مشروع (نيوم) في مملكة (النوم)!

عبد الوهاب فقي

لا يكاد تمضي بضعة أشهر، إلا ويخرج لنا محمد بن سلمان بمشروع ورقي، أو وهمي، له علاقة بأزمة البلاد الاقتصادية والسياسية.

بدأها برؤيته العمياء ٢٠٣٠؛ ثم مشروع القْدَيَّةْ، ثم مشروع البحر الأحمر السياحي، والآن مشروع نيوم، الذي لا يُعلم كنهه على وجه التحديد: هل هو بناء مدينة عصرية؛ ام مدينة استثمارية؛ أم مدينة سياحية؛ أم مدينة تكنولوجية صناعية، أم كل هذا؟ كل ما نعرفه ان هناك شيءٌ ما على الورق، لم يبدأ بعد، شأنه شأن المشاريع الأخرى، التي يخصص لها مئات المليارات من الدولارات، كهذا المشروع: نقصد مشروع نيوم، الذي قال ابن سلمان انه سيضخ فيه وحده خمسمائة مليار دولار، وهذه الأموال أصلاً غير متوفرة؛ فضلاً عن انه لم تُعلن بداية اية مشروع من المشاريع المزعومة حتى الآن، ولا وقت نهايتها. كل ما يقال ان المرحلة الأولى ستنتهي في عام ٢٠٢٥.

(نيوم)، كما قال ابن سلمان، مشروع يخص (الحالمين والموهوبين) وحدهم.

والحقيقة انه مشروع الحالمين والواهمين، الذين يتركون مشاكل شعبهم وبلدهم المستعصية، ويفرّون منها لطرح مشاريع خيالية بزعم أنها استثمارات للمستقبل، وهي لا تعدو وعودا فارغة لا علاقة لها بتنويع اقتصاد ولا برؤية ولا بمستقبل.. هو مجرد بيع أوهام!

بيع الاوهام اعلاماً

على وقع اعلان مشروع نيوم، تحركت الماكنة الاعلامية ـ كالعادة، فقال الكاتب ادريس الدريس متغزّلا بابن سلمان: (ماذا تفعل بنا ولنا؟ أنت عرّاب بيروسترويكا المملكة)؛ وصحيفة وزارة الداخلية الالكترونية (سَبْقْ) اطلقت لنفسها عنان التفاخر الكاذب لتقول بأن مشروع مدينة نيوم سيتفوق على مشروع مدينة اليابان الذكية (فوجيساو)؛ ووزير النقل يقول ان مشروع نيوم سيكون نقطة التقاء العالم؛ وصحيفة المدينة زادت الجرعة فقالت ان مشروع ابن سلمان يمثل مستقبل الحضارة الإنسانية؛ واعلامي آخر يقول ان (نيوم) ستكون الأكثر ملاءمة للعيش في العالم؛ وعضو الشورى المعيَّنَة: كوثر الأربش، تحدثت عن ساعة صفر سيتم فيها تدمير الجهل والتطرف، وجعل الوطن قبلة للتنوير والحضارة؛ اما الاعلامي فهد ديباجي فيقوم ان (نيوم) تقول للعالم: لا للنوم!؛ ووكالة الأنباء (واس) اهتمت بالطائرات بدون طيار التي ستكون احدى وسائل النقل في مدينة الحالم ابن سلمان!

خالد آل جلبان رأى ان محمد بن سلمان نعمة الهية هيأها الله للوطن؛ والعقيد المتطرف ابراهيم آل مرعي ينصح المواطنين: (دافعوا عن ابن سلمان بعقولكم ومن أعماق قلوبكم. لا تسمعوا فيه قولاً، واحثوا في وجه من يشكك فيه). والناشطة سعاد الشمري تخاطب ابن سلمان: (أنت انقذتنا من كابوس الظلمات). والاعلامي خالد الأشاعرة أضاف نكهة دينية، فمشروع نيوم يحيي رحلة الشتاء والصيف.

رفض شراء الوهم!

