الوهابية تتناسل.. سلالات التكفير

هل أنجب «داعش» وحشه المُطوَّر؟

القسم الثاني

سعدالشريف

في الوقت الذي يتوقع فيه كثير من الباحثين نهاية لوجود داعش كدولة وربما كتنظيم، سواء في العراق أو سوريا.. وفيما يتراجع فيه التنظيم في بلدان عديدة أفريقية وآسيوية.. يحذر باحثون آخرون، وبينهم سعوديون، من حقيقة أن فكر داعش باق، وأنه قادر على انتاج نسخة جديدة مطوّرة، وأن الفكر الداعشي ـ الوهابي في أصله ـ هو منبع الشرور، وأنه قد خرّج على الدوام أجيالاً من المقاتلين التكفيريين، بنسخ ومسميات مختلفة.

لا ريب أن منسوب العنف لدى "داعش" لا يضاهيه أي تنظيم آخر، فهو يستعيد ما كان عليه "إخوان من طاع الله" في عهد محمد بن عبد الوهاب، ولاحقاً في عهد مؤسس الدولة السعودية عبد العزيز آل سعود. لقد أخرج "داعش" في عنفيته كل شرور الكون، وفعل كل ما يخطر في بال أشد المجرمين ولعاً بالدم، وجعل من الخيال البشري في عالم العنف حقيقة. وعليه، فإن "داعش" يمثّل أقصى ما يمكن أن يصل اليه جنون العنف. الاختلاف بين "داعش" وبين أي جيل جديد متطوّر يكمن في التصوّرات التيولوجية وما يترتب عليها من أحكام، لا سيما تلك التي تنطوي على تصنيف عقدي (الكفر بدرجاته، الايمان بأطواره، والشرك بمستوياته..).

 
كتاب التوحيد لابن عبدالوهاب: منهج التعليم الداعشي

كان الاعتقاد الشائع بأن داعش تمثل ذروة سنام الوهابية التاريخية، وخاتمة السلالات المتناسلة من جوفها، ولكن بدا واقع الحال غير ذلك، بل يؤكّد أن صراع السلالات هو القابلة التي تجعل من الوهابية مؤهّلة دائماً لإنجاب الأضداد، أي أنسال تزعم كل واحدة منها أنها الأقرب الى روح الوهابية الأولى.

وليس من قبيل المصادفة البته، أن صراع الأنسال يدور حول (من يكفّر أكثر)، ليجعل من ذلك مصدر مشروعية لوجوده، وتوحشّه، وانتشاره. لكن في الوقت الذي يصل فيه نسل وهابي الى ذروة تمدّده المكاني والبشري، تبدأ لحظة انشطاره من الداخل.

ما يجري وما هو متوقع إذن لمرحلة ما بعد داعش، ليس نتاجاً خارج الفضاء العقدي الذي أطلق فيه محمد بن عبد الوهاب تصوّراته الأولى عن الدين، والكون، والإنسان.. وهي تصوّرات قدّر لها أن تكون المرجعية الفكرية ومصدر الإلهام لأجيال متعاقبة. فالوهابية أنتجت أجيالها او نسخها بتاريخ صلاحية محدّدة، حيث يولد جيل وهابي متطرّف من رحم جيل آخر أقل تطرّفاً. فالقاعدة ترث تيار (الصحوة)، وداعش ترث القاعدة، وتيار الحازمي يرث داعش، ومن الحازمية خرجت البنعلية والحطابية، وبين هذه الأجيال تفريعات، وانزلاقات، وانسحابات للأمام أو للخلف. إن المرجعية لكل هذه الأجيال هي: الوهابية، التي يزعم كل جيل بأنه الأقرب الى روحها، والأشد إخلاصاً لتعاليمها، والأوفى لأهدافها.

في سياق التدابير الوقائية التي فرضها تنظيم «داعش» لتحصين عناصره من تأثيرات «تيار الحازمي»، ودرءاً لأي تداعيات فكرية وتنظيمية في صفوف شرعييه ومقاتليه بعد تصفية الرؤوس الحامية في التيار، صدر تعليمات مشدّدة بوقف تام لأي مناقشات في المسائل الخلافية، وعلى رأسها «تكفير الجاهل». ولكن لم تضع التعليمات نهاية للجدل المحتدم داخل «الدولة»، فقد اتسعت شقة الخلاف، ونقضت البيعة، ووقع التمرّد داخل دولة الخلافة عمودياً وأفقياً، وفرّ العشرات من كنف الخلافة، وقتل من قتل، وهرب من هرب.. وعاد البغدادي بالصوت لإثبات الوجود ولملمة دولته المنهارة.

عملت اللجان الشرعية والتربوية المعنية بالتوجيه المعنوي والإيديولوجي في «داعش» على تكثيف الدورات التعبوية وتعميم المقررات العقدية السلفية. وجرى اعتماد المقررات المخصصة للتدريس في المعسكرات، ومن أبرزها: مقرر التوحيد.

التكفير في مقررات في التوحيد

المقرّر مخصّص، في الأصل، للتدرس في المعسكرات، ومستمد من كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد جاء في مقدّمة المقرّر «وهذا مختصر في أصل الدين أعددناه للمعسكرات الشرعية». ويقتفي المقرّر المنهجية التقليدية في مقاربة تيولوجية تكاد تكون استنساخاً لنموذج موحد وضعه محمد بن عبد الوهاب، وسار عليه أتباعه من بعده. هو في التقويم الاجمالي نصّ تكفيري بامتياز، ويظهر ذلك جلياً في تعريف المفاهيم العقدية الكبرى وفق المنهجية الوهابية مثل: الإيمان، مسنوداً بالتصوّرات التي صاغها إبن تيمية في (كتاب الايمان) بالربط بين الايمان والعمل، إذ لا إيمان من دون عمل وبالعكس «ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدق بعمله، كان في الآخرة من الخاسرين» حسب إبن تيمية.

إن المدماك الأول والأساس للنظام العقدي للجماعة: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله. وصفة الكفر بالطاغوت: الاعتقاد ببطلان عبادة غير الله، وتركها، وبغضها، وتكفير أهلها، ومعاداتهم. وأمام فرادة التفسير لمفهوم الكفر بالطاغوت، يشرع الباب واسعاً لتكفير الخلائق أجمعين، على قاعدة: عبادة غير الله، وتكفير أهلها، ثم تكفير من لم يكفّرهم. ويحيل هنا الى رأي ابن القيم: «ولا يتم الإيمان إلا بمعاداة هذه الأنداد، وشدّة بغضها، وبغض أهلها، ومعاداتهم، ومحاربتهم، وبذلك أرسل الله جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، وخلق النار لأهل هذه المحبة الشركية، وخلق الجنة لمن حارب أهلها وعاداهم فيه وفي مرضاته»(1).

وعطفاً على التعريف الذي يقدّمه ابن القيم للطاغوت وهو «كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع».. فإن مصاديق الطاغوت مفتوحة على عناوين جمّة، يذكر إبن القيم صوراً منها «فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله.. أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الطاغوت ومتابعته(2).

لناحية الشيخ محمد بن عبد العزهاب، فقد أجمل الطواغيت في خمسة: الأول: الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله، الثاني: الحاكم الجائر المغيّر لأحكام الله، الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله، الرابع: الذي يدّعي علم الغيب من دون الله، الخامس: الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة. وفي ضوء هذه التنويعة من الطواغيت، يتم تقسيم العالم، فيكون لكل طاغوت أتباع، ثم يغربل الخلائق حتى لا يبقى منهم سوى ثلة تحقق في نفسها قولاً وعملاً «معنى الإيمان بالله» وذلك بأن «تعتقد أن الله هو الإله المعبود بحق وحده دون من سواه. وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله»، وأفراد هذه الثلة ليسوا سوى السائرين على طريقة إبن عبد الوهاب وأهل دعوته.

 
زعيم التيار الحازمي، حي يرزق في السعودية!

وفق هذا التصنيف، ينقسم العالم الى كفّار وهم الأغلبية الساحقة من البشر، ومؤمنين وهم فقط المتمسّكين بحذافير التفسير الحرفي لمعنى التوحيد كما يتخيله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأسهب في شرحه في (الأصول الثلاثة)، أي أصول الدين وهي: معرفة العبد ربه، وفق التصوّر الوهابي، كما يختزله التوحيد الثلاثي الأضلاع: توحيد الربوبية، والأسماء، والصفات، إذ لايصح إيمان عبد دون الاعتقاد بهذه القسمة. ثانياً: معرفة العبد دينه، أي الإسلام، بما شرّع في الكتاب والسنة، في الإعتقادات، أو الأقوال، أو الأعمال، الظاهرة أو الباطنة. ثالثاً: معرفة العبد نبيه، باعتباره الطريق الى عبادة الله في ضوء ما جاء به من الله.

