الدولة العصيّة على الإصلاح..

هل فشل النموذج السعودي؟

سعدالشريف

ثمة معايير عالمية للدولة الفاشية، تستند تارة على الاستقرار السياسي والأمني وقدرة الحكومة المركزية على ضبط الوضع الداخلي وبسط سيطرتها على كامل أجزاء الدولة، وتارة تتكل على معايير اقتصادية مثل مداخيل الأفراد، وتلبية الدولة للحاجات الأساسيات للمواطنين، ودرجة الاندماج الاقتصادي لدى فئات الشباب، ومعدلات الفقر والبطالة..الخ. وفق هذه المعايير، ليس هناك من دولة عربية يمكن تصنيفها بأنها من الدول المستقرة سياسياً واقتصادياً، ولكن التفاوت يدور حول دولة فاشلة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، أو دولة فاشلة سياسياً وناجحة اقتصادياً، أو العكس.

وخارج نطاق الجدل حول المعايير الكلاسيكية للدولة الفاشلة، هناك نقاش من نوع آخر وجوهري، ويدور حول «النموذج ـ البرادايم». إذ إن الفشل لا يتعلق بـ «الأداء» بل قد يندك في أصل النموذج المعتمد.

سوف نحاول مناقشة الدولة السعودية بكونها نموذجاً، يراد له أن يدير عملية علائقية دائمة وثابتة. ولكن النموذج هذا له بداية ومنطلقات وأوضاع نشأ فيها، وقد مرّت عقود طويلة على نشأة الدولة السعودية، فهل هي تحتفظ بخاصية الخلود والاستمرار، أم أنها نموذج ثبت عقمه وعدم قدرته على المواكبة.

والسؤال: لماذا لا يزال هذا النموذج باقياً حتى اليوم؟ وجواب ذلك يأتي في فهم مصطلح «الدولة العصيّة».

فالاستعصاء ليس مجرد القدرة على المناكفة، التعرّض، ومقاومة شروط وقوانين التحوّل، ولكنّه ينطوي على مفهوم تاريخي يتّصل جوهرياً بتعطيل إرادة الانتقال من حال الى حال، أو من طور أدنى الى آخر أعلى وأجود.

من مكائد خداع الذات أن يأمن أهل السياسة الاستقرار الظاهري في الدولة، فالتاريخ يزوّدنا بنماذج عن انهيارات مفاجئة في دول كانت تنعم بالاستقرار، وهذا يشي بمعنى ما مغفول لمفردة الاستعصاء، إذ إن معاندة أحكام التغيّر والتغيير يستزرع الحتف، وأن كان لحظة وقوعه مؤجلة، ولكن لا يمكن أن تلغيه.

توطئة
 
الجيش الوهابي واحتكار العنف.. دولة قامت بالسيف والعنف

في 24 كتوبر سنة 1648 وضعت مونستر وأوسنابروك الالمانيتين اللبنات الأولى لصيغة «الدولة»، ومن ثم إرساء قواعد ثابتة للعلاقات الدولية في ضوء «معاهدة وستفاليا» كخلاصة لمؤتمر السلام الأوروبي. خلص المؤتمر الى الاعتراف، ولأول مرة، بالحقوق المدنية العلمانية للأمراء الألمان في مقابل السلطة البابوية الدينية. الاعتراف، في حدّ ذاته، تجاوز السلطة الى الإطار الجيوسياسي الذي تمارس تحت ظلّه، مجسّداً فكرة الدولة كجهة سيادية عليا تفوق أية سلطة أخرى دينية، أو أية سلطة موازية أو مماثلة لأي تنظيم إجتماعي آخر.

معاهدة وستفاليا أنهت حرباً دامت ثلاثين عاماً، بدأت بثورة ضد هابسبورغ في بوهيميا سنة 1618 وكانت تدور حول النزاع بشأن دستور الإمبراطورية الرومانية المقدّسة. وأسفرت معاهدة وستفاليا عن اتفاقيتين بين الإمبراطورية الرومانية والقوى العظمى الصاعدة، وفرنسا، والسويد، كما أفضت إلى إنهاء الصراع بعد ضمان حقوق هذه القوى الجديدة داخل إطار الإمبراطورية. وشارك في التوقيع على معاهدة وستفاليا كل من فرديناند الثالث، الأمبراطور الروماني المقدّس، مملكة فرنسا، مملكة أسبانيا، الجمهورية الهولندية، الإمبراطورية السويدية، أمراء الإمبراطورية الرومانية، وملوك المدن الإمبراطورية الحرة.

وضعت المعاهدة نهاية للعراقيل أمام التسوية بين ألمانيا وفرنسا والسويد، في ظل سيطرة فرنسا على أراض داخل مجال سيادة السويد، في موازاة مع محاولات تسووية بين الهولنديين والأسبان، فيما تنامت النزعات الإمبراطورية لدى الأمراء الألمان.

على أية حال، فإن المعاهدة أعادت تقسيم الأراضي المتنازع على سيادتها، رغم تعقيداتها والعدد الكبير من المشاركين في المفاوضات، وتضارب المصالح بين الأطراف المتنازعة، وكانت الامبراطورية الرومانية على استعداد للتنازل عن بعض الامتيازات الدينية والإقليمية، في ظل نزوع فرنسي لتدمير الامبراطورية، وذلك عبر تعزيز النزعات الاستقلالية لدى الأمراء الأفراد، والتخلي عن المؤسسات الإمبراطورية لصالح فرنسا. ولكن هذه المحاولات لم تكن تحظى بشعبية كبيرة في ألمانيا نتيجة المكانة الخاصة التي كانت تتمتع بها الإمبراطورية الرومانية، وضعف النفوذ الفرنسي والسويدي فيها، في وقت تتزايد المطالب الفرنسية بأجزاء كبيرة من أسبانيا.

في نتائج المعاهدة التي وضعت بنودها بتأثير الكاردينال مازارن، الحاكم الفعلي لفرنسا والوصي على العرش لصغر سن لويس الرابع عشر، جرت عمليات مناقلة للأراضي بين الأطراف المتنازعة، فيما حصلت السويد على ثلاثة أصوات في مجلس الأمراء في الرايخستاغ الألماني. وحصلت بعض المقاطعات على أصوات انتخابية في المجلس الانتخابي الإمبراطوري. وبناء عليه، حصلت هولند، وسويسرا، وتوسكانيا، ولوكا، ومودينا، وبارما، وسافوي، ومانتوا، على اعتراف رسمي باستقلالها .وتمّ الاتفاق على تناوب منصب أمير أسقفية أوسنبروك البروتستانت والكاثوليك، على أن يتولى الأساقفة البروتستانت اختيار الأمير حصرياً من آل برونسفيك- لونيبورغ.

