الوهابية تتناسل.. سلالات التكفير

هل أنجب «داعش» وحشه المُطوَّر؟

هجرة الدواعش المضادة

القسم الخامس

سعدالشريف

في التنافر الإيديولوجي يكمن مكر التاريخ، فما حقّقه «داعش» بالتكفير» يخسرة بالأداة ذاتها، أي بالتكفير. رداء المشروعية يتمزق على أيد حرّاسٍ لم يعودوا أمناء على الفضيلة التي وهبتهم هالة قداسة في زمن تخبو القداسات بأشكالها. تجربة «داعش» أوحت بأن «الخلافة»، في إعادة خاطفة ومباغتة للنموذج المعياري، تبعث أحلاماً مغمورة في ذاكرة المحبطين من الواقع البائس والطامحين لماض تليد..

البغدادي والخلافة الموؤودة

في أول خطبة له بعد السيطرة على الموصل وإعلانها عاصمة لدولة الخلافة في الثالث من يوليو 2014، أكّد أبو بكر البغدادي (إبراهيم بن عوّاد البدري) على أن: "اعلان الخلافة وتنصيب إمام، وهذا واجب على المسلمين، واجب قد ضُيّع لقرون، وغاب عن واقع الأرض، فجهله كثير مِن المسلمين، والذين يأثمون – أي يأثم المسلمون – بتضييعه وتغييبه، وعليهم أن يسعوا دائمًا لإقامته.."(1).

 
البغدادي من الرقة: خلافة وجهاد ودعوة الى الهجرة.. خطاب انتهى بانهيار دولة داعش

وفي سياق استحضار طوبى الخلافة، وفق المواصفات المثبتة في أدبيات الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، دعا زعيم تنظيم (داعش) المسلمين "للهجرة الى الدولة الاسلامية" وأرض "الخلافة" التي أقامها في سورية والعراق. وقال البغدادي: "انّا نستنفر كل مسلم في كل مكان للهجرة الى الدولة الاسلامية أو القتال في مكانه حيث كان"، وذلك بحسب التسجيل الصادر عن "مؤسسة الفرقان" التي تعنى بنشر مواد الدعاية الاعلامية للتنظيم. وطالب المسلمين كافة بالنفير لقتال من وصفهم بالصليبيين. وقال: "فانفروا الى حربكم أيها المسلمون في كل مكان، فهي واجبة على كل مسلم مكلف ومن يتخلف او يفر يغضب الله عليه ويعذبه عذابا اليما". وتابع: "آن لكم ايها المسلمون ان تعلموا ان لا عزة لكم ولا كرامة ولا امن ولا حقوق الا في ظل الخلافة" التي اعلن التنظيم إقامتها في 29 حزيران (يونيو) 2014، ونصب عليها البغدادي "خليفة للمسلمين".

ووجّه البغدادي انتقاداً للعراقيين الذين نزحوا جرّاء المعارك في محافظة الأنبار (غربي العراق)، إلى بغداد أو مناطق أخرى، داعياً إياهم الى العودة، والإنضواء في كنف الخلافة، بعد أن سيطر التنظيم على مساحات واسعة في شمال العراق وغربه وكذلك شمال سورية وشرقها في صيف 2014(2).

قصة الخلافة الموؤودة بقدر ما بعثت أسئلة حول إمكانية إعادة احياء النموذج التاريخي/ المعياري الذي كتبت نهاية له العام 1924، أي اعلان أفول الخلافة العثمانية، فإنها نبّهت الى ضرورة التأمل في العوامل المسؤولة عن الانطفاءة السريعة لتجربة كادت فعلياً أن تطيح كيانات مثل سوريا والعراق ابتداءً، وأن تعطّل كيانات أخرى (ليبيا، وأجزاء من مصر، والصومال، واليمن).

كانت دعوة البغدادي للهجرة مفتوحة لكل مسلمي العالم، في سياق تعزيز أركان الدولة الناشئة في مناطق من العراق وسوريا. هي دولة بلا حدود واضحة، أو بالأحرى ثابتة، ولا هوية إثنية متبلورة فهي قائمة على أساس ديني وتضم خلائط إثنية متعددة. تلك الدعوة التي أطلقت في صيف 2014 سحبت بحكم الواقع مع نهاية عام 2016.

وعليه، فإن الدعوة الى الهجرة باتت في حكم الواقع الميداني اليوم غير ذات صلة، ولذلك لا نجد في أدبيات "داعش"، بما يشمل بيانات البغدادي الصوتية أو خطب قادة التنظيم"، أو المقالات المنشورة في صحيفة (النبأ) أو مجلة (دابق) أو غيرهما أي إشارة، مجرد إشارة، الى رغبة التنظيم في استقبال "مهاجرين" جُدد، لا سيما بعد خروج مساحات شاسعة في العراق وسوريا من سيطرة "داعش".

في التداعيات، فإن دوّامة السجّال العقدي والتنظيمي داخل "داعش" لم تعكس المشهد كما ينبغي للمراقب الخارجي. وقلّة من أثار انتباهها انشقاق التنظيم عمودياً وبروز تيارين متنافرين: تيار الحازمي وتيار البنعليين، والذي نزل الى القواعد التنظيمية وتظهّر في هيئة بيانات وبيانات مضادة. توقّفت الهجرة تبعاً لانحسار ظل "الخلافة" الداعشية، فيما انشغل الداخل بممارسة نقد ذاتي، ولكن على طريقة تقاذف المسؤوليات. ونتوقف هنا عند واحدة من الرسائل الموجّهة الى البغدادي، والمشتملة على قراءة نقدية لتجربة دولة "داعش" ومآلها الدراماتيكي.