وكل ما سبق هو مجرد البعد النظري لعقيدة التوحيد، ولا يكتسب صفته العملية حتى يندغم في معادلة الولاء والبراء. والأهم في الشطر الثاني: البراءة من الشرك وأهله، أي: «إظهار عداوتهم وبغضهم وتكفيرهم، وعدم مساكنتهم ومؤاكلتهم، وعدم التشبه بهم في الأقوال والأعمال». وهذا المقطع المدجج بكل العناصر التحريضية والتفجيرية لا يكتفي بمجرد القطيعة مع الآخر ـ المختلف/ غير المؤمن وفق المقاييس الوهابية، بل يمهّد لإعلان حرب عليه، كون قرار القطيعة لا يقتصر على البعدين النفسي أو حتى المادي، بل يشجّع على «العداوة» و»البغض» وهو في حد ذاته العنصر التمهيدي لإعلان القتال.

ما إن يقبل «داعش» صيغة التوحيد بأنواعه الثلاثة، فسوف يخلص، حكماً، الى تكفير البشرية قاطبة، لأن الصيغة هذه وحدها الكفيلة بتحقيق شرط الإيمان، وهي الصيغة غير الواردة في النظم العقدية لدى بقية المذاهب الاسلامية فضلاً عن الأديان السماوية الأخرى. ولذلك، فإن النتيجة الحتمية بعد شرح الأنواع الثلاثة للتوحيد هي وقوع الشرك في أغلب البشر، ويصبح النقاش حينئذ في أنواع الشرك التي وقعت فيها البشرية: أكبر وأصغر، والأكبر هو «الذنب الذي لا يغفره الله ولا يقبل معه عملاً صالحاً»، والشرك الأكبر على ثلاثة أقسام: شرك في الربوبية، كمن «يعتقد أن ثمة غير الله يتصرّف في الكون»، وشرك في الألوهية، أي «صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله»، وشرك في الأسماء والصفات «كتسمية غير الله بأسمائه التي لا تليق إلا له، أو وصف غير الله بما لا يوصف به إلا الله”.

وفي حقيقة الأمر، أن الأنواع الثلاثة من الشرك الأكبر تكاد تكون مفصّلة بالدقة على مقاس أغلبية المسلمين، وهذا ما تشترك فيه أطياف السلفية كافة التقليدية والجهادية بتنويعاتها. فثمة إجماع داخل المجال السلفي على هذه الصيغة العقدية بتفاصيلها كافة.

لناحية النوع الثاني، أي الشرك الأصغر، فإن الخلاف فيه طفيف بين أطياف السلفية الوهابية التقليدية والجهادية على السواء، وأن صاحبه تحت مشيئة الله «إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه..»، ومنه ظاهر مثل الحلف بغير الله، وخفي مثل الرياء.

وإذا كانت أنواع التوحيد تفرز العالم على أساس الاعتقاد النظري، فإن (نواقض الاسلام) ترسم عملياً الخط الفاصل بين المؤمن والكافر، بما تمثله كمقاييس، وضوابط صارمة كي ينال العبد صفة الاسلام. وما يجعل الأمر على درجة من الخطورة، أن هذا الفصل من مقرّرات التوحيد غالباً ما يبحث فقهياً في «أبواب الردّة»، وكأنه مصمّم في الأصل لمحاكمة «تفتيش عقائد» البشر والخلوص الى تكفيرهم بالجملة.

ولتسهيل الجانب الاجرائي، حدّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب عشرة نواقض لتوزيع البشر على قائمتي: المؤمنين والكفّار. وتبدأ النواقض من الشرك في العبادة، ومستوياتها: الشرك في الدعاء، والنية والقصد، والطاعة، والمحبة. والناقض الثاني: الوسائط بين العبد والخالق و»هذا الناقض من أكثر النواقض وقوعاً وأعظمها خطراً على المرء، لأن كثيراً ممن يتسمّى باسم الإسلام وهو لا يعرف الإسلام، ولا حقيقته، جعل بينه وبين الله جلّ وعلا وسائط يدعوهم لكشف الملمّات، وإغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين..”.

وفي الشروحات التيويولوجية التي يقدّمها شيوخ الوهابية ودعاتها لنواقض الاسلام، بحسب إطروحة إبن عبد الوهاب، فإن أغلب المسلمين واقع في هذا الناقض، وعليه فإنهم «كفّار بإجماع المسلمين»، بحسب النص العقدي المغلق، واجماع المسلمين هنا ليس سوى إجماع أهل الدعوة السلفية الحنبلية وامتدادها الوهابي، والا فإن القول بأجماع المسلمين عامة يناقض الحكم بتكفير أغلبهم لوقوعهم في الناقض الثالث.

ولتأمين الحكم العقدي التكفيري جاء الناقض الثالث ليكون بمثابة «برنامج حماية» للحكم، إذ نصّ على: «من لم يكفّر المشركين أو شكّ في كفرهم أو صحح مذهبهم»، وبحسب النص الوهابي التقليدي، فإن من لم يكفّر المشركين أو شكّ في كفرهم يكون كافراً، ولكن هذا النص شكّل أساس الخلاف بين «داعش» و»تيار الحازمي»، إذ بات على شرعيي «الدولة» إعادة تفسير هذا الناقض، بعد أن بات عنصر تفجير وسط شرعييه ومقاتليه.

استدراك مقصود تعمّد مصنّف «المقرر» لفت الانتباه اليه، يعالج فيه إشكالاً داخلياً محضاً، وليس تنظيرياً عقدياً داخل المذهب السلفي الوهابي. فقد جاء ما نصّه:

“مسألة من لم يكفّر الكافر أو شكّ في كفره، ينبغي ضبطها قبل إنزال الحكم على من اتصف بها، وذلك بمعرفة أنواع الكفر، ومن هم الكفار الذين يكفر من لم يكفرهم أو شكّ في كفرهم”.

 
تعلموا أمر دينكم.. رسالة داعشية في التكفير

وهذا النص لا يمكن التعامل معه مفصولاً عن الصراع الداخلي الذي عاشه التنظيم، والسبب في ذلك أن هذا الإستدراك لا يرد عادة على هذا النحو الا في سياق الردود على تهمة التكفير. في الغايات، يسعى النص الى فصل شقي الكافر وتكفير من لم يكفّره، على قاعدة أن عدم تكفير الكافر يستلزم إرتداد سهم التكفير الى الذات المكفّرة. ويتحصّن التنظيم هنا برأي علماء السلفية في قول»من لم يكفر الكافر أو شك في كفره فإنه يكفر»، وأن هذا القول لا يؤخذ على عواهنه ولا إطلاقه، بل ثمة ضوابط لهذا الناقض، من لم يفقهها «أدى به عدم فهمه إلى التسلسل في التكفير».

في نهاية المطاف، لا يخرج هذا الاستدراك عن نطاق تحصين الذات إزاء «الناقض» ـ الأزمة، الذي يوقع أتباعه في عملية دائرية، فيلف كل منهم الحبل حول عنقه، فإن لم يكفّر الكافر وقع هو في الكفر، وما يترتب عليه من متواليات عقدية.

وهنا يأتي مصنّف المقرر على النقطة المفصلية والخلافية بين «داعش» و»تيار الحازمي» والتي على أساسها سالت الدماء وانشق فريق من «الدولة»، أي «داعش». وقد جاء: «ومن لم يكفّر الكافر فقد يكون لا يعرف حاله، كمن لم يعلم أن فلاناً من الناس تلفّظ بالكفر أو فعل فعلاً مكفّراً، فهذا معذور وليس داخلاً في القاعدة، وهذا ما يمسى بجهل الحال». وهنا افترق «تيار الحازمي» عن «الدولة» على خلاف حول «تكفير الجاهل»، ولكن ليس على سبيل نفي «الدولة» التطرّف عن نفسها إزاء الآخر، من خارج المجال السلفي الوهابي، فهذا لا يختلف عليه إثنان من كل الطيف السلفي بأنواعه، ولكن الهدف من المنافحة الداعشية: تحصين قلاع «الدولة» من سهام التكفير في داخلها، أي من حركة تمرّد عقدية داخلية تهدّد التنظيم.

بكلمات أخرى، أن إعادة ضبط «الناقض الثالث» لا يعكس روح التسامح الديني، ولا نزعة الإعتدال لدى قادة «داعش» وشرعييه إزاء المذاهب الإسلامية الأخرى، فهذه الإعادة تقع خارج الجدل العقدي الوهابي، لوجود إجماع على تكفير من ليس على الطريقة الوهابية في عقيدة التوحيد باشتراطاتها المنصوصة. باختصار، إن «المقرّر» يقدّم شرحاً بخلفية دفاعية لناقض لا يزال يمثل مستنداً للمتفارقين، فأراد «داعش» حماية قاعدته من أن يطاولها «التكفير» لإحجامها عن تكفير من كفّره بعض شرعييه أو ثبت كفره، وفق المعايير الوهابية من أفراد، أو جماعات، أو دول.

بدا «داعش» متشدّداً في «قيود» التكفير بما يعكس حالة القلق التي يعيشها إزاء «تيار الحازمي» الذي يتلطى وراء نصوص تبدو في المنطق الجدلي الوهابي متينة الى القدر الذي استوجبت «استنفاراً ثقافياً داخلياً».

استنفار داعشي (من لم يكفر الكافر)!

