الملك سلمان في موسكو.. التقاء المصالح والأخطار

عمرالمالكي

ظروف الزيارة المؤجلة منذ 2015، نضجت، وبات بإمكان الرياض وموسكو ترجمة «النوايا» الى «اتفاقيات». معطيات جمّة تؤكد فصل المسارين: السياسي والاقتصادي، برغم من تأثير كل منهما على الآخر. في الاقتصاد، أصبح كل شيء قيد التفاهم السعودي الروسي. لم يكن ذلك ممكناً دون تغييرات جيوبوليتيكية فارقة في منطقة الشرق الأوسط.

زيارة الملك سلمان في هذا التوقيت تنطوي على إقرار بالدور الحيوي للروس في منطقة الشرق الأوسط سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً. ذلك ان شبكة التحالفات التي أقامها الروس في المنطقة، فرضت واقعاً جيواستراتيجياً لا يمكن تجاوزه. الاتفاق الأميركي الروسي، في المنطقة يبطن، هو الآخر، إقراراً أميركياً بالدور الروسي الحيوي في معادلات المنطقة، ان لم يكن اعترافاً ـ بنحو ما ـ بهزيمة المشروع الامريكي.

حاجة السعودية الى التنسيق مع روسيا يشمل جملة من الملفات: النفط، التعاون التجاري في مجال الصناعة العسكرية، الطاقة النووية، الاستثمارات في البنية التحتية.

في المواقف السياسية، بحسب خطاب الملك سلمان أمام بوتين، أن الرياض لا تزال تتمسك، في الظاهر، بمواقفها السابقة: في اليمن، تأكيد على الحل السياسي استناداً الى المبادرة الخليجية والقرار الدولي 2216؛ وفي الازمة السورية على جنيف ـ 1 وقرار مجلس الأمن الدولي 2254؛ و حول إيران يعيد الملك سلمان التأكيد على المطالبة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.

قد تومىء تصريحات وزير الخارجية السعودية عادل الجبير في المؤتمر الصحافي مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، في موسكو في 5 اكتوبر 2017 الى تطابق أو على الأقل تقارب في وجهات النظر حيال ملفات المنطقة، على الأٌقل في الأزمة السورية من خلال التأكيد على دور الرياض في توحيد صفوف المعارضة المعتدلة، والمشاركة الفاعلة في مؤتمر آستانا في 30 اكتوبر الجاري. وعليه، قد يكون مصير الأسد من الملفات الخلافية المؤجّلة.

وفي موقف لافت، وجّه لافروف نقداً غير مباشر للايديولوجية المشرعنة للنظام السعودي، أي الوهابية، إذ ربط بين محاربة الارهاب ومحاربة الايديولوجية المتشددّة المسؤولة عنه.

في خلاصة أولية وإجمالية، فإن روسيا، في الحقبة السوفييتية، كانت أول من زرع وهي اليوم آخر من حصد، وقد يصدق المثل: طبق الانتقام يؤكل بارداً.




(1)

البداية المأزومة وعبء التاريخ

من المفارقات التاريخية، أن الاتحاد السوفييتي كان أول من اعترف بدولة إبن سعود في 19 فبراير 1926، وكان يطلق عليها حينذاك «مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها». ولعل السبب في اعتراف الاتحاد السوفييتي هو وجود ممثلية سابقة له في جدّة، قبل احتلال عبد العزيز الحجاز في 1926. وقد سعى عبد العزيز التقرّب من السوفييت في ذلك الوقت لأسباب إقتصادية، وأوفد نجله، الأمير فيصل، رئيس دائرة الشؤون الخارجية آنذاك، الذي زار موسكو لمدة 15 يوماً في الفترة ما بين 28 مايو ـ 13 يونيو 1932، أي قبل شهور قلائل من الإعلان الرسمي للمملكة السعودية (21 سبتمبر 1932)، وعقد صفقة شراء مادة الكيروسين بدفع مؤجّل، وكان برفقته السفير السوفييتي في جدّة عبد الكريم عبد الرؤوف حكيموف (القنصل السابق في مدينة مشهد في ايران العام 1921)، والذي عيّن لاحقاً سفيراً في العام 1924 في جدّة.

 
الأمير فيصل في موسكو 1932

في العام 1929 نقل حكيموف الى صنعاء تحت حكم الامام يحيى حميد الدين، ثم عاد في العام 1934 إلى موسكو لاستكمال دراساته العليا، وفي العام التالي طلب منه التوجّه الى المملكة السعودية، ولكن في العام 1936 أستدعي على عجل مع البعثة الدبلوماسية السوفييتية الى موسكو، وفي شتاء العام 1937 أقتيد الى سجون الاستخبارات السوفييتيه كي جبي بي في الحقبة الستالينية، وجرى إعدامه لاحقاً، بتهمة «التخابر مع جهات أجنبية» وأنه «جاسوس لدولة معادية»، بحسب أرملة حكيموف، خديجة. وتذكر أرملة حكيموف أن من بين من كان يتردد على السفارة السوفييتية المستشار الانجليزي جون فيلبي، وتذكر بعض الوثائق أن السفارة كانت تخضع للمراقبة.

وكان فيصل طلب مساعدات اقتصادية من موسكو، ولكن الرئيس السوفييتي جوزف ستالين كان منكبّاً على محاربة المجاعة المتفاقمة في أرجاء الاتحاد، إلى جانب طموحه المستبد نحو الإنتقال بدولته الاتحادية كيما تصبح قوة صناعية كبيرة، فرفض طلب فيصل، في سياق رؤية سوفييتية حينذاك تقوم على غياب أفق في العلاقة مع السعودية، تماماً كما هي الرؤية السائدة حينذاك لدى الأميركيين الذين أحجموا أكثر من مرة عن فكرة التنقيب عن النفط لولا تدخّل المستشار الانجليزي للملك عبد العزيز جون فيلبي (والد الجاسوس الروسي كيم فيلبي)، لدى الشركات النفطية العالمية. في النتائج، تم استدعاء السفير السوفييتي في السعودية حكيموف في 1936، ثم أعدم لاحقاً بتهمة التجسس لصالح دولة معادية وأسدل الستار على العلاقة بين موسكو والرياض حتى عام 1990.

قد يبدو مفيداً الاشارة الى أن حكيموف عكف على دراسة الأوضاع الاقتصادية للمملكة السعودية وأراد تقديم المساعدة لها، وحاول إقناع القيادة السوفييتية بذلك، ولكن أزمة المجاعة المتفاقمة أذهلت موسكو عن استغلال حاجة المملكة الناشئة لناحية تطوير العلاقة معها..وبحسب رواية أرملة حكيموف، فإن معظم الأبحاث والدراسات التي وضعها حكيموف حول الدولة السعودية الفتية لا تزال محفوظة في الخارجية السوفييتية، وتعتقد أنها لاتزال تحتفظ بقوتها وعمقها حتى الآن.. بحسب مقابلة خديجة، أرملة حكيموف مع مجلة (المجلة) السعودية.

