ليلة السكاكين الطويلة..

ليلة القبض على الأمراء

فريد أيهم

كنا قد ذكرنا في عدد 187 من مجلة (الحجاز) بتاريخ 15 أغسطس 2017 وفي مقال بعنوان (خرائب سلمان وتحديات المستقبل..(المتغيّر) هو (الثابت) في السعودية) ما يلي:

أمام ابن سلمان خيارات صعبة في التعاطي مع مراكز القوى داخل العائلة المالكة:

■ فإما المصادمة معها تحت عناوين مختلفة (مثل الحرب على الفساد كعنوان مقبول شعبياً)، وبالتالي تحمّل تبعات ما سوف ينجم عن ذلك من ردود فعل. وقد يكون التوقيت المناسب لتحرّك من هذا القبيل هو في حياة الملك سلمان، لأن من غير الممكن التنبؤ بنتائجها في حال غيابه.

 
من المفسدين الذين كانوا شركاء للملوك في فسادهم!

بدا إبن سلمان وكأنه أصغى الى نصيحة وردت في المقالة أعلاه، فعمل على تطبيقها حرفياً، حين أشعل حرباً شاملة على الأمراء، أو مراكز القوى داخل العائلة المالكة، بهدف امتصاص دماء القطط السمان التي حصدت عشرات المليارات الدولارات على مدى عقود. بضربة خاطفة، وبغطاء أميركي إن لم يكن مشاركة غير مباشرة، قضى إبن سلمان على العشرات من المنافسين، وهدم أركان إمبراطوريات مالية لم يكن من السهولة المساس بها فيما لو كان الحاكم الفعلي ليس محمد بن سلمان، وفي غير زمان الرؤية الحالمة التي تبناها وأعلن عنها في منتصف 2016، ولا تزال متعثرة ولم تدخل حيز التنفيذ، بل جرى تأجيل لحظة إطلاقها أكثر من مرة..

بطبيعة الحال، فإن مشكلة ابن سلمان ليست فقط مع مال الأمراء بل الأخطر هي تطلعاتهم السياسية التي سوف يكون المال المشغّل لها.

بالنسبة لسلمان، فإن الأوامر الملكية الأخيرة تندرج في سياق مواصلة مسار إعادة تشكيل السلطة.. ولأن هذه السلطة يعاد بناؤها اليوم في ظروف استثنائية، فإنها تتصادم مع قوانين التاريخ والاعراف المعمول بها في العائلة المالكة على مدى أكثر من ستين عاماً.

ليتخيل المرء كيف سيكون عليه الحال فيما لو كان من يدير البلاد شخص مثل أحمد بن عبد العزيز، أو حتى محمد بن نايف، وليس محمد بن سلمان، فمن المؤكد أن الأمور سوف تسير بخلاف ما يدبّر الآن، وقد تسير على الوتيرة نفسها التي كانت عليها في العهود السابقة.

منذ تولي سلمان السلطة بدأت ما يشبه دورة جديدة في تاريخ المملكة بخصائص مختلفة تماماً. فهناك عملية متدحرجة بدأت منذ اللحظة الأولى التي تولى فيها الملك سلمان العرش في 23 يناير 2015 وقبل مواراة الملك عبد الله الثرى باعفاء خالد التويجري، مستشار الملك السابق، واعفاء ابناء عبد الله مشعل (أمير مكة)، تركي (أمير الرياض)..

وفي إبريل 2015 أعفي مقرن وجرى أول تغيير بنيوي في السلطة بتأسيس نظام المجلسين: مجلس الشؤون السياسية والأمنية برئاسة محمد بن نايف ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة محمد بن سلمان.

 
احتكار الفساد لسلمان وابنه!

في الفترة ما بين إبريل 2015 ـ يونيو 2017 جرت عملية مراكمة للسلطة في بيت الملك سلمان، وبالإمكان العودة الى الأوامر الملكية التي صدرت طيلة السنتين الماضيتين بما في ذلك تعيين أبناء سلمان في مراكز حساسة مثل سفير السعودية في واشنطن خالد بن سلمان، ونائب أمير المنطقة الشرقية أحمد بن فهد بن سلمان..

مع إطاحة ولي العهد ووزير الداخلية السابق محمد بن نايف في يونيو 2017 جرى تجاوز أكبر عقبة أمام محمد بن سلمان نحو العرش.