د. حصة الماضي رأت مشروع نيوم كغيره من المشروعات الفقّاعيّة التي ضحك بها (السفيه) على الجميع، ودعت للتصدي له؛ وخليفة المازم تأكد له بعد ان رأى لقاءه حول نيوم بأنه (صبي جاهل وثور) أيضاً؛ وسأل أحدهم عن مصير المشاريع الأخرى التي اعلن عنها في عهد الملك عبدالله واضاف: (نسمع بالمليارات ولا نشوف الإنجازات). وبدر الرشيد يقول ان صرف تريليوني ريال على المشروع كان يجدر صرفها على البنية التحتية المهترئة، وعلى المشافي، وعلى الوحدات السكنية.

أما ابراهيم الهزاعي، فسخر وقال أن (أكثر دولة تستهلك تصاميم الجرافيكس في العالم هي السعودية)؛ بغرض الدعاية طبعاً! وعلق بلوغر بسخرية على كلام ابن سلمان بأنه سيبني أكبر من سور الصين العظيم ولكن بألواح شمسية، علق وقال: (عندنا سور عظيم من الشبوك، ما يحتاج يسوون واحد جديد)؛ وتضايق آخر: (نسمع مليارات ولا شفنا إلا ضرائب وارتفاع الكهرَبْ والبنزين. وَين المليارات عن الصندوق العقاري والإسكان؟).

سارة الشهري تقول ان نيوم بوابة مستقبل الأجانب والطبقة الغنية، اما الطبقة الوسطى والفقيرة من الموطنين فلهم (أغاني محمد عبده) في اشارة الى ما تقوم به هيئة الترفيه. وتبشر المغردة حجازية الشعب بأن (مستقبلكم أسود بإذن الله.. ستصبحون صومال جديدة خلال سنوات قليلة). وسألت حجازية اخرى: (من أين يريد ان يموّل ابن سلحان مشاريعه؟). ولفت أحدهم مخاطباً المواطنين: (طيّبْ! ما سألتوا أنفسكم ليه ما سوَّتْ اليابان وأمريكا مدن الروبوتات عندهم؟ يعني احنا بنصير متقدمين على اليابان وامريكا؟).

وفي وقت لاحظ فيه الباحث في الشأن السعودي علي مراد أن مشاريع ابن سلمان تقدم دائماً بعروض أفلام ترويجية بمواصفات إخراجية عالية لجذب الأنظار، تساءل: هل سيتحقق شيء منها؟ لكن الاعلامية السلطوية نهلة العنبر اخذت الأمر الى عنصرية ضد العرب الذين ابدوا رأيا مخالفاً لسياسة ابن سلمان، ووصفتهم بالشعوب الجاحدة، (لا تستحقون منا الاحترام)، وزادت (إن أكرمت اللئيم تمردا)

الناشط حمزة الحسن قال: (اذا نجح مشروع نيوم فستكون هناك سعوديتان: واحدة للتهييص، قوانينها مختلفة وكل شيء فيها مباح، حتى الذهاب الى الصهاينة. وسعودية أخرى هي التي تعرفونها). ودعا الحسن الى اعادة قراءة الرؤية والمشاريع السابقة حتى يتأكد القراء ان ما يزعمه ابن سلمان مجرد أوهام. وانتقد الحسن اسم نيوم الذي حاول واضعوه جمع كلمة نيو (اي جديد) وحرف M اي بالعربية مستقبل. وقال ان الذي وضع الاسم غبي.

وعموماً فإن كلام محمد بن سلمان عن مشاريعه الاقتصادية الحالمة لم تجتذب اهتمام الاعلام المحلي ولا الدولي ولا المستثمرين ولا رجال الأعمال، الا لماماً. جل الاهتمام انصب على موضوع محاربة الارهاب والتطرف.

فالمواطنون كما الغربيون ـ حلفاء النظام ـ يودّون معرفة وجهة الدولة، ومدى استعدادها للإنفكاك من التيار المتطرف، وهو أيديولوجية الدولة، ونقصد الوهابية. لكن ابن سلمان ركّز على المسيَّسين (الصحويين) فقط، وقال أنه سيدمرهم فوراً، معتقداً أن مكافحة التطرف والإرهاب الذي تبنّته الدولة السعودية بشخص الملك فهد، يمكن القضاء عليه بين يوم وليلة بعد أن تشرّبت به أجيال وأجيال.

ابن سلمان: سندمر التطرف فورا!