 
خديجة حاكيموف ولقاء مع مجلة المجلة

انهمك حكيموف في اعداد مسودة مشروع التعاون المشترك بين موسكو والرياض، ولكن التحوّلات الكبرى التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وقرار عبد العزيز بعد لقاء روزفلت في فبراير 1945 بالدخول في تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، أوصد أبواب التعاون والتعامل بين الطرفين، وتحوّلت السعودية الى رأس حربة ضد المعسكر الشيوعي في منطقة الشرق الأوسط، وبدأت في تطوير خطاب إسلامي، يكافح الشيوعية، وليس الاستعمار، كما جاء في مقالة سيد قطب (إسلام أمريكاني) في يونيو 1952. وبعد الاعلان عن مشروع إيزنهاور في 5 يناير سنة 1957، تحوّلت السعودية الى جبهة أميركية متقدّمة في مواجهة المعسكر الشيوعي في الشرق الأوسط.

وفي مرحلة الحرب الباردة الممتدة من 1947 ـ 1989 تماهت الرياض تماماً مع القطب الأميركي ضد القطب السوفييتي في الشرق الأوسط، وكانت للرياض أدوار حيوية في تأجيج مشاريع الكراهية ضد الشيوعية والمعسكر الشرقي عموماً، وموّلت الحروب الأميركية القذرة في أمريكا اللاتينية، والقارة السوداء. في حقيقىة الأمر، كانت السعودية تخوض حرباً شاملة ضد الاتحاد السوفييتي، تجمع الجانب الإيديولوجي، مع الاقتصادي، والسياسي، والأمني والاستخباري، وأخيراً العسكري بإشعال حرب ضد القوات السوفييتية في أفغانستان في 1979، ورصدت السعودية موازنة ضخمة لتمويل الحرب، قدّرت بنحو 40 مليار دولار، وفتحت أبواب «الجهاد» ضد «الالحاد» الشيوعي في أفغانستان، تحت رعاية وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي آي أيه.

في المقابل، كان الدعم السوفييتي لأنظمة ماركسية في أثيوبيا، اليمن الجنوبي، وأفغانستان، يستهدف في نهاية المطاف تطويق المملكة السعودية، وصولاً الى إسقاط العائلة المالكة الحليفة للولايات المتحدة.

وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي في العام 1989، بدا أن صفحة جديدة على وشك أن تُفتح في العلاقة السعودية الروسية. وفي بادرة إيجابية من الجانب الروسي، ضمن سياسة بيرويسترويكا (التفكير الجديد) التي انتهجتها موسكو في عهد الرئيس ميخائيل جورباتشوف، ترجمت في مساعي عضو مجلس الرئاسة، ومجلس الأمن القومي لروسيا، يفغيني بريماكوف، وزير الخارجية لاحقاً، لإقناع الرئيس العراقي صدام حسين بسحب قواته من الكويت، التي دخلتها في 2 أغسطس 1990.

 
جون فيلبي هل كان يتجسس على السفارة السوفيتية في جدة؟

في عقد التسعينيات، كانت العلاقات السعودية الروسية فاترة يتخللها بعض التوتر، وكان لكل من موسكو والرياض مبرّره في الخصومة مع الآخر. بالنسبة للسعودية، كان المبرر يتمحوّر حول صفقات بيع السلاح الروسي الى طهران ودعم برنامج الطاقة النووية الايرانية (وسط مخاوف من احتمالية تطوّره لأغراض عسكرية). في هذا الصدّد، تذكر صحيفة (كوميرسانت) الروسية في 15 يوليو 2008 بأن السعودية عرضت على الروس شراء أسلحة بقيمة 2.4 مليار دولار في مقابل وقف تعاون موسكو مع طهران. وبرغم من نفي الناطق باسم رئيس الوزراء الروسي، حينذاك، فلاديمير بوتين صحّة التقرير، إلا أن وسائل الاعلام الروسي ومسؤولين روس تحدّثوا في زيارات أخرى لمسؤولين سعوديين إلى روسيا عن العرض السعودي المتكرّر في السر والعلن.

لناحية الجانب الروسي، فإن المسؤلين والخبراء اتهموا بصورة علنية الرياض بدعم المتمرّدين الشيشانيين والعمل على نشر «الوهابية» بين المسلمين في روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة. وبحسب تقارير عديدة، تورّطت السعودية في الحرب الروسية الشيشانية (1994 ـ 1996)، حيث انتقل قسم وازن من الأفغان العرب الى الشيشان، وبرز من المقاتلين السعوديين من تولوا مراكز قيادية من بينهم أبو الخطاب، (أسمه الحقيقي سامر بن صالح بن عبد الله السويلم)، واغتيل برسالة مسمومة في 20 مارس سنة 2002 بتخطيط من الاستخبارات الروسية، وأبو الوليد، (أسمه الحقيقي عبد العزيز بن سعيد بن علي الغامدي)، الذي قرر نقل العمليات المسلحة الى داخل الاراضي الروسية، وقضى في مواجهات مسلحة مع القوات الروسية في 19 إبريل 2004.

تبنّت السعودية سياسة واضحة في التدخل في الشأن الشيشاني عبر توظيف حملات الاغاثة كبوابة للنفوذ، وأعلنت السعودية في اجتماع وزاري برئاسة الملك فهد (برغم إصابته بجلطة دماغية في صيف 1996)، في 27 ديسمبر 1999 عن إرسال طائرتين محمّلتين بمواد إغاثية لمسلمي الشيشان، الذين يتعرضون «للقتل والطرد الجماعي» بحسب البيان. ونظّم التلفزيون السعودي قبيل ذلك حملة تبرعات لمسلمي الشيشان، وتبرع الملك فهد بخمسة ملايين ريال. وتتّهم المملكة السعودية روسيا «بالتظاهر بالجهل فيما يخص المواثيق الدولية لشن حربها ضد الشيشانيين».