أسهب «مقرّر في التوحيد» في تعريف أحوال الكفر والكافر، فتوقف عند معرفة حاله «وأما إذا كان يعرف حاله ـ أي حال الكافر ـ فينظر فيه بحسب الكافر الذي لم يكفّره أو شكّ في كفره أو صحح مذهبه». هنا تبدو النزعة التبرئوية نافرة، وتتعلّق حصرياً بالطرف الثاني: من لم يكفّر الكافر، فيفتح له باب الإحتمالات، بالنظر في حاله هو وليس في الكافر، والغرض النهائي واضح بتحرير الطرف الثاني من قيد الأول، أي الكافر.

وعلى أفق واسع، ينظّم المقرّر نقاشاً عقدياً لتحقيق الفصل بين الكافر ومن لم يكفّره، بتقسيم الكفّار، من حيث الجملة، الى: الأول، الكافر الأصلي (من غير المسلمين)، وهؤلاء «من لم يكفّرهم أو شكّ في كفرهم، كفر». والثاني: الكافر المنتسب إلى الإسلام، وهو «من نطق بالشهادتين، ولكنه ارتكب مكفراً يخرجه من دائرة الإسلام». وحيث لا خلاف على الأول، ولا خلاف أيضاً في شطر من الثاني، لجهة تكفير غير أتباع مذهب السلف، فإن الجدل يحتدم حول الفكرة الخلافية: الكافر وتكفير من لم يكفّره.

ويفتتح السجال من التكفير ذاته، ومن ينطبق عليهم، والموقف منهم، ويبدأ ممن تفاوت كفرهم وضوحاً وخفاءً، ومن هؤلاء، وفق التصنيف الوهابي، «من كفره واضح صريح.. كالمشركين الذين يدعون ويعبدون غير الله..». والنقاش حول من لم يكفّر هؤلاء، وهناك حالتان: «إما أن يرى فعلهم صحيحاً ويقرّهم عليه فهذا كافر مثلهم ولو لم يرتكب الشرك بنفسه، لأنه صحّح وأقرّ فعل الشرك، وهذا كفر..». والحالة الأخرى، وهي مربط الفرس في السجال الداخلي بين «داعش» وخصومه، ولا سيما «تيار الحازمي، فجاء ما نصّه: “وإما أن يقول إن فعلهم كفر وشرك، ولكن لا يكفّرهم تأولاً عذرهم بالجهل، فهذا لا يكفّر لأنه لم يصحّح أو يقرّ فعلهم ولكن عرضت له شبهة عذرهم بالجهل، فلا يكفر للشبهة التي عرضت له، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات فمن باب أولى التكفير، ومن ثبت إسلامه بيقين لا يخرج منه إلا بيقين، والـتأويل في إعذارهم بالجهل يمنع تكفيره ابتداءً حتى تبيّن له النصوص، وترفع عنه الشبهة فإن لم يكفّرهم بعد ذلك، كفر”.

يلخّص هذا النص جوهر الخلاف بين «داعش» و»تيار الحازمي»، وعلى أساسه كفّر الأخير «أبو بكر البغدادي» وأتباعه.

في تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله ونحوه، فإن مصنّف «مقرر في التوحيد» يبدي تسامحاً ويعيد استعمال آلية الاحتمالات، «أن يكون تكفيره محتملاً للشبهة»، وإن ورودها «فلا يكفّر من لم يكفرهم»، ما لم تقم الحجة، وكشفت الشبهة، «وعرف أن حكم الله فيهم هو تكفيرهم». وأيضاً، ومن باب الاحتمالات، أن يكون التكفير «مسألة اجتهادية» كحكم تارك الصلاة ونحوه، «فإن هذه المسائل لا يكفّر فيها من لم ير كفر مرتكبها بل ولا يبدع ما دام أن أصوله أصول أهل السنة والجماعة».

ماعدا ذلك، فإن «داعش» لم يتردّد في السير على الطريقة الوهابية في تكفير من أسماهم «القبوريين»، ويحيل هنا الى آراء مشايخ المذهب في تكفير من شكّ في كفرهم «أو كان جاهلاً في كفر القبوريين».

والكتاب في مجمله نسج على منوال رسائل ابن عبد الوهاب في التوحيد، والأصول الثلاثة، وكشف الشبهات(3).

في رسالة أخرى مشابهة بعنوان (تعلموا أمر دينكم) مع مزيد من التفاصيل. وذكر في الناقض الثاني، أي الكفر، تسعة أنواع، وفي التاسع منها: «من لم يكفّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فقد كفر». وكما في «مقرر في التوحيد»، فإن الرسالة تقدّم مطالعة تفصيلية من خلفية دفاعية فيما يخص «تكفير من لم يكفّر الكافر»، انطلاقاً من أن تكفير من لم يكفّر الكافر إنما يصدق على من «بلغه نص الله تعالى القطعي الدلالة على تكفير في الكتاب، أو ثبت لديه نص رسول الله (ص) على تكفيره بخبر قطعي الدلالة رغم توفّر شروط التكفير وانتفاء موانعه عنده..»(4).

وفي توضيح هذا الناقض، أورد أحوال من لم يكفّر المشركين:

1 ـ من لم يكفّر مَنْ نَصّ الوحي على تكفيره بعينه فهو كافر، كمن لم يُكفِّر إبليس أو فرعون أو هامان أو أبا جهل أو أبا طالب أو غيرهم فهذا كافر، لأنّه ردَّ على الوحي وكذّبه، ولم يخالف في هذا إلا من طمس الله بصيرته، فهذا حَكَم بخلاف حكم الله وعقّب على الله»

 
الجدل الذي شقّ داعش: تكفير من شك في كفر الكافر!

2 ـ «من لم يكفّر الكافر الأصلي كاليهودي والنصراني والمجوسي ونحوهم فهو كافر».

3 ـ “من لم يكفّر من أجمع العلماء على تكفيره بعينه فهو كافر”.

4 ـ من تبيّن له بالأدلة الشرعية كفر فلان من الناس بعينه ثم توقّف عن تكفيره فهو كافر.

يستثنى من تلك الحالات: من ارتكب ناقضاً مختلفاً فيه فلا يُكَفَّر من لم يُكَفِّره كترك الصلاة. مسألة: لا يكفّر من توقف من جهال المسلمين في ذلك إلا بعد إقامة الحجة عليه، وذلك يكون بأمرين: 1 ـ بمعرفة مقالتهم الكفرية إن كان ممن يجهل حالهم. 2ـ معرفة مناقضتها للإسلام إن كان ممن يجهل ذلك أيضاً” وترد هذه غالباً في موانع التكفير(5).

وأفردت الرسالة قسماً خاصة في نواقض الاسلام التي يعذر من وقع فيها بالجهل والتي لا يعذر فيها. وتأتي في سياق الرد على الشيخ الحازمي وأتباعه داخل «الدولة». وفي مسألة العذر بالجهل تذكر الرسالة حالات منها ما لا يعذر فيها بالجهل: أصول الدين، وهو ما ينقض المعنى الإجمالي للشهادتين كصرف عبادة محضة لغير الله، أو الانتقاص من الله عزوجل أو من رسوله (ص)، أي «ما تقوم الحجة فيه بمجرد فهم الشهادتين، فهذا لا يعذر فاعله بالجهل ولو نشأ في بادية بعيدة عن حاضرة العلم أو كان حديث عهد بجاهلية، وذلك لأن الحجّة مقامة بمجرد فهم الشهادتين، ففاعله أحد رجلين، إما أنه يفهم معنى الشهادتين وفعل ما يناقضهما، فهو مرتد، أو أنه لم يفهم معنى الشهادتين فهو لم يحقق شرط الإسلام وهو العلم بمعناها نفياً وإثباتاً، وإن كنا نحكم عليه بالردة لأنه ادعى الإنتساب للإسالم، ولذلك ففاعله لا يعذر بحال». ونحن أمام فهم خاص يراد تلبيسه صفة «الحقيقة الدينية» النهائية، أو إنزالها منزلة «الحكم الإلهي» أو «الوحي».

الثانية: المسائل الظاهرة (وهي المسائل المعلومة من الدين بالضرورة)، وهي الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة التي لا يمكن فيها الغلط من الخبر والتأويل، ولا يجوز فيها التنازع، ويعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين الإسلام، كالعلم بأنّ الله على كل شيء قدير، وأن الله سميعٌ بصير، وأن القرآن كلام الله، وكوجوب معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ووجوب التحاكم إلى شرع الله ونحو ذلك، وكوجوب الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، والزكاة من أموالهم، وحرمة الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى ذلك مما كُلِّف العباد أن يعتقدوه أو يقولوه أو يعملوا به.

فهذه لا يعذر فيها بالجهل إلإ من كان خارج مظنة العلم، وهي: «إمكان وصول العلم إليه أو وصوله إلى العلم مع إمكان الفهم بنفسه أو بوسيلة في مقدوره”، ومثاله من نشأ ببادية بعيدة عن حاضرة العلم، أو كان حديث عهدٍ بجاهلية، أو نحو ذلك.

المسائل الخفية: وهي المسائل التي قد يخفى دليلها، كمسائل في القدر، والإرجاء، والتأويل، والوعد، والوعيد، وكبعض مسائل الأسماء والصفات، كالنزول والرؤية واليدين لله، ونحو ذلك مما لا يعلمها إلا خاصة الناس دون عامتهم “فهذه يعذر بالجهل صاحبها ولا يُكَفَّرُ إلا بعد إقامة الحجّة عليه وإزالة الشبهة عنه” (6).