تدمير الصحوة، وتدمير التطرف، وفوراً!

لماذا انتظر آل سعود نحو اربعين سنة ليتخذوا هذا القرار؟

(الملك فهد هو أب الصحوة وأمها وأختها وجدتها وهو المستثمر الأساس فيها) يقول حمزة الحسن؛ (والصحويون ضحايا ومجرمون) في نفس الوقت، حيث استثمرهم آل سعود ثم تبرؤوا منهم. والمفكر المحمود يرى أن (تدمير التطرف يبدأ من تدمير التراث الذي يمتاح منه)؛ والحسن يعود فيقول ان السعودية لم تكن قبل عام ١٩٧٩ معتدلة او وسطية او منفتحة لا على شعبها ولا على الآخرين، وانها منذ تأسيسها ولازالت بؤرة التطرف والعنف؛ وان التطرف الديني الصحوي والسلفي الوهابي عامة باقٍ مادام تطرف آل سعود السياسي قائماً؛ لأن السياسي المتطرف هو الذي صنع الديني المتطرف لاستثماره، ويستحيل ان يتم القضاء على وحش التطرف في طرفة عين. ثم ألم يكفر آل سعود ومشايخهم عبدالناصر وغيره، وكان ذلك قبل الصحوة المزعومة؟.

لطيفة الشعلان، عضو الشورى ترى أن انهاء التطرف يبدأ بالتعليم؛ والمهم بالنسبة للشعلان وغيرها ان مسار الدولة قرره ابن سلمان وهو المواجهة مع المؤسسة الدينية الوهابية واخضاعها لسلطانه؛ وحسب الصحفي وحيد الغامدي، فإن جملة ابن سلمان (سندمر التطرف) هي اجمل عبارة سمعها منذ عقود؛ إذن سيتحول الكثيرون عن الوهابية المفروضة رسمياً، وسيعود اهل الجنوب الى المذهب الشافعي، يقول علي الزهراني. والمحامي نايف آل منسي يرى أن حاجة المجتمع السعودي لإعمار البنية الفكرية، أكثر من حاجته لاعمار البنية التحتية؛ اما وداد منصور فهي لا تصدق ابن سلمان بأنه سيحارب التطرف لأنه سياسة دولة، وقالت أن من (أكبر رايات التطرف هي قناة وصال.. سننتظر ونشوف)، ماذا يصنع بشأنها.

الكاتب يوسف أبا الخيل يحمل الصحوة ورموزها جعل المجتمعات في حالة حرب مع غالبية أهل الأرض. بيد ان الصحيح انها الوهابية مصدر كل العنف والشرور. والداعية سليمان الطريفي يرى ان محاربة التطرف والارهاب يمثل نصرة للدين النقي من شوائب الغلو والكراهية؛ وهنا رد منصور باز بأن التطرف لا يُدَمَّر، وان الحل هو في التعليم والوعي والقوانين الفاعلة، التدمير يعيد التطرف مرة اخرى.

ومادام ابن سلمان قد فتح النار على مصراعيها ضد الصحوة والتيار السلفي عامة، فقد اطمأن كثيرون وسايروه في النقد والشتيمة، فالناس على دين ملوكهم!

(الصحوة معوّق للتنمية والحضارة والتسامح والسلام)، كما يقول اعلامي السلطة عبدالله بن بجاد العتيبي، الذي كان بالأمس القريب واحداً من أشد متطرفي وعنفيي الوهابية؛ في حين يتأسف الدكتور ناصر الجهني على ما مضى من سنوات العمر فيقول: (ابتُعِثتُ عام ١٩٧٩، بداية التطرف. عدتُ عام ١٩٨٥ في عزّ التطرّف. تقاعدتُ في ٢٠١٧، نهاية التطرّف. من يعوّضني حياتي؟). وهيفاء العمري تتحدث عن نفسها وجيلها: (نحن أبناء السنوات الكالحة؛ شوّهتنا الصحوة، وأحرقت أحلامنا، وبدّدت مستقبل معظمنا. هل يحق لنا أن نطالب باعتذار او محاكمة من كان سبب هذه الإعاقة؟).

