من المحافظة الى المجهول

التحوّلات البنيويّة في عهد الملك سلمان

خالد شبكشي

كيف لنا أن نوصف ما يجري في المملكة السعودية؟

لأول وهلة، لابد من ضبط المصطلح لفهم طبيعة ما يجري في المملكة السعودية. ونبدأ بالتفريق بين «التغييرات ـ Changes» و«التحوّلات ـ Transformations»، إذ إن التغيير يلامس الهيئة الخارجية فيما التحوّل يطاول الخصائص الداخلية.

 
التفرّد السلماني بالسلطة.. سمة العهد الجديد

وفق هذا التفريق، يمكن المجادلة بأن ما يجري في المملكة السعودية في الوقت الراهن يتجاوز مجرد تغيير بيروقراطي، أو بحسب تعبير الأمير نايف «تطوير» هرباً من كلمة «إصلاح» المقابلة لكلمة «فساد». ولكن في المقابل هل يمكن وصف ما يجري بـ «التحوّل»، وبالتالي فنحن أمام جملة تحوّلات بنيوية جرت ـ ولا تزال ـ في عهد الملك سلمان منذ تسلّمه السلطة في 23 يناير 2015. أم لا هذا ولا ذاك، وإنما هي حالة بينية بين التغيير والتحوّل، خصوصاً وإن التجارب السابقة تنبىء عن النزعة الانتقائية الفريدة لدى النظام السعودي في «سعودة» المستورد، كما في مرحلة التحديث منذ مطلع السبعينيات وما بعده، بما يحيله مسخاً.

على أية حال، سوف يظهر من خلال استعراض ما يجري في المملكة السعودية، ما إذا كان ما يجري هو تغيير أو تحوّل أو عملية تمويه (mystification) تجمع عناصر من هذاك وذاك، أو بالأحرى هي عملية تجميلية (cosmetic) فحسب.

معادلة السلطة

كانت السلطة في السعودية قائمة على أساس:

أـ ثنائية الشراكة داخل العائلة المالكة:

ـ المؤسس: 1902 ـ 1953

ـ ثنائية الأبناء: 1953 ـ 2015

وفي عهد سلمان، ولا سيما بعد إعفاء الأمير مقرن بن عبد العزيز في إبريل 2015، ثم إعفاء الأمير محمد بن نايف في يونيو 2017، أصبحت هناك معادلة جديدة تقوم على:

ـ الواحدية المطلقة: في 4 نوفمبر أصبحنا أمام معادلة جديدة تضع نهاية شبه كاملة لمكوّن العائلة المالكة، سمة ومرتكزة ومصدر هوية المملكة السعودية. حيث بدأ محمد بن سلمان حملة واسعة النطاق ضد مراكز القوى داخل العائلة المالكة تستهدف تقويض القوتين: المالية والسياسية للأمراء الذين يشكلون تهديداً لمستقبله السياسي ولا سيما في مرحلة ما بعد سلمان.

الجيل الملكي الجديد (New Generation Royals): توارث أبناء المؤسس، الملك عبدالعزيز، الحكم منذ عام 1953 واحداً تلو الآخر. لكن الملك سلمان قام بعد استلامه السلطة في يناير 2015 بتغيير هذه المتوالية، باستبعاد آخر أبناء عبد العزيز، مقرن بن عبد العزيز، من معادلة السلطة، ونقل ولاية العهد للجيل الثاني من أبناء الملك عبدالعزيز، حيث استلمها الأمير محمد بن نايف، وأرسى ثنائية جديدة تقوم على نظام المجلسين: مجلس الشؤون السياسية والأمنية برئاسة محمد بن نايف، ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة محمد بن سلمان.

في يونيو 2017 حدث تغيير دراماتيكي في البيت السعودي بإعفاء ولي العهد الأمير محمد بن نايف من منصبه وتصعيد الأمير محمد بن سلمان ليحل محله، الذي تعهد بقيادة المملكة عبر رؤية السعودية 2030 وإجراءات تغييرات بنيوية اجتماعية واقتصادية ودينية.