وفي رسالة بعنوان (التقريرات المفيدة في أهم أبواب العقيدة)، وجاء في الفصل الخاص بـ (نواقض الاسلام)، وفي الناقض الثالث منه: من لم يكفّر المشركين أو شكّ في كفرهم أو صحّح مذهبهم، وأعاد التأكيد على ما ورد في «مقرر في التوحيد»، بضرورة ضبط الناقض قبل انزال الحكم حتى لا يؤدي عدم فهمه الى التسلسل في التكفير، وأن مناط التكفير ليس الكفر مندرجاً تحت أصل الكفر بالطاغوت مطلقاً، وإن مناط كفر من لم يكفّر الكافر هو تكذيب الكتاب والسنة (7).

وقد ردّ التيار المضاد على إطروحة «داعش» بعنوان (الرد على دولة الأصنام في العراق والشام..في جعلهم مناط تكفير من لم يكفر المشركين هو التكذيب). وقد أدرك صاحب الرد الغاية من التفصيل الوارد في (التقريرات)، وهو “أن تكفير عاذر المشركين لا يكون الا بعد أن نُبيّن له النصوص الدالة على كفر من أشرك بالله فاذا ردّها حينئذ يكفر..”.

في الرد، الذي وضعه تحت عنوان (أمّا عند المسلمين)، مخرجاً بذلك «داعش» من دائرة الاسلام، وقد أخرج قبل ذلك معظم المسلمين. ويثبّت تيار الحازمي على أن «تكفير المشركين و البراءة منهم داخل في صفة الكفر بالطاغوت..»، محيلاً الى رأي للشيخ محمد بن عبد الوهاب في ربط الكفر بالطاغوت ببطلان عبادة غير الله وتركها، وبغضها، وتكفير أهلها، ومعاداتهم. ويخلص إلى أن «من لم يكفّر المشركين يكون غير محقق لصفة الكفر بالطاغوت و مخلّ بها»، ويستند في ذلك الى آراء مشايخ الوهابية مثل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب (8).

لم يغلق «داعش» باب الجدل حول «تكفير العاذر» الذي أثاره تيار الحازمي، برغم من تصفية التنظيم من قيادات شرعية وعسكرية رفيعة المستوى، وطرد العشرات من التنظيم. فالزوابع الفكرية التي أثارها التيار كانت كفيلة بإحداث زعزعة عنيفة للقواعد الشعبية ولمشروعية التنظيم. وفي النتائج، كشف السجال عن إمكانية تناسل تيارات أشد تطرّفاً، وتسلسلها، إذ إن النص التكفيري الوهابي لا يزال مفتوحاً على تفسيرات راديكالية.

كما أصدر المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية الذي يشرف عليه وزير إعلام التنظيم أبو محمد الفرقان الذي قتل في غارة لطيران التحالف الدولي في سبتمبر 2017، بيانًا منع فيه استخدام مصطلح «تكفير العاذر» معللاً ذلك بأنها عبارة «غير منضبطة»، مؤكّداً في السياق ذاته أن وجوب تكفير من لم يكفّر «المشركين العابدين لغير الله، والمنتسبين للإسلام»، كما منع التنظيم عناصره من استخدام مصطلحي «الأصل واللازم في معنى لا إله إلا الله، والكفر بالطاغوت بهذه الطريقة الجدلية» وذلك بسبب وجود منازعات بين عناصره الذين حذرهم من انتشار «التبديع والتكفير» بينهم.

 
ابو جعفر الحطاب، رئيس جهاز قضاء داعش،
وتلميذ الحازمي، كفر داعش فكفرته وأعدمته!
بيئة داعش: داوها بالتي هي الداء

ما يلفت أن «داعش» لم يتمكن من تحصين بيئته وقاعدته الشعبية من التطرّف، إذ ظهر إتجاه من داخل الدولة نفسها ينزع نحو «تكفير» من يخالف «الدولة» ويخرج عليها. وقد صدر بيان عن (اللجنة المفوضة) في (الدولة الاسلامية) في 17 مايو 2017 الى كافة الولايات والدواوين والهيئات بعنوان (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة)، وأرّخوا لدولة بكونها امتداداً لتجربة الدولة السلفية الوهابية في نجد: «وذلك حين أذن الله تعالى بظهور الدولة التي أقامها علماء الدعوة النجدية وأئمتها والذين قد أعذروا الى الله في محاربة شرك القبور ودعوا الى الله على بصيرة باللسان والسنان فألفّوا الكتب وصنّفوا وتنقلوا في البلاد ودعوا الى التوحيد والجهاد وقامت قرابتهم قرابة سبعين عاماً على هذا..».

ثم ينتقل الى تجربة «الدولة الاسلامية»: “وعلى مثل ذلك قامت الدولة الاسلامية التي قدّمت عشرات الألوف من أبنائها لمحاربة شرك الدستور المتمثّل في النظام العالمي الذي اجتمع لحربها من مشارق الأرض ومغاربها، وقد علم القاصي والداني بأن هذه الدولة تحارب لتحكيم الشريعة ونبذ القوانين الوضعية الوضيعة، وهدم القباب التي تعبد من دون الله سواء القباب التي فوق القبور أو القباب التي تعلو المجالس البرلمانية...».

يضيف: «وهذا الذي دعت إليه الدولة الاسلامية منذ بداية تأسيسها على يد الشيخ أبي مصعب الزرقاوي فكفرت بطواغيت الأرض وقوانينهم وحدودهم وشرائعهم وشعائرهم وقاتلت جميع أصناف المشركين من الرافضة والعلمانيين والديمقراطيين بعد تكفيرهم وإظهار العداوة لهم وكفرت المجادلين عليهم ولأجل هذا تُقاتِل وتُقاتَل اليوم».

الرسالة الكامنة في الفقرات: أن لا مزايدة على «داعش» في التكفير، فقد سبق أقرانه ومجايليه في مضمار التكفير، وقد كان ذلك ما أسّس له الزرقاوي منذ البداية، حين قسم البشرية الى: أهل التوحيد وأهل الشرك.

وسرد البيان أطرافاً من سيرة قادة «الدولة» في توسّلهم التكفير عقيدة وسلاحاً ضد الخصوم، في إطار نفي «التميّع العقدي» مع الآخر من غير (أهل التوحيد). كما وينقل نصاّ للمسؤول الاعلامي لتنظيم «داعش» يؤكّد فيه النزعة التكفيرية فيه كقوله: “سنكفّر المرتدين ونتبرأ منهم، ونعادي الكفّار والمشركين ونبغضهم.. فلا يسعنا موالاة الكفّار والمرتدين من المجالس العسكرية والوطنية أو الفصائل الديمقراطية.. ولا يمكننا أن نداهنهم ونسارع فيهم، فلا نكفر بشركهم، ولا نعلن لهم العداوة والبغضاء، ونظهر لهم الإخاء والمحبة والولاء، كما تفعل قاعدة الشام، جبهة الردة الخاسرة، فإن لم نظهر للكفار العداوة والبغضاء ضاع الولاء والبراء، وذهب معه الدين، واختلط الكافرون بالؤمنين». وعاد «داعش» ونأى بنفسه عما وصفها «التصريحات التي تميّع عقيدة الولاء والبراء وتدفن ملة إبراهيم ـ عليه السلام ـ بشبهات أهل الأرجاء والتجهم، وكذلك أقوال أهل الغلو الذي مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فالدولة بريئة منها، ولا يحق لأحد أن يتكلم باسمها أو ينسب اليها قولاً لم تقل به، فقلوها ما قال إمامها ومفوضيه، أو متحدثها الرسمي».

ويتعامل البيان مع صنفين من الناس:

الصنف الاول: من نسب الى الدولة أقوالاً ارجائية مخالفة لمنهجها، أو زعم أن ما يتبناه أو يقول به هو قول الدولة الاسلامية، وهؤلاء على أضرب:

1 ـ من كان يقول باسلام من لا يكفر طاغوت قومه ويزعم أنه قول الدول الاسلامية، والصحيح «هي تكفر الطواغيت ومن جادل عنهم ولم يكفرهم ولا كرامة».

2 ـ من كان يجعل تكفير المشركين مسألة خفيّة أو خلافيّة، ويضم للعمل بها قيوداً ثقيلة بحيث يعود الى تعطيل الناقض الثالث جملة وتفصيلاً، وبالتالي فلا يكفر عنده من توقف في عابد الصنم مطلقاً وبكل أحواله سواء عد فعله من قبيل الشرك أولاً إلا بعد التعريف، وكذلك لا يكفر عنده المتوقف في سباب الله تعالى الا بعد التعريف...الخ. ثم يقول: «وهذا محض افتراء بل لقد علم القاضي والداني أن الدولة الاسلامية لم تتوقف يوماً في تكفير المشركين، وأنها تجعل مسألة تكفير المشركين من أصول الدين الظاهرة والتي معرفتها تجب قبل معرفة الصلاة وسائر الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة، كما بيانها الصادر عن المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية في حكم المتوقف في تكفير المشركين في 22/8/1437هـ. وذكر حالات أخرى منها عدم تكفير المنتخبين لجهلهم بحقيقة الانتخبات وغيرها.