خلود المِعْجِلْ ترى ان الصحوة جعلت من العادات ديناً وسيتم ابادتها؛ لكن الكاتب منصور الهَجْلَةْ يلفت النظر الى ان ذم عصر الصحوة لا يعني تمجيدا لواقع البلاد قبلها؛ واستبشر عبدالله العلويط ان ابن سلمان سينهي الصحوة الى غير رجعة، حيث (لم نستفد منها الا الجهل وتعطيل العقل والتعصب). والكاتب وائل القاسم يسميها (الغفوة) وان ابن سلمان اطلق رصاصة الرحمة عليها وأحدث تحولا لم تشهد له البشرية مثيلاً.

يعود الداعية الطريفي فيقول ان الصحوة ليست مسؤولة وحدها عن التطرف، فقد ساهم معها آخرون ـ دون أن يسميهم، وربما قصد آل سعود. ودعا الاعلامي السلطوي محمد آل الشيخ الصحويين الى الرحيل الى تورا بورا، او الى قطر (فلم يعد لهم في بلادنا مكان ولا قيمة ولا مستقبل) كما يقول. واضاف: (جاء محمد بن سلمان لينقلنا من الظلمات الى عصر الأنوار). وبالنسبة للصحفي دحام العنزي الذي يؤيد علاقات علنية مع اسرائيل، فإن الصحوة لعينة، وأن مجرميها سرقوا الفرح ولعبوا فينا. واضاف: (اليوم فليأذنوا بحرب من محمد بن سلمان وشعبه).

بالطبع طالب الكثيرون بتدمير الشبوك ومخصصات الأمراء والفساد والاحتكار والمحسوبيات وتدمير أزمات البلاد! وليس فقط تدمير التطرف الذي روجه آل سعود واستفادوا منه لأربعة عقود!

المشايخ الوهابيون الكبار لم يؤيدوا ابن سلمان في قمعه وتحلله، وفضلوا الصمت، فجاءهم عبداللطيف آل الشيخ الباحث عن منصب، ليخاطبهم هم وخطباء الجوامع بأن يشيدوا بموقف ولي العهد (لإعادة الوسطية والذب عنها حماية للدين). لكن هل الوهابية كانت يوما معتدلة ووسطية؟

المعارض عبدالله الغامدي يخاطب ابن سلمان بأن الصحوة (منكم، ولم يُعرف أنها خرجت عن أوامركم، والآن تُدفن بأمر منكم، وإذا كنتَ تراها تطرفاً، فهذا دليل على تطرفكم). والدكتور عبدالله الشمري يرى في اقوال ابن سلمان اعترافاً بأن النظام السعودي كان يغذّي التطرف؛ فقد كان والده وأعمامه يدعمونها حين كانت تخدم مصالحهم، ثم صار هذا الصبي يلعنها لأنها تخالف توجهاته.

جمال خاشقجي طالب بأن تحوي رؤية ابن سلمان الجميع وان لا تكون اقصائية، واضاف بأن (التطرف الذي وعد بسحقه كان إقصائياً). واكمل: (ضاعت على المملكة عقود طويلة حبيسة فكر سلفي ضيّق وحان وقت حرية الإسلام بتعدديته واجتهاده). ودعا الخاشقجي، للخلاص من التطرف، الى اطلاق الحريات العامة، وإيقاف الاعتقالات، حتى لا ننتقل من تطرف الى آخر.

بقي أن نشير الى ارتباط مشروع ابن سلمان الجديد (نيوم) بقطر؛ فكما هي العادة لا بدّ ان يقحم آل سعود واعلامهم الموضوعات مع بعضها، سابقاً ايران والآن قطر! مع ان المشروع لم يبدأ بعد؟، بل كل المشروعات المزعومة لازالت حبراً على ورق.

وزير الذباب الالكتروني سعود القحطاني، المستشار الاعلامي لابن سلمان برتبة وزير، علق بطفولية وسذاجة بأن مساحة مشروعي نيوم والِقْدَيَّةْ أكبر من مساحة قطر بحوالي ست مرات، واضاف مخاطباً الشيخ تميم: (اعرف حجمك يا صغير، فهذه هي السعودية). رد الاعلامي القطري فهد العمادي: (ما فائدة ان تكون كبيراً وأنتَ بلا عقل ولا أخلاق؟!).

الصفحة السابقة