وبناء على المعاهدة، تمّ إلغاء كل المقررات الاقتصادية والتجارية القائمة في زمن الحرب، ووضعت قواعد لتنظيم النشاطات الاقتصادية والتجارية بين الدول بما في ذلك ضمان حرية حركة الملاحة في نهر الراين.

وأرست معاهدة وستفاليا أساساً لتطوير مفاهيم السيادة والعلاقات الدولية، فكانت «الدولة» تتطوّر بناء على اشتراطات وأوضاع أوروبية مسترشدة بمفهوم السيادة، كعامل فاصل في الاعتراف باستقلال الدولة.

حينذاك، لم يقدّر لهذه الصيغة أن تُعمّم أو تكونن (أي أن تصبح نموذجاً كونياً)، وبقيت تتفاعل، حصرياً، ضمن البيئة الأوروبية، وأخذت تتبلوّر تدريجاً في سياق تطوّر قانوني خاص بتنظيم شؤون الدولة، وكذلك العلاقات بين الدول، ولكن دون أن يأخذ شكل نظام دولي محدّد، بحيث يكون لمفهوم السيادة معنى واضحاً، كالذي عرف فيما بعد. ولكن طبيعة الإتفاقيات والمعاهدات بين الدول الأوروبية الرئيسة تبطن مفهوماً أولياً للسيادة، وعلى أساسه كانت كل دولة تمارسه إزاء الدول الأخرى بما يحول دون التعدّي على أراضيها أو مصالح رعاياها، وهذا ما كانت المعاهدات تتكفل بضمان الالتزام بها.

كان نزوع الدول الأوروبية الى توفير كل أسباب القوة لحماية كياناتها، ودرء الأخطار المحدقة بوجودها، وبمصالحها، يعبّر عن إحساس عميق بالهوية القومية، وبالسيادة المجسّدة لإستقلالها الوطني وتميّزها الاقليمي.

كانت الدولة تعني، في العرف السياسي الأوروبي، التجسيد المادي لمفهوم السيادة، فكل ما لا سيادة عليه لا سيادة له، ولذلك فإن المناطق الخاضعة للإستعمار لم تكن تحظى بمسمى الدول، وإنما مستعمرات فاقدة للسيادة.

في الزمن الاستعماري، فرضت القوى الغازية، الأوروبية بدرجة أساسية، إرادتها على الأقاليم الخاضعة لها، وعطّلت مفاعيل تطوّر تجارب محلية لإنتاج صيغ تنظيمية/بيروقراطية تحمل سمات الإقليم والسكّان المحليين، وقد تنطوي على روح وطنية استقلالية ومناهضة للمستعمر. ولناحية تعزيز هذه العلاقة الاستتباعية، فرضت قوى الاستعمار قوانين وصيغ متصالحة مع أهدافها بما يمنع أي قوى محلية من استعادة سيادتها، واستقلالها الوطني، من خلال رفض مبدأ تملّك الأراضي لغير سكّانها الأصليين، في الوقت الذي كانت القوى الاستعمارية مدفوعة بتشريع يبيح التملّك خارج نطاقها الجغرافي.

ولكن حين بدأت الظاهرة الاستعمارية تجتاح العالم، أخذت أعراض أخرى تطفو على السطح، إذ لم تستطع وصفة «وستفاليا» إنقاذ الكيانات خارج المجال الأوربي، بل كرّست قاعدة تقوم على ارتهان السيادة الفعلية للقوة العظمى بوصفها ضمانة.

ومع بروز قوى جديدة على المستوى العالمي من خارج المجال الأوروبي، ظهرت الحاجة الى إعادة النظر في النظام المعمول به لتنظيم علاقات الدول. وفي مؤتمر لاهاي سنة 1899 تمّ التوصل الى معاهدات جديدة حول تنظيم العلاقات بين الدول في زمن الحرب. وفي عام 1907، انعقد مؤتمر لاهاي2 عقب إنزال اليابان هزيمة بروسيا، موجّهاً بذلك ضربة للعقيدة الأوروبية العنصرية، القائمة على تفوق العنصر الأبيض. وبذلك، شكّل مؤتمر لاهاي 1 في 1890 ولاهاي 2 في 1907 ما يشبه مرجعية وأساساً لاتحاد دولي، لمشاركة الصين والإمبراطورية العثمانية واليابان وبروسيا وسيام، يعتمد توصيات المؤتمرين لتنظيم شؤون الدول. في مؤتمر لاهاي الثاني سنة 1907، كان عدد ممثلي الدول المشاركة يفوق عدد نظرائهم الأوروبيين.

قطعت الحرب العالمية الأولى الطريق على استكمال جهود المصالحات الدولية، وفرضت مفاهيم جديدة حول السيادة والقانون الدولي. وبنهاية الحرب، إنهارت الامبراطوريات العريقة الهنغارية والنمساوية والروسية والعثمانية، ودشّنت بداية مرحلة الاستعمار التي ألغت سيادة الدول. وبرغم الفرصة التي أتاحها مؤتمر السلام في باريس سنة 1919، وإعلان الرئيس الأميركي ولسن لمبدأ حق تقرير المصير، بخلاص كثير من البلدان من ربقة الاستعمار الأوروبي.. فإن هذا الحق بات مقتصراً على أوروبا الوسطى، فيما حرمت بقية مناطق العالم من هذا الحق، الأمر الذي عطّل مبدأ سيادة الأراضي، واستبدله بمبدأ القوة بوصفها الحق (might is right). وكان جان جاك روسو قد نظّر للعلاقة بين القوة والحق، وقال بأن «الأقوى ليس قوياً بدرجة كافية، ما لم ينجح في تحويل القوة الى حق، والطاعة الى واجب».

تكوين الدولة السعودية

في تجربة تكوين الدولة السعودية، نلحظ أن ثمة تشابهاً بينها وبين تكوين الدول الأوروبية، من جهة كون ظهورها نابعاً من توسّلها العنف وتالياً احتكاره، وليس نتيجة تعاقد المكوّنات السكانية تعاقداً حرّاً، أو خلاصة تأمّلات فلسفية عميقة في الصيغة المثلى لتنظيم شؤون الرعية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم. بكلمات أخرى، إن عملية إنشاء الدولة لا تختلف عمّا أسماه تشارلز تيلي «طريقة عمل عصابات الجريمة المنظمة»(1).

وقد اقتفى عبد العزيز سيرة أسلافه، باتباع الطريقة ذاتها في بناء دولة عبر أربع أدوات: صناعة الحرب، تأمين الموارد من المناطق المحتلة، وبناء مؤسسات السلطة، وحماية الطبقات الحليفة. بطبيعة الحال، فإن هذه الأدوات لم تعمل بصورة متكافئة، فقد تتفوق إحداها على الأخرى بحسب حاجة الغزاة. وفيما بدأت تتلاشى آثار العنف المسؤول عن إقامة الدولة في أوروبا، نتيجة ثورات شعبية وتجاذبات داخلية، وصراع قوى، أفضى الى وضع قيود على لوردات الحروب ـ الحكّام الذين كانوا يلجؤون الى الضرائب لتمويل حروبهم، وبالتالي بدأت تتمدّد سلطة الشعب لتحول دون تفرّد الحكّام بقرار الحرب والسلم.. فإن دولاً في الشرق كانت لاتزال سادرة في تجربة الدولة القائمة على العنف.