وفي 4 نوفمبر 2017 أطيح بآخر عقبة قد تحمل تهديداً لمستقبل محمد بن سلمان في السلطة، بإعفاء الأمير متعب بن عبد الله من وزارة الحرس الوطني، وتعيين شخصية بعيدة من العائلة المالكة، وحليف مقرّب لإبن سلمان، وهو الأمير خالد بن عبد العزيز بن عياف آل مقرن، وكان وكيلاً للحرس الوطني على شؤون الافواج منذ العام 2007، ووالده من عبد العزيز شغل منصب وكيل الحرس الوطني سابقاً، وكان من مؤسسي الحرس الوطني بجانب الأمير عبدالله بن فيصل الفرحان آل سعود. وفي ذلك دلالة على أن من غير الممكن تنصيب رئيس للحرس من خارجه، وينطوي ذلك على رسالة أيضاً الى أن محمد بن سلمان ينسج تحالفاً مع الأجنحة المهمّشة في العائلة المالكة.

 
اختفاء ثنائية الديني ـ السياسي، الى حين!

ب ـ ثنائية الديني السياسي:

قامت السعودية على ثنائية القرآن والسيف في تحالف تاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود يعود الى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. وكان حضور الديني كثيفاً في تجربتي الدولة السعودية الاولى والثانية.

كتب الشيخ عبد الرحمن ال الشيخ رسالة الى الأمير فيصل بن تركي آل سعود، من أمراء الدولة السعودية الثانية، يذكّره فيه بدور الدين في إقامة الدولة السعودية وقال: (وأهل الإسلام ما صالوا من عاداهم، إلا بسيف النبوة وسلطانها، وخصوصاً دولتكم، فإنها ماقامت الا بهذا الدين) (الدرر السنيّة في الأجوبة النجدية، الجزء 14 ص 70). وكان الشيخ عبد الرحمن يخاطب فيصل بن تركي بهذه الأوصاف: (من عبد الرحمن بن حسن إلى إمام المسلمين وخليفة سيد المرسلين، في إقامة العدل والدين، وهو سبيل المؤمنين، والخلفاء الراشدين، فيصل بن تركي..) (الدرر السنية، ج14، ص 77)

وتمّ التوافق على احتكار آل الشيخ للسلطة الدينية وآل سعود للسلطة السياسية. اختلال الكفّة لصالح أحد الطرفين يتم بحسب الضرورة والخصائص القيادية للشخص. في الدولة السعودية الأولى كان إبن عبد الوهاب يمسك بقرار الحرب والسلم. تغيّر الحال سابقاً ولكن بقي لرجال الدين نفوذ واسع في الدولة وفي تقرير مساراتها، ويمكن ذكر أسماء بعض أحفاد آل الشيخ مثل: عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ محمد بن ابراهيم..

كان الخطاب الديني في صيغته الوهابية مركزياً في حشد الأنصار والمحاربين وبناة الدولة. وفي الدولة السعودية الثالثة، على سبيل المثال، لم يكن بمقدور عبد العزيز أن يستعيد ما يصفه «ملك الآباء والأجداد» دون الاستعانة بالجيش العقائدي «الإخوان» الذي تشرّب العقائد الوهابية، واندفع نحو الجبهات بحماسة عالية وقاتل بشراسة. لقد تنبّه إبن سعود الى القوة السحريّة للدين في بناء وتعزيز أركان دولته، كما أفاق في مرحلة لاحقة الى حاجة هذه القوة الى كابح يحول دون انفلاتها.

وعليه، وجّه عبد العزيز ضربة قاصمة لـ «إخوان من طاع الله» في معركة السبله عام 1929، بعد محاولات مضنية لإقناعهم بالتخلي عن أفكار مستمدة من التراث الوهابي، وكانت مصمّمة لمرحلة ما قبل الدولة، أي أيديولوجية تأسيس الدولة وليس تسييرها، والتي أسميها ثالوث (التكفير الهجرة الجهاد)، وقد سعى أحد كبار علماء الوهابية في عهد عبد العزيز الشيخ سليمان بن سحمان لإعادة توجيه البوصلة الاخوانية، كما تخبر ذلك كتبه من بينها (الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية لجميع اخواننا الموحدين من اهل الملة الحنيفية والطريقة المحمدية) بغرض تغيير قناعات الإخوان والقبول بولاية عبد العزيز ومرجعيته في صناعة القرار السياسي والديني، ولكن النتيجة كانت مواجهة دموية بمشاركة بريطانية من الجو أفضت الى نهاية الإخوان.

