الوهابية تتناسل.. سلالات التكفير

هل أنجب «داعش» وحشه المُطوَّر؟

القسم الثالث

سعدالشريف

في التنافر الإيديولوجي يكمن مكر التاريخ، فما حقّقه «داعش» بالتكفير» يخسرة بالأداة ذاتها، أي بالتكفير. رداء المشروعية يتمزق على أيد حرّاسٍ لم يعودوا أمناء على الفضيلة التي وهبتهم هالة قداسة في زمن تخبو القداسات بأشكالها. تجربة «داعش» أوحت بأن «الخلافة»، في إعادة خاطفة ومباغتة للنموذج المعياري، تبعث أحلاماً مغمورة في ذاكرة المحبطين من الواقع البائس والطامحين لماض تليد..

جذور التكفير في «داعش»
 
التكفير.. سمة التصقت بداعش منذ بزوغها

تعود جذور التكفير في «الدولة» الى البدايات الأولى لنشأتها، وقد جاءت في سياق النزاع على «المشروعية الدينية». بكلمات أخرى، هو نزاع على الأجدر في تمثيل الجماعة، أي «أهل السنة والجماعة»، وفق المفهوم السلفي الوهابي. ففي ولاية أبو عمر البغدادي (2006 ـ 2010)، وإسمه الحقيقي حامد داود محمد خليل الزاوي، صنّفت رسائل في تكفير «الدولة الاسلامية في العراق» من قبل منشقين عنها، أو من «شرعيي» جماعات سلفية جهادية منافسة. ففي كتاب بعنوان (الأدلة التوضيحية على كفر ما تسمى دولة العراق الإسلامية) لعضو سابق في التنظيم يدعى أبو عبد الرحمن الحجري، وقد كفّر فيه زعيم التنظيم أبو عمر البغدادي ووزير حربه المصري الأصل أبو حمزة المهاجر (واسمه الحقيقي عبد المنعم عز الدين علي البدوي)، ونعتهما بـ «الإمامين الضالين»، فيما نعت تنظيم الدولة بـ «الجماعة المرتدّة المبدّلة لشرع الله».

كان السجال الداخلي يلامس منذ البدايات الذرى العقدية، فمنها يفتتح السجال وفيها يختتم، وعليها تفرق كل الأمور الفاصلة بين الايمان والكفر. ليس هناك من منطقة رمادية في الجدل الداخلي، ولا هامش للمناورة بين المتساجلين، لأنها مسألة إيمان ولا إيمان ولا مساحة فاصلة بينهما. ولذلك، يضطر تنظيم «الدولة» الى الدفاع عن نفسه، من موقع الايمان والكفر، وليس من موقع المجتهد المصيب أو المخطىء في المجال الايماني.

في بيان بعنوان (ألا في الفتنة سقطوا) يردّ فيها تنظيم «الدولة» على أخصامه، الذين كفّروه، ويتوقّف البيان عند «الهراري»، أحد من كان في الدولة وخرج عليها وكفّرها ووصف قادتها بالطغاة والمجرمين. فمن هو الهراري. يقول الاعلامي العراقي مقداد الحميدان، المصنّف على تيار الاسلام السياسي السنّي في العراق، بأن الهراري، نسبة لمدينته هرارة في الموصل، وهو ع. القحطاني، كان مسؤولاً شرعياً في تنظيم القاعدة، واعتقل عام 2007، وأفرج عنه سنة 2011، وغادر الى سوريا، وأطال البقاء هناك، فصدر قرار بفصله من «الدولة الاسلامية في العراق» في نوفمبر 2011. عاد القحطاني فيما بعد، وتزامن ذلك مع تأسيس فرع للدولة الاسلامة في الشام، وكلّف البغدادي أبا محمد الجولاني بذلك، غير أن الاخير قرر الاستقلال وتشكيل جماعة، عرفت لاحقاً باسم «جبهة النصرة»، والتحق القحطاني بها.

ما لفت انتباه الحميدان أن القحطاني/ الهراري كان من «فدائيي صدام»، وأنه تحاشى ذكر هذه المعلومة كي لا يضعف موقفه المعارض لتنظيم الدولة «باتهامه الدائم للتنظيم بالارتباط بالبعث العراقي..»(1).

تجدر الاشارة الى أن الهراري لم يكن على طريقة الحازمي في تكفير «الدولة»، وإنما هو أقرب الى القاعدة، وهذا ما لفت اليه البيان بما نصّه: «وكأنه يُقلّد أسلوب الظواهري الجديد في الخطاب، لكن بتحريف مسار سهامه المسحورة من المرتدين العلمانيين إلى الموحّدين المجاهدين».

 
أبو عمر البغدادي.. تكفير المكفراتي!

وفي واقع الأمر، أن الهراري أخذ على «الدولة» عقيدتها التكفيرية، ولذلك صنّفها على «الخوارج»، وردّت عليه «الدولة» بأنها في زمن «أبي عمر البغدادي ووزير حربه أبي حمزة المهاجر، قاتلت الخوارج في العراق وحدها..». واستعرض البيان تجربة مقاتلة «الدولة» لمشروع «الصحوات».

يلفت البيان الى أن «الدولة» خاضت ضد من يكفّرونها مواجهات هي الأعنف على مستوى معاركها، وهي «أشد الطوائف فتكا بهذه الفئة الباغية الضالّة..» حسب وصفها، لأن الأخيرة تركت قتال الأمريكان وجعلت «الدولة» هدفها الأول عندما كفّرتها بدعوى الردّة.

ويربط البيان بين الاتجاه التكفيري الذي نشأ في السنوات الأولى من عمر «الدولة» وظاهرة التيار الحازمي. ويرصد مؤلفات التيار في تكفير الدولة، حتى أن أحدهم سرد 17 موطناً يخرج فيه «الدولة» من الإسلام، ووضعها تحت عنوان «هذا وليستبين سبيل المجرمين أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر»!

من مؤاخذات الهراري وأتباعه على «الدولة» أنها قرّبت البعثيين وجعلت منهم قادة مثل أبو بكر العراقي (حجي بكر)، كما طعنوا في نائب البغدادي والمتحدث الرسمي المبعوث الى هناك أبو علي الانباري (اسمه الحقيقي عبد الرحمن مصطفى القادولي)، كما خططوا لقتل كبار قادة «الدولة» في العراق والشام، والقاء القبض على البغدادي وإلزامه بإقامة جبرية. وشنوّا حملة انتقادات واسعة ضد «الدولة» واتهموها مرة بكونها تابعة لإيران، وأخرى بأنها مخترقة من «حزب البعث» في العراق وسوريا، وأنها تكفيرية خارجية.

ولابد من التفريق هنا بين مجموعة (س د) المتطرّفة التي تكفّر التنظيم، ومجموعة الهراري التي تتهم «الدولة» بأنها مكفراتية، ويتهمها أتباع «الدولة» بأنها سرورية وإرجائية.

ويلفت البيان الى أن قاعدة «من لم يكفّر الكافر فهو كافر» قد أوقعت التنظيم في نزاع داخلي كاد أن يؤدي الى انقسام حاد، ولذلك نهى أبو عمر البغدادي في 2008 عناصر التنظيم (الجنود والأمراء على السواء) عن «الخوض في هذا الناقض درءاً للفتنة، وكان متّبعا سنّة أبي مصعب الزرقاوي الذي منع جنوده من الخوض في حكم إبن باز عام 1426هـ لما بدأ بعض الجهلة بتكفير وتبديع من يخالفه في ذلك؛ وأمر أبو مصعب ثم أبو عمر بتعزير المخالف بجلده على ظهره ثم نفيه من صف المجاهدين».

وتأخذ «الدولة» على خصومها إسرافهم في التكفير وجعله «وسيلة لسلب المال وملء الجيوب».

وختم البيان بتوضيح عقيدة «الدولة» في مسألة العذر بالجهل، فسرد أحكاماً بالتكفير شملت «الشيعة، وأعيان المشرّعين من المنتسبين إلى العمل الإسلامي، وآل سعود وجنودهم..».

ثم أورد فقرات من كتاب أبو عبد الرحمن الحجري الذي قتله تنظيم «الدولة»، وكان من أتباع «س د» و»س ع»، وقد كفّر أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر.














مؤلف الرسالة واضح في نزوعه التكفيري وأنه يطعن على البغدادي لانفتاحه على جماعات أخرى، وقد قطعت «الدولة» رأسه(2).

