الدولة البوليسية

حملة واسعة من الاعتقالات طاولت رجال دين، وشخصيات فاعالة، ومنافسين سياسيين، في سياق تعزيز سلطة وسط انسداد الأفق مع قطر. الحملة شملت رجال دين معروفين من بينهم الرمز الصحوي الشيخ سلمان العودة، والشيخ عوض القرني، والشيخ عبد العزيز الطريفي، والشيخ محمد صالح المنجد، وعلي العمري، والشيخ يوسف الأحمد وآخرين وتعد أكبر حملة اعتقالات في تاريخ المملكة الحديث. تقول سماح حديد، مدير منظمة العفو الدولية: (في السنوات الأخيرة، لا يمكننا أن نتذكر أسبوعاً استهدف فيه عدد كبير من الشخصيات السعودية البارزة في هذه الفترة القصيرة من الزمن).

وتأتي الحملة عقب محاولة فاشلة لإنهاء صراع دام أكثر من ثلاثة أشهر بين الرياض وجارتها الصغيرة، قطر، والتي رفضت دعوات لفك الارتباطات مع الاخوان المسلمين وايران.

هدف الاعتقالات واضح، وهو الحد من نفوذ المشايخ حيث يعتقد إبن سلمان وفريقه بأنهم نأوا بأنفسهم عن دعم أي موقف ضد قطر، ويعتقد مسؤولون سعوديون كبار بأن هذا النأي الطوعي أو القهري أدى الى تقليص حدود السلطة السعودية، بدلاً من إستعراض القوة ضد قطر. ولكن، وبقدر ما تحقق الحملة مقترح الربط بالأزمة الخليجية فإن البعد الداخلي هو الأساس الذي يعتمد عليه في تحليل أبعاد وخلفيات الحملة، ويندرج في سياق تقويض أي قواعد لسلطة منافسة كامنة في الجبهة الداخلية تطمح للوصول الى القمة أو تعين على ترجيح خيار آخر. وسوف يبقى محمد بن سلمان متوجسّاً من وجود أنصار لولي العهد المخلوع محمد بن نايف، أو الحرس القديم.

هيئة كبار العلماء أيّدت الاعتقالات، وكذلك الاعلام الرسمي، وفيما ركّز الاخيرعلى اصطفاف المشايخ المعتقلين الى جانب الاخوان المسلمين، فإن جهاز أمن الدولة (المستحدث) المرتبط مباشرة بالملك، نسج قصة اكتشاف «خلية تجسس» على صلة بـ «قوى أجنبية».

حملة الاعتقالات ضد مشايخ الصحوة والمقرّبين من الإخوان المسلمين تحمل رسالة ليس الى المعارضين للنظام السعودي فحسب، بل وإلى الذين آثروا الصمت إزاء الأزمة الخليجية، أو ابتهجوا لقرب انفراجها مثل الشيخ الصحوي البارز سلمان العودة والشيخ عوض القرني، عقب الاتصال الهاتفي بين تميم بن حمد ومحمد بن سلمان.

منذ يونيو 2017، بدأ النظام يراقب ردود فعل الاسلاميين، والمتهمّين بالولاء لقطر، أو من يتلقون مساعدات مالية منها. وقد أصبح النظام مرتاباً من الاسلاميين متهّماً إياهم بالولاء المزدوج، ولكونهم بمثابة طابور قطري خامس في قلب السعودية.

العودة وآخرون التزموا الصمت، مفضّلين عدم الانحياز الى أي جانب بصورة علنية. ولكن لم يكن ذلك كافياً. فقد أراد النظام السعودي اختبار ولائهم وتسليمهم المطلق. وحيث أن مشايخ الصحوة تفادوا ذلك علنياً في دعم النظام، فإن النظام أصبح مرتاباً، متّهماً إياهم بالولاء المزدوج.

في تعليقها على حملة الاعتقالات الأخيرة وسط الاسلاميين، ذكرت صحيفة (فايننشال تايمز) في 19 سبتمبر الماضي بأن السعودية كانت منذ أمد بعيد دولة قمعية وتسلّطية، ولكن حملة الاعتقالات الأخيرة تفيد بأنها أصبحت أسوأ تحت قيادة ولي العهد المتهوّر. جنباً إلى جنب مع والده، كان محمد بن سلمان مسؤولاً عن المغامرة المدمرة في الخارج، والآن يستخدم نفس التقدير السيء الذي قاد الحرب على اليمن والحملة ضد قطر لخنق النقد السياسي في الداخل.

الحملة متواصلة وتمتد الى الاتجاهات كافة، لا تفرّق بين صحوي أو ليبرالي ولا سني ولا شيعي، ولا سلفي أو تنويري، فكل التيارات بات في مركز استهداف جهاز «أمن الدولة»، الذي يكاد يلغي الدور الأمني لوزارة الداخلية، التي أصبحت «زرزوراً» بعد أن كانت «غولاً». شيء واحد يمكن أن تنبىء عنه الحملة الأمنية هو نضوب الخيارات الأخرى، ذات الطابع السلمي والاغرائي، فحين تعدم الدولة المنجز الذي يمكنها تقديمها لشعبها، أي الجزرة، فإنها تلوذ الى القوة، وبها تعوّض مشروعيتها، ولكن معها تتآكل شعبيتها، لأن مشروعية القوة لا تنسجم بتاتاً مع المشروعية الشعبية، فالعنف يؤدي على الدوام الى تقويض الرأسمال الشعبي للدولة.

كان حكام آل سعود يعتمدون سياسة مزدوجة، يقدّمون الجزرة لهذه المنطقة ويلوّحون بالعصا في منطقة أخرى، ويغدقون المال على هذه الفئة ويحرمون فئات أخرى. وقد نجحوا على مدى عقود في إدارة سياسة الناس على أساس هذا التمايز في العطاء والتعامل والثواب والعقاب.

أما اليوم، فإن الدولة وبفعل سياساتها الكارثية في المجالات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والاعلامية، فقد بات لديها خيار واحد هو القمع وليس سواه. إن إظهار وجه حضاري ومدني وحداثوي مثل السماح للمرأة بقيادة السيارة، أو تنظيم حفلات ترفيه ماجنة، ليس هو ما يطلبه الناس، ولا فئة الشباب بكونه المستهدفة بهذه التغييرات، فالشباب بحاجة الى وظائف، وسكن، وتأمين صحي، وتعليم..الخ. وهذا ما لم يشتغل إبن سلمان على توفيره، باستثناء الوعود المؤجلة التي لاتنبىء عن ولادة طبيعية..

لا تجتمع التنمية مع القمع، وإن الدولة البوليسية ليست البيئة الحاضنة للتحوّلات الاقتصادية الكبرى. إن اعتماد نموذج الصين كمثال على اجتماع الاستبداد والازدهار الاقتصادي يعبّر عن فهم مشوّه للمثال، مع أن الامثلة جمّة على العلاقة الحميمية بين الديمقراطية والازدهار الاقتصادي كما في الغرب، بينما التخلف دائماً حليف الدول المستبدة..فهل يستوعب إبن سلمان أن ما تحقق حتى الآن هي «رؤية بوليسية».

الصفحة السابقة