كان على عبد العزيز احتواء فلول الإخوان في دولته الجديدة، خشية من إعادة التكتّل مرة أخرى، فأنشأ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي تعرف باسم «المطاوعة»، وتحوّلت الى قوة ضبط اجتماعي وديني وأخلاقي وكانت مؤسسة مساندة وبصورة فاعلة للأمن وتحصين الدولة، وسمح لها بالتمدّد حيث نشطت في تبليغ الدعوة الوهابية عبر أكثر من عشرة آلاف مركز ومئات آلاف الموظفين.

 
انتفاضة جهيمان ضد اجحاف آل سعود وفضّ الشراكة

كان الأمراء منذ عهد فهد يتسابقون على دعم الهيئة وإرضاء المجتمع الديني، ولكن هذه الهيئة خضعت لتبدلات متوالية على مستوى رئاسة الهيئة تبعاً لمتطلبات المرحلة، وخصوصاً في عهد فهد وعبد الله، مع أن الهيئة شهدت أزهى عهودها في عهد الملك فهد، وكان يغدق عليها الهدايا والهبات حتى أنه كان يتبرّع بقوافل من السيارات لمراكز الهيئة في مناطق المملكة.

برغم من وسائل الإكراه والترغيب المتنوّعة، فإن آل سعود لم يستطيعوا إخضاع المؤسسة الدينية بصورة كاملة، وكانت هناك على الدوام خروجات عن المواقف الرسمية سواء في موضوعات التعليم ولا سيما تعليم البنات، والبنوك، وقيادة المرأة للسيارة، وحتى الموقف العقدي من بعض الفرق والمذاهب الاسلامية مثل الأباضية في عمان، هكذا كان الحال مع المفتي الأسبق الشيخ محمد بن ابراهيم في عهد الملك فيصل (1964 ـ 1975)، ومع الشيخ ابن باز (ت مايو 1999) في عهد الملك فهد (1982 ـ 2005)، وحتى في عهد الملك عبد الله (2005 ـ 2015)، وعهد الملك سلمان (2015 ـ الآن) برغم من وهن الرمزية الشعبية والعلمية للمفتي الحالي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ.

كانت حركة جهيمان العتيبي في نوفمبر 1979 بمثابة انتفاضة على انحراف الدولة عن مسار التحالف التاريخي والوظيفي بين الديني والسياسي، ولذلك أطلق على الجماعة التي قادها جهيمان الجماعة السلفية المحتسبة، وكان الغرض منها إرجاع المجتمع والدولة الى مبادىء السلفية الأصلية.

لم تكن انتفاضة الحرم حركة عابرة، فقد تركت تأثيرها في الجيل السلفي اللاحق، والذي عبّر عن نفسه فيما عرف لاحقاً بتيار الصحوة إبان أزمة الخليج الثانية، واتخذ من الاحتجاج على قدوم قوات أجنبية الى جزيرة العربية مسوغاً لقيادة حركة احتجاجية لم تخمد حتى الآن. وكانت تلك بداية فصل بل فصول من تاريخ الحركة السلفية التي لا تزال آثارها حتى اليوم وتغلغلت في أطياف السلفية الجهادية من (القاعدة) الى (داعش) وما نشأ على هوامشهما من مجاميع سلفية صغيرة.

لقد أظهر التيار الديني السلفي في المملكة حينذاك بأنه قادر على زعزعة الوضع الداخلي وتهديد استقرار السلطة السياسية والذي استدعى دخول الولايات المتحدة على الخط بإرسال فريق مؤلف من لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس ووزارة الخارجية لتقدير الوضع في السعودية والخروج بتقرير تفصيلي وضع تحت تصرّف الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في بداية عهده في 20 يناير 1993.

تفجيرات الرياض في 1995 والخبر 1996، كانت أولى الرسائل في طورها الراديكالي، ثم كانت أحداث هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 بمشاركة 15 سعودي من أصل 19 انتحارياً فاتحة عهد جديد لم يصب التيار السلفي الوهابي وحده بل شمل الدولة السعودية نفسها التي نعتها أعضاء في حلقة نقاش خاص في البنتاغون في 6 أغسطس 2002 «بؤرة الشر»، ونشرت في اليوم التالي في الصحف الأميركية.