البيان يروي طرفاً من قصة التكفير وسط المقاتلين، ومن بينهم أمير قاطع في إحدى الولايات الشرقية بالعراق ويرمز لإسمه (س د)، وينتمي لعشيرة معروفة بالتديّن، وكان ممن قرأ وأتقن كتابي منظر جماعة الجهاد في مصر، عبد القادر بن عبد العزيز، وأسمه الحقيقي سيد إمام الشريف، «الجامع» و»العمدة».

وفي إطلالة على محتويات الكتابين، يظهر أن الكتاب الأول (الجامع في طلب العلم الشريف) مكرّس لشرح فضل وحكم طلب العلم، وكيفيته، وآدابه، والكتب الموصى بدراستها لطلب العلم. وأما الكتاب الآخر فهو (العدّة لإعداد العدة للجهاد في سبيل الله) الصادر سنة 1988، إبان تجربة الجهاد الافغاني، حيث صاغ الشريف ما يشبه دليلاً إرشادياً للمقاتلين استناداً على أقوال الأسبقين في الجهاد فكراً وسلوكاً..

وينطلق سيد إمام من فرض الجهاد الموجب للإعداد، الذي يبدأ بتكوين جماعة مسلمة «فطريق الجهاد يبدأ بتكوين جماعة من المؤمنين بوجوب الجهاد يدعون غيرهم للقيام بهذا الواجب..». والاعداد للجهاد نوعان: مادي كمّي، وله شقّان: شرعي يتعلق بتكوين الجماعة ولها أحكامها الشرعية، وشق فردي يتعلق بالفنون العسكرية. وأما الإعداد الإيماني، الكيفي، بتنشئة الجماعة على أصول شرعية إيمانية تتعلّق بالفرد، بوصفه عضواً في جماعة جهادية مؤمنة.

الرسالة في مجملها تتناول ما يعتقد أنه الشق الشرعي من الإعداد المادي وقسطاً من الاعداد الايماني حسب قوله.

سيد إمام يرى بأن الجهاد واجب في هذا الزمن على كل مكلّف: «الجهاد يكاد أن يكون فرض عين على جميع المسلمين الآن، خاصة الموضع الثاني (إذا نزل الكفار ببلد) فمعظم بلدان المسلمين الآن يحكمها ويتسلط عليها الكفار، إما مستعمر أجنبي كافر وإما حكومة محلية كافرة»، بل يدعو الى «وجوب البدء بقتال العدو الأٌقرب» على قاعدة أن «قتال المرتدين الممتنعين عن تطبيق الشريعة مقدم على قتال الكفار الأصليين، وأن السلطان إذا كفر وكان ممتنعاً وجب قتاله، وكان قتاله فرض عين ويقدم على غيره»(3).

 
السعودي زعيم التيار الحازمي الأكثر تكفيرا من داعش!

المدعو (س د) أعجب بالكتابين (الجامع والعمدة)، ودرّسهما في سنوات قبيل الحرب على العراق، ورأى في نفسه أكبر من الخضوع لقيادة «الدولة»، وتبعه آخرون من أقرانه، وتطوّر التمايز بينهم وبين «الدولة» إلى تبني آراء أشدّ تطرّفاً منها، ومن بينها القول بأن «الأصل في الناس الكفر»، ولكن لم يشغل هذا الخلاف بينهما مساحة وازنة على الأرض، وبقي حبيس الجدل النظري «هذا الخلاف لم يكن له أثر ملحوظ سوى الجدل..». وبحسب البيان، تطوّر الخلاف النظري ليشمل «مسألة التترّس»، فكانوا بحسب البيان «يفرحون إذا قُتل المارّة من عوام المسلمين بتفجير عبوة على الصليبيين وأعوانهم، فبناء على أصلهم: المقتولون كلهم كفار، ولهم في ذلك أجر!». وينقل البيان أن الزرقاوي استتابهم «من هذه البدعة، فأظهروا التوبة وتخلّيهم عن هذا المعتقد، على مضض». وتبدو الردود هذه مستغربة، إذ إن ابو عمر البغدادي كان مسؤولاً عن فحص عقيدة كل من يلتحق بالدولة للتأكّد من كونه على المنهج السلفي، أي من غير المتبلسين «بناقض أو مؤشّر يدل على كفرهم»، بحسب العقيدة الوهابية. من جهة ثانية، إن المقصود بـ «عوام المسلمين» ليس كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم، فمن ثبت كفرهم بحسب عقيدة «الدولة» لا حرمة لدمائهم، وأن الزرقاوي نفسه اشترط مبايعة بن لادن والظواهري على أساس الموافقة على خطته باشعال فتنة سنيّة ـ شيعية قوامها القتل وسفك الدماء دون تمييز، وجاء في ختام رسالته لهما «هذه رؤيتنا قد شرحناها وهذا سبيلنا قد جليناه فإن وافقتمونا عليه واتخذتموه لكم منهاجاً وطريقاً واقتنعتم بفكرة قتال طوائف الردة فنحن لكم جند محضرون نعمل تحت رايتكم وننزل على أمركم بل نبايعكم علانية علـى المـلأ وفي وسائل الاعلام إغاظة للكفار وإقراراً لعيون أهل التوحيد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وإن بدا لكم غير ذلك فنحن إخوة ولا يفسد الخلاف للود قضية نتعاون على الخير ونتعاضد على الجهاد وبانتظار جوابكم». وقد وقع خلاف عميق بين الزرقاوي وأستاذه وملهمه أبو محمد المقدسي، عاصم البرقاوي، حول قتل المدنيين(4).

على أي حال، أصدرت قيادة «الدولة» قراراً بعزل المدعو (س د)، ونقله الى ولاية الأنبار على خلفية «اجتهاداته غير المنضبطة وقلّة سمعه وطاعته لأمرائه». والتقى (س د) مع (س ع) الذي كان أحد شرعيي «الدولة»، فشكّل الأول خلية سريّة أمنية وقام بخطف أفراد من السنّة العراقيين بتهمة الانتماء لتشكيل «الصحوات» وتكفيرهم، فكان يقتل بعضهم، ويأخذ فدية من آخرين، ويسلب ويفرض أتاوات على آخرين..

 
أبو مصعب الزرقاوي.. تراثه سنّة داعشية!

ويروي أحد كوادر «الدولة» نقلاً عن أبي حمزة المهاجر، في سياق مؤاخذاته على زعيم جبهة النصرة (جبهة فتح الشام حالياً) أبو محمد الجولاني، ما جرى عام 2007، بعد أن نجحت «الدولة» في العراق بفرض سيطرتها على عدد من المحافظات ذات الأغلبية السنيّة. ويذكر ما جرى من أبي إسحاق، القيادي في «الدولة»، و»شرعي قاطع»، وكان يجمع أمراء القواطع في ولاية ديالى في إحدى مقرّات الدولة ويحرّض على أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر، ويقول عن الأول بأنه «عميل إيراني» والثاني «عميل للإخوان المسلمين»، وأن إعلان «الدولة الاسلامية» كان خطوة خاطئة ويجب خلع البغدادي لأنه مرتد وحل الدولة والعودة الى مسمى القاعدة.

فجمع حوله عدداً من الأمراء، وبايعوه على ذلك، وقال لهم «نحن الآن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» وأنه أمير التنظيم ويعلّق الكادر «وانخدع عدد كبير من جنود الدولة وأمراءها بِشُبَه أبو إسحاق»، الذي بعث برسالة الى أسامة بن لادن يبلغه فيها بأنّه مصلح ما أفسده البغدادي، وأنه حلّ الدولة وعاد الى تنظيم القاعدة. وفيما يبدو، فإن تعقيدات التواصل مع إبن لادن في مخبئه جعلت من المراسلات بالغة الصعوبة، وقيل بأن ابن لادن لم يستجب لطلبه، وقد لا تكون الرسالة وصلت بصورة صحيحة له، فيما انتشر بيان داخل «الدولة» يجرّم البغدادي والمهاجر، وشكّل ابو اسحاق فرق اغتيالات بهدف تصفيتهما، بالتعاون مع عناصر تابعة لأبو اسحاق داخل «الدولة». وبرغم من عدم نجاح مخطط الاغتيال، فإن قيادة تنظيم «الدولة» بقيت على حذر من قوة الجماعة وتأثيرها على حاضنة التنظيم.

