن الظن ونقول ان الحماس هو دافع الشاب للاحتساب بفوضوية. كذلك الصحفي والكاتب عبد الله بن بخيت، فإنه يهون المسألة، فيصف هذا المتعصب الذي هاجم حفل الماليزيين في معرض الكتاب، بأنه محتسب حداثي،  يبحث عن الشهرة او عن وظيفة في هيئة المنكر!!

ويغالط عبد الله المزهر الحقيقة كثيرا عندما يعتبر الدعوتين خاطئتين ويساوي بينهما باعتبارهما تطرفا كل من جهته.. أحدهما يعتبر الموسيقى المنكر الوحيد الذي يجب إنكاره باللسان واليد، كما فعل الأخ المحتسب في معرض الكتاب، وطرف آخر يعتقد أن الموسيقى أهم من أركان الإسلام.. وتجاذب هذين الطرفين يجعل بقية البشر الأسوياء العاديين يعيشون في المنتصف بسلام.

ولا ندري كيف يمكننا ان نقف في المنتصف وان نعزف نصف نوتة مثلا حتى لا تكون الموسيقى تطرفا مذموما برأي الكاتب.

والخطأ الاكبر في هذا التنظير المشوّه، يكمن في إصرار البعض على اعتباره خطأ فرديا، او خطأ طارئاً، أو ردّة فعل من شاب متحمس وحريص على دينه. والتجربة السابقة والطويلة مع هذه النماذج تنفي هذا الاعتقاد، وتقدم لنا تفسيراً لا يحتاج الى كثير جهد لاكتشافه. ان هذه الاعتداءات عمل منهجي منظم، وانها مبنية على نسق ثقافي مغاير، يرفض التحديث ويعتبره كفراً، يرفض التعدد والتنوع، الذي ينزع منه السيادة والوحدانية في الفكر، ويرفض الاعتراف بالاخر لانه مقتنع حتى العظم انه يمتلك الحقيقة المطلقة، وانه مكلف من السماء بفرضها على الناس جميعا.

ولن يتم وضع حد لمثل هذا السلوك الشاذ، الا باعتماد مقاربة صحيحة له تقوم على عنصرين:

الأول، تعريف هذه الظاهرة تعريفا صحيحا، وتحديد عناصرها واسبابها والقوى التي تقوم بها.

الثاني، وضع استراتيجية أمنية وثقافية شاملة لاستئصال الظاهرة من النفوس، بالتوازي مع التصدي لمظاهرها السلوكية.

فلم يعد مقبولا ان يتعامل الكتاب والسلطات مع هذه الظاهرة الخطيرة باعتبارها خلافا في وجهات النظر، كما يقول ابراهيم باداود في المدينة اذ يرى (أن البعض وخصوصاً مع معارض الكتاب في مختلف مدن المملكة.. دأب على وضع نفسه رقيباً وحسيباً على تلك الأنشطة لرصد ما فيها من أحداث وإصدارات وكتب والاعتراض على بعض ما قد يكون فيها من فعاليات تخالف وجهة نظره ورأيه)، او ان الموسيقى والغناء والفنون بأنواعها هي مجرد ملاحظات او اخطاء تقع في هذه المناسبات.

فالمسألة هنا ليست اخطاء او ملاحظات، والامر يتعدى قضية الخلاف في وجهات النظر، بأشواط بعيدة، تجعل من هذا التوصيف غير ذي صلة بالموضوع. فالقضية في حقيقتها هي خلاف في النهج والثقافة، بل هو صراع بين مدرستين فكريتين احداهما تزعم انها تمثل صحيح الدين وحكم القرآن الكريم وسيرة السلف الصالح، وتنظر الى الاخر المختلف باعتباره كافرا ومجدفا ومرتدا عن الاسلام.

وليس في الامر اي خطأ ولا هي خلافات خاضعة للنقاش والمجادلة، على هذا المستوى من الجهاز التنفيذي الرسمي. واذا ما كانت هناك فرصة للنقاش فمن الواجب ان تكون ضمن الهيئات الدينية التي شرعت وكرست هذه القيم والمفاهيم، وصورت للعامة انها الدين، وان الواجب الاحتساب من أجلها والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانكار الباطل باللسان واليد.