في تجربة عبد العزيز السياسية، كان يتم تأمين الموارد من طريقين: المناطق المحتلة (الغنائم، الزكاة..)، والدعم البريطاني الثابت.

وفي النظرة الإجمالية للدول، يكون تقلّب أحوالها، وسرّعة وتيرة تحوّلاتها مجسّاً رئيساً على عدم نجاحها، الأمر الذي يستدعي قراءة بنيوية أولاً، لفهم تكوين الدولة، والعوامل المنشئة لها، قبل الانتقال الى دراسة الدولة من خارجها، وتالياً الأسباب الموجبة لاخفاقها جزئياً أو كليّاً.

 
الحماية البريطانية: ابن سعود مع بيرسي كوكس بعد توقيع اتفاقية العقير 1922

وحين يطرح سؤال: لماذا تفشل الدولة؟، تنبعث طائفة أخرى من الأسئلة ذات الصلة الجوهرية بما يتعلق بأصل الدولة، أي نموذج التنظيم السياسي المعتمد لإدارة شؤون المحكومين/ الرعية، وسبل تطبيقها، والبيئة التي تعمل فيها، ودور الثقافات المحلية في نبذ النموذج، تعزيزه، أو تشويه وظيفته.

من بين الأسئلة المفتاحية، سؤال حول فشل نموذج الدولة المستورد من الغرب، أي فشل كوننة النموذج، بمعنى خلل وظيفي (الانتقائية في نقل النموذج، أي فصل الدولة عن القيم الديمقراطية)، وخلل أيديولوجي (نقل النموذج بحمولته العلمانية في بيئة لا تزال محافظة)، فلا هو أنتج دولة حديثة، ولا هو أخرجها من نزعتها المحافظة، فأصبحنا أمام جنين مشوّه لا يحمل السمات الوراثية لا للحداثة ولا التقليدية. وعليه، فإن المشكلة تكمن في النموذج نفسه، بكونه لم يكتسب صفة المعيارية، وأن من الصعب تحويله الى وصفة كونية قابلة للتعميم والتطبيق في كل مكان وكل زمان. سؤال قد يبدو ساذجاً في مرحلة ما، ولكنّ فشل كثير من الدول خارج البيئة التي نشأت فيها الدولة، أي أوروبا وضمن سياق تحوّلات تاريخية، وتراكم معرفي، يجعل سؤال الدولة محورياً وحتمياً.

في المقابل، هل فشل الدولة ناجم عن تبيئتها، أي في طريقة انتقال النموذج الى مكان خارج مكان المنشأ، وعدم تطبيق النموذج بما يفرضه من شروط، وعلى رأسها شرط المواطنية في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

من الضروري إستحضار حقيقة كون النموذج الذي جرى استعارته، أو تطبيقه بطريقة مشوّهة ليس منتجاً محلياً وأصيلاً، وإنما تمّت استعارته من خارج سياق التطوّر التاريخي للمجتمعات المنضوية فيه. وفي كثير من الحالات، كان النموذج مفروضاً بالإكراه من قبل قوى محلية مدعومة من الخارج، أو من الخارج بصورة مباشرة. بصورة إجمالية، يندر وجود دولة عربية نشأت على قاعدة تعاقدية، أي بتوافق بين المكوّنات السكّانية.

لابد من الإشارة الى أن فشل توطين نموذج الدولة ليس بالضرورة عائداً الى قصور النموذج نفسه، أو بالأحرى غربته عن الواقع الذي انتقل اليه، بل قد تلعب الطبقة الحاكمة دوراً رئيساً في تشويه وظيفة الدولة بفعل نوازعها الخاصة، بما يفقد الدولة جوهرها الديمقراطي والعلماني.

لاشك، أن الغرب، الاستعماري منه على وجه التحديد، كان له نموذجه الخاص الذي أراد فرضه على العالم لخدمة أغراضه الاستعمارية، وقد يلتقي ذلك مع رغبة بلدان في الشرق والجنوب لجهة استعارة النموذج، وهذا ما كان عليه حال السلطنة العثمانية وإيران والصين واليابان.

وفي ضوء تجارب الحكم في دول العالم خارج بلد منشأ «الدولة»، أي الغرب، يظهر أن الأنظمة السياسية الديمقراطية خفّفت الى أقصى حد من غربة النموذج، فيما أبقت الأنظمة الشمولية على التنافر بين الدولة والرعيّة.

وفي السياق نفسه، إن نموذج الدولة الذي نقله الغرب الاستعماري الى البلدان الخاضعة تحت سيطرته، كان بمواصفات خاصة تحول دون تحرّره من المستعمر/ المصدّر، أي أنه نموذج بلا ديمقراطية، بلا مواطنيّة شاملة، وبلا تمثيل شعبي، وعليه فإنه نموذج لا يفضي الى الاستقلال الوطني، والدولة الوطنية. بكلمة أخرى، إن نموذج الدولة المعمّم كونياً كان «نسخة معدّلة»، لا تشتمل على منظومة القيم الديمقراطية، بل جرى تكييفه مع منظومة القيم الشمولية المحلية والمصالح الاستعمارية، الغربية حصراً.

في جنبة ثالثة من النقاش التمهيدي، يتصدّر السؤال التالي: هل الثقافات الأهلية عصيّة، في أي مرحلة، على هضم الدولة، بصيغتها الغربية المكوننة. إن المشاريع القومية والدينية تجاوزت الدولة على قاعدة مناهضة الاستعمار المسؤول عن خرائط التقسيم في المشرق العربي (سايكس بيكو 1916)، وفي رد فعل على سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924.

في الخلاصة، تشكّل الحركات الدينية والقومية مشاريع متناقضة مع مشروع الدولة التي تعد الدولة بمثابة بضاعة مستوردة من الغرب الصليبي، ومناهضة لمشروع الامة بالمفهوم القومي والاسلامي، وعليه لا بد من نزع شرعية الدولة.

ما سبق يؤكد إن الثقافة المسؤولة عن تأمين الولاء المواطني في حدّه الأقصى، ليست غائبة فحسب، بل هي تمارس فعلاً ضديّاً للولاء من خلال تعزيز ثقافة تقوم على تنمية الخصوصية الفئوية والطائفية والقبلية والمكانية وليست معنيّة بالمشتركات.