وعلى ما يبدو فإن (س د) نجح في التشويش على عمل «الدولة»، حتى وصلت أخباره الى البغدادي والمهاجر، وجرى التحقيق فيما نسب الى «الدولة» بارتكاب جرائم ضد السنّة العراقيين، وعثر المحقّقون على سجن سريّ للخلية التي يقودها (س د) في الصحراء، وفي داخله ثلاثة مخطوفين، ورجل مقتول، ولما علم بذلك هرب هو وصاحبه.

وعاد (س د) الى ولايته الأصلية متخفيّاً، وبدأ يحرّض على أمراء «الدولة» مع أبو اسحاق، وطعن في المتحدّث الرسمي باسم «الدولة» ووزير اعلامها محارب عبد الله لطيف الجبوري (أعلن عن مقتله في غارة أميركية في 3 مايو 2007)، وقد تعرّف على الزرقاوي خلال اقامته في الاردن، وعاد إلى العراق بعد سقوط النظام في إبريل 2003.

 
سيد إمام الشريف.. منظّر القاعدة!

كما طعن (س د) في وزير الحرب أبي حمزة المهاجر، وقال عنه بأنه «إخواني وصوفي لأنّه لم يكفّر أعيان الحزب الإسلامي ابتداء إلا بعد أن استفاض أمر الحزب حتى لا يبقى جاهل بحال الحزب إلا وقد عرف الحال، ثم طعن في أبي عمر البغدادي لأنه لم يكفّر أعيان جنود الفصائل ابتداءً.. وبعض أتباعه كفّره لأنه لا يقول أن الأصل في سنّة العراق الكفر!» وخلص الى: «أن الدولة انحرفت عن منهج الشيخ الزرقاوي وتنظيم القاعدة»، وقال «أن الدولة الإسلامية جمعت المرتدين في دولتها على مبدأ تجميعي مقصود من غير مراعاة لأصل الدين!». وقرّر الخروج ومعه الشرعي (س ع)، تزامن ذلك مع عملية «السهم الخارق» في ديالى في يونيو 2007 بهدف القضاء على تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق»، فاستولت مجموعة (س د) على إحدى مقار «الدولة»، وصادروا كميات من الأسلحة. وأشاعوا بأنهم يعملون على العودة الى مسمى «تنظيم القاعدة»، بعد أن ثبت انحراف الدولة وارتدادها، وكانت قيادة الأخيرة تحت ضغط الحملة العسكرية الأميركية.

في رد فعل على هذا التطوّر الخطير داخل «الدولة»، طلب أبو عمر البغدادي المناظرة العقدية معهم والتي دامت حتى عام 2009. وبحسب مزاعم البيان، فإن الكثير من أتباع (س د) عادوا الى صفوف تنظيم «الدولة»، ولكن ما لبث أن تطوّر الخلاف حيث قتل أفراد من الوفود التي أرسلت للوساطة بينهم وبين «الدولة»، فقرّر البغدادي والمهاجر تصفية المجموعة، وأصدر المهاجر أمراً بإهدار دم عناصرها وقتلهم أينما وجدوا، بل تجاوز الى حد «قتل أسيرهم والهارب منهم، حتى أنه أمر بتعزير من تردّد بقتلهم أشدّ التعزير..». فشكّل أبو حمزة مفارز لتصفية أفراد المجموعة جسدياً (حداً لا كفراً)، ما أدى الى تشتّت المجموعة وانقسامها الى أربعة أقسام.

الأول: هرب الى الشام، والثاني: إنتقل من ولاية الى أخرى متخفيّاً هرباً من قبضة «الدولة»، والثالث: تظاهر بالتوقف عن تكفير الدولة، واعتزل القتال، بانتظار الفرصة المناسبة، والرابع: غادر الساحة تماماً منشغلاً بشؤونه الخاصة.

ولكن بعد اندلاع الأزمة السورية في مارس 2011 قرر القسم الأول من أتباع أبو اسحاق الإنضمام الى جبهة النصرة. وكان أبو محمد الجولاني، زعيم الجبهة، قد أعلن في كلمة صوتية بثّت في 26 فبراير 2014، رثى خلالها رفيق دربه أبو خالد السوري، توعّد «الدولة» قائلاً: «إن رفضتم حكم الله مجدّداً ولم تكفّوا بلاءكم عن الأمة لتحملنَّ الأمة على الفكر الجاهل المتعدي، وأنتم تعلمون أن مئات الإخوة الأفاضل ينتظرون إشارة من الأمة في العراق»(5).

وقد فّسرتها «الدولة» على أن الجولاني على علاقة مع مجاميع داخل التنظيم في العراق، ويسعى لتحريضهم على قتال «الدولة»(6).

 
أبو حمزة المهاجر.. طارد مكفريه وقتلهم!

في رد فعل غاضب، أظهر قادة «الدولة» موقفاً حازماً إزاء ما يمكن أن تتعرّض له من هزّات أو مصادر تهديد من المنافس المباشر لها، أي تنظيم القاعدة. في الكلمة المخصّصة للإعلان عن «الخلافة» بلسان المتحدّث السابق باسم «داعش» أبو محمد العدناني في 29 يونيو 2014، ثمة دعوة صريحة لجنود «دولة الخلافة» لاستخدام أقسى الحلول ضد من يحاول إحداث شق في «الدولة»: «ومَن أراد شق الصف: فافلقوا رأسه بالرصاص، وأخرجوا ما فيه، كائنًا مَن كان، ولا كرامة»(7).

لم يقدّر للسجال العقدي أن يبقي حبيس الغرف المغلقة أو حتى الورق، فقد وجدت «الدولة» نفسها في مواجهة تحدي وجودي، واختارت العنف وليس الاقناع أداة حسم مع المخالفين من أخوة الدم.

كان قتل المخالفين والقائلين بعدم العذر بالجهل بعد أن تعرض عليهم التوبة، قراراً من البغدادي ومجلسي الشورى والعسكري الذين رفضوا مقترحاً من أحد أعضاء مجلس الشورى بالإقتصار على الطرد من «الدولة»، حتى لا توصم بأنها كالأم التي تقتل أبناءها. إن اللجوء الى العقوبة القصوى يبطن مستوى غير مسبوق من التطرّف، كما يعكس في الوقت نفسه الخطر الذي يشعر قادة «الدولة» بأنه يتهددهم، ما يجعل بقية الخيارات غير ناجعة.

في 20 ديسمبر 2014 نشرت صحيفة (فايننشال تايمز) البريطانية خبراً عن قيام «داعش» بإعدام 100 من المقاتلين الأجانب في التنظيم، حاولوا مغادرة مدينة الرقة، مقر قيادة التنظيم، بناء على معلومات من ناشط سياسي معارض لكل من «داعش» والنظام السوري.

وبحسب الصحيفة نقلاً عن مقاتلين في الرقة أن «تنظيم الدولة» أنشأ شرطة عسكرية لمراقبة المقاتلين الأجانب الذين يتخلّفون عن واجباتهم، وجرى اقتحام عشرات المنازل وتمّ اعتقال العديد من الجهاديين. ونقل عن اعتقال 400 مقاتل في الرقة لعدم التبليغ عن وجودهم خلال 48 ساعة من استلام التعليمات الجديدة التي تم توزيعها من قبل التنظيم. وتفرض التعليمات على المقاتلين في «الدولة الاسلامية» حمل الوثائق المطلوبة لإثبات أنهم مقاتلون والتعريف عن طبيعة المهام الموكلة اليهم(8).

وبحسب الصحافة البريطانية، فإن خمسة بريطانيين، وثلاثة فرنسيين، وألمانيين إثنين، وبلجيكيين إثنين أرادوا العودة الى بلدانهم على خلفية الشكوى بأنهم وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف في مواجهة ضد بعض الجماعات المسلّحة بدلاً من نظام الأسد، وأنّه تمّ اعتقالهم من قبل «تنظيم الدولة الاسلامية». ونقلت الصحيفة بأن ما بين 30 ـ 50 بريطانياً يريدون العودة ولكن يخشون من مواجهة الاعتقال، بحسب باحث في المركز الدولي لدراسة التطرف في كلية كينجز في لندن، في اتصال مع أحد الجهاديين الذي كان يتحدّث باسمهم(9).