مسار في النشاط الديني السياسي لم يكن ممكناً دون بنية تحتيّة صلبة وممتدة. فهناك منظومة دينية ضخمة في المملكة يصعب تفكيكها في سرعة قياسية

بحسب احصائية لوزراة التربية والتعليم للعام الدراسي 2005 ـ 2006 أن هناك 1764 مدرسة تحفيظ للقرآن الكريم يدرس فيها 207.857 طالباً وطالبة.

الاحصائية نفسها تشير الى أن هناك 124 معهداً علمياً تابعاً لجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية تضم 19.370 طالباً و5 معاهد تابعة للجامعة الاسلامية في المدينة المنورة تضم 1545 طالباً وهي معاهد للطلاب الذكور دون الإناث.

المواد الدراسية لا تقتصر على مادة القرآن الكريم حفظاً، وتلاوة، وتجويداً، وتفسيراً، بل تشمل مواد أخرى مثل التوحيد (وهي مادة تكفيرية بامتياز)، وهناك مواد أخرى مثل التربية الاجتماعية والوطنية والدراسات والوطنية والحديث والسيرة والفقه والسلوك..

بلغ المجموع النهائي لعدد المدارس والفصول والطلاب والمعلمين للبنين والبنات للعام الدراسي1434 ـ 1435/2013ـ2014 على النحو التالي:

ـ بلغ عدد المدارس 2138 مدرسة

 
الجامعة الإسلامية.. تفريخ لقوى سلفية يصعب ضبطها

ـ بلغ عدد الفصول 14388 فصلاً يدرس فيه:

ـ 269861 طالباً، يقوم بتدريسهم 39657 معلماً من مختلف التخصصات المعتمدة.

وبلغ عدد الطلاب والطالبات الذين يدرسون في حلق ومدارس التحفيظ التابعة لجمعيات تحفيظ القرآن الكريم الـ (13) والمؤسسات والمراكز القرآنية في مختلف مناطق المملكة (771691) طالباً وطالبة، منهم (403141) طالبة يدرسون في (38475) حلقة، منها (19041) حلقة خاصة بالطالبات، بحسب التقرير الإحصائي الصادر عن الإدارة العامة للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد لعام 2013.

وقد واجهت مدارس تحفيظ القرآن اتهامات متكررة بتفريخ المتشددين وكان رد مدير التوعية الاسلامية في و زارة التربية والتعليم نبيل البدير: «منهجنا في المملكة منهج الوسطية وهذا ما جعلنا محسودين على هذه النعمة العظيمة وجاء من يستغل أبناءنا بكل الطرق من المساجد والمدارس والجامعات والانترنت وفي كل مكان، وطالما أننا مستهدفون من هؤلاء الحاقدين يدب أن نتصدى لهذا الأمر بتحصين أبنائنا بالفكر الصحيح والوسطي وتقبل الآخر ولن نسمح لأي أحد أن يسرق عقول أبنائنا في التعليم العام أو العالي أو أي مكان للمتطرفين أو أصحاب الأفكار الضالة بيننا».

في المقابل، فإن ثمة انتقادات واسعة لمناهج التعليم الديني الرسمي في المملكة السعودية، وعن كثافة المواد الدينية في النظام التعليمي الرسمي. وقد قيل عن دراسة أعدتها الادارة الاميركية بأن أكثر من نصف الخريجين الباكستانيين هم من المدارس الدينية، وهذه النسبة ترتفع إلى 70% في حالة الخريجين من المعاهد والجامعات السعودية.

في احصائيات العام الدراسي لسنة 2011/ 2012، استحوذ مجالان من مجالات الدراسة المتوافرة في الجامعات السعودية على نسبة كبيرة من خريجي الجامعات السعودية بمجالات الدراسة كافة، وهما مجالا الدراسات الإنسانية والدراسات الإسلامية، حيث استحوذا على 37 في المائة من إجمالي خريجي الجامعات السعودية، حيث بلغ عددهم نحو 37.6 ألف خريج، موزعون على مجال الدراسات الإنسانية، الذي بلغ عدد خريجيه نحو 19.6 ألف خريج، ومجال الدراسات الإسلامية بعدد 18 ألف خريج.