 
حرب سعودية ضد «الشيوعية» في افغانستان

وفي 16 مايو 2001 قام شخصان من أصل شيشاني باختطاف طائرة من طراز توبولوف 154 تابعة لشركة طيران فنوكوفي الروسية بعد قليل من اقلاعها من اسطنبول في رحلة إلى موسكو واجبارها على الهبوط في مطار المدينة المنورة. وقال ألكسندر كليموف الرئيس التنفيذي لشركة فنوكوفو ان خاطفي الطائرة طلبا «إنهاء حملة روسيا العسكرية في الشيشان». وبرغم من نفي المتمرّدين الشيشانيين أي علاقة لهم باختطاف الطائرة، فإن السلطات الروسية وضعت عملية الاختطاف ووجهة الطائرة المختطفة في سياق الحملة العسكرية الثانية في الشيشان. وأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتشكيل فريق من مسؤولين كبار لمواجهة الأزمة، وأعرب بوتين «عن تأييده اجراء مفاوضات قصد انهاء عملية خطف الطائرة الروسية..».

وبرغم من مطالبة بوتين الجانب السعودي بتسليم الخاطفين الا أن الأمير نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية آنذاك، قال بأن مصير الخاطفين «ستحدده السلطات السعودية»، فيما قال الجهاز الاعلامي التابع للرئيس الشيشاني أصلان مسعدوف أن خاطفي الطائرة الروسية «يجب أن يعاقبوا طبقاً للشريعة الاسلايمة» وأن لا يتم تسليمهم الى موسكو»، وحمّلت الرئاسة الشيشانية الرئيس بوتين «مسؤولية خطف الطائرة باعتبار أن «الجرائم التي ارتكبتها القوات الروسية في الشيشان دفعت الشيشانيين الى ارتكاب هذه الأعمال» بحسب صحيفة (الشرق الأوسط في 18 مارس 2001)..

تجدر الإشارة الى أن الزخم الداخلي نحو أسلمة الحركة الانفصالية الشيشانية لم يكن نابعاً من الشعب الشيشاني بشكل عام، بل من مجموعة من أمراء الحرب والسياسيين الذين حصلوا على مناصب بارزة في الشيشان بسبب الحرب. وشملت هذه المجموعة شامل باساييف (ب .1965)، سلمان راديف (1969 - 2002)، أربي (1973 - 2001)، موفسار باراييف (1979 - 2002)، موفلادي أودوغوف (b.1962) و سليم خان يانداربييف (1953 - 2004). وقد خضع هؤلاء الأفراد لعملية التطرف/الأسلمة خلال الحرب الأولى.

وكان أودوغوف قد ذكر علناً ان الشيشانيين يمكنهم استخدام المجاهدين الافغان في معركتهم ضد موسكو. وهناك دلائل تشير إلى أن بعض الدوائر الوهابية في السعودية اختارت أودوغوف، مع إسلام خاليموف، كدعاة لأيديولوجيتهم في الشيشان خلال الحرب الأولى، وأن المال عبر المصادر المالية السعودية كان يتم توجيهه إلى أودوغوف. وكان هناك أيضا أنباء مؤكّدة بأن تمويل حملته الانتخابية في أول انتخابات رئاسية في عام 1997 كانت من السعودية. وبعد فرارهم من الشيشان في عام 1999، سافر أودوغوف بصورة متكرّرة إلى السعودية ومصر وقيل أنه تلقى أموالاً طائلة من البلدان العربية، بحسب جولي ويلهيمسين في بحثها حول أسلمة الحركة الانفصالية الشيشانية.

 
سامر السويلم (خطاب) في الشيشان: تمويل سعودي للحرب

تنبّه الروس، وفيلادمير بوتين على وجه الخصوص الذي كان يتولى الاشراف على جهاز الاستخبارات الروسية، إلى أن ثمة مشاركة سعودية فاعلة بالسلاح، والأفراد، والأفكار في الحرب الشيشانية الأولى والثانية، الأمر الذي جعل نعت «وهابي» مكافئاً للمتطرف الاسلامي.

ما يلزم إلفات الانتباه إليه، أن الانخراط السعودي في الحرب الشيشانية لم يكن مصمّماً لاستقلال الشيشان، أو حتى لإقامة دولة إسلامية، وقد طلب الرئيس الشيشاني الأسبق سليم خان يانداربييف (أغتيل في الدوحة، قطر، في 13 فبراير2004) مساعدة السعودية لإقامة دولة اسلامية في سبتمبر 1996، ولكن السعودية رفضت الطلب، وعارضت استقلال الشيشان عن روسيا، وتأسيس دولة إسلامية في الشيشان.

وهذا الطلب تكرّر أيضاً في حالة البوسنة والهرسك، حيت أظهرت وثائق أميركية عن مراسلة بين الملك فهد وأمين عام الأمم المتحدة الأسبق بطرس بطرس غالي يوصي فيها بعدم السماح لإقامة دولة إسلامية في البوسنة والهرسك.

على أي حال، فإن القدر ساق السعوديين لأن يكون المسؤول الروسي الذي كان يتعامل مع ملف المقاتلين السعودييين في الشيشان هو نفسه الذي يدير الدولة الروسية ويتصدى لملف العلاقات مع السعودية.

لقد أدرك بوتين الفرص والمخاطر في العلاقة مع السعودية. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وضلوع 15 سعودياً من أصل 19 انتحارياً في الهجمات، أقنع الأميركيين بأنهم والروس معاً ضحايا للإرهاب الذي تقوده السعودية. ولكن الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان 2003 أعاد خلط الأوراق، ووجدت روسيا نفسها والسعودية في جبهة واحدة، وهو ما أظهرته مواقف البلدين في زيارة عبد الله في إيلول من العام نفسه في الملف العراقي. في ذلك العام أيضاً، بدا أن خصماً مشتركاً يضرب البلدين، متمثلاً في تنظيم القاعدة، ما ساعد على مزيد من التقارب والتنسيق، الى جانب ملفات أخرى مثل النفط.

 
ولي العهد عبدالله في موسكو ولكن.. بلا فائدة!

سلسلة زيارات قام بها المسؤولون السعوديون في العقد الأول من الالفية الجديدة، بدأت بزيارة وزير الخارجية السابق سعود الفيصل الى موسكو في 12 إبريل 2002 لعرض المبادرة السعودية حول السلام في الشرق الأوسط، ثم عاد الفيصل إلى موسكو مجدداً في الثامن من مايو عام 2003 للتحضير لزيارة ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله إلى روسيا، والتي تمّت في 3 سبتمبر 2003. وكانت أول زيارة على هذا المستوى منذ تأسيس العلاقة في العام 1926، وناقش خلالها مع الجانب الروسي أغلب الموضوعات المطروحة على مائدة سلمان ـ بوتين، ومن بينها: تمديد التعاون التجاري والاقتصادي وبصورة رئيسية في مجالي النفط والغاز، ومبادرة الرئيس الروسي، ميدفيدف، بانضمام الوفد الروسي لفعاليات منظمة المؤتمر الاسلامي، والحرب ضد الارهاب الدولي، وإعادة إعمار العراق ما بعد الحرب، والتسوية في الشرق الأوسط.