بطبيعة الحال، لابد من التفريق بين العناصر التي كانت تخطط للإنفصال عن التنظيم بصورة كلية، لأسباب غير إيديولوجية، والعناصر التي ترى بأن «الدولة» وقعت في الكفر.

 
الجولاني.. يهدد البغدادي بالخارجين عليه وتكفيره

في رد فعل على اعتقال «داعش» مجموعة من أنصار الحازمي داخل التنظيم، أصدر أحد زملائهم بياناً بعنوان (مناصرة الأخوة المأسورين في دولة الجهمية الكافرين)، كشف فيه عن انتقال «داعش» من المجابهة الفكرية الى المواجهة الميدانية، بالقيام بحملة مداهمات لمنازل الحازميين في دولة «داعش» واعتقالهم، والتحفّظ عليهم في السجون بتهمة «تكفير المشركين» بحسب البيان. وذكر البيان بعض أسماء المعتقلين وهم:

1- أبو جعفر الحطاب

2- أبو مصعب التونسي

3- أبو أسيد المغربي

4- أبو الحوراء الجزائري

5- أبو خالد الشرقي

6- أبو عبدالله المغربي

ويرجع سبب اعتقال من وصفهم «أهل التوحيد» الى «تكفيرهم للمشركين ومن لم يكفّرهم، هو من نواقض الاسلام المجمع عليه..»، وهذا ما يدور عليه النزاع المحتدم بين «داعش» و»تيار الحازمي».

وكشف البيان عن إنشاء جهاز في «داعش» أطلقوا عليه إسم «أمن الدولة»، على غرار الدول الأخرى التي يكفّرها «داعش» وخصومه «وهذا تشبّه بأعداء الله فيدخل في عموم النهي عن التشبه بالكفار». ويستدرك البيان بأنّ التشبّه المنهي عنه إذا كان الغرض منه محاربة الدين، وأمّا إذا كان الغرض «محاربة أعداء الدين من الجهمية والخوارج الحقيقيين، فنعم هو ـ أي التشبّه ـ مطلوب لأنّه من التعاون على البر والتقوى، ويدخل ضمن أعمال الحسبة (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وعلى العكس «إن كان تجسّساً على أهل التوحيد ومن يكفّر المشركين أو تكفير من يعذرهم.. فهو الفساد الكبير، والإنحراف الخطير» .

وخلص البيان الى «أن هذه الدولة جهمية كافرة مارقة من الدين ..»، تأسيساً على طائفة من النواقض منها: إنكار المفتي السابق للتنظيم تركي البنعلي «إنكار تكفير العاذر مطلقاً». وقد ردّ على البنعلي في بيان آخر بعنوان (وجهان لعملة واحدة.. تركي البنعلي والجهم بن صفوان)(10). ومقالة أخرى بعنوان (إعلان النكير على فرقة البنعلي الجهمية الحمير)(11).

ومن بين ما رصده البيان سجن أبي عمر الكويتي (وأسمه الحقيقي حسين عبد الله لاري) وله خطب كثيرة في التكفير ومنها تكفير الجاهل والعاذر للجهل(12).

ومنهم أبو جعفر الحطاب، وله خطب كثيرة من بينها: الكواشف الجلية على أن العذر بالجهل عقيدة الأشاعرة والجهمية (13).

ومنها: تقرير مذهب شيخ الإسلام إبن تيميّة في التكفير للشيخ أبي جعفر الحطّاب (14).

ومن الأسباب التي يذكرها البيان في خلفية اعتقال أنصار الحازمي: «حربهم لكل من يقول: بكفر المشركين ومن لم يكفّرهم، ولا يعذر بالجهل»، وأيضاً «حربهم الإعلامية المكثفة على الشيخ الحازمي»، والهدف، حسب قوله، «لأجل تكفير المشركين وعدم إعذارهم بالجهل» .

ودعا البيان عناصر دولة «داعش» الى «الانشقاق» و»ترك القتال تحت رايتهم الجاهلية العميّة»، وأن قتلاها ليسوا شهداء «وكذلك لا يجوز الهجرة إليها ولا تكثير سوادها ..»(15).

في 20 ديسمبر 2014 بث المكتب الإعلامي في ولاية الرقة السوريّة التابع لتنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام) فيديو اعترافات لمن أطلق عليها «خلية من الغلاة»، وتضم المعتقلين التي من تيار الحازمي.

وبحسب اعترافات أعضاء الخلية، الذين ظهروا في مقاطع الفيديو (جميعهم من القوقاز) فقد قاموا بتكفير متزعم (داعش) أبو بكر البغدادي، والناطق باسم التنظيم أبو محمد العدناني، ووصموا جماعة «الدولة» بـ «الردة»، لاحجامها عن تكفير عامة الشعب العراقي، والسوري «المشرك»، وأخذ الزكاة منهم، وفق قولهم.

 
أبو محمد العدناني: افلقوا رأس المنشق بالرصاص!

ورصد الفيديو موارد الغلو التي وقعت فيها «الخلية» وهي: تكفير عوام المسلمين، التكفير بالمعاصي، تكفير أمراء الدولة وجنودها، والتخطيط للخروج بالسلاح على «دولة الخلافة».

جهاز «أمن الدولة» التابع للتنظيم حصل على تسجيلات صوتية لأعضاء الخلية، وكشف مخطط الخروج على «الدولة»، عن طريق: تشكيل مجموعات صغيرة متوزعة على أرجاء الدولة، والتحريض على الانشقاق عنها، وتنفيذ حملة «اغتيالات» ضد قادة «داعش». وتمّ تحديد ساعة الصفر، بحسب «إلفير» أمير المجموعة، بتنفيذ خطة الاغتيالات بالتزامن مع انطلاق حملة التحالف الدولي، مع الأحزاب الكردية، والجيش الحر.

«إلفير» الذي كفّر «الدولة/داعش» والبغدادي، ووصفه بـ «الطاغوت»، حاول الهرب بعد أن أطلق النار على زوجته وعدد من النسوة، يُعتقَد بأنهن من زوجات أفراد المجموعة التي يتزعمها، ولكنه قتل على يد جهاز أمن «الدولة/داعش» في الرقة، فيما تمّ القاء القبض على أعضاء مجموعته أثناء محاولتهم الهرب الى تركيا(16).

في رد الفعل على فيديو «خلية الغلاة»، وصف أتباع الحازمي بأن رواية «داعش» عن الغلاة المزعومين مفبركة، مع أنهم أقرّوا ببعض ما نسب للخلية مثل: تكفير عموم الناس الذين سمّوهم (عوام المسلمين)، وتكفير (الدولة الإسلامية المزعومة)، وقادتها وجنودها وقالوا بأن (ذلك حق لا مراء فيه). وأما (التخطيط للخروج بالسلاح على (دولة الخلافة)، وتسهيل قوات التحالف الدولي بالدخول على «الدولة» من خلال إفتعال قتال داخلي، فرّدوا على ذلك بأن رجال أمن «الدولة» أرادوا بها «تشوية صورة أهل التوحيد الخالص». وأن الهدف من وراء هذه الاتهامات هي «لتنفير الناس من الحق الذي ندعو إليه، أسوة بطواغيت آل سعود وأمثالهم، فهذه دندنة نعرفها من أخزم»، حسب قولهم.

ووجهّ أتباع الحازمي تهمة ارتكاب داعش لجرائم قتل ضد من يخالفها بما يتجاوز ما تفعله الحكومات الأخرى، المصنّفة بأنها كافرة، حيث تجزّ «الدولة»: «رقاب المكفرين لها ، بتهمة الإفساد بالأرض»، ويسوق على ذلك مثال ما حصل لأبي عبد الرحمن الحجري مؤلّف كتاب (الأدلة التوضيحية على كفر ما تسمى بدولة العراق الإسلامية) (وقد جزّت الدولة بفضل الله رأس صاحب هذا الكتاب وستفعل هذا بإذن الله مع كل مبتدع سار على هذا الطريق). ويقارن بين ما يفعله داعش والحكومات العلمانية «فهل يفعل العلمانيون هذا مع المكفرين لهم؟!!» (17).