ضرب التيار السلفي

اليوم، هناك خطّة لتحوّل جوهري في العلاقة التاريخية بين الديني والسياسي. وقد وضعت استراتيجية للتعامل مع التيار الديني السلفي تقوم على أربعة أضلاع:

1ـ اعتقال الرؤوس الحامية

2ـ إعادة تأهيل المشايخ المقرّبين من السلطة أو من لديهم ميول اعتدالية (برغم من الخلفية الصحوية لبعضهم) مثل عادل الكلباني، عبد الرحمن السديس، عايض القرني..الخ

3ـ تهميش وعزل المتشدّدين والمتزمتين في المؤسسة الدينية في موضوعات ذات صلة بالرؤية.

 
إخضاع الرؤوس السلفية الحامية!

4ـ إصلاح المناهج الدينية: وقد خضعت المناهج الدينية لعملية تصحيح في مرتين متعاقبتين 2006، 2011. وهناك اليوم عملية تصحيحية جديدة ومقاربة تبدو ثورية الى حد كبير، كما لفت الى ذلك وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، والذي كشف عن إنشاء مركز لمكافحة الخطاب الإسلامي المتطرف في السعودية، وتغيير المناهج والإشراف على أئمة المساجد وتأهيلهم، بوصفها من ثمار قمة الرياض في مايو الماضي.

في جواب تيلرسون على عضو في الكونغرس: «نريد أن نعرف نتائج الاتفاق مع السعودية وما هي آلية مراقبتنا لدعم السعودية المستمر لتصدير الوهابية والإرهاب المصاحب للمناهج الأصولية للإسلام حول العالم؟».

كان جواب تيلرسون صادماً وصارماً في تحديد وظيفة المركز «المركز قائم الآن وقد افتتح ونحن هناك وأحد العناصر التي تفقدناها مهم وقد أخذوا خطوات بشأنها، أعني السعوديين، هي أن يضعواً كتباً دراسية جديدة تدرس في المدارس وستحل محل الكتب القديمة والتي تروّج للفكر الوهابي المتطرف الذي يبرر العنف» وأضاف «لقد طالبناهم ليس بنشر الكتب الجديدة ولكن أيضاً سحب الكتب القديمة». ويعد هذا تطوّراً كبيراً وخطير جداً إذ يبطن اتهاماً غير مباشر للسعودية بأن الايديولوجية المشرعنة لها هي المسؤولة بصورة كاملة عن انتاج التطرّف، والأهم من ذلك كله أن هذه الايديولوجية بصيغتها الحالية ليس فيها ما يمكن وصفه بالاعتدال والتسامح، وأن المطلوب بكلام آخر تفسيراً جديداً أو مختلفاً للاسلام وليس للوهابية. وفي ذلك دحض لكلام محمد بن سلمان عن العودة الى إسلام ما قبل 1979، حيث أن الوهابية بكامل حمولته هي المسؤولة عن إنتاج التطرّف وأن المطلوب أميركياً هو سحبها من التداول.

في السياق نفسه، يأتي الحديث عن علمنة الدولة السعودية، بناء على تصريح لسفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة في حديثه لقناة (PBS) الأميركية في 26 يوليو الماضي حيث وضع الخلاف مع قطر في سياق فلسفي وليس دبلومسياً، وقال بأن ما تريده الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين للشرق الأوسط بعد عشر سنوات هو حكومات علمانية مستقرة ومزدهرة، وذلك يتعارض مع ما تريده دولة قطر.

لم يصدر أي تصريح رسمي من أي من هذه العواصم عن مشروع علمنة، ولا طبيعتها. والحال، إن تشوّه مفهوم العلمانية يجعل من التدابير التي يقوم بها محمد بن سلمان ذات طبيعة مشوّهة هي الأخرى للعلمانية نفسها، حيث يراد من السماح للمرأة بقيادة السيارة، وتنظيم الحفلات الموسيقية، والسماح للعوائل بدخول الملاعب، والحديث عن إسلام معتدل، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية عبر مشروع نيوم، آيات على العلمنة. وكما في مشروع التحديث الذي بدأ في مطلع السبعينيات عبر الخطط الخمسية حيث أريد له أن يكون انتقائياً إذ يكون تحديثاً بلا حداثة، وإنماء بلا تنمية، وتكنولوجية بلا إيديولوجية، وبالتالي يكون تحديثاً خالي الدسم، فإن العلمانية المراد تطبيقها هي الأخرى انتقائية، بل تتكل على التفسير البدائي والعقيم للعلمانية بما هي فصل الدين عن السياسة وتحويل الدين الى شأن فردي.