الصنف الثاني: من طعن في «الدولة الاسلامية» بل وكفّرها لتأثره ببدعة الخوارج والمعتزلة، فعاب بعضهم عليها أقوالاً في محض قول أهل السنة والجماعة جهلاً منه بمنهج أقوال أهل السنة، ونسب البعض الآخر اليها أقوالاً لم تقل بها أصلاً.

فمنهم: من كفّرها لأنها تقول بالتسلسل البدعي، وهذا حق وهي تجري في ذلك على مقتضى قول أهل السنة والجماعة.

ومنهم: من نسب الى الدولة لأنها تؤصّل الاسلام في ديار الردة (الكفر الطارىء).

ومنهم: من كفّرها بدعوى أنها تبيح فعل الكفر الصريح لمصلحة الحرب.

وكشف البيان: «ومنهم من انقلب على عقبيه، فنكل عن بيعته، وهرب الى ديار الكفر متذرعاً بدعوى وقوع الخطأ والتقصير والتفريط والظلم من بعض الأمراء..»، وعلّق بأن: «غاية ما يريد هؤلاء أن يسوغوا لأنفسهم الهروب من دار الاسلام الى ديار الكفر»(9).

في التقيم الاجمالي، يمثّل التعميم انتصاراً حاسماً لتيار الحازمي، الذي نجح في أن يعيد «داعش» الى مربع التكفير الأول، وأن يملي على «الدولة» اعتناق الرؤى التكفيرية التي فارق فيها التنظيم.

 
فرقة البنعلية، تُنسب الى البحريني تركي البنعلي الذي اعدمته داعش

في السياق نفسه، أصدرت اللجنة المفوضة داخل تنظيم الدولة بياناً رسمياً في أواخر يونيو 2017 موجّه الى المكاتب الشرعية في التنظيم بضرورة سحب بعض المقررات، والمناهج التي يتم تدريسها لمقاتلي التنظيم والطلاّب. ومن أبرزها: “مقرر في التوحيد، تعلموا أمر دينكم، فقه النوازل، السياسة الشرعية، التقريرات المفيدة في أهم أبواب العقيدة»، وهي التي صمّمت في الأصل لمواجهة أفكار تيار الحازمي المتطرّفة. وقد قيل حينذاك، أن البيان يعكس النفوذ الواسع الذي يتمتع به تيار الحازمي داخل «داعش»، الى درجة أنه نجح في الوصول الى اللجنة المفوّضة، برغم كونها موضع ثقة الخليفة!

وفي رد على البيان، كتب شرعي «داعش» تركي البنعلي الى اللجنة المفوضة ملاحظات على تعميم (ليهلك من هلك عن بينة...الخ)، بعد أن حقق انتشاراً واسعاً، حتى أنه كان بمثابة مستمسك بيد خصوم «داعش» من تيار الحازمي وطالبوا البغدادي «بتجديد إسلامه والتوبه من ردّته». وأن التعميم وبدلاً من أن يدرأ عن «الدولة» تهمة «التميّع»، تحوّل الى شهادة إدانة «واعطى الضوء الأخضر للغلاة ليشمتوا بالدولة الاسلامية..».

تيار البنعلي البحريني وانهيار داعش

وعاب البنعلي على أصحاب التعميم التعجّل في إخراجه الى العلن، ولم يعرض «على طلاب العلم الراسخين..». ولفت الى أن “تعاميم دولة الخلافة وبياناتها عبارة عن ردود أفعال لما يصدره الغلاة من صوتيات وكتابات”. وأنه خرج بهدف “اتقاء طيش الغلاة”. وكشف البنعلي التناقضات التي وقع فيها التعميم من بينها «القول الأول.. لأن تكفيرهم من أصل الدين..»؛ ثم جاء في تخطئة ذلك ما نصّه: «إن القول الأول متضمن لمعنى فاسد..»، برغم من أن وزير الاعلام في «الدولة» العراقي أبو محمد الفرقان يقول (بطلان القول الأول ـ أي الأصل)، ومنها “أن الدولة الاسلامية لم تتوقف يوماً في تكفير المشركين، وأنها تجعل مسألة تكفير المشركين من أصول الدين الظاهرة..”. ويرصد مواقف الزرقاوي في الإحجام عن تكفير بعض شيوخ الوهابية وأمراء آل سعود، من بينهم الملك عبد العزيز آل سعود ومشايخ الوهابية مثل: إبن باز، وابن عثيمين. ودافع عن موقف «العذر بالجهل» في مقابل القول بـ «التكفير من أصول الدين الظاهرة».

وذكّر النبعلي بمواقف قادة «داعش» من بينهم ابو محمد العدناني الذي حكم بإسلام عموم أهل السنة في العراق والشام. مع أن ذلك متعارض مع مضمون أدبيات العقيدة الوهابية التي يتبناها «داعش».

ويعتقد أغلب الناس داخل «الدولة الاسلامية»: «أن الدولة الاسلامية تكفّر كل من بخارجها»، وهي عقيدة الخوارج كما ذكر ذلك أبو الحسن الأشعري في (مقالات الاسلاميين 1/88): «وزعمت الأزارقة أن من أقام في دار الكفر فهو كافر، لا يسعه الا الخروج»، وحيث أن كل من يعيش خارج النطاق الجغرافي لتنظيم «الدولة» فهو في دار الكفر، فإن الكفر يلحق به(10).

تكشف مصادر مقرّبة من «داعش» أن تركي البنعلي البحريني، المفتي العام سابقاً، جرى تهميش دوره بعد احتلال التنظيم لمدينة «الموصل»، شأن كثير من الأجانب، وكشف مقتله عن الخلاف الحاد بين تيارين رئيسيين: تيار داعش وتيار الحازمي الذي يوصم بالبنعلي بالكفر ويحرّم الصلاة خلفه أو الترحّم عليه، وحمّله مسؤولية «تمييع» التنظيم من خلال التساهل في «التكفير» وخاصة مع الجاهل.

إن إعدام قادة تيار الشيخ أحمد بن عمر الحازمي، الذي يعيش في السعودية، واعتقال العشرات من أنصاره داخل «الدولة»، وفرار آخرين كثر خارج مناطق سيطرة الأخيرة، لم يضع نهاية للتيار، بل لحظنا من تنامي النزعة الراديكالية في التنظيم أن تيار «الحازمي» لا يزال يمثّل قوة فارقة في مفاصل «الدولة» ومؤسساتها ولا سيما في «اللجان الشرعية والإعلام». اللافت أن أربعة أعداد من مجلة «النبأ» الإسبوعية الناطقة باسم «داعش»، وكذلك وكالة «أعماق» لم تأت على نعي البنعلي، ما دفع مصادر داخل التنظيم للقول بأن المجلة خاضعة تحت سيطرة «الحازميين»(11). وإن المؤشرات تفيد بأن التصدّعات داخل «الدولة» تتسع نتيجة السجالات الايديولوجية الحادّة.

في الكلمة الصوتية لمتزعم «الدولة الاسلامية» أبو بكر البغدادي، في 28 سبتمبر 2017، والمنشورة في مجلة (النبأ) الناطقة باسم التنظيم في العدد التاسع والتسعين بتاريخ 8 محرم 1439هـ بدا البغدادي اعتذارياً أكثر منه هجومياً، فقد استعان بالسيرة النبوية لرصد قصص المحن التي عاشها الجيل الاول نتيجة ما أصاب المسلمين من تحدّيات وانكسارات عسكرية ومحن (وتوالت الاحداث في دار الهجرة وأرض الاسلام، وظل البلاء قدر تلك الطائفة المؤمنة، وكثر الوافدون والداخلون في الاسلام من غير أهل المدينة، فثبت ونجا من صبر وأخلص دينه لله، ونكص وخاب من دبه الريب وسعى في غير رضى مولاه..»، ويلفت في ذلك الى تناقص أو انسحاب أعداد من المقاتلين وكوادر «الدولة»، ويستعين بالسيرة النبوية في تفسير الوقائع الحالية وما أصاب التنظيم من خسائر: «وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يبايع الصحابة على الإٌيمان وعلى أن ينصروا دين الله، وكان يخبرهم أن الله ناصر دينه، دون أن يضرب لذلك أجلاً محدداً، أو كيفية معينة، حتى لا يربطوا النصر والخسارة بفقد أرض أو مقتل أحد من المؤمنين».

وبعد أن يروي سيرة «الدولة» من الزرقاوي مروراً بأبي عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر الى أن بدا الانكسار في التجربة «وغدا السائر في طريق الجهاد يرى عجباً من تقلّب الأحوال، ما بين صابر ثابت ومنتكس مرتكس ناكث، فتمايزت الصفوف ونفي الخبث، وظل السائرون الثابتون على الطريق..».