في تواصل مع السجال الإيديولوجي كتب أحد أنصار الحازمي ردّاً بعنون ﴿أتواصوا به بل هم قوم طاغون﴾، علّق فيه على بث الشريط المصوّر بعنوان (القبض على خلية الغلاة)، ووضع في خانة تنفير الناس عن التيار الحازمي. ويدعو صاحب الرد شركائه في المعتقد الحازمي بعدم حمل السلاح ضد «الدولة»، ويرجع ذلك: «لأننا الآن في مرحلة الدعوة لا القتال» .ويرفق ذلك أيضاً بسبب آخر «لا يجوز إعانة الصليبيين عليهم أو التسهيل لهم بأي حال من الأحوال».

لا بد من الإضاءة على نقطة مفصلية في الخلاف بين «الدولة» و»التيار الحازمي» وهي أنه برغم من بلوغ الأخير المستوى الأقصى في الغلو في التكفير، إلا أنه لم يترجم غلوه في ممارسات عملية، بل اكتفى بإصدار الأحكام مع وقف التنفيذ. وقد يفسّر ذلك أنه في مرحلة الدعوة ولم يصل الى مرحلة «القتال»، وكأنه يلمح الى أن الجماعة في طور التشكّل والانفصال الشعوري والفكري والتحصين ولم تدخل في مرحلة التمكين، حيث تكون قادرة على تجسيد إرادتها في أعمال. في المقابل، فإن «داعش» الذي يملك الأرض ويتمسّك بمنطق «الدولة»، ويرى بأنه في حال التمكين في أي بقعة في هذا الكون، فإن أول إجراء يقوم به هو إقامة الحدود وفق منهجه.

 
تركي البنعلي.. شرعي داعشي بحريني، تمرد فأعدمته داعش

في كل الأحوال، فإن الحديث عن مرحلة الدعوة يؤمىء الى أن الجماعة لديها استراتيجية عمل تقوم على التدرّج، ولم تنضج شروط المرحلة العسكرية.

في الوقت نفسه، ينصح صاحب الرد الحازميين بإغلاق باب الحوار مع جزء من أتباع «الدولة» ينعتهم بـ «السفهاء»، فهؤلاء حسب قوله «فلا فائدة في الكلام معهم»، ويدعو للتركيز على من وصفهم «الخيرين والذين يبحثون عن الحق». ويحذّر «من استباحة الدماء والأموال فنحن دعاة إلى التوحيد همّنا إخراج الناس من الشرك وإدخالهم في الإسلام» .

ويعيد صاحب الرد الاتهامات القديمة بخضوع تنظيم «الدولة» تحت تأثير قيادات بعثية، لا سيما في حذو سيرة حزب البعث في قتل مخالفيه (18).

ويذكّر صاحب الرد بقصة مقتل رئيس ديون القضاء في «داعش»، أبي جعفر الحطاب، وبرغم من مبايعته لأبي بكر البغدادي، إلا أن ذلك لم يغفر له قوله بعدم العذر بالجهل في الشرك الأكبر وتكفير العاذر، مع أن البغدادي «كان يعلم عقيدة أبي جعفر الخطاب عندما بايعه، فَلِمَ سكت عنه دهراً ثم انقلب عليه أخيراً؟!». ويساوي بين سلوك البغدادي وسلوك عبد العزيز آل سعود «الذي استخدم (إخوان من طاع الله) ثم لمَّا ثبَّت ملكه قام بقتلهم!».

من المفيد القول، أن مقتل أبو جعفر الحطاب أحدث انقساماً داخل «داعش»، ولا سيما المحسوبين على الاتجاه العلمي في التنظيم، أي أولئك الذين يعدّون أنفسهم الأقرب الى فهم النص الديني، وضبط منهج دراسته والتعمّق فيه، وقد ساءهم الخاتمة المأساوية لأحد رفاقهم، وقد وجّهوا تحذيراً للبغدادي إن لم يتب ويقلع عن أفكاره فسيتم تكفيره والحكم عليه بالردّة. ونقل عن مجموعة منهم يشتغلون في كتيبة الانترنت: «تستدعوننا من بلداننا حتى تقتلونا!، ونتكبد المهالك ونترك أهلنا وأعمالنا ثم تتم تصفيتنا «(19).

قبل عام من ذلك، كان إعدام الحطاب بعد أقل من عام على مقتل أبو عمر الكويتي، أحد أبرز شرعيي «داعش» بتهمة الغلو في التكفير ونشر الفتنة، بعد أيام من خبر اعتقاله وحبسه انفراداً بدعوى «المناصحة والاستتابة»، قد أثار فزعاً في أوساط رعايا «الدولة» وردود فعل في التنظيمات السلفية الجهادية.

فقد نبّه قرار إعدام أبو عمر الكويتي الى فشل الحوار الداخلي بين التيارين المتنازعين داخل «الدولة»: «تيار الحازمي» و»تيار البنعلي» المدعوم من قادة «الدولة». كان الحازميون، ومنهم «الكويتي»، قد شنّعوا على قادة «الدولة» لرفضهم تكفير «الظواهري» وقادة «القاعدة» عموماً، وبذلك أصبح قادة الدولة كفّاراً، وفق الناقض الإيماني الوهابي «من لم يكفّر الكافر فهو كافر».

وإزاء ما أحدثه إعدام الكويتي من بلبلة داخل «الدولة» إضطر قادتها إلى إصدار تعميم في 11 أغسطس 2014 جاء فيه:

«نود إبلاغكم أن أبا عمر الكويتي جندي في «الدولة»، وليس قيادياً ولا أميراً ولا شرعياً فيها، ولا حتى واعظاً، وأن منهجه لا يمثل «الدولة الإسلامية»، وليس كل ما يصدر عنه يمثلها، علماً بأنه ممنوع من الكتابة في «الإنترنت»، ومن الكلام في المسائل التي يخوض فيها على حسابه منذ زمن. وأن ما يكتبه اجتهادات ومخالفات لم يؤذن له بها.. والله الموفق»(20).

 
أبو عمر الكويتي: داعشي تمرّد فاعتقله داعش ثم قتله

وكان اعتقال وتالياً إعدام «الكويتي» قد أثار موجة احتجاجات واسعة في أوساط «الدولة» بين الفريقين «الحازمي» و»البنعلي»، وعمّق الخلاف بينهما حيث واجهت «الدولة» اتهامات من رعاياها ومن ينعتها بـ «الجهمية»، التي تجفل عن تكفير المشركين، وتقوم بسجن «أهل التوحيد الخالص وتقتلهم».

خرج السجال العقدي من حدود «الدولة»، وكان على منظري السلفية الجهادية أن يدلوا بآرائهم. فقد انتصر منظّر «القاعدة» أبو محمد المقدسي للموقف العقدي لتنظيم «الدولة»، برغم من الخصومة معهم، تنظيمياً على الأقل.

وفي جواب المقدسي على مراسلات شركائه في المذهب وأهل دعوته في أنحاء متفرّقة من العالم، طلبوا منه الرد على الحازمي وما وصفه «تخليطاته وغلوه الذي استشرى شرّه بين الشباب حتى تغلغل إلى الساحة الشامية فكان له أثر ودافع في استحلال الحرمات وسفك الدماء..».

وقد تواصل المقدسي مع أحد أنصاره المتصالحين مع أفكاره، وأحد رموز السلفية الجهادية في تونس و والذي أصبح عضواً ف المكتب الأمني في تنظيم «داعش» وهو أبو عبد الله التونسي، وأسمه الحقيقي عماد بن عبد الرزاق بن صالح (أوقف في مصر في 28 مارس 2013 بتهمة تزوير جوازات سفر وتسهيل سفر الشباب للقتال في سوريا ثم قتل في 29 يوليو 2017 في مواجهات بين داعش والجيش السوري). وكان التونسي قد صنّف رسالة بعنوان (وقفات حول العذر بالجهل) نشر في موقع (منبر التوحيد والجهاد) سنة 2014، دافع فيه عن الرأي القائل بالعذر بالجهل، وعدّه الرأي المجمع عليه بين علماء السلفية الجهادية المعاصرين «كالشيخ السعودي العلوان والشيخ أبي قتادة وشيخنا عبد الحكيم حسان والشيخ أبي المنذر الشنقيطي والشيخ أبي بصير الطرطوسي، والشيخ عبد القادر عبد العزيز وغير أولئك كثير» حسب قوله(21).