ومن أبرز نتائج الزيارة، أن الطرفين نجحا في ضبط تدفق النفط في الأسواق العالمية بهدف رفع الاسعار والذي أدّى الى انعاش اقتصاد البلدين، حيث بدأت أسعار النفط بالإرتفاع وتواصلت على هذا النحو لأكثر من عقد من الزمن، أي منذ العام 2004 ـ 2014 (باستثناء بعض الهبوطات العابرة)، حين قرّرت الرياض من جانب واحد إغراق الأسواق العالمية بكميات كبيرة من النفط ما أدى الى انهيار الأسعار بهدف ضرب الاقتصادين الروسي والإيراني. ولذلك، فإن عودة عملاقي النفط للتفاهم مجدّداً حول آلية العرض والطلب تهدف الى رفع الاسعار مجدّداً، وسوف يكون لها أثر فاعل في الأسواق العالمية.




(2)

التوقيت الاستثنائي لزيارة متأخرة

لأول وهلة يمكن القول، أنها زيارة يمكن وصفها بالجدّية هذه المرة، وأنها صمّمت لتحقيق «نتائج»، وأنها تنطوي على جرعة تفاؤل مرتفعة جداً، والتوقّعات منها عالية، حسب وكالة تاس الروسية. لقد تأجّلت مراراً، وجرى الحديث عنها مراراً، وأحيط بها غيمة سوداء مرة وبيضاء أخرى من الشائعات..

في الزيارات السابقة التي قام بها المسؤولون السعوديون الى روسيا، كانت الحصيلة النهائية تأتي دائماً زهيدة، إن لم يكن مخيبة. على سبيل المثال، قام الأمير بندر بن سلطان، رئيس مجلس الأمن الوطني ورئيس الاستخبارات العامة سابقاً، بسلسلة زيارات الى روسيا، وأعقبه محمد بن سلمان، ولي ولي العهد حينذاك، وكانت تتعلق بمقايضات محدودة وذات طابع محدود (صفقة في الاقتصاد مقابل صفقة في السياسة)، أي في الترجمة العملية صفقة أسلحة مقابل التخلي عن إيران أو الأسد. وباستثناء زيارة إبن سلمان الأخيرة، في مايو 2017، التي أرست معالم مرحلة جديدة في العلاقة مع موسكو، فإن الزيارات السابقة كانت دائماً تنتهي الى الفشل.

 
بوتين: هل انت جاد هذه المرّة؟ للحرب

وحدها، زيارة الملك سلمان الأخيرة، التي وضعت في سياق استثنائي بالمعنى المطلق للكلمة، فقد وصفها وزير الخارجية سيرغي لافروف بأنها «حدث حقيقي حقاً»، فيما أسبغت المتحدثة باسم المجلس الفيدرالي فالنتينا ماتفينكو «آمالاً كبيرة» على وجود الملك في موسكو، فيما كتب القائد الشيشاني رمضان قاديروف في حسابه على الانستغرام «الحوار بين روسيا والسعودية سوف يساعد في حل النزاعات الكبرى». وبناء على مصدر دبلوماسي، فإن الزيارة الأولى لضيف رفيع المستوى في تاريخ العلاقات الثنائية قد جرى العمل عليها منذ عدّة سنوات. وقد تم اختيار جدول أعمال المفاوضات بعناية، وتمّ أخذ العامل الجيوسياسي فى الإعتبار. الآن، وفقاً للمصدر، كل شيء يعتمد على الاتصالات الشخصية لرؤساء الدول.

تحضيرات الزيارة كانت على درجة كبيرة من الأهمية، فقد جرى التمهيد لها في زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 10 سبتمبر 2017، الى السعودية التقى خلالها بالملك سلمان، وأجرى أحاديث مستفيضة مع نظيره السعودي للإتفاق على جدول أعمال زيارة الملك الى موسكو، الذي لم يحسم بصورة نهائية.

وبرغم من الحديث عن زيارة سلمان الى روسيا منذ عامين الا أن موعد الزيارة لم يقرر حتى بعد زيارة لافروف الى المملكة، ما يشي بوجود تباين في وجهات النظر حيال أجندة الزيارة وجدول أعمالها. وبرغم من الدفء الملحوظ في العلاقات، فكانت لا تزال هناك خلافات بين البلدين. من نافلة القول، فإن الشائعات التى تقول ان الملك السعودى على وشك زيارة موسكو تتداول بالفعل فى وسائل الاعلام ودوائر الخبراء تقريباً منذ عام 1991 عندما استأنفت روسيا والسعودية العلاقات الدبلوماسية بينهما.

وتلمح تفاصيل المؤتمر الصحافي الذي عقده لافروف والجبير في جدة في 10 سبتمبر 2017 الى أهمية وحساسية اللحظة في منطقة الشرق الأوسط والعالم. فكان لافروف والجبير يتجهان نحو زوايا حادة، في محاولة لإثبات الإجماع حتى في الأمور التي يختلفان فيها، لا سيما في المسألة السورية. وبرغم من إصرار الرياض على تغيير النظام في دمشق، ولكن ليس على الفور، في حين أن موسكو مقتنعة بأن السوريين وحدهم من يقرر ذلك. واتفق لافروف والجبير على إقامة مناطق لتخفيف التوتر في سوريا، وتوحيد المنصات الثلاث للمعارضة السورية – الرياض والقاهرة وموسكو ـ في وفد واحد. وأكّد الجبير، بالتضامن مع نظيره الروسي، على احترام كل من السعودية وروسيا القانون الدولي، ومبدأ السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وفي الوقت نفسه، لم يخف الجبير ولافروف التباين في مقاربة الأزمة الخليجية حول قطر.

جدول أعمال زيارة سلمان شمل ملفات رئيسية مشتركة. ومما لا شك فيه أن ملف النفط كان في رأس الجدول، انطلاقاُ من الإتفاق بين بلدان أوبك في نهاية 2016، لناحية تخفيض الانتاج، والظروف المحتملة لإطالة أمده إلى ما بعد عام 2018.