ومع أنه لا دليل حتى الآن على الذهاب في خيار علمنة الدولة السعودية، فإن قراراً بهذه الخطورة من شأنه أن يترك ردود فعل عنيفة وغير متوقعة.

 
رؤية ٢٠٣٠: لائحة أماني، ووعود مؤجّلة!

في السياق نفسه، يطرح موضوع المرأة، باعتبارها أحد التابوات الموروثة والتي يعد أي خرق له دليلاً على تحوّل حقيقي في استراتيجيات عمل الدولة.

في 13 مايو 2003 صدر قرار من مجلس الوزراء بالموافقة على إنشاء لجنة خاصة بشؤون المرأة أطلق عليها (اللجنة الوطنية العليا الدائمة لشؤون المراة) تمهد لمعالجة مشكلات المرأة ولا سيما في التوظيف .وكان الملك عبد الله يولي اهتماماً خاصاً لشؤون المرأة.

وحتى عام 2009 لم يتعد عدد العاملات السعوديات عن 565 لفاً من إجمالي 8.4 مليون سعودية فيما تمثل المرأة السعودية العاملة 13.5 في المائة، من العدد الكلي للقوى العاملة في السعودية البالغة 7.7 مليون فرداً. وبرغم من أن عدد الخريجات من الجامعات السعودية يعادل وربما يفوق عدد الخريجيين فإن نسبة البطالة بين الإناث يتجاوز بأضعاف.

وبحسب احصائيات نشرت في يونيو 2017 فيما يتعلق ببيانات المشتغلين والباحثين عن عمل من السجلات الإدارية، بلغت نسبة الذكور السعوديين الباحثين عن عمل (19.4% ) والإناث (80.6 %) من إجمالي الباحثين عن عمل في الربع الرابع من 2016، بحسب تيسير المفرج، المتحدث الرسمي للهيئة العامة للإحصاء.

في 24 نوفمبر 2011 نشرت صحيفة (الرياض) إحصائيات صادمة حول نسبة البطالة بين الإناث بناء على قوائم المستفيدين من صندوق «حافز» حيث بلغ عدد المتقدمين للبرنامج الوطني لاعانة الباحثين عن العمل «حافز» تجاوز المليوني متقدم،حصل على استحقاق صرف الإعانة منهم مايقارب 700 ألف بعد استيفائهم للاثني عشر شرطا التي حددها الصندوق للحصول على الاعانة البالغة ألفي ريال لمدة اثني عشر شهراً. وقد حصلت الإناث على الحصة الأكبر من نسب الإعانة، حيث بلغت نسبة الإناث الى الذكور 70% في كل مراحل التقديم الى مرحلة الصرف.

السؤال اليوم: هل فقد الدين وظيفته في السعودية؟ وهل أننا أمام استراتيجية علمنة حقيقية؟

إن التغييرات الحاصلة حتى الآن وبرغم من مصادمتها مع ثوابت دينية/ سلفية واجتماعية، لا يمكن إن توضع في سياق تخلّي ايديولوجي وفصل الدين عن الدولة بصورة نهائية. فلا تزال السلطة السياسية بحاجة ليس الى مجرد مسوّغ ديني لأفعالها، ولكن أيضاً إلى أداة تفسير لتلك الأفعال. وفي غياب بديل ناجز أيديولوجي بدرجة أساسية أو منجز آخر مواز (إقتصادي بدرجة أساسية) يلعب دوراً تعويضياً عن الإيديولوجيا، فإن وظيفة الدين سوف تبقى، ولكن قد يتم ما يشبه «إعادة توجيه»، كيما ينسجم مع «رؤية السعودية 2030» برغم من أن التفسير الوهابي للإسلام سوف يكون على حساب نقاوة وأصالة النص الوهابي الأول.

