المشروع السعودي في العراق

توفيق العباد

في لقاء جمع وفيق السامرائي، رئيس سابق لمديرية الاستخبارات العسكرية العامة في عهد صدام حسين، برئيس مجلس الأمن الوطني سابقاً الأمير بندر بن سلطان في 2007.. أخبره بندر بأن بلاده تراهن على التحالف مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. تعجّب السامرائي من ذلك، وقال بأن الصدر يخوض حرباً طائفية في الوقت الراهن على خلفية ما جرى في سامراء. ولكن بندر قال نحن لدينا معطياتنا الخاصة بأن مقتدر هو حليفنا في المرحلة المقبلة.

 
التيار الصدري هشّ أمنياً ويسهل اختراقه سعودياً

هل كان مجرد رهان على شخص تمّت قراءة خصائصه ونقاط ضعفه، كما تفعل أجهزة الاستخبارات في سبيل اختراق شخصيات نافذة ومؤثرة في مجتمعاتها، أم أن شغل الجواسيس الذين عبروا التيار الصدري الهش أمنياً ووصلوا الى نقاط حسّاسة في رأس الهرم وتوصلوا الى قناعة بأن استمالة مقتدى الصدر ممكنة. ليس في الأمر غرابة، فالأخير نفسه لطالما وجّه انتقادات لاذعه لأتباعه ووصفهم مرة بالمجانين وأخرى بالجهلة.

على أية حال، فإن ما خطّطت له الرياض تم تنفيذه فزار مقتدى الصدر مع الوفد المرافق له المملكة والتقى ولي العهد محمد بن سلمان. لقاء لا أهمية لموضوعاته بل الأهمية كلها تكمن في أصل الزيارة، والتي جاءت في توقيت بالغ الحساسية، إذ كانت القوات الأمنية السعودية ترتكب حينذاك عملية أمنية تتّسم بالوحشية في بلدة العوامية، وقامت بتهجير ثلثي سكانها، وقتلت عشوائياً العشرات، وهدمت أحياء سكنية بكاملها، وحرقت سيارات، وفرضت حصاراً شاملاً على البلدة..

عاد الصدر من الزيارة يحدوه زهو الإنجازات الوهمية، ونفّذ على الفور ما أراد إثباته لحليفه الجديد، حين طالب أتباعه بالخروج في مظاهرة حاشدة ورجاهم الا يخيبوه، وكأنه وعد حليفه السعودي بإثبات أن شعبيته لا تزال كبيرة.

أحدثت زيارة الصدر انقساماً في المجتمع العراقي، وفي خارجه أيضاً، وبدأت الاسئلة تطرح عن أغراض زيارة المسؤولين العراقيين الى الرياض، وهي التي لم تتوقف عن دعم من ينحر رقابهم..

بعد عودة الصدر، بدأت وفود أخرى تتهيأ لزيارة المملكة، وعلى رأسها رئيس المجلس الاسلامي عمار الحكيم، الذي أسّس لتشكيل سياسي جديد أطلق عليه إسم تيار الحكمة. الحكيم لم يخف نزوعه في الانفتاح على مشيخات النفط، ويسعى لترسيخ علاقاته معها. وبرغم ما شيع عن عزوف عن القيام بزيارة الى المملكة السعودية، فإن حقيقة الأمر غير ذلك، وإنه بالفعل يستعد للقيام بتلك الزيارة، ويرى فيها انفتاحاً على الجوار العراقي، تماماً كما هو منطق جمهرة من الساسة العراقيين المقرّبين من رئيس الحكومة حيدر العبادي، ومن بينهم وزير الخارجية ابراهيم الجعفري..

عمار الحكيم.. الى السعودية.. دُرْ!

انفتاح العراق على جواره ليس القضية..بل ما وراء ذلك الإنفتاح وأغراضه، إذ ليست بالضرورة مصلحة العراق هي شيفرة الانفتاح، وهناك من يريده لتحقيق مكاسب شخصية، وفي أحسن الأحوال حزبية.

الولايات المتحدة تعمل مع حلفائها الاقليميين مثل السعودية والامارات على تشكيل خط مواز لإيران في العراق،ن خلال تفتيت التحالف الوطني المؤلف من القوى الشيعية الرئيسية، واستيعاب أجزاء وازنة منه في إطار حلف مواز يشارك فيه العبادي والصدر والحكيم وآخرين، ليكون جاهزاً كمنافس انتخابي يخلل موازين القوى المحلية ويكسر احتكار القوى القريبة من إيران ومحورها..

السعودية لديها مشروع في العراق، وهو ما يفتقر اليه الساسة العراقيون الذين بدوا وكأنهم مجرد طرف متنازع عليه، أي طرف منفعل وليس فاعل في المعادلة الآقليمية أو الدولية.

مشروع السعودية في العراق معروف، وهو اختراقه وصولاً الى تعطيل مفاعيل الدور الايراني فيه والتحكم في المعادلة الداخلية، عبر إعادة تشكيل الخارطة الاجتماعية، وتغيير بنية المجتمع العراقي.

في مقالة عثمان المختار المنشورة في (العربي الجديد)، بتاريخ 31 أغسطس الي ما يحمل من إشارات ذات دلالة على طبيعة التحرّك السعودي في الساحة العراقية في المرحلة المقبلة. ينقل المختار عن مسؤولين عراقيين عراقيين في بغداد أن ما لا يقل عن 50 زعيماً قبلياً، غالبيتهم من عشائر جنوب ووسط العراق، تلقوا دعوات لزيارة السعودية، ولقاء مسؤولين وشخصيات قبلية واجتماعية ودينية هناك، ضمن ما أطلق عليه «تعزيز العلاقات الأخوية»، وذلك بالتزامن مع الكشف عن تقديم السلطات السعودية منحاً مالية لعدد من وسائل الإعلام المحلية العراقية، بينها قناة فضائية تحظى بتأثير واسع داخل الشارع العراقي.