 
لافروف والجبير: خضوع سعودي في أزمة سوريا

في ظروف الزيارة، بالمقارنة مع زيارة محمد بن سلمان في 17 مايو 2015 الى موسكو حيث كانت لا تزال كفة الميدان السوري تميل لصالح الجماعات المسلّحة مثل «داعش» و»النصرة»، هو ما جعل الموقف التفاوضي السعودي قوياً، وبني عليه ترتيبات لمرحلة «ما بعد الأسد». ولكن الحال تبدّل منذ التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا. عادل الجبير كشف في يوليو 2016 من بروكسل عن تغييرات في المملكة السعودية المحافظة. فقد مدّ الجبير غصن الزيتون الى الروس، في الوقت الذي كان يصعّد اللهجة العدائية ضد ايران. وقال الجبير حرفياً: «نحن على استعداد لإعطاء روسيا حصة في الشرق الأوسط، والتي سوف تجعل من روسيا أشدّ قوة من الاتحاد السوفييتي» وأضاف «إننا نختلف على سوريا، وليس على اللعبة النهائية، ولكن كيف نصل الى هناك». وخلص الى أن «أيام الاسد معدودة، دعنا نبرم صفقة حيث نقدر على ذلك».

ولكن زيارة الملك سلمان الى موسكو تأتي في ظروف مختلفة تماماً، وبات على الجانب السعودي القبول بالمتغيّر الميداني الكبير، والقبول بمعادلة سياسية يشكّل «بقاء الأسد» ركيزة أساسية فيها. وفي الحالة السورية، تمحور الحوار حول خلق مناطق لتخفيف التوتر، وإشراك المعارضة المعتدلة في جولة المفاوضات في آستانا آواخر أكتوبر 2017. تسعى السعودية الى ضمان حصتها في التسوية السورية القادمة، بعد تفكك التحالفات السابقة التي كانت تضم تركيا وقطر، ووجود مساحات واسعة تحت سيطرة الجماعات المسلحة.

على مستوى الآمال المعقودة على نتائجها بين البلدين، كتبت صحيفة (كومرسانت) مقالة بعنوان (انتصار الملك) في 5 أكتوبر 2017 أن التوقعات من زيارة سلمان الى موسكو كانت مرتفعة للغاية، بما يشمل التعاون في مجال التقنيّة العسكرية. وبحسب الصحيفة فإن احتمالات إبرام مجموعة من عقود الأسلحة تزيد قيمتها على 3 بلايين دولار، مما يعني تسليم منظومات صواريخ مضادة للطائرات من طراز S-400 إلى الرياض، تعتمد على نتيجة المفاوضات.

وفي كل الأحوال، فإن التقارب السعودي الروسي يرمز الى تحوّل سياسات بين الطرفين. السعودية من الناحية التاريخية هي حليف للولايات المتحدة، خصم روسيا، والشريك الرئيسي في اكتشاف وانتاج الخام في المملكة. لا شك أن الطفرة الأخيرة في انتاج النفط الصخري الأميركي أوجد نقطة تحوّل، والذي يعزز فرص التعاون بين الرياض وموسكو على قاعدة الدفاع عن المصالح المشتركة ضد القادم الجديد الى السوق النفطية العالمية، والعمل معاً للتوصل الى اتفاق على تخفيض الانتاج.

وبرغم من تحسّن العلاقات بين الرياض وواشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب، فإن رهانات السعودية في مجالات النفط والسياسة تبقى من خلال بناء علاقات أوثق مع روسيا التي برزت كقوة رئيسة في الشرق الأوسط على مدى السنوات القليلة الماضية.




(3)

الاقتصاد يجمع رأسي بوتين وسلمان

يبدي الجانب الروسي تفاؤلاً في تطوير العلاقة مع السعودية الى مستوى الشراكة الاقتصادية في الحد الأدنى، فيما تسعى الرياض الى توسيع دائرة علاقاتها الخارجية مع روسيا، بعد أن أصبحت قوة فاعلة في الشرق الأوسط، وقادرة على التأثير في ملفات سوريا، والعراق، ولبنان، واليمن، كما في ملفات النفط، والأمن الاقليمي، والصراع العربي الاسرائيلي.

يعوّل الروسي كما تعكس تحليلات الصحافة الروسية على فصل جديد في العلاقة مع الرياض بعد تنصيب محمد بن سلمان ولياً للعهد، الذي يبدي حماسة في التقارب مع روسيا، وتوظيفه في الخطة الاستثمارية السعودية لمرحلة ما بعد النفط.

وقد نجحت موسكو عبر المنتدى الاقتصادي الدولي في سان بطرسبرج بين الأول والثالث من يونيو الماضي في استقطاب اهتمام المسؤولين السعوديين، حيث شارك وزير الطاقة السعودي خالد الفالح في المنتدى، بعد اسبوع من اتفاق منظمة البلدان المصدرة للبترول أوبك على تمديد تخفيضات الإنتاج لمدة تسعة أشهر بالتعاون مع منتجين من خارج المنظمة من بينهم روسيا.

 
وزير النفط في موسكو.. استثمارات في الطاقة

في زيارة الفالح الى موسكو تلقى تأكيداً من الرئيس الروسي بوتين بالتزام بلاده بسقف الانتاج المتفق عليه مع دول أوبك. في المقابل، لم يستبعد الفالح أن يعود الروس إلى المملكة باستثمارات أكبر وأعمق من مشروع (لوكسار) في صحراء الربع الخالي، الذي انتهى دون أن يبدأ الإنتاج من الغاز الطبيعي، والذي كان المشروع الوحيد المشترك بين البلدين. ونقلت وكالة (تاس) الروسية للأنباء عن الفالح قوله إن السعودية ستدرس الاستثمار في شركة «أوراسيا دريلينغ»، ومن المحتمل أن يكون لـ»أرامكو» و»أوراسيا» مشروع مشترك يقدم الخدمات النفطية.

يشمل التعاون الروسي السعودي أيضاً، إنشاء محطات للطاقة النووية المتجدّدة. وقد أرسلت شركة روساتوم الحكومية مقترحات الى الجانب السعودية لبناء معمل للطاقة النووية في السعودية، بحسب أليكسي ليخاتشيف، رئيس الشركة. وقال «اتمنى التوصّل الى اتفاق على التعاون في مجال الطاقة النووية السلمية ومجالات أخرى، مثل المصادر المتحرّكة للطاقة النووية، الصغيرة والمتوسطة الحجم، والبحث العلمي».

مجالات اقتصادية حيوية ترسم اليوم مستقبل الشراكة الروسية السعودية، من بينها الاستثمار في قطاع الطاقة، ويشمل الطاقة النووية، والسلاح. وتنتج السعودية وروسيا ما يقرب من ربع النفط العالمي، وأن الاتفاق بينهما يترك تأثيراته المباشرة على سوق النفط وعلى معدل الأسعار.

في القطاع النفطي، تتطلع الشركات الروسية للاستثمار في مجال تطوير النفط والغاز، على غرار الاتفاق الذي منح لشركة (Lukoil) في 2007، أي قبل زيارة بوتين للرياض في فبراير من العام نفسه لتطوير حقل الغاز الطبيعي في الربع الخالي، بعد فشل المفاوضات بين الرياض والشركات البترولية الغربية لناحية تطوير حقول الغاز في السعودية.