بدت لغة الاستغاثة واضحة في كلمة البغدادي لانقاذ مشروع دولته وهو يتلطى وراء «أهل السنة» ويخاطبهم: «فقولوا لي بربكم، ماذا جنيتم من محافل الذل وفتات الداعمين، سوى مهادنة النصيرية وتسليم دياركم، وأصبح أبناؤكم وقود حرب يشعلها الصليبي الكافر ضد دولة الاسلام، أو تظنون أنكم اليوم بمنأى من بطش النصيرية وداعميهم، كلا والله، لقد حذرناكم من قبل...». وحمل على حكومات المنطقة ووصفها بالمرتدة، وقال عن أردوغان «المرتد الإخواني التركي».

وخاطب أنصاره بتودّد لافت بالقول: «فإياكم ياقرّة العين إياكم أن يحدّث أحدكم نفسه بالنكوص أو الانهزام، أو المفاوضة أو الاستسلام، فلا يلقين أحدكم سلاحه..». وفي الوقت نفسه، يؤكد البغدادي على مخططه الاستراتيجي في دعائه آخر الكلمة: “اللهم عليك بطواغيت آل سلول، اللهم أزل ملكهم وافتح لنا ديارهم..»(12).

 
ابو محمد العدناني متحدث داعش: غموض في مقتله

وبصورة إجمالية، فإن الخطاب يعبّر عن مرحلة جديدة ينتقل اليها «داعش» بعد خسارته كثيراً من المراكز الحيوية، مثل سرت الليبية، والرمادي، وأخيراً عاصمة دولته، الموصل، فيما تتداعي بقية حصونه في بقية محافظات العراق والشام، وأيضاً بسبب الانقسام الحاد الذي شهده التنظيم على وقع السجال العقدي حول تكفير «العاذر بالجهل».

ينبّه ظهور البغدادي بعد عشرة شهور على آخر كلمة صوتية له، وبعد تطوّرين دراماتيكيين: سقوط الموصل، والسجال الايديولوجي داخل التنظيم، وبعد موجة شائعات حول مصير البغدادي نفسه، الى أن «داعش» يعيش وضعاً بالغ الصعوبة، تطلب تدخّلاً مباشراً من زعيم «الدولة»، لوضع نهاية حاسمة للخلاف الداخلي، ونفخ الروح مجدداً في جسد «الدولة» بعد الضربات القاصمة التي تلقتها.

وكان البغدادي قد بعث في 22 إبريل 2017 برسالة موجّهة الى (اللجنة المفوضة ومن ولوا أمر الإشراف عليهم من أمراء الدواوين وولاة المناطق..) يطالب فيها بالحلم والأناة مع الرعية «فسدّدوا، وقاربوا وبشروا، ولا تنفروا، وإنا لنبرأ الى الله من كل مظلمة رفعت فحجبت عنا ولم تقضى لأصحابها.. فكونوا على قدر ما أوليناكم من الثقة والأمانة وحسن الاستقامة..». وتأتي هذه الرسالة عقب موجة الإعدامات التي طالت عدداً من الشرعيين، والكوادر التابعين للحازمي، فأراد البغدادي إظهار وجه إنساني ودي لتغيير الانطباع السائد عن «الدولة» التي بدت عليه الميول المستبدة نحو العنف(13).

شكّل غياب البغدادي عن الاعلام، وعن أنصاره أيضاً، فرصة لتنامي نفوذ تيار الحازمي المنافس، واحتدام الصراع الداخلي على قاعدة إيديولوجية، وكانت عودته فارقة لحسم الصراع الذي عكسته البيانات والبيانات المضادة، الى جانب الشائعات التي راجت في الشهور الاخيرة حول مقتله، وقرّر الظهور اعلامياً وتنظيمياً بهدف إحداث تغييرات هيكلية راديكالية، فأصدر أوامره باجتثاث «الغلاة الحازميين»، بالسجن، أو القتل، أو الطرد، ما لم يعتزلوا «معتقد الخوارج».

لمزيد من التوضيح، إن انحسار هيمنة داعش على كثير من المناطق، والاختفاء القسري لكثير من قيادات «داعش»، تركا تأثيرات مباشرة على تماسك التنظيم نفسه، وقد أفادت العديد من التقارير بقيام عناصر من «داعش» بنقض البيعة للبغدادي، بسبب اختفائه، أو ربما موته، وبالتالي عدم قدرته على القيام بشئون “الدولة”.

وبعد خسائر التنظيم الفادحة في العراق وسوريا وانحصار الأرضي التي كان يسيطر عليها، قامت مجموعات بالانشقاق والهرب الى خارج نطاق سيطرة «الدولة» والمغادرة الى تركيا أو سوريا أو الانضمام الى تنظيمات أخرى، كانت منضوية فيها سابقاً في العراق مثل «جيش المجاهدين» أو «أنصار السنة» أو «الجيش الاسلامي».

واستشهد المناقضون لبيعة البغدادي برأي لابن تيمية في (منهاج السنة) يرد فيه على عقيدة الشيعة في الامام المهدي «إنَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أمَر بطاعة الأئمَّة الموجودين المعلومين، الذين لهم سلطان يَقدِرون به على سياسة الناس لا بطاعةِ معدوم ولا مجهول، ولا مَن ليس له سلطان ولا قُدرة على شيء أصلاً، فمَن نزل نفسه منزلةَ وليِّ الأمر الذي له القُدرة والسلطان على سياسة الناس، فدعا جماعةً للسمع والطاعة له، أو أعطَتْه تلك الجماعة بيعةً تسمع وتطيع له بموجبها، وولي الأمر قائمٌ ظاهر فقد حادَّ الله ورسوله، وخالف نصوصَ الشريعة”. وكون البغدادي غائباً عن الأنظار، أو لا حول له ولا قوة أو فاقد للقدرة على سياسة الناس، وعاجز ولا يستطيع أن يحمي البلاد والعباد فلا طاعة له (14).

وقد جاء في مقالة (لا ندع هذه البيعة أبداً) المنشورة في العدد (97) من صحيفة (النبأ) الاسبوعية في 23 ذي الحجة 1438هـ:

“إن إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة كانتا من أكبر الأحلام التي تراود المسلمين في كل مكان، يحدثون أنفسهم بها، ولو يبذلون أنفسهم في سبيل الله كي يروا ما يحلمون به واقعا أمامهم، أو يكون لهم على الأقل مشاركة في تحقيق ذلك.

وقد منّ الله على عباده المؤمنين بتحقيق هذه الأمنية العزيزة عليهم، فقامت الدولة الإسلامية لتحكم بشرع الله تعالى، وعادت الخلافة لتجمع كلمة المسلمين تحت لوائها، وتوافد المسلمون من كل مكان للاعتصام بجماعتها، ومبايعة إمامها، وقتال المشركين في صفوف جيشها. لقد عرف الناس كلهم، لا المسلمون فحسب، فضلا عن أمراء الدولة الإسلامية وجنودها، أن قضية إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة ستهز دول الكفر هزّاً وستدفع المشركين من كل حدب وصوب إلى أن يحتشدوا لقتالها، متحاملين على جراحهم، متناسين ما بينهم من نزاعات وصراعات وتضارب في المصالح..”.

“نحن معاشر الموحدين جنود الدولة الإسلامية، فقد بايعنا الإمام الذي وليناه أمرنا على أين يقيم فينا دين الله، ويحكم فينا شرعه، ويقود جماعة المسلمين، بما يرضي رب العالمين، ويجاهد بنا الكفار والمشركين، ويرد عادية البغاة والمفسدين، وكنا نعلم يقينا أن هذا الأمر دونه خرط القتاد، وأن تعضّنا السيوف، وتطعننا الرماح، وأن يرمينا العالم كله عن قوس واحدة، وهو ما كان، والحمد لله على كل حال”.

وختم «واسألوا الله أن يبارك لكم بيعتكم لأمير المؤمنين على إقامة الدين وقتال المشركين، فنعم البيعة هي والله، لا ندعها أبداً، ولا نقيل ولا نستقيل، حتى يحكم الله بيننا وبين القوم الكافرين..»(15).

في إطار إعادة الهيكلة، وبعد البيان الراديكالي الصادر عن «اللجنة المفوضة» سالف الذكر، قرّر البغدادي في 8 سبتمبر 2017 إعفاء رئيس اللجنة وأعضاءها، وتعيين أمير جديد عليها هو “أبو عبد الرحمن الزرقاوي” الذي كان معتقلاً بتهمة مخالفة تعميمات اللجنة المفوّضة التي تبنّت إطروحة الشيخ الحازمي في تكفير العاذر بالجهل.

 
تسلسل التكفير وزيادة جرعاته داخل داعش

وكان أبو عبد الرحمن الزرقاوي قد ألقى بياناً صوتياً، يعد سابقة، يقرّ فيه تنظيم «الدولة» بوجود حالة «من التنازع والفرقة» عاشها التنظيم في المرحلة الماضية بسبب التجاذب الحاد بين «التيار الحازمي»، والمناصرين لأطروحته في «التكفير» ولا سيما في مسألة «العذر بالجهل»، والتيار المضاد الذي مثّله الشرعي السابق تركي النبعلي قبل مقتله.

وجاءت أغلب انتقادات التنظيم للتيار الحازمي من خلال بيان صوتي ألقاه القاضي الشرعي البارز في التنظيم ابو عبد الرحمن الزرقاوي، وهو من أبرز خصوم التيار الحازمي، وتعرض للاعتقال على يد القيادات المحسوبة عليهم في الأشهر الماضية.