رؤية اقتصادية.. وسياسية.. وايديولوجية

رؤية السعودية 2030 ليست مجرد خطة تحوّل اقتصادي من النفط الى الاستثمار، وإنما برنامج تحوّل وطني شامل. صحيح أن سنام الرؤية إقتصادي ويتوسل ثلاث مصادر: النفط، القدرات الاستثمارية، الموقع الاستراتيجي للمملكة، إلا أنه يربط نجاح الرؤية الاقتصادية بجملة متحوّلات اجتماعية، وثقافية، وتعليمية..

 
الدكتور القنيبط: تصعيد مرتبة الجامعات السعودية بالرشوة والكذب!

في المطالعة الأولية لسردية الرؤية، نحن أمام معطيات ليست دقيقة، وأن المشاريع المرسومة أشبه بلائحة أماني (wish list)، ووعود مؤجّلة، ومستحيلة أحياناً. في ملف البيوت المستأجرة، تذكر الرؤية بأن «نسبة تملك السكن الحالية تبلغ 47% « وأن طموح الرؤية يتمثل في رفع النسبة بحلول عام 2020 الى 52%، أي بزيادة طفيفة وهي 5%. في المقابل، كان صندوق النقد الدولي قد أصدر تقريراً عن الوضع الاقتصادي في السعودية في بداية نوفمبر 2014 أشار فيه إلى أن نسبة تملّك السعوديين للمساكن لا تتجاوز 36%. ويتباين هذا المعطى الرقمي بشكل كبير مع أرقام سابقة ذكرها محمد الجاسر، وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي تقول إن نسبة تملك السعوديين للمساكن تبلغ 60 في المائة.

على مستوى تصنيف الجامعات عالمياً، فإن الرؤية تتطلع لأن تحتل 5 جامعات سعودية من بين 200 أفضل جامعة عالمياً بحلول العام 2030. في العام 2017 فإن موقع تصنيف الجامعات يضع جامعة الملك سعود في مرتبة 428، وجامعة الملك عبد العزيز في مرتبة 534، وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا في مرتبة 632، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في مرتبة 888 وجامعة أم القرى في مرتبة 1381.

بحسب المعايير العالمية لتصنيف الجامعات، فإن تحقيق هذا التطلّع يتطلب عملاً خارقاً لدخول خانة الـ «200» أفضل جامعة عالمية. نعم قد يتحقق ذلك عن طريق «رشوة» اللجنة المسؤولة عن التصنيف العالمي كما جرى في حالات مماثلة في السنوات السابقة، حين كان تصنيف جامعة الملك سعود في قعر قائمة الجامعات العالمية.

الدكتور محمد قنيبط وهو خريج وأستاذ الاقتصاد في الجامعة عد التصنيف بأنه كذبة، وأن القائمين على لجنة التصنيف غير محايدين ولا يلتزموا بالشروط العلمية، وأن الجامعة نفسها مارست خداعاً آخر بإدراج قائمة من العلماء الأجانب ضمن هيئة التدريس في الجامعة من أجل تلميع صورتها عالمياً، وأن الجامعة كذبت على ولي العهد، عبد الله، الملك لاحقاً بخصوص جائزة نوبل للسلام في موضوع المياه، برغم من ألا جائزة من هذا القبيل لهذا الموضوع في الأصل.

ونقل القنيبط في سياق رده على منتقديه بوصف تصنيف جامعة الملك سعود بالكذبة عن مدير جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية الدكتور تشون فونغ أمام الملك عبدالله في حفلة افتتاح الجامعة في اليوم الوطني المصادف 21 سبتمبر 2009، قوله :»بعد جيل واحد من الآن تحقق جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية حلم خادم الحرمين الشريفين بأن تكون ملتقى للعلوم والبحوث ومنارة من منارات المعرفة للأجيال المقبلة». ويعلق القنيبط بأن فونغ «يعرف جيداً الطبيعة البطيئة للإنجاز في الجامعات وتقدمها مهما أوتيت من دعم مالي وسياسي، ولم يقل ستدخل جامعة الملك عبدالله التصنيفات الدولية أو إنها ستدخل قائمة أفضل 300 جامعة خلال سنتين أو حتى عشر».