لابد من الإشارة الى أن الاستثمار السعودي في إنتاج الغاز الروسي يعكس مشروعاً مشتركا غير ناجح في وقت سابق عندما أمضت شركة لوكويل الروسية أكثر من عقد من الزمان في محاولة لتطوير رواسب الغاز في منطقة الربع الخالي.

تطمح السعودية مع اقترب موعد طرح ارمكو للاكتتاب العالم، وبحسب خالد الفالح وزير الطاقة، حيث تم تحديد منتصف 2018 لدخول القرار حيز التنفيذ، الى الاستثمار في شركات النفط الروسية، مثل (يوراسيا) بهدف تخفيض كلفة التنقيب والانتاج في أرامكو.

ويخطط صندوق الاستثمار الروسي للتوقيع على ثلاث اتفاقيات حول إنشاء صناديق جديدة مع صندوق السيادة السعودي - صندوق الاستثمار العام، وتقدر أصوله الآن بـ 183 مليار دولار، يمكن أن ينمو العام إلى 2.5 تريليون دولار بسبب الاكتتاب العام في أرامكو السعودية في منتصف 2018. ومن المقرر أن يتم إنشاء صندوق استثماري للطاقة تبلغ قيمته مليار دولار، كما إن الأطراف تعلن عن إنشاء منصة روسية - سعودية للاستثمار في التكنولوجيا الفائقة. وسيبلغ حجم استثمارات الجانب السعودي 1 مليار دولار. يذكر أن الصندوق قد وعد في يونيو 2015 باستثمار 10 مليارات دولار في المشاريع الروسية التي كانت صفقة قياسية للصناديق السيادية في العالم، وقد تم التوقيع على الاتفاقية خلال زيارة محمد بن سلمان في مايو 2017 إلى روسيا. ويجري إنشاء ثلاثة صناديق جديدة في إطار هذا المبلغ، وقد حدد البرنامج.

وكان لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد حينذاك، وقد صحب معه وفداً كبيراً من الوزراء وجرى التداول في سبل التعاون المشترك في مجالات الطاقة، والتسلح، والاستثمار في مجال الغاز. وأبرم الجانبان 6 اتفاقيات «استراتيجية»، تشمل بناء 16 مفاعلاً نووياً، وقّعها عن الجانب الروسي سيرغي كيريينكو، رئيس وكالة «روس آتوم»، وتوقّع أن تصل قيمة الاتفاقية إلى 100 مليار دولار، كما شملت شراء منظومات صواريخ (إسكندر)، وبرنامجاً للتعاون في مجال الطاقة، في ظل حاجة السعودية للتنسيق التام مع روسيا لضبط آلية العرض والطلب وصولاً الى رفع أسعار النفط، وتالياً معالجة أزمة عجز الموازنة السعودية المتراكم منذ أكثر من عامين. وعلاوة على ذلك، فإن زيارة إبن سلمان رسمت خارطة الطريق لزيارة الملك سلمان الى موسكو.

لا بد من الإشارة الى أن العلاقات التجارية بين السعودية وروسيا لم تتطوّر بشكل كبير حتى مع كثافة زيارات الأمراء السعوديين الى موسكو برغم تحسن العلاقات منذ 2005. وإن اجمالي التبادل التجاري بين البلدين حتى عام 2007 لم يتجاوز مليار دولار. وفي مارس 2007، وقّعت شركة (Stroitransgaz) عقداً بمدّ شبكة أنابيب نفط بطول 217 كم لحساب شركة أرامكو، ولكن لم تتجاوز قيمة الصفقة 100 مليون دولار. وفي يناير 2008 حصلت شركة القطارات الروسية (RZD) على صفقة بقيمة 800 مليون دولار لبناء سكة حديد بطول 520 كم في المملكة، ولكن الأخيرة ألغت الصفقة بعد شهور أربعة من التوقيع.

يلفت اليكسي مالاشينكو، رئيس معهد أبحاث «حوار الحضارات»، إلى أن التعاون الاقتصادي بين موسكو والرياض، على الرغم من الإعلانات المتكررة لتقارب المصالح، لا يزال عند مستوى منخفض. ولا يعتقد بأن البيانات الحالية ستؤدي إلى اختراق بسبب الخلافات المستمرة في السياسة الخارجية (الرياض هي حليف واشنطن الأكثر أهمية في المنطقة). ووفقاً لوزارة الخارجية الروسية، فإن التبادل التجاري الاجمالي بين روسيا والمملكة السعودية بحلول نهاية عام 2016 النصف تقريباً وصل إلى 491.7 مليون دولار فقط. وفي النصف الأول من هذا العام، بلغت قيمة التجارة 332 مليون دولار. وتبلغ حصة المملكة السعودية في التجارة الخارجية للإتحاد الروسي 0.1٪.

وعليه، فإن زيارة الملك سلمان سوف تشكّل اختباراً عملياً لمدى جدّية الرياض في العلاقة مع موسكو، خصوصاً مع منسوب التوقعات المرتفع للغاية في المجال الاقتصادي على وجه خاص. وبحسب أرتيوم مالوف، كبير المحللين في مركز سكولكوفو للأعمال التجارية، فإن سوق خدمات حقول النفط في المملكة السعودية ممثلة بشكل رئيسي من قبل الشركات الأجنبية مثل شلمبرجير، وهاليبرتون، وبيكر هيوز، وويثيرفورد.

ووفقاً لمالوف، فإن السلطات السعودية تفكّر في توطين الإنتاج، على وجه الخصوص، إذ تعتزم أرامكو السعودية شراء 70٪ من الخدمات والمعدات من خدمات حقول النفط في البلاد بحلول عام 2030. وترجح كفة روسيا في تكنولوجيا الانتاج المرتبطة بمعدات النفط والغاز، بسبب التجربة الطويلة، وكذلك التخزين، وخطوط الأنابيب. ولكن يعتقد أرتيم مالوف»فيما يتعلق بهذه الخدمات، مثل التنقيب والحفر، يبدو أن التعاون الواسع النطاق في هذه المجالات غير مرجح».




(4)

هل يدخل السلاح الروسي الى السوق السعودية؟

بعد أربعة شهور من إبرام عقود تسلح مع إدارة ترامب بقيمة 350 مليار دولار، إضافة الى 11 مليار دولار يجري استثمارها في البنية التحتية داخل الولايات المتحدة على مدى عشر سنوات، فإن زيارة الملك سلمان الى موسكو تحمل تباشير، وإن محفوفة بالشكوك، لانعاش سوق السلاح الروسي..