اكتفى المقدسي بالرد الذي وضعه أبو عبد الله التونسي على مقالات الحازمي، ولفت الى نصيحة التونسي للشباب بـ «احترام العلماء والحذر من الاغترار بغلو الحازمي وتناقضه في غلوه بين الطغاة والدعاة؛ فكأنّه أبداه لنا خارجياً مع العلماء الربانيين والدعاة، مرجئيا مع الحكام الكفرة والطغاة!! متشدّد مع أولياء الله متراخٍ مع أعداء الله..»، حسب المقدسي.

ويضيف التونسي على ماذكره في رسالته (تعليقات حول العذر بالجهل)، الى أنه تلقى اتصالاً من أحد رفاقه يخبره فيه عن تأثير مقالات الحازمي في تونس، حيث ذهب بعض الشباب في تكفير لأعيان من يرى العذر بالجهل المعتبر في الشرك الأكبر مثل الشيخ العلوان وعطية الله وابي قتادة وغيرهم وتكفير من لم يكفره أو حتى توقف في المسألة. وذكر له أسماء من المدرسة السلفية نفسها «ممن كنا نحسبه من طلبة العلم والإخوة الأخيار، واشتد أكثر لما ذكر لي أن عمدتهم في ذلك هو فتوى للشيخ الحازمي صريحة بذلك !».

 
أبو جعفر الحطاب.. كبير قضاة داعش التي اعدمته!

في الرسالة التي كتبها التونسي في 6 يونيو 2014 للرد على الحازمي، لفت الى رد الحازمي على فتوى العلوان في مسألة العذر بالجهل، حيث أسهب الحازمي في تفنيدها وخصّص لذلك سلسلة محاضرات وضعت تحت عنوان «الأدلة والبراهين القطعية للتعليق على الفتوى التونسية»، وصف فيها العلوان بأنه: «جهمي جاهل لم يضبط أصل التوحيد ولم يعرف حقيقة الكفر بالطاغوت». وبحسب مبدأ التسلسل، فإن تكفير الحازمي للعلوان لم يقتصر عليه بل يتجاوزه الى كل من لم يكفّره لأنه يعذر بالجهل.

وقد أفاد التونسي من المقاربة الجدلية ذاتها في الرد على الحازمي في مسألة العذر بالجهل والموانع المعتبرة في عدم التكفير، برغم من نزوع الطرفين التكفيري إزاء باقي المذاهب الاسلامية، فالتسامح هنا محصور في المجال السلفي.

ويكشف التونسي عن تأثيرات مقولات الحازمي في بلاد الشام «فكانت النتيجة ما تسمعون من سب وطعن في المشايخ وطلبة العلم والمجاهدين لمجرد المخالفة في مسائل السياسة الشرعية ثم تعدّى إلى الرمي بالنفاق أو بمخالفة ملة إبراهيم فالتكفير والتقاتل، مما يذكرنا بالأيام السوداء في الجزائر..».

نقل التونسي عن الحازمي رأياً ذكره في درس له في مصر حول مسألة العذر بالجهل، يخالف ما ذكره في تونس، وقال بان هذه المسألة ليست مسألة إيمان وكفر وأنه لا يلزم أحداً بمذهبه، ويجيز لأتباعه تقليد من يعذر بالجهل، على أنه مذهب ابن عثيمين، وما يفهم في ظاهر كلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب. يعلق التونسي بعد أن قرأ هذا الرأي للحازمي: «فكدت أكسر حاسوبي!»(22).

ما يلفت أن السجال الإيديولوجي داخل «الدولة» لم يتوقف، وإن عملية تحصين الأفراد تواصلت، وقد يفشي بعض ما تنشره «الدولة» في وسائل إعلامها جانباً من القلق المتعاظم تدريجياً.

في افتتاحية العدد (102) من صحيفة (النبأ) ثمة لغة تبطن تراجعاً في اعداد المقاتلين وفي مستوى الحماسة القتالية وسط جنود «الدولة»: «فعلى جنود الخلافة اليوم مواصلة البذل في سبيل الله، آخذين في ذلك بكل سبب، متوكلين على ربهم وحده، وأن لا يفُتروا عن القتال، ولا يتأخروا عن سوح النزال، فإن الكفار وإن نالوا من المسلمين مرة أو مرتين، أو انتزعوا منهم بعض الأرضين، فليتيقن الموحدون أن العاقبة لهم، ما اتقوا ربهم وصبروا..»(23).

فهنا ثمة نداء استغاثة غير مباشرة لمقاتلي «الدولة» بالصمود وثبات الأقدام في الميدان، وعدم إخلاء الساحة بسبب خسارة الأرض هنا وهناك.

وفي افتتاحية العدد 103 من صحيفة (النبأ) اعتراف ضمني بالهزيمة والتقهقر الى مرحلة النكاية، وإن وضعتها في سياق موارب، بالمقارنة بين مرحلة المغالبة الأولى بعد ظهور «الصحوات»، فيما هي اليوم تحتفظ بمناطق تمكين ولا تزال تؤهلها «للنكاية في الكفار والمرتدين». كما رصدت الافتتاحية انجازات «الدولة» بإيقاد جذوة الجهاد في قلوب المسلمين «بعدما عاينوا حكم رب العالمين ونقاء ديار الإسلام بالتوحيد، تلك الديار التي عاشوا في ظلها بالكتاب الهادي والسيف الناصر..».

 
المقدسي.. انتصر لداعش وقرارات اعدامها!

تعود الافتتاحية الى التذكير بالعودة الى مرحلة للوراء، أي النكاية «مهما فقدت الدولة من الأرض، فإن النكاية التي يخشاها العدو ستكون ماضية لا تتوقف، وذلك بالقيام بأمر الله في جهاد الكفار حيثما وجدوا، في كل مكان وطئه أهل التوحيد، ولن تنجلي مرحلة مغالبة الكفار والنكاية بهم إلا عن غلبة وتمكين كبير لعباد الله الصابرين..»(24).

في بحث المسائل المنهجية المتواصلة، تناقش الحلقة الخامسة مسألة حكم الطائفة الممتنعة وقتالها، وهي كما تلفت «الدولة» ليس من بين أغلب الطوائف التي تقالتهم المصنّفين في «طوائف الكفر والردة» والتي «لا يجري فيهم الخلاف الذي وقع بين أهل العلم في الطوائف الممتنعة، فجيوش الدول الطاغوتية وشرطهم وأعوانهم كفار باتفاق، وهم أقرب الى كونهم كأتباع مسيلمة والأسود من كونهم كمانعي الزكاء، فجند الطاغوت وكل من قاتل في سبيله كافر..». فالطائفة الممتنعة قد تعني من يمتنع عن أداء فريضة من فرائض الاسلام بما نصّه: فأيُّما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، والخمر، والزنا، والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية عىل أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين، ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة املمتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا ما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء»(25).

العائدون

لن يسدل الستار على «داعش» بخساراتها بعض الأرض في العراق وسوريا، بل سوف يرفع الستار عن فصل جديد من تجربة «الدولة»، ولكن هذه المرة سوف تتحمل الدول التي تسرّب منها المقاتلون القسط الأكبر من المسؤولية، ومن المخاطر أيضاً.

في تقرير مجموعة سوفان الصادر في أكتوبر 2017 فأن هناك الآن ما لا يقل عن 5600 مواطناً أو مقيماً من 33 دولة قد عادوا الى ديارهم. يضاف اليهم أعداد غير معلومة من بلدان أخرى، وتمثل هذه تحدياً هائلاً للأجهزة الأمنية وتطبيق القانون في بلدانهم.

ولم تشرع الدول حتى الآن في تشخيص مشكلة العائدين. الكثير منهم تمّ اعتقالهم أو اختفوا من المشهد، وهناك حاجة الى بحث إضافي ومعلومات للتبادل لتطوير استراتيجيات فاعلة للتقييم وتشخيص التهديد.

وفيما يهرب الخائفون من إرهاب «الدولة» الى خارجها استنقاذاً لأرواحهم التي كانت في مهب محرقة الحروب المتنقلة في ربوع دولة «الخلافة»، وبعد أن اكتشفوا إسرافها في سفك الدماء والقتل، وإذا بطارىء لم يكن على البال، يتمثل في ولادة تيار جديد ينقم على «الدولة» لمّا رأى فيها اعتدالاً ونكوصاً إزاء الكافرين، أو بالأحرى المكفّرين الأقل دسماً.