في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، كانت الضربة المزدوجة الثانية التي طاولت 19 إسماً بارزاً. إعفاء وزير الحرس الوطني متعب بن عبد الله ثم اعتقاله ومعه 10 أمراء، من بينهم أخوه الأمير تركي بن عبد الله، والوليد بن طلال وعدد من الوزراء ونوّابهم، مثل ابراهيم العساف، وزير المالية السابق وهو من الوزراء المعتّقين في الحكومة، وعادل الفقيه وزير العمل ثم وزير الاقتصاد والتخطيط وقد أعفي في الأوامر الملكية الأخيرة. والتهمة المشتركة لهؤلاء هي: الفساد، غسيل الأموال، تلاعب بأوراق مشاريع مدن اقتصادية، اختلاسات وصفقات وهمية، ترسية عقود مقابل الحصول على رشاوى، توقيع صفقات غير نظامية.

جاءت الاعتقالات فور تشكيل لجنة عليا لمكافحة الفساد برئاسة محمد بن سلمان، وعضوية هيئة التحقيق والادعاء العام، النيابة العامة، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، جهاز أمن الدولة. وقد أعطى الأمر الملكي اللجنةَ المستحدثة صلاحيات استثنائية من الأنظمة والتنظيمات والتعليمات والأوامر والقرارات للقيام بالمهام التالية:

1 ـ حصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام.

2 ـ التحقيق، وإصدار أوامر القبض، والمنع من السفر، وكشف الحسابات والمحافظ وتجميدها، وتتبع الأموال والأصول ومنع نقلها أو تحويلها من قبل الأشخاص والكيانات أياً كانت صفتها، ولها الحق في اتخاذ أي إجراءات احترازية تراها حتى تتم إحالتها إلى جهات التحقيق أو الجهات القضائية بحسب الأحوال.

3 ـ اتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام واتخاذ ما تراه بحق الأشخاص والكيانات والأموال والأصول الثابتة والمنقولة في الداخل والخارج وإعادة الأموال للخزينة العامة للدولة وتسجيل الممتلكات والأصول باسم عقارات الدولة، ولها تقرير ما تراه محققاً للمصلحة العامة خاصة مع الذين أبدوا تجاوبهم معها.

ثالثاً: للجنة الاستعانة بمن تراه ولها تشكيل فرق للتحري والتحقيق وغير ذلك، ولها تفويض بعض أو كامل صلاحياتها لهذه الفرق.

وبلغ عدد القضايا التي تحقّق فيها اللجنة مع من شملتهم الإجراءات 12 ملفاً هي:

1 ـ ملف سيول جدة في 2009

 
ملك المغامرات والفساد

2 ـ التحقيق في قضية وباء كورونا الذي انتشر في 2012

3 ـ توسعة الحرم الشريف

4 ـ فيروس كورون

5 ـ مناقصة مترو الرياض

6 ـ أسلحة

7 ـ رشاوى

8 ـ استغلال النفوذ

9 ـ تغليب المصالحة الخاصة على المصلحة العامة

10 ـ التطاول على المال العام وإساءة استخدامه

11 ـ اختلاسات

12- طرائق شتى لإخفاء أعمالهم المشينة

ما يلفت أن كل هذه الاتهامات رصدت في غضون أقل من ساعة على صدور الأمر الملكي بتشكيل لجنة لمكافحة الفساد برئاسة ولي العهد محمد بن سلمان.

في الشكل، إن عملية بهذا الحجم لا يمكن أن تكون ذات طبيعة مالية فحسب، ولكن البعد السياسي هو الأصل.

وفي الشكل أيضاً، تنطوي هذه الاتهامات على تشويه سمعة للأمراء والوزراء والتجّار كما تمّ تشويه سمعة الأمير محمد بن نايف بتعاطيه المخدرات لتبرير اعفائه. ولكن، هذه الاتهامات لن ينجو منها الملك وإبنه لأننا هنا أمام دولة كبار قادتها ملوثون بالفساد، وأن فساد هؤلاء موغل في القدم، وعليه فإن الدولة بكامل حمولتها أصبحت منخورة بالفساد، وأن من يمارس عملية التطهير للفساد، أي سلمان، هو جزء من هذه الدولة التي عمل فيها على مدى أكثر من خمسين عاماً وبالتالي فهو الآخر يجب أن يخضع للمحاسبة تحت عنوان الفساد ويجب أن يطاوله مبدأ «من أين لك هذا». بكلمة أخرى، إن الملك سلمان كان عضواً في هذه الدولة، وإن هذه الصحوة المتأخرة لا يمكن صرفها في الحرب على الفساد.

على أية حال، فإن حملة الاعتقالات وسط الأمراء والوزراء والتجار تبعث برسالة خاطئة وخطيرة الى المستثمرين الاجانب، إذ كيف لهم الوثوق في دولة ينخر فيها الفساد من كل جوانبها، ومن يضمن ألا يكون فيها الملك وإبنه غارقين فيها. ولن تقرأ حملة الاعتقالات هذه على أنها مجرد حرب على الفساد، بل فهمها الجميع على انها تصفية حسابات سياسية داخلية وهذا ما سوف يزيد من تردد الشركات الاجنبية من الدخول الى الأسواق المحلية.