شركات السلاح الروسية لها حصّة، من الناحية النظرية على الأقل، في برنامج الاستثمارات في السعودية، ويجري الحديث حول افتتاح مصانع للسلاح الروسي في السعودية، من بينها تصنيع رشاش (كلاشينكوف) المشهور.

فيما يرتبط بصفقة منظومة صواريخ S-400 الروسية المتطوّرة والتي أعلن عنها في 5 أكتوبر الجاري، فإن السعودية تعد الزبون الثالث بعد الصين وتركيا. وكانت الصين وقّعت على عقد في سبتمبر 2014، فيما أبرمت تركيا في سبتمبر 2017، وسوف تبدأ بكين بالحصول على هذه الأنظمة بعد عام 2018، وأنقرة بعد عام 2019. ولن يبدأ انتاج المنظومة الخاصة بالسعودية الا بعد حصول (روزوبورونيكسورت) المعنية بتصدير الأسلحة الروسية للخارج، على الدفعة الأولى من ثمن الصفقة، وبحسب أحد المسؤولين: «لا ينبغي أن يكون هناك أي سوء فهم بيننا».

 
هل توقع السعودية صفقة اس 400 الروسية، ام مجرد وعود؟

لقاء الملك سلمان مع وزير الدفاع وفريق مبيعات الأسلحة الروس ينبىء، على ما يبدو، عن قاعدة من الثقة المتبادلة غير متينة، وكأن الفريق العسكري الروسي أراد أن يسمع كلمة الفصل في المشتريات السعودية من فم الملك مباشرة، بسبب التجارب السابقة غير المريحة للجانب الروسي، حين كان يسمع الأخير وعوداً فارغة ما تلبث أن تتبخر..

سيرغي تشيميزوف، رئيس روستيخ (أكبر شركة حكومية متخصصة في عملية تصميم وتصنيع وتصدير المنتجات الصناعية ذات التقنيات العالية والطابعين المدني والعسكري وذات الاستخدام المزدوج وتضم ما يزيد على 700 شركة)، قال بأن «المملكة وقّعت مع الشركة الروسية على اتفاق أولي في مجال التعاون العسكري التقني بقيمة 3.5 مليار دولار». السعودية اشترطت نقل التكنولوجيا العسكرية الى داخل السعودية لتمرير الصفقة، وبناء مصنع لإنتاج بعض الأسلحة الروسية فوق أراضِ سعودية. ولفت الى أن «مفعول العقد يبدأ، عملياً، إذا شاركناهم بجزء من التقنيات وبدأنا الإنتاج في أراضي المملكة. نحن نفكر في ما يمكننا مشاركته معهم. وأبسط شيء هو بناء مصنع لإنتاج الأسلحة الصغيرة، على سبيل المثال، بندقية كلاشنيكوف المعروفة.”

تشيميزوف أبدى شكوكاً في إتمام الصفقة، بناء على تجارب الصفقات السابقة بين الطرفين إذ لم يكن مطمئناً على الإطلاق «وقّعنا عقوداً بقيمة 20 مليار دولار مع المملكة السعودية قبل خمس سنوات، لكنها لم تكن مجدية لأن الصفقة لم تحرز تقدّماً أبعد من إبداء النوايا. لم تشتر الرياض أي شيء في ذلك الوقت.”

ويأتي الاتفاق المبدئي بين الرياض وموسكو عقب لقاء عقد بين الفريق أول الكسندر فومين، نائب وزير الدفاع الروسي، مع الفريق الركن فياض حامد الرويلي، نائب رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش السعودي، وإبداء المملكة اهتمامها بشراء أحدث الأسلحة الروسية. وقد جرى اللقاء على هامش مؤتمر موسكو السادس للأمن الدولي في نيسان 2017. وقال فومين خلال اللقاء إن التعاون العسكري الدولي بين البلدين شهد تكثيفاً كبيراً خلال السنوات الماضية، وأكّد أن روسيا تدرس قائمة كبيرة بأنواع الأسلحة الحديثة التي عبّرت الرياض عن الاهتمام بشرائها.

في المقابل، أكّد المسؤول الروسي تصميم وزارة الدفاع الروسية على التطوير المستدام للتعاون الثنائي بين روسيا والسعودية في المجال العسكري التقني، مضيفا أن الجانب الروسي يأمل في مواصلة الحوار المفتوح والصريح حول كافة المسائل التي يهتم بها الطرفان، بحسب (روسيا اليوم) في 24 نيسان الماضي. وتطمح السعودية للحصول على أنظمة صواريخ مضادة للدبابات المطوّرة، وقاذفات قنابل يدوية أغس ـ30، ويخطط السعوديون «لاتقان دورة كاملة من التجمع والانتاج» وصولاً الى «توطين» السلاح الروسي في الداخل السعودي، أي تصنيعه محلياً. وكان السعوديون يطالبون بعملية نقل التكنولوجيا العسكرية في إطار ابرام العقود، مما يخلق صعوبات في المفاوضات، أما اليوم فإن الاتفاقيات تجري على أعلى المستويات «وستساعد فى حل هذه القضية».

وبفعل التجارب السابقة، فإن مسؤولي الصناعة العسكرية الروسية مرتابون إزاء الطريقة السعودية في إبرام الصفقات، ولذلك أثاروا أكثر من مرة أسئلة حول التزام السعوديين بما يقولون. ويذكر المحاورون الروس لصحيفة (كومرسانت) الروسية أن مذكرة التفاهم الروسي السعودي ليست ملزمة قانوناً، ولكنهم يأملون في أن «يحتفظ الشركاء السعوديون بالإهتمام الذي أظهروه خلال الاجتماع بين الرئيس والملك»، فيما امتنع المسؤولون في «روزوبورونيكسورت» والخدمة الاتحادية للتعاون العسكري التقني عن الإدلاء بتعليقات إضافية.

مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيات رسلان بوخوف يشير إلى أن كلمة الملك سلمان أمام بوتين تستحق مفاوضات مطولة من الخبراء. وقال «هذه المرة، حتى وان كان السعوديون نفوا مرتين اتفاقات شراء الاسلحة، فاذا لم تكن هناك كارثة، فانهم سيبقون على كلامهم». ويرى أن بناء مصنع لإنتاج البنادق الهجومية من طراز كلاشينكوف أمر معقول، نظراً لأن الأسلحة الصغيرة الخفيفة للمملكة السعودية هي مادة قابلة للاستهلاك وتستفيد منها الرياض. ولكن من الصعب الحديث عن التوطين الجزئي لـ S-400 حتى في المدى الطويل الأجل، ويعتقد السيد بوخوف: «هناك تقنيات في هذا النظام لا ينبغي تقاسمها حتى مع الشركاء الأكثر ثقة»، بحسب صحيفة (كومرسانت) في 6 أكتوبر الجاري.