فثمة اختلالات وظيفية عميقة في الدولة السعودية يفقدها مسمى الدولة، فليس هذا ما أراده منظّرو الدولة، ولا هي الوظائف التي رسموها لها.. بل على النقيض، فإن هذه الدولة تعمل ضد نقيضها. فلا هي تحقق الاستقلال، ولا تنظّم المصالح، ولا تدرء النزاعات الداخلية، وإنما باتت مولّداً فعالاً لكل أشكال التبعية السياسية، والثقافية، والحضارية، وإن آليات وقوانين عملها تساعد على تفاوت المصالح، كما أنها باتت مولّداً للانقسامات والنزاعات على قاعدة مذهبية ومناطقية وقبلية. هي ـ اي الدولة السعودية ـ لم تعمل في أي مرحلة على تحقيق مبدأ «الاندماج الوطني» national integration.

ما سبق ينقلنا الى كوكبة المفاهيم السياسية المثيرة للجدل، ومنها السيادة التي بات الكلام عنها بالمعنى المليء للكلمة مزحة سمجة في ظل عولمة متوحشّة واجتياحية، ما يدعو للكف عن ترديد مفردة «السيادة»، في ظل عالم متشابك بطريقة معقدة. فموازين القوى المتفاوت بدرجة كبيرة، وطبيعة العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الدول والخاضعة لمنطق الاستيراد والتصدير، والانتاج والاستهلاك، والتقدّم والنمو، والمركز والاطراف في نظام رأسمالي له اليد العليا، والكلمة الفصل، وعولمة زادت من معدلات الاستهلاك ومجالاته... جميعها أفقدت «الدول المستهلكة» أجزاء جوهرية من الهيمنة الثقافية والمعنوية.

يرصد برتران بادي ثلاثة أنماط من الإستلاب للسيادة تتعرض لها الدولة التابعة المسلوبة: الوظيفة الدبلوماسية، حيث رسم الاستعمار الأوروبي حدود الدول الاستبدادية في المنطقة وربطها باتفاقيات تشرعن وجوده وتحيل تلك الدول الى محميات تابعة له. على سبيل المثال، تعد معاهدة دارين أو القطيف التي أبرمها عبد العزيز بن سعود مع بريطانيا بتاريخ 26 سبتمبر سنة 1915 من المعاهدات التأسيسية التي أرست مبدأ الحماية مقابل الإرتباط بنظام المصالح الحيوية لبريطانيا في مرحلة أولى، وللولايات المتحدة في مرحلة لاحقة.

وفي لقاء عبد العزيز والمعتمد السياسي البريطاني في الخليج السير برسي كوكس، ممثلاً عن الحكومة البريطانية، اعترفت الأخيرة به ملكاً على نجد والإحساء والقطيف والجبيل وتوابعها ولأبنائه من بعده. ما يجدر الإلتفات إليه هو اشتراط بريطانيا على عبد العزيز بأن كل من يأتي من بعده الى العرش يجب ألا يكون «مناوئاً للحكومة البريطانية بوجه من الوجوه، خاصة فيما يتعلق بهذه المعاهدة». وهذا البند تكرر في كل الاتفاقيات التي أجرتها بريطانيا مع مشيخات الخليج الأخرى، ما يفقد الدولة سيادتها الدبلوماسية.

وفي البند الثاني من المعاهدة، تأكيد على مبدأ الحماية البريطانية لحكم آل سعود: «إذا حدث اعتداء من قبل إحدى الدول الأجنبية على أراضي الأقطار التابعة لابن سعود وخلفائه بدون مراجعة الحكومة البريطانية، وبدون إعطائها الفرصة للمخابرة مع ابن سعود وتسوية المسألة، فالحكومة البريطانية تعين ابن سعود بعد استشارته، إلى ذلك القدر، وعلى تلك الصورة اللذين تعتبرهما الحكومة البريطانية فعالتين لحماية بلدانه ومصالحه».. ما يعنيه البند أن دولة إبن سعود تنضوي تحت نظام الحماية البريطاني، وأن أي عدوان على دولته هو اعتداء على السيادة البريطانية، وأنها هي ما تعينه. وعليه، فإن غياب السيادة الأرضية يلغي مسمى الدولة.

 
المفتي ابن ابراهيم: احتكار التفسير الديني وتوظيف الفتيا

وفي البند الثالث نص واضح على تبعية الحكم السعودي للسيادة البريطانية: «يتّفق ابن سعود ويعد بأن يتحاشى الدخول في مراسلة أو وفاق أو معاهدة مع أية أمّة أجنبية أو دولة، وعلاوة على ذلك بأن يبلغ حالاً إلى معتمدي السياسة من قبل الحكومة البريطانية عن اي محاولة من قبل أي دولة أخرى في أن تتدخل في الأقطار المذكورة سابقاً».

فابن سعود ليس فقط مجرد وكيل معتمد من قبل الإنجليز على المناطق الخاضعة تحت سيطرته، بل مطلوب منه الإبلاغ عن أي محاولة من قبل أية قوة دوليّة منافسة لبريطانيا في التدخل في الأقطار الأخرى سواء الخاضعة تحت سيطرة ابن سعود أو المشيخات الخليجية الأخرى. وفي البند الرابع من المعاهدة: «يتعهد إبن سعود بألاّ يسلّم ولا يبيع ولا يرهن ولا يؤجّر الأقطار المذكورة ولا قسماً منها، ولا يتنازل عنها بطريقة ما، ولا يمنح امتيازاً ضمن هذه الأقطار لدولة أجنبية بدون رضى الحكومة البريطانية، وبأن يتبع مشورتها دائماً بدون استثناء على شرط أن لا يكون ذلك مجحفاً بمصالحه الخاصة». الطريف أن المعاهدة نفسها وفي ضوء تلك البنود الصريحة في استتباعه، تنص على اعتراف بريطانيا به «حاكماً مستقلاً».

وقد وردت معلومة غير مسبوقة في البند السادس تكشف عن علاقة سابقة بين آباء عبد العزيز والانجليز حيث ينص البند على ما يلي: «يتعهّد ابن سعود كما تعهّد آباؤه من قبل، بأن يتحاشى الإعتداء على أقطار الكويت والبحرين ومشايخ قطر وسواحل عمان التي هي تحت حماية الحكومة البريطانية ولها صلات عهدية مع الحكومة المذكورة، وألا يتدخل في شؤونها».