هناك من يربط بين استقالة سعد الحريري من الحكومة اللبنانية وخطة تصفية بقية مراكز القوى داخل العائلة المالكة المتزامنة، على غرار ما جرى في الأزمة القطرية التي جرى توظيفها لتنفيذ قرار تنحية الأمير محمد بن نايف. في حقيقة الأمر، أن خطة التمهيد الناري أمام وصول محمد بن سلمان الى العرش كانت متواصلة منذ اليوم الأول لتولي سلمان العرش، وإن تنفيذ بعض القرارات منذاك هي تأتي في سياق توظيف وضع أو حدث يكون مناسباً لتمرير قرار في هذا التوقيت.

السيناريوهات:

 
كان هناك علي بابا وأربعين حراميا. بقي علي بابا!

ـ تآكل مجال العائلة المالكة

ـ إضعاف ممنهج للأمراء/ الأجنحة المنافسة.

ـ إعادة تشكيل التحالفات، حيث لم يعد إبن سلمان يتكل على العائلة المالكة في الاستقواء بها على السلطة وإنما اللجوء الى قوى إجتماعية أخرى (قبائل أخرى أو حتى قوى أجنبية).

ـ غياب التوافق العائلي قد يفتح المجال أمام قوى جديدة منافسة.

ـ هل يشكل الأمراء الساخطون حركة تمرّد مع أطراف قبلية واجتماعية أخرى؟

ـ تسريع عملية تتويج محمد بن سلمان بعد أن قضى على المنافسين واعتقلهم.

ـ هل تسير عملية رؤية السعودية 2030 بحسب ما خطط لها وماهي الضمانات: متانة الاقتصاد، دعم واشنطن، توافق الداخل (القوى الاجتماعية رجال الدين، الليبراليين...).

ـ هل الاصلاح السياسي ممكن الآن؟ لا يبدو أن سلمان وإبنه في وارد إجراءات إصلاحات سياسية، بل على العكس إن القيام بهذه الخطوة يخشى أن تؤول الى تقويض أركان السلطة.

ـ ابن سلمان يتصادم مع رجال الدين: تغيير المناهج وخرق المحرمات المرأة والتسلية الغنائية والحفلات..

ـ غير متصالح مع المكونات الداخلية: الشيعة، الصوفية، الإسماعيلية.

ـ المصادمة مع الأمراء:

ـ المصادمة مع الاقليم قطر واليمن ووسوريا وايران ولبنان...

صحيفة (واشنطن بوست) نشرت مقالاً في 6 نوفمبر كتبه إيشان ثارور، محرر كبير ومراسل في مجلة تايم، يعلّق فيه على حملة الاعتقالات التي قام بها محمد بن سلمان. وقال بأن كل العيون في الشرق الأوسط موجّهة الى الرياض، حيث أن الحوادث الجارية تعزّز الطموح الذي لا يرحم لدى قيادة المملكة الجديدة.

السعودية تغرق في أزمات متوالية، فمن الحرب الطويلة والمدمّرة على اليمن، ومن إعلان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري الاستقالة أثناء زيارة للمملكة، وهي خطوة فاجأت العديد من المحللين وأغرقت بلاده في أزمة سياسية جديدة. ثم قيام السلطة السعودية في ساعات متأخرة من يوم السبت الثالث من نوفمبر الجاري بما يبدو أنه عملية تطهير بعيدة المدى، واحتجاز أكثر من عشرين من أفراد العائلة المالكة، ووزراء، ورجال أعمال بارزين في عملية اكتساح تعزز مكانة ولي العهد الشاب، محمد بن سلمان.

وتشير التقارير إلى أن المعتقلين يتم إيواؤهم في فندق ريتز كارلتون الفخم في الرياض.

ونقل عن كريم فهيم، فإن الاعتقالات تأتي في «فترة من الاضطراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي غير المسبوق في المملكة العربية السعودية»، مع اتخاذ المملكة تدابير مثيرة لتخفيف الضغط على اقتصادها واجتذاب الاستثمار الأجنبي في سعيها إلى تجاوز اعتمادها على النفط. ويتطلب هذا الجهد تطهير الكسب غير المشروع المستوطن في بلد يشهد فيه السكان الشباب على نحو متزايد انقطاعاً عن مجال الثروة والسلطة التي تمسك به الأسرة المالكة الشاسعة وحلفاؤها.

 
ابن سلمان يقبل يد ابن عمه (المدمن) و(الفاسد)!