وهذا الأمر يتطلب ان تحسم السلطات السياسية أمرها وان تقرر وجهة سيرها، لا ان تترك المسألة للتفاعل الشعبي، بما قد يؤدي الى حرب أهلية، لن يستطيع أي طرف الحسم فيها، بل تطول وتؤدي الى المزيد من التفسخ والعجز والتخلف.

وربما كان هذا ما تريده السلطة السياسية ممثلة بالعائلة الحاكمة، بل هو ما جربته في مراحل سابقة. اذ انها ليست المرة الاولى التي يشتعل فيها الصراع بين التيار الليبرالي التحديثي او الاصلاحي التنويري، او الحقوقي والدستوري، في مقابل التيار السلفي والصحوي الذي يتسلح بالوهابية ومؤسساتها الشريكة في السلطة، وصاحبة الامتيازات التفضيلية.

فواجب الدولة هنا ان تضع الخطوط الاساسية لمبدأ الحقوق والواجبات، وان تضع القوانين التي تنظم احترام الاختلاف والحق في التعبير، وان تفرض ذلك بقوة القانون النافذ، وليس المزاج الاميري او الرغبة الملكية.

فهؤلاء المحتسبون لا يفقهون مسألة الاختلاف في وجهات النظر، لان الدولة لا تقر بهذا المبدأ اصلا.  فالدولة السعودية لا تعترف بحق الاختلاف، وتعاقب على التغريدة او على الرأي في مسائل سياسية خارجية، بل انها كثيرا ما تزج في السجون المخالفين لما تقوله الحكومة وصحافتها واعلامها، فكيف يطلب منها ان تحمي الاختلاف بين قوى مجتمعية، وخصوصا اذا كان الطرف الاخر يملك من القداسة ما تحميه الدولة، التي لا تقل التزاما بمبدأ التكفير وتجريم المختلف.

وهي ليست صدفة او خطأ في الحسابات ان تكون ليلة العاشر من مارس 2017 هي المرة الاولى في حياته التي يلتقي فيها المطرب راشد الماجد مع جمهور الرياض . كما انها المرة الاولى منذ ثلاثة عقود للفنان السعودي الشهير محمد عبده الذي يعرفه الجمهور العربي من المحيط الى الخليج، التي يظهر فيها امام جمهوره في بلده.

بل هي الحقيقة والواقع الذي حمته الدولة، والتي كانت بدورها محكومة لنهج التشدد والتصلب الفكري، الذي يمنع الغناء ويحرم الموسيقى ويكفر من يقرب منهما.

وما لم يقترب المثقفون من هذه الحقيقة ويقاربوا الازمة ببعدها السياسي، ومن زاوية مسؤولية النظام عنها بالكامل، فإنهم سيبقون مجرد حالمين، وكتاباتهم مجرد ثرثرة في المقاهي والمنتديات، لا تقدم ولا تؤخر.. بل تؤخر.

ان حالة الفلتان التي يعبر عنها هؤلاء المحتسبون ليست قضية منفصلة عن عموم المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي والاعلامي.. والحديث عن مسؤولية الدولة والنظام السياسي ليست عبثا او افتعالا، بل اننا نسأل بكل جدية ومسؤولية: ما الذي حل بهؤلاء المشاغبين الذين أفسدوا احتفالات ومهرجانات كلفت مئات الالاف من الدولارات، واساءوا الى سمعة البلاد، كما يقول غير كاتب سعودي؟ لماذا لم يجر اعتقالهم ولم يحاسبوا اذا كانت الدولة تعتبر عملهم خطأ او جريمة؟ ولماذا لم يوضع حتى الان قانون يحمي العمل الثقافي المسموح به والمجاز من السلطات السعودية؟ فهل هي ازدواجية في السلطة؟ ام عجز عن ممارسة السلطة وفرض القوانين والتنظيمات المختلفة على كافة المستويات؟

هذه هي الاسئلة التي يجب ان يفكر فيها المثقفون، حتى لا نجد انفسنا كل عام امام مجموعة من البكائيات على أطلال الثقافة والرغبة في التقدم الممنوع والتغيير المقموع.. ولكي لا يبقى الاحتساب جزءا من المشهد الثقافي في معارض الكتاب.

الصفحة السابقة