وقد سعت موسكو على مدى عشر سنوات لدخول سوق الأسلحة في الرياض. ونوقشت حزم العقود بقيمة 20 مليار دولار، ولكنها لم تصل أبداً إلى عقود ثابتة. وبحسب سيرجي تشيميزوف، رئيس روستيخ، فإن هذا عامل جيوسياسي: «إذا سمّينا الأشياء بأسمائها الخاصة، فإن السعوديين لعبوا معنا، لا تزوّدوا إيران بأنظمة الدفاع الجوي S-300 وسنشتري أسلحتكم - الدبابات وغيرها من المعدات،» وبالطبع لم تلتزم موسكو بشروط الرياض، وقامت بتزويد طهران بأنظمة الدفاع الجوي هذه، ما دفع السعودية للتراجع عن إتمام الصفقة.

في المفاوضات التي جرت بين بندر بن سلطان في إيلول 2008، ومسؤولين من الخدمة الفيدرالية الروسية للتعاون العسكري ومن روسوبورناكسبورت (مصدر الأسلحة الروسية)، حول شركاء أنوع من الاسلحة تشمل دبابات، وطائرات هيلوكبتر، وصواريخ ولكن كل المفاوضات انتهت الى لا شيء، تماماً كما لم يتم التوصّل الى أي اتفاق في قطاع الطاقة. أما في زيارة الملك سلمان، فإن الجانب السعودي أبدى جديّة زائدة في بناء علاقة متينة مع الجانب الروسي من خلال سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية الممهدّة لشراكة طويلة الأجل.




(5)

روسيا والعظم الايراني في البلعوم السعودي

ظلّ الجانب الروسي يتطلع لسنوات طويلة خلت نحو صفقات عسكرية مع السعودية، وكذلك فتح الأبواب أمام الشركات التجارية الروسية للعمل في المملكة النفطية. ولكن وبحسب تقارير صحافية روسية في 2008، أن الرياض تربط مشتريات السلاح الروسي بنأي موسكو عن طهران.

 
ضرب التحالف الايراني الروسي.. هدف سعودي

وكان الشرط السعودي بابتعاد موسكو عن طهران حاضراً في كل زيارات المسؤولين السعوديين الى روسيا. فقد بدا وزير الخارجية السابق سعود الفيصل واضحاً في زياته الى موسكو في فبراير 2008 بأن المملكة سوف تمنح عقود سلاح سخية لروسيا، على شرط الحد من التعاون العسكري مع ايران. وخلال زيارة الأمير بندر بن سلطان الى العاصمة الروسية في يوليو 2008، أعاد المطالب السعودية الى كل من ميدفيدف وبوتين.

وبحسب صحيفة (Kommersant) الروسية، في لقاء سعود الفيصل مع بوتين في فبراير 2008، نقل رسالة شخصية من الملك عبد الله، إذ عبّرت الرياض عن قلق إزاء تعاظم نفوذ إيران في الشرق الأوسط. واقترحت سلطات المملكة بأن على موسكو تخفيص منسوب تعاونها مع طهران. في المقابل، فإن السعودية سوف تمنح الجانب الروسي عقوداً سخية. في حقيقة الأمر، أن المطلوب من روسيا كان التخلي عن شريكها الرئيسي في الشرق الأوسط.

ولكن رئيس الوزراء الروسي حينذاك، فلاديمير بوتين، كان واضحاً بأن روسيا ترفض القيام بهذا الشيء. وكما يظهر، فإن كل طرف كان يأمل تنازل الآخر، ولم يحصل ذلك طيلة السنوات الماضية، ولكن في زيارة سلمان الى موسكو حصل التنازل من الجانب السعودي.

وبخلاف الحوارات السابقة، فإن الملف الإيراني كان له حصة في المفاوضات ولكن على قاعدة مختلفة تماماً، برغم من تفهّم القيادة الروسية لمخاوف الرياض من إيران، وبحسب مصادر صحيفة «كومرسانت» الروسية: «بالنسبة للرياض، كانت العلاقات الروسية الإيرانية عظماً في الحلق منذ عدة سنوات..»، ولذلك، أعدّت موسكو إجابة للرياض في هذا الصدد.

 
سعود الفيصل لموسكو: عقود سخية مقابل التخلي عن طهران

تجدر الاشارة الى أن الكرملين كان قد أعلن قبيل زيارة سلمان موسكو بأن التعاون مع المملكة السعودية لن يلحق أي ضرر بالعلاقات الروسية الإيرانية، لأن هذين المسارين متوازيان. وأعرب المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف عن تقدير موسكو العالي لاتصالاتها التقليدية مع الرياض. ونقلت وسائل الإعلام الروسية، عن بيسكوف قوله إن هذه العلاقات «مكتفية بذاتها»، وتمثّل مساراً مستقلاً في سياسات روسيا الخارجية، إنطلاقاً من المكانة بالغة الأهمية التي تشغلها السعودية في المنطقة والعالم العربي برمته، مشدّداً على أن العلاقات مع الرياض لن تتأثر بالاتصالات الروسية الإيرانية.

وتتعاون موسكو وطهران بصوّرة وثيقة وفعّالة في القضية السورية، باعتبارهما ضامنين للهدنة، التي دخلت حيز النفاذ في ديسمبر 2016، وأيضاً في تنسيق الحوار بين السوريين في محادثات أستانا. بطبيعة الحال، فإن السعودية تسعى، بكل ما في وسعها، إلى استبعاد طهران من التسوية السياسية السورية.




خلاصة

أظهر الطرفان السعودي والروسي حماسة فائقة لناحية بلوغ العلاقات الثنائية مستوى جديداً، ولا شك أن المشتركات مصالح وأخطاراً تجعل التقارب بين الرياض وموسكو شبه حتمي. على خلاف العهود السابقة، فإن كثافة الزيارات السعودية الى موسكو في غضون العامين الأخيرين تنبىء عن رغبة جديّة في بناء شراكة اقتصادية وعسكرية مع روسيا.

قد لا تتفق موسكو والرياض في عدد من الملفات السياسية في المنطقة، وعلى رأسها سوريا وإيران، وإلى حد ما قطر، ولكن هي تباينات قابلة للتجميد، أو حتى التجاوز، في مقابل مصالح اقتصادية واستراتيجية حيوية وعاجلة.

في نهاية المطاف، إن فصلاً جديداً ومفصلياً قد بدأ في العلاقات السعودية الروسية، يبدأ في الاقتصاد وقد لا ينتهي بالسياسة، ولكن ذلك كله مرهون بالمتغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط.

الصفحة السابقة