وفي البيان الصوتي الذي تلاه ابو عبد الرحمن الزرقاوي (ويطلق عليه أبو عبد الرحمن الشامي أيضاً)، اتهم أتباع التيار الحازمي داخل التنظيم بالارتباط بالنظام السعودي، واعتبر أن وجود مشايخهم في السعودية وإن داخل السجون، قد يكون محاولة لتلميعهم من الحكومة السعودية، في إشارة لمتزعم التيار احمد عمر الحازمي، ووصف التنظيم هذا التيار الذي تمت تصفيته، بأنصاف المتعلمين والغلاة بالتكفير و»الخوارج»، وذكّر بتكفيرهم لبعض العلماء كالنووي والعسقلاني، كما أعلن عن سلسلة إصدارات تتعلق بأحكام فقهية، أحدها عن «الخارج لديار الكفر اضطراراً»، وهي تتعلق على ما يبدو بمراجعة للموقف من خروج المدنيين من مدن التنظيم، بعد الانتقادات الشديدة التي وجهها السكان المحليون لتنظيم «الدولة»، بتعريضه حياة المدنيين للخطر خلال النزاع المسلح، وصولاً لتنفيذ إعدامات ميدانية دموية بحق النازحين من مدنهم.

وسبق للزرقاوي الذي يطلق عليه اللقب لعلاقته القديمة بمؤسس التنظيم، أن ظهر في تسجيل صوتي لجلسة نقاشية تظهر خلافاً حاداً مع شرعيين آخرين في التنظيم حول هذه المسائل، وتشير الأنباء إلى أن الشامي عين أخيراً قاضياً عاماً وعضواً في اللجنة المفوضة العليا، وهو بمثابة انتصار لجناح «البنعلي»، أي للتيار الذي كان يقوده الشرعي الأبرز للتنظيم البنعلي ومعه القحطاني والكويتي، وجميعهم أصدروا بيانات مكتوبة ومسجلة قبل مقتلهم، شرحوا فيها خلافهم مع التيار القريب من أفكار الحازمية داخل التنظيم المتعلقة بما يعرف بـ»التكفير بالسلسلة والعذر بالجهل» (16)..

وقد كشف أبو عبد الرحمن الزرقاوي عن أخطاء وقع فيها البيان السابق الصادر عن (اللجنة المفوّضة) التي خضعت تحت تأثير التيار الحازمي، قبل أن يجري عليها البغدادي تعديلاً جوهرياً بإقالة أعضائها كافة، وتطهير مؤسسات «الدولة» من عناصر التيار الحازمي، ومن بينهم قادة كبار مثل حجي عبد الناصر، الذي كان يتولى إمارة سوريا، وقد استغل فترة غياب البغدادي بدواعي المرض لتعزيز سلطانه وإفساح المجال أمام التيار الحازمي لمزيد من التوغل في الجسد التنظيمي وفي مؤسسات «الدولة»، ولا سيما في بلاد الشام. وعبد الناصر هو تركماني من بلدة تلعفر، وكان من الخصوم الشرسين للحازميين في بدايات ظهورهم سنة 2014، وكان من بين الرؤوس القيادية في التيار الحازمي الذي تمّ استبعادهم أبو مرام الجزائري الذي غادر الجزائر الى سوريا في 9 أغسطس 2014، وتدرّج في النظام المراتبي الإداري في «داعش» حتى أصبح مفتي التنظيم في سوريا. وأبو مرام متّهم لدى السلطات الرسمية في بلاده بتجنيد عناصر لحساب «داعش»(17).

ومن بين القيادات أيضاً، أبو حفص الودعاني الجزراوي (السعودي)، ولم ترد أية معلومات إضافية عنه، وأبو أسماء التونسي، وقد لعب هؤلاء، إلى جانب حجي عبد الناصر، دوراً مركزياً في إدارة عمليات وادي الفرات ودير الزور، ووجّهت لهم إتهامات بالضلوع في مقتل الشرعيين البحريني تركي البنعلي والسعودي عمر القحطاني (أبو بكر)، «بعد استدعائهم من قبل رؤوس هذا التيار ـ الحازمي ـ للتحقيق معهم في اعتراضاتهم على بيان «ليهلك من هلك عن بينة»(18).

البيان الموقع من «أبو عبدالرحمن»، أكد رسمياً ما تداوله أنصار تنظيم الدولة الإسلامية أن أبا بكر البغدادي عزل أمير اللجنة المفوضة وأعضاءها وقرّر تعيين «الزرقاوي» أميراً جديداً لها بعد أن كان سجينا بتهمة مخالفة تعميمات اللجنة المفوّضة التي تبنّت فيها ضمنياً تأصيلات الشيخ السعودي أحمد بن عمر الحازمي، كما أسلفنا.

حسابات مقرّبة من “داعش” على مواقع التواصل الاجتماعي، أعربت عن ابتهاجها لضرب تيار الحازمي، الذي كاد أن يختطف قرار «داعش» ويفرض أجندته، والعودة الى الفكرة التأسيسية لجماعة تكفيرية معيارية بعدم القبول بعذر الجاهل في مسائل «الشرك الأكبر»، والتي انتهت الى مقتل الشرعي العام السابق تركي البنعلي، والمسؤول الاعلامي للتنظيم أبو محمد العدناني في ظروف غامضة، وفق ترويجات خصوم التيار الحازمي في «الدولة».

بل زاد على ذلك، وفي سياق تبرير الهزائم المتوالية التي لحقت بـ «داعش» أن تغلغل تيار الحازمي في الدولة وسيطرته على مراكز صنع القرار فيها، تسبب في إلحاق الهزيمة للدولة وإشغالها من الداخل وإضعاف شوكتها، وسط عجز أبي بكر البغدادي عن متابعة شؤون دولة الخلافة.

ويرجع أنصار هذا الرأي في «داعش» الى بيان اللجنة المفوّضة الذي بدا وكأنه صادر عن أتباع الحازمي وليس البغدادي، وقد أثار جدلاً واسعاً في صفوف شرعيّي ومقاتلي “الدولة”، بما تضّمنه من اعتناق واضح لمنهج الحازمي في ثلاث نقاط أساسية: تأصيل الكفر في الدول العربية والإسلامية، وتكفير أعيان المنتخِبين، دون النظر في عامل الجهل، والتأويل، وهذا يؤسس لتكفير جماعي (تكفير العموم)، إضافة لتكفير العاذر الذي يشرعن التسلسل في التكفير، وهذ ما دفع تركي البنعلي للردّ على ما أصّله بيان اللجنة المفوّضة من عشرين وجه، كما أسلفنا.

في حقيقة الأمر، إن اللجنة المفوّضة السابقة استغلّت الفراغ الكبير الذي عاشه «داعش» في تلك المرحلة، في ظل احتدام الجدل داخله بين تيارين: الحازمي والبنعلي، فتمكّن الحازميون من بسط نفوذهم، بسبب المراكز الحساسة التي كانوا يمسكون بها، وشنّ المسؤولون الحازميون حملة اعتقالات واسعة وسجنوا، ونصبوا المحاكم للذين أحجموا عن «تكفير العاذر بالجهل»، وفي الوقت نفسه تمكين أتباع الحازمي في مناصب حسّاسة وقيادية،، وتم عزل كثير من الشرعيين ومن المقرّرات التعليمية الشرعية من المعسكرات بدعوى احتوائها على «مخالفات شرعية».

بدا التيار الحازمي نافذاً في أغلب مؤسسات «الدولة»، وفي صحيفة «النبأ» الإسبوعية نجح في تسجيل مواقفه الفارقة التكفيرية والمتناقضة مع مواقف قيادة «داعش». على سبيل المثال، في عدد (85) من الصحيفة، الصادر في 20 رمضان سنة 1438هـ في الحلقة السادسة من (رموز أم أوثان؟!)، حمل فيه الكاتب على: «رموز الإخوان المرتدين كحسن البنا”، “رموز القاعدة كعطية الله الليبي وأبي مصعب السوري، وغيرهم كثير من أئمة الضلال ورؤوس الفتنة»(19).

وقد امتدح البغدادي عطية الله الليبي، من بين آخرين مثل ابن لادن والعولقي، وقال عن الليبي (منهم العالم العامل المجاهد: عطية الله صاحب العلم والوقار)(20).

الطريف أن الكاتب وهو يؤكد على فصل رمزية الرجال عن التزامها، وأن الأصل هو الالتزام بالعقيدة وليس بالشخص، ونفي الترميز الذي يؤدي الى التصنيم، ولكنه حين يتحدث عن النزاعات التي جرت في عهد علي يقول «قد وقع العداء والقتال بينه وبين أقوام هم من خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح بحال نسبة أحد منهم الى خروج أو نصب، فكلهم عندنا سادة عدول، نجلهم جميعاً، ونكف عما شجر بينهم».