فالبند صريح في ارتباط آباء عبد العزيز بمعاهدات مع الانجليز، وكذلك الحال بالنسبة لمشيخات الخليج الخاضعة تحت الحماية البريطانية. في ضوء إتفاقية سايكس بيكو سنة 1916، عقدت بريطانيا مجموعة اتفاقيات لإرساء علاقات مستقرة للمحميات البريطانية في الخليج، مثل اتفاقية المحمرة في 5 مايو 1922 بين سلطنة نجد وتوابعها وبين مملكة العراق تحت رعاية بريطانيا عبر ممثلها المندوب السامي في العراق الميجر جنرال السير ب. ز. كوكس، وكذلك معاهدة العقير في 2 ديسمبر سنة 1922 بين سلطنة نجد بحضور عبد العزيز، وصبيح بك، وزير المواصلات، ممثلاً عن ملك العراق فيصل الأول، وجون مور الوكيل السياسي البريطاني في الكويت ممثلا عن الكويت. وكوكس هو مهندس المعاهدة، والذي لعب دور الوسيط في الاجتماعات التي سبقت المعاهدة، وبموجب المعاهدة تمّ ترسيم حدود سلطنة نجد الشمالية مع مملكة العراق والكويت.

وينقل هـ .ر.ب. ديكسون في كتابه (الكويت وجاراتها) وقائع الجلسة التي جمعته مع بيرسي كوكس وابن سعود ووصف رد فعل الأخير بعد أن انتهى كوكس من تخطيط الحدود بالقول: «..فانهار ابن سعود وأخذ يتودّد ويتوسّل معلناً أن السير بيرسي هو أبوه وأمه، وأنه هو الذي صنعه ورفعه من لا شيء الى المكانة التي يحتلها، وأنه على استعداد لأن يتخلى عن نصف مملكته بل كلها إذا أمر السير بيرسي بذلك».

ويذكر ديكسون بأن ابن سعود لم يلعب دوراً يذكر في المحادثات «تاركاً الأمر للسير بيرسي ليقرر حل مشكلة الحدود»، ثم يقول: «وفي اجتماع عام للمؤتمر أخذ السير بيرسي قلماً أحمر ورسم بعناية فائقة على خارطة للجزيرة العربية خطاً للحدود من الخليج الفارسي الى جبل عنيزان بالقرب من حدود شرق الأردن»، ويضيف «وإرضاء لإبن سعود حرم ـ أي السير بيرسي ـ الكويت بدون شفقة من ثلثي أراضيها تقريباً وأعطاها لنجد بحجة أن سلطة ابن صباح في الصحراء أصبحت أقل مما كانت عليه يوم وضعت الإتفاقية الانكليزية ـ التركية».

وفي ضوء اتفاقيات رعتها بريطانيا مع جميع مشيخات الخليج (التي تؤلّف اليوم منظومة دول مجلس التعاون الخليجي)، نشأت أنظمة شمولية تحت حماية التاج البريطاني، وحالت، بموجب تلك الاتفاقيات، دون إدخال إصلاحات سياسية في هذه الدول، واطمأنت مشيخات الخليج الى أن ثمة قوّة أجنبية توفّر لها الغطاء الدولي والحماية الأمر الذي يبيح لها ممارسة سياسات قمعية ضد القوى الإجتماعية والسياسية المطلبة بالإصلاح، برغم من معرفتها بحقيقة العوائل الحاكمة في الخليج.

في إيران، مثال آخر، كان قانون (capitulations) الذي يمنح الحصانة القانونية للرعايا الأميريكيين، وكان القانون أحد عوامل التحريض على الثورة الشعبية سنة 1979. يتطابق المعنى الظاهري للقانون بالمعنى القانوني في الإقرار بالتنازل عن جزء من سيادة الدولة لدولة أو رعاياها، وبما يمنحهم امتيازاً خاصاً وحقوقاً استثنائية لا يتمتع بها بقية المواطنين وليست مدوّنة حتى في التشريعات المحلية أو في الدستور الوطني. ويمثل هذا القانون وأضرابه من أدوات مشروع السيطرة الاستعمارية الغربية.

هناك نوع آخر من الاستلاب، هو الاستلاب الهوياتي، فالدولة التي نشأت في المملكة السعودية وإن فصلت بين الحداثة والتحديث، إلا أنها في نهاية المطاف من حيث التركيبة المؤسساتية والنسق العلائقي المستمد منها، وصولاً الى أنماط السياسات المحلية والعلاقات الخارجية هي مستوحاة من تقاليد أجنبية، وتمثّل أحد صور المحاكاة لنموذج الدولة القائمة في الغرب. إن ما يسميه برتان بادي بـ «تناسق الوظائف المجتمعية» أو الامتثال المؤسساتي، حيث تحاكي الدولة التابعة سيرة سيدها في تبني نموذجه المؤسساتي، ليس بالضرورة تطبيق طريقة عملها، لا سيما الديمقراطية منها، والمرفوضة من التابع والمتبوع معاً. ولكن أخطر ما في هذه المحاكاة أنها تعيق تطوير مفاعيل الهوية الوطنية، لأنها تنمّي أضدادها، أي الانقسام بدلاً عن الاجماع الوطني، والاحتكار الفئوي للسلطة والثروة بدلاً من الشراكة والتمثيل المتكافىء، المركزية الإدارية بدلاً من اللامركزية.

الباتريمونيالية السعودية

يجاهر أنصار النظام السياسي السعودي بـ «الخصوصية» المكافئة لـ «الفرادة»، على قاعدة تحييد «النموذج السعودي» من المساءلة العلميّة والنقد، لكونه «استثنائياً» ولا يحتكم لمعايير الدولة الحديثة، بالمعنى العلماني.

في حقيقة الأمر، أن «خصوصية» الدولة السعودية لا تعفيها من التصنيف، فثمة خصائص مشتركة بين الدول تجعلها متماثلة أو متقاربة أو حتى متباينة.

بالنسبة للنموذج السعودي، فإن خصائصه الباتريمونيالية (Patrimonial) (الوراثي التقليدي) تبدو متقاربة الى حد بعيد مع النموذج النيوباتريمونيالي (Neopatrimonial) (النظام الوراثي الجديد). ومن هذه الخصائص:

1 ـ الولاء للعائلة المالكة، وليس المواطنيّة، هي مبدأ العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وعلى أساس يكون الولاء، وليس الكفاءة والخبرة، يجري صوغ نظام علائقي تراتبي يتمّ فيه تصنيف الأفراد بحسب القرب من الأسرة المالكة نسبياً، وإيديولوجياً، وسياسياً، وحتى مناطقياً.

2 ـ إضفاء طابع شخصي على السلطة، بما يجعل الملك هو مركز الإهتمام وليس السلطة أو الدولة، ويعبّر عن ذلك في تراتبية الشعار المعمول به في المملكة «الله ـ المليك ـ الوطن»، إذ يحتل الملك مرتبة أعلى من الوطن.