السؤال اليوم لا يقتصر على وجود تيار الحازمي في أحشاء «الدولة»، وإنما يتجاوزه الى «ما بعد»، وإلى أين سوف ينتهي هذا التيار أو بالأحرى الى سوف يصل، وهل سيخلف التنظيم الذي تتآكل أطرافه، فيما لا يزال يعيش الحازميون «مرحلة الدعوة» ولم ينتقلوا بعد الى «مرحلة القتال». لابد من التذكير، أن الاستراتيجية الحازمية ليست واضحة المعالم حتى الآن، وقد يرجع سبب ذلك الى أنهم لا زالوا في المرحلة الدعوية، ولكن لم يحدد قادة التيار، المجهولون حتى الآن، المدى الزمني الذي يمكن أن تستغرقه هذه المرحلة، وماهي المناطق المستهدفة. ما يميّز الحازميون عن الاتجاه العام في «الدولة» أنهم من جنسيات عربية وأجنبية متعدّدة، وهذا ما يفتقر اليه تنظيم «الدولة» الذي يغلب عليه العنصران العراقي والشامي.

«كنت في الرقة».. مجسّاً

كتاب «كنت في الرقة.. هارب من الدولة الاسلامية»، للكاتب والاعلامي التونسي هادي يحمد، والصادر عن دار النقوش العربية لعام 2017، يسجّل رواية لتجربة مقاتل تونسي في «الدولة» محمد الفاهم، وهو إسمه الحقيقي، المولود عام 1990 في مدينة دورتموند بألمانيا، والذي قرر العودة الى تونس، موطنه الأصلي، مع عائلته ثم تحوّله مقاتلاً متشدداً في «داعش»، وصولا إلى قراره بنقض البيعة للخليفة البغدادي والهروب من «الدولة الإسلامية».

 
كنت في الرقة

لاشك أن تجربة الفاهم ليست فريدة، وهي تترجم سيرة آلاف المقاتلين الذين نفروا من بلدان أوروبية عدّة وقرّروا الإلتحاق بملء إرادتهم الى «دولة الخلافة». تجربة تستأهل كل العناء، لما تنطوي عليها من حفريات ثقافية واجتماعية بالغة الأهمية في جيل نهبته الغربة الاجتماعية وعاش أشكالاً من الاستغراب الثقافي والنفسي. هي تجرية عاشها الآلاف من الشباب الذين هاجروا وهجروا مواطنهم الأصلية على أمل العيش فيما يعتقدونه الكيان النهائي لأحلامهم، ولهويتهم الضائعة، ولأنفسهم المبتورة.

لا شك أن الصدمة العكسية التي أصابت هؤلاء المهاجرين كانت عنيفة، وفي كثير من الأحيان بلون الدم، وبطعم الموت في حالات أخرى، بخاصة لأولئك الذين دخلوا الدولة «مجاهدين» وخرجوا منها «خونة» و»هاربين من الزحف»، أو عناصر في «الطائفة الممتنعة» الواجب قتالها، أو قضوا نحبهم في تصفيات داخلية.

إن البورتريه التي يقدّمه الكتاب من داخل «دولة الخلافة» جمع كثيرٌ من عناصره من الروايات الشفهية لرعاياها، أو بالأحرى لضحاياها، وما تسرّب من داخلها عبر طرق سريّة، وسوف تبقى الخاتمة قاتمة ودامية.

قصة «الفاهم» تصلح نموذجاً لأولئك الذين لم تعد إيديولوجيا «داعش» تروي عطشهم نحو التطرّف، الذي دفع بهم نحو التمرّد والهجرة المضادة. هرب «الفاهم» من «الدولة» الحلم الى حلم آخر لم ينجز بعد، فدخلها متطرفاً وخرج منها أشد تطرّفاً. كان «الفاهم» شاهداً وضحية في الإنشقاق الحاصل في «الدولة» بين «البنعليين» و»الحازميين»، الذي بدأ يطل برأسه على العالم منذ العام 2014، وانتقل الى مرحلة التكفير المتبادل، ووصل الى التصفيات الجسدية، والإقالات، والانسحابات على خلفية الجدل العقدي حول «عدم العذر بالجهل».

يتحدّث الفاهم عن حملة التصفيات التي قام بها الجهاز الأمني في «الدولة» للعديد من الشرعيين والجند الذي يؤمنون «بعدم العذر بالجهل»، أي من يحكمون بالكفر على عوام المسلمين من أهل السنة في سورية. ويكشف الفاهم كيف تحوّل مطار «كشيش» في ريف حلب الشرقي الى مقبرة لمن تسميهم الدولة «خوارج» من رعاياها، كونهم يكفّرون متزعم «الدولة» أبو بكر البغدادي، وأسامة بن لادن، وأيمن الظواهري وعوام أهل الرقة.

الفاهم في هروبه من الدولة لم يضع نهاية حاسمة لتجربته في التطرّف، بل أراد تطرّفاً أكثر، وأراد راديكالية تفوق ما عليه تنظيم «الدولة»، فكان هروبه بداية رحلة جديدة في البحث عن جماعة أخرى أشد تطرّفاً، وقد همس بذلك لبعض أقرانه بل ومسؤوليه في التنظيم.

الفاهم ليس حالة شاذة في «الدولة»، فهناك عشرات المقاتلين والشرعيين الذين انشقوا عنها وهربوا من تنظيم بات يوصم بالكفر، بالتسلسل لوقوعه في ناقض إيماني (من لم يكفر الكافر فهو كافر)، انطلاقاً من القول بـ «عذر الجاهل». الخلاف حول هذا المبدأ شقّ «الدولة» الى تيارين، وبات الوقت وحده العامل الحاسم في بلورة التيار المنشق، إذ من المتوقع ولادة تنظيم جديدة أشدّ تطرّفاً في المستقبل، إذ لا يمكن أن تنكَّس راية الجهاد، وفق عقيدة السلفية الجهادية، على قاعدة أن «قوام الدين كتاب يهدي وسيف ينصر» كما يقول إبن تيمية.

ما سوف يتغيّر ليس مستوى التهديد الذي يشكّله الخالف لـ «الدولة» فحسب، بل الساحات التي يعيد إنتاج نفسه فيها، والجبهات الجديدة التي يفتحها، بناء على الشبكة الواسعة المتعدّدة الجنسيات التي ينتمي اليها المنشقون من «الدولة»، والذين يزدادون قناعة بأنهم «الطائفة المنصورة» الجديدة. بكلمات أخرى، أن المديات الزمنية والمكانية والإيديولوجية التي بلغها «داعش» قد استنفذت، وبات عليه أن يتخلى عن شعاره الثوري «باقية وتمدّد».

يرجع تشارلي وينتر وكولين كلارك سبب تفكك «داعش» الى خساراته الميدانية في العراق وسوريا، ولا سيما بعد التحرير الكامل للموصل من سيطرة «داعش»، إضافة الى مقتل قادة كبار في التنظيم أو الاعتقال، وإصابة ماليات المجموعة في مقتل، وتآكل الأرض من تحت أقدامه. في الخلاصة، بحسب الكاتبين، أن تنظيم «الدولة» يتفكك بصورة حتمية. فأولئك الذين هربوا من دولة «الخلافة»، بعد أن انقشع سحرها في أذهانهم، يتأهبون للدخول في تجربة جديدة، حيث يولد تنظيم جديد أشد غلواً، وليس بالضرورة أكثر دموية، ولكنه بالتأكيد أشد إسرافاً في مبررات سفك الدماء، وإزهاق الأرواح، لأن ضوابط التكفير باتت أكثر سهولة من ذي قبل، وإن جمهور الكفّار أصبحوا أكبر مما يستطيع الحاسوب الآلي على رصد أعدادهم.

أولئك الذين انشقوا وهربوا من دولة «الخلافة» أو حتى عادوا بملء إرادتهم أو إرادة مشغّليهم إلى أوطانهم أو محال إقامتهم، قد اختاروا الهجرة المضادة في رد فعل على إخفاق «الدولة» في تطبيق الشريعة، كما يفهمها التيار الجديد، الحازمي على وجه الخصوص، والذي يمثّل في الوقت الراهن أقصى نموذج في المجال الوهابي.