على أية حال، فإن التغييرات التي أحدثها تيار الحازمي بما في ذلك البيان الصادر عن اللجنة المفوضة تقرّر إلغاؤها والعودة الى الوضع السابق. وقد صدر تعميم عن اللجنة المفوضة في «الدولة الاسلامية» نشر في العدد (8) من صحيفة (النبأ) الصادر في 23 سبتمبر 2017، يقول: فقد تم إلغاء العمل بمضمون التعميم المعنون له بالآية الكريمة (ليهلك من هلك عن بينة)..وذلك لاحتوائه على اخطاء علمية وعبارات موهمة غير منضبطة، ادت الى حدوث التنازع والتفريق بين صفوف المجاهدين خاصة، والمسلمين عامة.

كما تم إعادة كتابي: (التقريرات المفيدة في أهم أبواب العقيدة)، و(توعية الرعية بالسياسة الشرعية)، والتي تم إلغاؤها بالكتاب.. وذلك بعد إجراء الاضافات والتعديلات اللازمة.. وأضاف علماء بأن “هذه الكتب لم يتبيّن عند التحقيق احتواؤها على ما يخالف عقيدة أهل السنة والجماعة، ونوصي بالرجوع لهذه الكتب في بيان مسألة المتوقف في تكفير المشركين أو حكم الطائفة الممتنعة أو أحكام الديار..»(21).

ما يلفت أيضاً، هو استئناف التأصيل العقدي حيث خصّص العددان (98)، و(100) باباً تحت عنوان (في بيان مسائل منهجية) يعالج المسائل الخلافية داخل المجال الوهابي ولا سيما بين «داعش» و»تيار الحازمي» في سياق التأكيد على تراجعه عن أفكار الأخير والتزامه بما يعتقد أنها تجسيد لاجماع علماء السلف، في قضايا أصول الدين وواجباته، والكفر وصوره، والشرك وأنواعه..

وحمل العدد الأول لمن وصفهم «المرجفين أنصاف المتعلمين..»، وألمح لاحقاً الى هوية المقصودين بذلك بقوله «فكيف تترك أخي المجاهد أهل الثغر من العلماء الذين نفروا الى أرض الجهاد والاسلام، كيف تترك هذا المعين الصافي، ثم تذهب لتأخذ دينك عن القاعدين بين أحضان طواغيت جزيرة العرب وغيرها، وما كفّرهم ولا أنكر عليهم، يخالط جنوده ورجال أمنه ومخابراته من غير أن يبين لهم ما ارتكبوه من نواقض». ثم يبدو أكثر وضوحاً في الاشارة الى الشيخ الحازمي بقوله: «ولا تغتر أخي بسجن الطاغوت لأحدهم، فقد يكون تلميعاً وإشهاراً له، ولأقواله، وإدخالاً له على الإخوة في السجون، لإحداث البلبلة وإلقاء الشبهات بينهم، وقد كانت لهم الفرصة سانحة إن كانوا أهل حق وصدق أن ينفروا الى أرض الجهاد، ويهاجروا الى دار الاسلام». ويضيف «فإن الطاغوت الذي يؤوي أمثال هؤلاء المنظرين للغلو في التكفير، ويسمح برواج بدعتهم هو نفسه الذي يؤوي أهل التجهم والإرجاء ويعينهم على الترويج لبدعتهم، وما ذلك إلا لكون الطرفين والمنهجين في أهل الحق وترك الهجرة والجهاد في سبيل الله».

ويحذر التنظيم عناصره من الخضوع تحت تأثثير خطاب الحازميين ويقول:

“أخي المجاهد: كيف بعد إذ نجاك الله من شباك علماء الطواغيت أهل الارجاء، تعود فتقع في شباك علماء الطواغيت المروجين للغلو المصدرين للشبهات، لكي يقعدوك عن جهادك، ويردوك عن هجرتك، فيسلم من بأسك أولياؤهم من أعداء الله تعالى”.

ويواصل في توصياته ذات المغزى العقدي والتنظيمي في سياق تحصين المقاتلين والكوادر على السواء:

“كيف تترك علم من يحمل معك السلاح، ويقاتل معك في الصف من أهل العلم والفقه - لا أعني أنصاف المتعلمين، وتسلم عقلك وذهنك إلى من لا يستأمن على دينه، وهو يعيش في دعة سالماً مسالما للطواغيت، وينظر لك من بعيد؟”.

بصورة إجمالية، كان هجوماً مركزّاً وواضحاً ضد التيار الحازمي، وينطوي على إشارة قوية الى أن ثمة في «داعش» من خضع تحت تأثير هذا التيار، فقرر التنظيم خوض معركة أخرى جديدة لاجتثاثه من التنظيم، وعاد الى المعالجة الإيديولوجية مجدّداً بعد أن قرر وقفها، بما يشي بتعاظم تيار الحازمي داخل التنظيم (22).


المصادر

(1) محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي الدمشقي الحنبي (إبن القيم الجوزية)، الروح، ص 17، أنظر:

goo.gl/pbVGv6

(2) إبن القيم، إعلام الموقعين، ج1، ص50

(3) أبو يوسف الكرار، مقرر في التوحيد (للمعسكرات)، أنظر:

https://justpaste.it/wu9a

(4) تعلموا أمر دينكم، ديوان الدعوة والمساجد، هيئة البحوث والافتاء بالدولة الاسلامية، الطبعة الثانية، رجب 1436هـ، ص 22، أنظر:

https://www.pdf-archive.com/2016/12/31/untitled-pdf-document-1/untitled-pdf-document.pdf

(5) المصدر السابق، ص 23

(6) المصدر السابق، ص 27

(7) التقريرات المفيدة في أهم أبواب العقيدة، مكتب البحوث والدراسات، الدولة الاسلامية، الطبعة الثانية 1436هـ، ص ص 58 ـ 59 أنظر:

https://goo.gl/L2DgPB

(8) الرّد على دولة الاصنامِ في العراق و الشام في جعلهم مناط تكفير من لم يكفر المشركين هو التكذيب، جمع معاذ الفاتح، أنظر الرابط:

https://mesbeh.blogspot.co.id/2017/04/blog-post_25.html

(9) تعميم: ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، اللجنة المفوضة ـ الدولة الاسلامية، الرقم هـ 8 ـ ت ـ 31، التاريخ 17/5/2017، شبكة الليوث الاسلامية، أنظر:

goo.gl/Za7Z1o

(10) ملاحظات تركي البنعلي على بيان اللجنة المفوضة، أنظر:

https://drive.google.com/file/d/0Bznya35PoYftMmRhVHVoU216Vmc/view

(11) مقتل البنعلي يكشف الخلافات الحادة داخل “الدولة” (وثائق)، عربي21، 10 يوليو 2017، أنظر:

goo.gl/VEw7sT

(12) النص الكامل لخطاب الخليفة أبو بكر البغدادي “وكفى بربك هادياً ونصيرا”، مجلة النبأ، العدد 99، تاريخ 8 محرم 1439، أنظر:

https://dawaalhaq.com/post/77153

وانظر مؤسسة الفرقان، 28 سبتمبر 2017:

https://goo.gl/R9gcxA

(13) ماذا قال الخليفة أبو بكر البغدادي في رسالته للجنود والقادة ومسئولي الولايات والدواوين؟!، مؤسسة دعوة الحق للدراسات والبحوث، 16 مايو 2017، أنظر:

https://dawaalhaq.com/post/71160

(14) وليد منصور، بسبب غياب “البغدادي”.. أعضاء تنظيم “داعش” ينقضون البيعة، 18 سبتمبر/2017

http://www.albawabhnews.com/2712358

(15) صحيفة النبأ، العدد 97، ذي الحجة 1438هـ، أنظر:

goo.gl/tPeFCy

(16) تنظيم «الدولة» يقرّ بـ«نزاع داخلي» ويصفي جناح «الحازمية»، القدس العربي، 18 سبتمبر 2017، أنظر:

http://www.alquds.co.uk/?p=791923

(17) “أبو مرام الجزائري” مفتي “داعش” بسوريا جنّد 32 جهادياً من بومرداس، موقع جزايرس، 7 ديسمبر 2014، أنظر:

http://www.djazairess.com/elkhabar/576444

(18) داعش يتراجع عن البيان الذي شق صفوفه ويبقي الجدل قائما، موقع البوابة، 18 سبتمبر 2017، أنظر:

https://goo.gl/hS7uaz

(19) صحيفة النبأ، العدد 85، 20 رمضان 1438هـ، أنظر:

https://sawarim.net/wp-content/uploads/2017/06/85.pdf

(20) أبو بكر البغدادي، ويأبى الله الا أن يتم نوره، مؤسسة الفرقان للإنتاج الاعلامي، رمضان 1433هـ ـ 7/2012ن أنظر:

https://archive.org/details/2b-bkr-bghdd

(21) صحيفة البناء، العدد (98) 23 سبتمبر 2017، ص 8، أنظر:

goo.gl/agJeMb

(22)أنظر: سلسلة علمية (في بيان مسائل منهجية ـ1)، صحيفة (النبأ) العدد 98، 23 سبتمبر 2017، أنظر:

goo.gl/agJeMb

وأنظر: سلسلة علمية (في بيان مسائل منهجية ـ 2)، صحيفة (النبأ) العدد 100، 5 أكتوبر 2017، أنظر:

goo.gl/pRzQAe

الصفحة السابقة