نقل المختار تصريحاً لعضو مجلس عشائر بغداد، الشيخ مالك الخزعلي قوله إن «دعوات سعودية وصلت أخيراً إلى عدد كبير من زعماء العشائر لزيارة المملكة. نرحب بذلك، لكن طبيعة انتقاء الشخصيات غير صحيحة، ويبدو أنها ناجمة عن جهل القائم على هذه الدعوات» وفقاً لقوله. وأضاف «تم توجيه دعوات إلى شخصيات خلافية لا تحظى بإجماع المشيخة داخل العشيرة ذاتها، وتم إهمال شيوخ آخرين، وتم إرسال دعوة إلى شيخ فخذ (فرع من العشيرة) وأهمل شيخ عموم العشيرة بذاته، وتكرر ذلك في أكثر من عشيرة»، مشيراً إلى «دعوات وجهت إلى شيوخ من محافظات البصرة وبابل والنجف وذي قار والمثنى والقادسية، فضلاً عن بغداد وديالى والأنبار وصلاح الدين». وأعلن الخزعلي أن «الدعوة مفتوحة»، لكنه أعرب عن اعتقاده بأنها قد تؤجل لما بعد عطلة عيد الأضحى، مضيفاً إن «الدعوة تفسر من قبلنا على أنها لإذابة الجليد الطائفي وتطبيع العلاقات بشكل أكبر ضمن نهج جديد للسعودية مع العراق».

ابو مهدي المهندس: لا أحد يستطيع حلّ الحشد الشعبي

الغريب، وبحسب المختار، أن مسؤولاً بارزاً في الحكومة قال إن «الدعوات السعودية لزعماء العشائر العراقية تمت بعلم من الحكومة، وهناك فئات أخرى وجهت لها دعوات، مثل رجال الأعمال العراقيين ورجال الدين الذين يتواجدون حالياً في مكة بدعوة رسمية، وعددهم نحو 200 رجل دين من فئة خطباء مساجد وحسينيات وطلاب علم ومدرسين في الحوزة العلمية في النجف». ووفقاً للمسؤول فإن «دعوة السلطات السعودية أخيراً لعلماء المساجد وخطباء المنابر بعدم الدعاء على ما يسمونه الرافضة والتحريض عليهم تعتبر خطوة إيجابية ممتازة، وبداية تغيير كبير في العلاقات بين البلدين» على حد وصفه. وتوقع أن تتم زيارات «لمسؤولين سعوديين على مستوى رفيع المستوى إلى العراق نهاية سبتمبر أو أكتوبر المقبل».

ينقل المختار أيضاً عن مصادر إعلامية عراقية في بغداد «إن خمس وسائل إعلام عراقية محلية تلقت هدايا مالية من السعودية، لتطوير ما وصفته المصادر بالخطاب الإعلامي الإيجابي والهادف..». وقال أكثر من مصدر مطلع إنه سمح لإحدى وسائل الإعلام، وهي محطة فضائية عراقية ذائعة الصيت، للمرة الأولى، بتغطية مناسك الحج لهذا العام، عبر بث مباشر من مكة، وإجراء لقاءات مع الحجاج العراقيين.

الجدير بالذكر أن القانون العراقي الخاص بتنظيم وسائل الاعلام لعام 2005 يمنع تلقي أي مؤسسة إعلامية مبالغ مالية خارجية من دون موافقة حكومية.

على أية حال، لا يمكن النظر الى الحماسة العالية من الجانب السعودي للتحرّك باندفاعة غير مسبوقة في العراق على أنها تعبير عن سياسة الانفتاح، دون النظر الى الأبعاد الاستراتيجية الأخرى، أي لا يمكن التعامل معها معزولة عن التنافس المحتدم مع ايران، وهي التي تعتبرها محتلة لأربعة عواصم عربية من بينها بغداد، التي تعمل السعودية على الوصول اليها. الجدير بالذكر أن سعد الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية الحالية، نقل رسالة في عهد الملك عبد الله الى رئيس الحكومة السابق نوري المالكي مفادها أن سيطرة المالكي على بغداد وسيطرة بشار الأسد على دمشق غير مقبول، ولا بد من أن انتزاع إحداها.

في عهد ترامب، السعودية نشطت ضمن مشروع أميركي لمنافسة إيران، صاحبة النفوذ الأكبر في العراق. وإن المرحلة المقبلة سوف تشهد تحركاً دبلوماسياً نشطاً بين الرياض وبغداد، وإن وتيرة التحرك تتسارع كلما اقترب موعد الانتخابات التشريعية المقبلة، والمرشحة لأن تكون فاصلة بكل مافي الكلمة من معنى..

سوف يبدأ المال السياسي بالعمل مجدداً في العراق، بعد أن توقف في الانتخابات ما قبل الأخيرة والتي أنفقت فيها السعودية بلغت 700 مليون دولار.

اليوم وبعد تحرير الموصل وتلعفر وبدء تحرير قرى ومواقع في الأنبار، بدأت الدعوات تسمع بضرورة الدخول على خط النفوذ الإيراني، بعد انتصار الحشد الشعبي الحليف لإيران. في منتصف أغسطس الماضي نقلت (نيويورك تايمز) عن نائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس قوله بأنه لن تكون هناك أي قوة قادرة على حل الحشد الشعبي، ولفتت الى ما قاله مسؤول إيراني بأن بلاده سوف تسعى الى حماية مصالحها في العراق لسنوات قادمة. إذن هو صراع النفوذ على الساحة العراقية.

الصفحة السابقة