ليس هناك من أدلة نهائية على مركز قيادة التيار الجديد، أو النواة الصلبة التي سوف تتشكّل قبل أن يتبلور التيار عسكرياً. ثمة ما يقال عن مدينة إدلب التي تحوّلت الى مركز تجمّع بشري للسلفية الجهادية بأطيافها كافة. سيناريوهات ما بعد «داعش» مفتوحة، من بينها عودة التنظيم الى استراتيجيته الأولى في العمل والقائمة على الخلايا العنقودية.

الخواتيم المحتملة لتنظيم «الدولة» باتت شبه معروفة، من بينها اقتفاء سيناريو «القاعدة» التي فقدت تأثيرها في العراق وسوريا، مع احتفاظها بزخم عملياتي في أفغانستان وليبيا وشبه جزيرة سيناء واليمن. السيناريو الآخر هو «التنافس الإرهابي التدميري» بحسب كلينت واتس، وهي دينامية تفسّر ضمناً إيديولوجيا الجماعة عن طريق دفع المنتسبين الى المناطقية وتعطيل المركز..

ولكن ثمة سيناريو آخر، يلفت اليها كل من كولين كلارك وتشاد سيرينا، بأن ديناميكية أكثر إشكالية، مما قد يؤول الى ظهور مجموعات أصغر وأكثر تطرفاً، مما يجعل الحرب الطويلة في الأصل أطول.

فشبكة «القاعدة» تحوّلت الى ما يشبه التنين القاتل، مع وصول مخالبها من شمال أفريقيا الى جنوب شرق آسيا، وقد انتشر مقاتلوها في نهاية المطاف في جميع أنحاء العالم، حيث قام بعضهم بتأسيس مجموعات متناثرة مما يشكّل تحديات لوجستية وقانونية. وبدلاً من التعامل مع كيان واحد، فإن هناك مجموعات متناثرة في أرجاء متفرقة من العالم تعمل بطريقة عنقوية، قد لاترتبط ببعضها سوى بالتفويض العام باستخدام القوة العسكرية.

وقد يمّر تنظيم «داعش» بهذا المسار ولكن سوف يستغرق الأمر زمناً طويلاً قبل وضوح الصورة. إن ثمة معطيات وافرة تقدم أدلة كافية على تحوّل السردّية الكليّة الشاملة «metanarrative»، ومدى انسجامها مع الرؤية الأصلية للتنظيم، التي كانت تشكل مادة التواصل مع جمهورها عبر مخزون أدبياتي واسع ومدجج بكل أشكال التحريض والإقناع.

لاريب أن الإنتاج الإعلامي والثقافي للتنظيم لم يعد يحتفظ بنفس الزخم المعنوي السابق، تماماً كما يُلحظ ذلك أيضاً من تراجع الاهتمام بخطابات «البغدادي» نفسه، وكذلك العمليات الانتحارية بطابعها الاستعراضي. وفي كل الأحوال، فإن تراجع مستوى الزخم على مستوى الإنتاج الإعلامي والثقافي مرتبط جوهرياً بالرسائل التي يراد إيصالها للرأي العام.

وقد لحظ تشارلي وينتر وكولين كلارك تراجعاً واضحاً في المنصات الإعلامية في «الدولة» بين عامي 2015 ـ 2017. فقد بلغ النشاط الإعلامي في عام 2015 ذروته بواقع 40 منصّة إعلامية، ومنذ منتصف يناير 2017 تراجع العدد الى 19 منصّة فقط نشطةً(26).


المصادر

1 ـ أبرز قياديي «جبهة النصرة» أبو مارية القحطاني كان من «فدائيي صدّام»، القدس العربي، 8 نوفمبر 2014، أنظر:

http://www.alquds.co.uk/?p=247461

2 ـ أبو ميسرة الشامي، ألا في الفتنة سقطوا، أنظر:

https://justpaste.it/gmcn

3 ـ للمزيد حول الجامع أنظر:

http://www.alsalafway.com/cms/book.php?action=book&id=1430

للمزيد حول العمدة أنظر:

http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_11928.html

4 ـ أنظر: صحيفة (الحياة)، باب قضايا وتحقيقات، رقم العدد 14930، تاريخ 12 فبراير 2004

5 ـ جولاني يُكفّر الائتلاف السوري ويدعو داعش للاحتكام لشرع الله، موقع البوابة نيوز، 26 فبراير 2014، أنظر:

http://www.albawabhnews.com/422091

6 ـ جرير الحسني، حقائق و أسباب إنحراف جبهة الجولاني كتبه أبو حمزة المهاجر، موقع الثبات، 27 مارس 2014، أنظر:

https://goo.gl/aujQUQ

7 ـ كلمة وتفريغ – هذا وعد الله – إعلان قيام الخلافة الإسلامية للشيخ المجاهد ابي محمد العدناني، مؤسسة البتَّار الإعلامية، قسم التفريغ والنشر، 29 يونيو 2014، أنظر:

https://goo.gl/Byvv1T

8-MORGAN WINSOR, ISIS Executes 100 Foreign Fighters For Trying To Flee Syria, IBTIMES, 12, December 2014;

http://www.ibtimes.com/isis-executes-100-foreign-fighters-trying-flee-syria-1764018

9- IS has executed 100 foreigners trying to quit, AFP, December 20, 2014;

https://www.yahoo.com/news/executed-100-foreigners-trying-quit-report-140040461.html

10 ـ أنظر:

http://justpaste.it/gmuw

11 ـ http://justpaste.it/gku1

12 ـ أنظر على سبيل المثال (هل الجهل بالتوحيد عذر أم جهل، أبو عمر الكويتي:

https://www.youtube.com/watch?v=H5b-_nasbL8

وأنظر: أقسام الناس من حيث الإسلام الحقيقي، أبو عمر الكويتي:

https://www.youtube.com/watch?v=Z6jb9M5fFPo

13 ـ https://www.youtube.com/watch?v=ZmQsC3Ul61M

14 ـ https://www.youtube.com/watch?v=DpYWPqgI4Zs

15 ـ (مناصرة الأخوة المأسورين في دولة الجهمية الكافرين)، مصلحة التوحيد، 16 أغسطس 2014، أنظر:

https://justpaste.it/gonv

16 ـ بالفيديو: داعش يعاقب «غلاة» كفروه وخططوا للانقلاب عليه، قناة (العالم)، 22 ديسمبر 2014، أنظر:

https://goo.gl/S1KhiB

17 ـ موقع التوحيد الخالص:

http://www.twhed.com/vb/t5839-2/

18 ـ عبد الخالق بن حسن آل محمود، (أتواصوا به بل هم قوم طاغون)، 22 ديسمبر 2014، أنظر:

http://www.twhed.com/vb/t5839-2/

19 ـ غلاة الغلاة، داعشيون يكفّرون خليفتهم، موقع السكينة، 11 مارس 2015، أنظر:

http://www.assakina.com/center/files/65281.html#ixzz4r9uYa2o5

20 ـ تعميم، 11 أغسطس 2014، أنظر:

https://justpaste.it/ta3mim

21 ـ أبي عبد الله التونسي، وقفات حول العذر بالجهل، منبر التوحيد والجهاد، 2014، ص 2

http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_4865.html

22 ـ أبو عبد الله عماد بن عبد الله التونسي، تعقيبات على التعليقات ونقض الفتوى التونسية للشيخ الحازمي .. تقديم الشيخ أبي محمد المقدسي، موقع التوحيد والجهاد، تاريخ الاضافة 10 ديسمبر 2014، أنظر:

http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_4872.html

23 ـ إن الله يدافع عن الذين آمنوا، صحيفة (النبأ) العدد 102، 29 محرم 1439هـ،ص 3،

https://alansar.info/wp-content/uploads/2017/10/ Al-Naba-Newsletter-102.pdf

24 ـ تاريخ دولة الإسلام ثبات ومضاء، صحيفة (النبأ) العدد 103، 6 صفر 1439هـ ص 3 أنظر:

https://alansar.info/wp-content/uploads/2017/10/ Al-Naba-Newsletter-103.pdf

25 ـ سلسلة علمية..في بيان مسائل منهجية (5 ـ 6)، صحيفة (النبأ)، العدد 102، 29 صفر 1439، ص، 10، 11

https://alansar.info/wp-content/uploads/2017/10/ Al-Naba-Newsletter-102.pdf

26- Charlie Winter and Colin P. Clarke, Is ISIS Breaking Apart?, Foreign Affairs, January 31, 2017;

https://www.foreignaffairs.com/articles/2017-01-31/ isis-breaking-apart

الصفحة السابقة