وفي مقالة نقدية كتبها حمد بن محمد آل الشيخ في صحيفة (الاقتصادية) في 25 يونيو 2011 بعنوان (تصنيف الجامعات وإعلان الرياض)، والاعلان صدر في ختام المعرض والمؤتمر الدولي للتعليم العالي الثاني 2011 الذي استضافته الرياض حول تصنيف الجامعات.

يذكر آل الشيخ بأنه في عام 2006 ظهر التصنيف الإسباني لجامعات العالم (ويبو ميتركس) webometrics ووضع أفضل ثلاث جامعات سعودية في مواقع متأخرة في قائمة التصنيف التي ضمت ما يزيد على ثلاثة آلاف جامعة من شتى دول العالم، وأحدث ذلك رد فعل اعلامي واستنكاراً عاماً لـ «تخلف» الجامعات السعودية في هذا التصنيف. وبقدرة قادر، وخلال فترة زمنية قصيرة احتلت جامعة الملك سعود موقعاً متقدماً عربياً وعالمياً في كافة التصنيفات العالمية للجامعات، ففي تصنيف مجلة (يو إس نيوز) الأمريكية العالمي احتلت الجامعة المرتبة 222 عالمياً، وحققت المرتبة 164 حسب تصنيف (ويبو ماتريكس) الإسباني العالمي، واحتلت الصدارة في جميع التصنيفات العربية والإسلامية، وبروح المنافسة الإيجابية تبعتها جامعات سعودية أخرى بحضور قوي في هذه التصنيفات.

وفي ظل غياب الشفافية وأجهزة رقابية ومحاسبية، فإن العمل بالعرف السائد في الدولة، بتضخيم الانجازات، وتقديم أرقام مبالغ فيها، بإجراء تعديلات على الأرقام بما يتناسب ورغبة القائمين على الرؤية سوف يكون ساري المفعول في المرحلة المقبلة أيضاً.

كان ظهور محمد بن سلمان ضمن أعمال منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» في الرياض في 25 أكتوبر الماضي، يرسم معالم الدولة التي يريد تشكيلها من خلال رؤية 2030. كان الظهور تعبيراً عن إصرار على إكمال المسير نحو تطبيق الرؤية.

من جهة، فإن الربط بين الرؤية وبين حملة الاعتقالات يؤكد أن القيادة الجديدة للمملكة لن تتسامح مع أي معارضة للمسار الحالي الذي تمضي به. أكثر من 300 معتقل من المحسوبين على تيار الاخوان المسلمين، خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، وفي الموجة الثانية التي بدأت 4 نوفمبر هناك عشرات الأمراء والوزراء ووكلاء الوزراء والتجّار والملاّك، ورؤساء مؤسسات إعلامية بارزة (إم بي سي، روتانا، أوربت).

يتحدث إبن سلمان عن طفرة اقتصادية من خلال نموذج «نيوم» بما يشبه أفلام الخيال العلمي، حيث من المقرر أن تكون المدينة وطناً للإنسان الآلي، الذي سوف يتكاثر عليها، في محاولة لصوغ عالم حالم.

في الشق الايديولوجي، يتطلع لإحياء إسلام وسطي معتدل، أو ما قال بأنها عودة إلى «الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم»، إسلام ما قبل 1979. قد تبدو حالة إنكار مقصودة وربما تكون عفوية، فالشاب لم ينل وجبة ثقافية كاملة عن دور التفسير الوهابي للإسلام في إنشاء الدولة السعودية في أطوارها الثلاثة، أو حتى في إنتاج ظاهرة الارهاب الدولي وتأسيس جماعات عابرة للقارات تستمد من الوهابية فتاوى ورؤى كونية تبيح اقتراف أبشع صور القتل.

ثمة من يرى إجابات ابن سلمان في المنتدى بأنها ذات طابع استعراضي، والهدف من ورائها جذب المستثمرين الأجانب، فيما يتلطى وراء مكافحة التطرف لتسويغ قمع الخصوم السياسيين والتخلص منهم. في نهاية المطاف، يخرج الوهابية من دائرة الاتهام، ويضع الخصوم في دائرة الاستهداف، ويصبح الاعتدال مجرد بضاعة فاسدة تباع في سوق كاسد، تماماَ كما يتلطى وراء مكافحة الفساد لقمع المنافسين له داخل العائلة المالكة ووضع اليد على الأموال المنقولة وغير المنقولة للأمراء.

الصفحة السابقة