3 ـ الإعلاء من قيمة الأعراف العائلية والقواعد الشكلية على حساب القانون والمؤسسات، وانعكاس ذلك على وظائف القاطنين الأصليين وأدوارهم ومهماتهم داخل مجال عمل الدولة. إن النظام الوراثي من شأنه خلق قاعدة زبائنية عريضة مؤسسة على نظام علائقي تراتبي هرمي، يقف على رأسه الملك ويتنزّل الى الأبناء، والإخوة، والأقارب، والحاشية، والحلفاء، والأصدقاء، وصولاً الى آخر دائرة مصالحية. وهذه تمثل شبكة فاعلة في الدولة قد تعطّل دور القانون، وهذا ما تفعله غالباً، وقد تخلق مساراً موازياً للدولة، ولكنها تعمل وفق قواعد مختلفة وغير مكتوبة.

4 ـ الإتكّال على شبكة أمان غير تقليدية، تارة عبر اتفاقيات الحماية ذات الطابع الثنائي مع قوة أجنبية (السعودية والولايات المتحدة على سبيل المثال)، وأخرى بالاعتماد على مؤسسة عسكرية وأمنية متغوّلة تضطلع بوظيفة حماية الملك والأسرة المالكة من الأخطار المحدقة بالسلطة وحدة واستمراراً. وتتظافر جهود الحماية بوجهيها الأجنبي والوطني لجهة إعاقة الإنتقال الديمقراطي، والحيلولة دون تحقيق الشعب لتطلعاته.

وكما أجهضت المؤسسة العسكرية والأمنية ثورة 25 يناير 2011 في مصر، وأعادت السلطة الى العسكر مجدّداً في 30 يونيو 2013، فإن المؤسسة العسكرية والأمنية عملت على منع قيام ثورة في السعودية في 11 مارس 2011، فيما دخل العسكر، تحت لافتة (قوات درع الجزيرة) بقيادة السعودية، مملكة البحرين في 15 مارس 2011 لإخماد حراك شعبي سلمي بدعوى حماية المنشآت الحيوية..

 
العائلة المالكة مركز الإهتمام والولاء لها يسبق أي ولاء ديني او وطني

5 ـ حق احتكار الحقيقة الدينية وتأويلها: إذ باتت الدولة وحدها صاحبة الحق في تقديم التفسير النهائي والمعتمد للنص الديني. وفي ضوء اشتراطات العقيدة التنزيهية الرسمية لدى الدولة، فإن كل تفسير يتعارض مع المرجعية الدينية الرسمية الوهابية يصبح هرطقة، وقد يفضي الى عقوبة قصوى. فقد أصدر مفتي الديار السعودية الأسبق الشيخ محمد بن ابراهيم فتوى بالقتل تعزيراً ضد مؤلف كتاب (أبو طالب مؤمن قريش) الشيخ عبد الله الخنيزي، لأن فيه مخالفة للتفسير الشائع عن حوادث التاريخ الإسلامي، ومن بينها الحكم بكفر أبو طالب. وقد جاء في الفتوى:

والذي أراه أنه يسوغ قتل هذا الخبيث تعزيراً، لأن ما أبداه رأس فتنة إن قطع خمدت، وإن تسوهل في شأنه عادت بأفظع من هذا الكتاب من بدعة هذه الطائفة من صاحب هذا الكتاب أو من غيره. وقتل مثل هذا تعزيراً ـ إذا رآه الإمام ـ ردع للمفسدين، وحسم لمادة البدعة، وسد لهذا الباب. فإن قضية هذا الرجل هي أول واحدة من نوعها، وهذه النابغة تمس مأخذ المسلمين وحججهم، والقدح فيها تسبب في إسقاط حجيّتها وساطع برهانها. فإن الذي لدى المسلمين في معتقداتهم وعاداتهم ومعاملتهم وفروجهم وأحكام دمائهم ومستند ما يحكمون به في محاكمهم أصلان عظيمان، وكل أصل سواهما راجع إليهما ومستمد منهما، ألا وهما الكتاب والسنة، لا طريق لهما إلينا إلا من طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمتى فشا الطعن في جنسهم زالت الثقة، ووجد أخصام الإسلام ثغرة منها يتخذون سلطة على أهل الإسلام(2).

التجربة التاريخية السعودية أوصلت الى حقيقة أن الدولة لم تعد سيّدة المجتمع، لأنها بقيت جزءً من تشكيلته الهوياتية الأولية، وساهمت في لحظات ضعف قبضتها في تشجيع الهويات الأوليّة، ونجحت في مرحلة ما في التفوّق على الهوية الوطنية التي لم تولد قط على يد أهل الحكم. وكنتيجة، فإن الدولة فشلت في تهذيب الميول الفطرية لدى الأفراد، وبقيت هي كجهاز تحريض فاعل على تعزيز الإنشدادات الأوليّة لدى المكوّنات السكانية، فحضرت هوياتها الفرعية، وغابت الهوية الوطنية التي أريد لها أن تكون بمكوّنات غير مشتركة.

ولذلك يظهر في مجال الميكروسوسيولوجي انتعاش النزعات البدائية او الفطرية (primordial tendencies)، القبلية منها، والمذهبية والمناطقية، كأحد تظهيرات فشل الدولة الوطنية، وقد يكون شكلاً في الاحتجاج عليها، ورد فعل على اعتناقها لنموذج باتريمونيالي مدقع.

الدولة السعودية.. صنيعة العنف (السيف)

يفرّق تشارلز تيلي بين الجريمة المنظمة، وصناعة الحرب المفضية الى بناء الدول، في مزية الشرعية التي يتحصن بها صانعو الحرب وبانو الدول، برغم ممارسة كل منهما اللصوصية والقتل.

وينبّه تيلي الى أنه لا يماثل بين العالم الثالث وأوروبا في القرن السادس عشر أو السابع عشر، ولكنه يستفيد من الأخيرة لناحية دراسة التجارب العالمثالثية في مقاومة الاستغلال القهري للسلطة لغرض حماية الناس وفرض قيود على صلاحيات السلطة.

في ضوء ما سبق، قدّمت الدولة السعودية نفسها بوصفها وقاية من خطر الغارات التي يشنها البدو على المناطق الشرقية، ولكنّها نفسها كانت مصدر خطر من نوع آخر، أو ما يطلق عليه تشارلز تيللي البلطجي جامع الإتاوة (racketeer)، ويفرّق تيللي بينه وبين الشخص الذي يوفّر الوقاية حين الحاجة دون أن يكون مصدر خطر، يستحق نعت «الحامي الشرعي»، عطفاً على انخفاض كلفة حمايته بالمقارنة مع منافسيه.