وقال ديفيد كيركباتريك من صحيفة نيويورك تايمز: «المملكة السعودية تدار بنظام ملكي دون دستور مكتوب أو مؤسسات حكومية مستقلة مثل البرلمان أو المحاكم، لذلك من الصعب تقييم الاتهامات بالفساد». ويضيف «إن الحدود بين الأموال العامة وثروة الأسرة المالكة غامضة في أحسن الأحوال، والفساد، كما تصف بلدان أخرى، يعتقد أنه واسع الانتشار».

وكانت وكالة الانباء السعودية الرسمية قد نشر بياناً من الملك سلمان أعلن فيه تشكيل لجنة لمراقبة الفساد والتحقيق فيه - ما اعتبره البيان الرسمي «استغلال بعض النفوس الضعيفة الذين وضعوا مصالحهم فوق مصلحة الشعب».

وفى حادث منفصل ادى الى تكهنات شديدة بين بعض المراقبين، إذ لقى الامير منصور بن مقرن نائب حاكم منطقة عسير مصرعه فى حادث تحطم مروحية في 5 نوفمبر مع عدد من المسئولين الآخرين. وكان الأمير ابن ولي العهد الأسبق الذي كان قد هدده صعود الملك سلمان.

ويرى بعض المحللين أن الحملة هى رسالة واضحة لكل من الاغنياء والاقوياء، ولسكان أوسع يتطلعون الى المزيد من الاصلاحات. وقال علي الشهابي، المدير التنفيذي لمؤسسة «الجزيرة العربية»، وهي مؤسسة فكرية تتخذ من واشنطن مقرا لها: «السكان يطلقون على ما يجري بأنها لعبة السلطة، لكنه في الواقع رسالة إلى الشعب بأن عصر النخبة يسير في نهايته» في المملكة. وأضاف «إنها أيضاً خطوة سيكون لها صدى واسع مع الجماهير منذ ان تساهلت النخبة قضية قاسية لعقود».

لكن آخرين يقولون إن هذا جزء من اندفاع ولي العهد لتأمين قاعدة سلطته. ويقول بروس ريدل من معهد بروكينغز: «يشير المراقبون المعرفون بالسياسة الداخلية السعودية إلى أن الاعتقالات الكثيرة التي يشهدها رجال الدين والمفكرون البارزون هذا الصيف كعلامة على التوترات داخل المملكة». «ليس هناك ما يضمن أنه إذا مات والد محمد بن سلمان أو تنازل عن السلطة أن يكون انتقال الخلافة سلسة، فإن الجولة الأخيرة من الاعتقالات لا تعزز إلا الإحساس بأن مناقشة الخلافة أصعب من قدرة الملك وما يريده إبنه».

يقارن الكاتب بين حملة مكافحة الفساد التي يقودها الرئيس الصيني شي جين بينغ كمثال مفيد لنهج ولي العهد نفسه. وقال بوين في مقابلة مع صحيفة وورلد فيو اليوم: «إن حملة شي ضد الفساد العام تهدف إلى تنظيف صورة الحزب الشيوعي، لكنها استخدمت أيضا كفرصة لتهميش المعارضين وتوطيد موقفه».

قام ولي العهد أيضا بإحداث مسار مثير للجدل في الخارج بأنه «مهندس سياسة خارجية ذات طبيعة اقتحامية وصدامية « كما قال فهيم - منحوتة حول مواجهة إيران. ويبدو أن هذا كان السبب في الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء اللبناني. وفي حين أن الحريري مسلم سني وحليف طويل للرياض، إلا أنه قاد تحالفاً سياسياً هشاً مع حزب الله. من المستحيل أن نرى تحرك الحريري - الذي أدّى إلى اتهامات مبارزة بأن عملاء إيرانيين حاولوا قتله وأن المسؤولين السعوديين أجبروه على الاستقالة - خارج منظور التنافس السعودي الإيراني الأوسع.

كما يبدو أن ترامب يوجه انتقادات مطلقة لولي العهد محمد بن سلمان عندما قررت الرياض وعدد من الدول العربية الأخرى مقاطعة وعزل قطر مما أدى إلى مواجهة جيوسياسية لا تزال تظلل المنطقة. ولكن بروس ريدل يرى الاضطرابات الحالية أقل إغراء وأن «المملكة تقف على مفترق طرق: فقد تباطأ اقتصادها مع انخفاض أسعار النفط، والحرب في اليمن مستنقع؛ والحصار المفروض على قطر هو الفشل؛ والنفوذ الإيراني متفشي في لبنان وسوريا والعراق، والخلافة هي سؤال فارق «، وخلص: «هذه هي الفترة الأكثر تقلباً في التاريخ السعودي في غضون أكثر من نصف قرن».

الصفحة السابقة