كان رجال الحكومة السعودية يكرّرون بزهو دعوى توفير أفضل عرض حماية من العنف المحلي، ومن البدو بدرجة أساسية، ودون ذلك سوف يتعرّض السكان المحليون إلى أخطار كبيرة تطاول الأرواح والممتلكات. ما يلفت الانتباه أن أمراء آل سعود وأنصارهم عادوا الى توظيف «الخطر» والتلويح به كأحد مصادر المحافظة على السلطة. مقدّم برنامج في قناة (وصال) المثيرة للجدل، والتي تبث من السعودية، يوجّه تهديداً مباشراً لشيعة المنطقة الشرقية بالقول «والله العظيم لأن مكّنا.. وأعني بذلك رسالة للخارج أو الداخل، رسالة للعوامية، هؤلاء السفهاء، هؤلاء الذين يلعبون بالنار، والله انما هي تعبداً لله وطاعة لولي الأمر. والا والله وبالله وتالله لنسيّر الجيوش ونسير القبائل عليكم ونأكلكم أكلاً»(3).

تفصيح التلويح بالخطر كان دائماً حاضراً في خطاب الأمراء ورجال الحكم عموماً، لناحية إضفاء مشروعية على الدولة بوصفها «مصدر حماية»، ولكن في تعريف تيللي ليست شيئاً آخر سوى «بلطجة»، وتعني خلق التهديد وإرغام من يخضع له دفع إتاوة لتقليص التهديد، ووفق هذا المعيار ينسحب ذلك على الحكومات التي تحمي مواطنيها من مخاطر متخيّلة، أو ناجمة عن نشاطات تقوم بها الحكومة ذاتها، فهي تقوم بعملية تنظيم لجني أتاوات البلطجة، ولكن في هيئة تبدو مشروعة ومحتشمة.

الفارق بين الحكومة التي تمثّل أكبر تهديد على حياة وأرزاق مواطنيها، والبلطجي الذي يحصل على المال مقابل إيهام الآخرين على قدرته الفائقة بتوفير الحماية لهم، هو مسحة القداسة التي تضفى على الحكومة. فما تقوم به الأخيرة هي بمثابة عملية قرصنة واسعة النطاق لمقدّرات الشعب، ويمتد ليشمل حريات الناس وحقوقهم المدنية وحاجاتهم الأساسية مستعينة بالعنف واحتكار مصادره.

بطبيعة الحال، فإن وظيفة الدولة لا تقتصر على توفير الحماية فحسب، بما يبرر احتكارها للعنف، ولكن من المنطقي إخضاع مشروعيتها في ضوء معايير أخرى من بينها الحماية، ليس بالمعنى المادي فحسب، وإنما بالمعنى النفسي والسياسي والحقوقي..

إن الدولة السعودية في أصل نشأتها وتشكّلها كانت نتيجة حروب خاضها عبد العزيز ومن كان قبله وبعده، ضد منافسين مباشرين ومحتملين. وفي ضوء نتائج الحرب، جعل عبد العزيز من نفسه صاحب حق حصري في الحكم ونقل هذا الحق لأبنائه وأحفاده من بعده. وبذلك، فإن الدولة السعودية لم تكن تعاقدية وليست تجسيداً حرّاً لإرادة المكوّنات السكانية.

في الحملات العسكرية التي كان يقودها محمد بن عبد الوهاب، مؤسس المذهب الوهابي، ومن بعده وصولاً الى عبد العزيز تمّت الاستعانة بالكثير من القبائل في استخدام العنف ضد سكان المناطق الأخرى، فكانت كل قبيلة تقاتل ضمن المعسكر الوهابي ـ السعودي تحظى بوصفة الشرعية، وعليه يصبح استخدامها للعنف شرعياً أيضاً، ولكنها تفقد الصفة حين تنكث بالبيعة، أو تحارب الى جانب خصوم هذا المعسكر.

يذكر إبن بشر في سرديته لماجريات سنة 1166هـ وفيها «نقض أهل منفوحة العهد وحاربوا المسلمين وطردوا إمامهم محمد بن صالح وهاجر منهم الى الدرعية في يوم سبعون رجلاً»(4). إن النص يكشف عن مشروعية ولا مشروعية مؤسّسة على تحصين عقدي، ومنه تنشق ثنائية من نوع آخر تتصل بمشروعية العنف، والجهة الحصرية المخوّلة باستخدامه. في مثل هذا التصنيف القائم على معيار ديني، تصبح كل ممارسة خاضعة للمعيار نفسه، وتصبح المشروعية محتكرة في طرف ومنفية عمّن سواه.

ويذكر إبن بشر في حوادث 1167هـ أن دهام بن دواس حاكم الرياض في الفترة ما بين (1737 - 1773) والذي خاض حروباً طويلة مع القوات السعودية الوهابية، عرض على محمد بن سعود هدنة. يعلّق ابن بشر على حوادث هذه السنة ويقول: «وفيها تضجّر دهام بن دواس من الحرب بينه وبين المسلمين، وطلب من محمد بن سعود المهادنة والدخول في الدين وتجري عليه أحكام المسلمين، فطلب عليه الامام محمد خيلاً وسلاحاً، فبذل له ما طلب، وطلب منه أيضاً أن يرسل إليهم معلما يحقق لهم التوحيد، ويقيم شرائع الاسلام..»(5).

في سنة 1157هـ لحق الأتباع الجدّد بقائدهم الروحي محمد بن عبد الوهاب، بعد مبايعتهم له في العيينة، ومنهم رؤوساء المعامرة المخالفين لعثمان بن معمر فتزايد المهاجرون إليه من كل بلد لمّا علموا استقراره وأنه في دار منعة، ويعلّق ابن بشر بأن عثمان بن معمر علم بأن «الدرعية صارت دار هجرة»(6).

منذاك، صار العنف محمولاً على خطاب ديني علوي، وباتت للقوة الجديدة سردية مدجّجة بضروب من الأقوال العقديّة المصمّمة لتبرير استخدام العنف، والإستيلاء على ممتلكات الآخر، وفرض وصاية على الغير باسم الدين، الذي بات أساس الرابطة بين القائد وأنصاره. ينقل ابن بشر في حوادث سنة 1158هـ أو التي بعدها «بايع عثمان بن معمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب على الإسلام والجهاد في سبيل الله..»(7). فكان الشيخ موكلاً بنشر الدعوة طوعاً أو كرهاً، كونها الأيديولوجية المشرعنة لمشروع الدولة والهوية التي تطبعها. يقول ابن بشر «ولمّا منّ الله سبحانه بظهور هذه الدعوة وهذا الدين، واجتماع شمل المسلمين، واشراق شمس التوحيد على أيدي الموحدين، أمر الشيخ بالجهاد لمن أنكر التوحيد من أهل الإلحاد..»(8).

إذاً، ما يجعل العنف شرعياً أم غير شرعي، هو قدرة طرف ما على مراكمة قوة أكبر، واستخدامها في مرحلة مبكرة لتشكّل السلطة. في تلك المرحلة تنقسم الجماعات بين مؤيّد للكيان الجديد ومستفيد منه، ومعارض له ومتضرّر من وجوده.

في التجارب السعودية الثلاث، يلجأ الأمير السعودي الى بناء تحالف قبلي واسع يجمعه، في الظاهر على الأقل، هدف أسمى، ويلتقي على تقاسم المغانم المادية والسياسية، ويكون استخدام التحالف القبلي للعنف شرعياً لاعتصامه بالقوة أولاً، وتحويلها الى حق حين تلتحم بمشروع الدولة. ثمة مشتركات مثيرة للدهشة بين صنّاع الحروب، وقطّاع الطرّق، وقراصنة البحار، والعصابات المنظّمة في كونهم مسؤولين عن قيام الكثير من الدول في العالم.

يزوّدنا المؤرخ الفرنسي فريناند بروديل في كتابه (المتوسط والعالم المتوسطي) بقراءة عميقة وواسعة لتشكّل الدول والحضارات في ضوء دراسة تتمهّد طوبوغرافياً، ثم تنفتح على قراءة ممتدة للجزر ومضائق البحار، والملاحة البحرية، والطرق البحرية، والصحارى والحياة البدوية، وكذلك المناخ السائد في حوض البحر الأبيض المتوسط، كما درس الاقتصاد والديمغرافيا والفئات الاجتماعية وتلاوينها، وتوقف عند قطّاع الطرق والعصابات والقراصنة من المسلمين واليهود والمسيحيين. وخصّص المحور الثالث من الفصل السابع من كتابه عمّا أسماه «القرصنة الجزائرية» والتي اعتبرها ظاهرة قديمة في المتوسط، وأنها كانت أحد وجوه الحرب ضد المدن والقرى، ولم تكن ذات طابع فردي بل كانت نشاطاً جماعيا تشارك المدن والدول في تنظيمها، فكانت الجزائر ومالطا مركزين للقرصنة وشبكاتها، وكانت الجزائر سوقاً للسفن المسيحية التي كانت تشتري منها الأسرى والسلع. ولم تكن القرصنة بعيدة عن العقائد الإيمانية التي يستمد منها القراصنة مشروعية النشاطات التي صبغت الحياة المتوسطية، فأصبح القراصنة المسلمون يعتصمون بمبدأ الجهاد في مقابل الصليبية المسيحية في المقلب الآخر(9).

فالعلاقة الجدلية بين الحرب والعقائد الايمانية والدول بتمثّلاتها المتنوعة: رجل السلطة، الإقطاعي، القرصان، وإن أخذت أشكالاً متعدّدة إلا أنها تؤدي الوظيفة ذاتها، وترنو الى غاية مشتركة.

في تاريخ الدولة السعودية، في أطوارها الثلاثة، كان صانع الحرب، ورجل الدين، والمقتدر يتقاسمون مهمة الغزو ضد الخصوم، وينقضّون على ممتلكات السكّان في المناطق الأخرى، التي يرونها غنائم لهم وحدهم حق حيازتها والتصرّف فيها، وإرغام الخصوم على الإعتراف لهم بهذا الحق.

وبات مألوفاً في سرديات كتّاب السيرة السعودية (ابن غنّام، وابن بشر بدرجة أساسية)، تكرار وقائع التزوّد من ممتلكات أهالي المناطق التي تتعرض للغزو، بذريعة واهية، وأن تعد ذلك الفعل مشروعاً للقوات الغازية، لأن ثمة رجل دين يضفي بعداً دينياً على النهب والسلب، وإن لم يكن سوى القوة أداة والرغبة الجامحة في الاستيلاء على الممتلكات، واغتصاب الحقوق، والنهب والسيطرة ووضع اليد حوافز على الغزو، وليست المدعيات الدينية سوى الذرائع التي تأتي لاحقاً لتبرير ممارسات جرمية.

من الأمثلة على تلك الممارسات أيضاً، إحراق ممتلكات (النخيل، والبساتين، وصوامع الغلال)، وهدم المساكن والقصور التابعة للخصوم، ثأراً وانتقاماً من الخصوم، أو الرافضين لفكرة الإنصياع للقوة الغازية، أو الناكثين لبيعة فرضت بقوة السلاح في وقت مضى.

فالماسكون بزمام القوة وحدهم من يقرّرون ما هو شرعي وغير شرعي، وليس قوة المنطق أو الحجج الإيديولوجية التي يقدّمونها لخصومهم قبل الشروع في اجتياح أراضيهم، وارتكاب أفعال القتل والسلب والنهب.. الخ.

في المحصلة النهائية لمعارك عبد العزيز في نجد، ثم الإحساء والقطيف شرقاً وصولاً الى الحجاز وما بينهما من معارك في الشمال والجنوب، وحتى القضاء على جيشه العقائدي المتمثل في الإخوان في معركة السبله سنة 1929.. فإن النصر الحقيقي الذي حقّقه عبد العزيز هو، بحسب تحليل لاورنس ستون لتاريخ أسرة تيودور الانجليزية: حسم معركة احتكار العنف، إذ أثبت بعد معركة السبلة بأنه وأسرته باتت الأقدر على احتكار العنف في المجالين الخاص والعام، الأمر الذي غيّر ليس من طبيعة السياسة بشكل عميق فحسب، بل ونوعية الحياة اليومية، بحسب ستون، ومهّد بالتالي لقيام الدولة السعودية، بوصفها حاصل جمع العنف في المجتمع، والمصدر الأكبر لاحتكاره(10).


المصادر

1- Charles Tilly, War Making and State Making as Organized Crime in Bringing the State Back, In edited by Peter Evans, Dietrich, Rueschemeyer, and Theda Skocpol (Cambridge: Cambridge University Press, 1985, p.169ff).

2- محاكمة داعية للرفض (181)، في موسوعة: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم بن عبد اللطيف آ ل الشيخ، مفتي المملكة ورئيس القضاة والشؤون الاسلامية، جمع وترتيب وتحقيق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، الطبعة الأولى، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة 1399هـ، الجزء الأول ص 250 ـ 251.

3- مذيع وصال يهدد بقتل شيعة العوامية، نشر بتاريخ 9 يناير 2013، أنظر الرابط:

https://www.youtube.com/watch?v=T3_CCg7HEUk

4- عثمان بن عبد الله بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، دارة الملك عبد العزيز بالرياض، الطبعة الرابعة الصادرة سنة 1982، ص 66.

5- المصدر السابق ص 67.

6- عثمان بن عبد الله بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، دارة الملك عبد العزيز بالرياض الطبعة الرابعة الصادرة سنة 1982، ص43

7- إبن بشر، عنوان المجد..، المصدر السابق ص 48.

8- المصدر السابق، ص 48.

9- فرنان بروديل، المتوسط والعالم المتوسطي، ترجمة وإيجاز مروان أبي سمرا، دار المنتخب العربي، 1993، الفصل السابع وما بعدها.

10- See: Lawrance Stione, The Crisis of The Aristocracy 1558-1641, Oxford University Press, 1965, p.97. 10

الصفحة السابقة