النصيحة الهاشمية

تبقى ("النصيحة الهاشمية" لأمير الدولة الاسلامية)، التي أعدّها شخص يطلق على نفسه أبي محمد الحسيني الهاشمي.. الرسالة الأشد تماسكاً وإثارة للإهتمام لما انطوت عليه من تفاصيل، وأبعاد مغفولة في غيرها من الرسائل الاحتجاجية المتبادلة بين التيارين المتصارعين داخل "داعش".

كتبت الرسالة في مدينة الميادين من محافظة دير الزور، أو ما يعرف في ادبيات داعش بـ "ولاية الخير" ونشرت في 11 شوال 1438هـ الموافق 6 يوليو 2017. وعليه، فإن الرسالة/ النصيحة صنّفت إبان ذروة احتدام الصراع بين البنعليين والحازميين، وفي ظل غلبة الأخير على "الدولة" كما سوف نرى من النصوص. وسوف تكون لنا وقفات واستطرادات مع بعض الفقرات بهدف التوضيح.

يبدأ الهاشمي رسالته بفقرة مشحونة بالأسى على مآل "داعش" ويقول:

"إن اليراع ليتحيّر من أين يبدأ وصف المعضلة وبأي لغة يسطّر بيان المشكلة، كيف وهو يبصر الدولة التي أقيمت بالجماجم والأشلاء على التوحيد والسنّة الغرّاء، وهي تتآكل إقليماً تلو إقليم، وتنفرط خرزات عقدها بسرعة البرق، ويتساقط أبناؤها جمعاً يتلو جمع، فمن أخطأته المنيّة أصابته مقاتل البدعة الرديّة..وكأنها ليست دولتي التي بايعتها ـ قبل هجرتي ـ منذ الحادي والعشرين من رمضان في عام 1427هــ، يوم أعلنها المحارب الجبوري (أي محارب عبد الله لطيف حرامي الجبوري، أحد قادة التنظيم في العراق قتل في التاجي شمالي بغداد سنة 2007) وقادها المهاجر (أبي أبو حمزة المهاجر، وأسمه الحقيقي عبد المنعم عز الدين علي البدوي، من قادة القاعدة قتل في غارة جوية في إبريل 2010) والزاوي أبو عمر البغدادي (أي حامد داود محمد خليل الزاوي، زعيم التنظيم قتل في غارة جوية في إبريل 2010) يوم أن كان ربّان دفتها الشامي والغريب وأمثالهما، ويوم أن تمسّكت بالسنّة ونبذت البدعة..." (3).

وحمّل الهاشمي البغدادي مسؤولية فشل الدولة وانهدام أركانها (فوا أسفاه على مجد مؤثّلٍ فرّطتَ في رعايته، وعلى صرحٍ شامخ كنتَ معول هدمه)(4).

صاحب الرسالة، أي الهاشمي، أراد أن يقوم بما وصفه (الصعقة الكهربائية) باعتبارها آخر السبل وأنه (كالنذير العريان الذي يصيح بقومه واصباحاه واغوثاه)(5).

 
كتاب النصيحة الهاشمية: نقد داعشي لداعش!

يسرد الهاشمي قائمة من القادة الذين مثّلوا ما يعتقده الجانب المشرق في "داعش" مثل ابو مصعب الزرقاوي (أحمد فاضل نزال الخلايلة، قتل في غارة جوية في يونيو 2006)، وأبو أنس الشامي (عمر يوسف جمعة صالح قتل في قصف صاروخي أميركي في سبتمبر 2004)، والشيخ ميسرة الغريب (محمد وائل حلواني، المسؤول الاعلامي الأسبق في "داعش" قتل في خريف 2007 بغارة جوية)، والشيخ ابو الحسن الفلسطيني (أحمد طه أمير في داعش قتل في أغسطس 2014)، والشيخ عز الدين الرصافي (قتل في العراق قبل 2010 ولم نعثر على تفاصيل عن سيرته سوى تأليفه لعدد من الكتب في الجهاد)، والشيخ محارب الجبوري، والشيخ أبي حمزة المهاجر، والشيخ أبي عمر البغدادي، والشيخ عثمان آل نازح الغامدي (سعودي تولّى منصب مفتي داعش وقتل في غارة جوية في عين عرب السورية في 1 يناير 2015)، والشيخ أبي مالك التميمي (إسمه الحقيقي أنس النشوان، سعودي كان مسؤول اللجنة الشرعية التابعة للجنة العامة المشرفة في داعش، قتل في مايو 2015)، وأبو همام الأثري (إسمه الحقيقي تركي البنعلي البحريني مواليد 1984 والمفتي لاحقاً والذي أغتيل في مايو 2017 واعترف داعش في اول يونيو بمقتله) وأبو عبد البر الصالحي (كويتي، التحق بتنظيم داعش في 2014، وأصبح قيادياً فيه، واعتقل لاحقاً من قبل اللجنة المفوضة في داعش بعد سيطرة التيار الحازمي الذي أسس لجنة المراقبة المنهجية للتأكد من الالتزام بتكفير العاذر بالجهل، وكان من أتباع تركي البنعلي ورد على بيان اللجنة المفوضة بعنوان "ليهلك من هلك عن بينة" وهذا سبب اعتقاله، وقتل في غارة جوية أميركية على المعتقل في يوليو 2017)..

لناحية عقد مناظرة بين "داعش" والنماذج السلبية، من وجهة نظر الهاشمي وأمثاله، يستعرض مثالين:

الأول: الدولة السعودية، أو ما يطلق عليها "دولة آل سلول"، حيث استعان عبد العزيز بالإخوان لمقاتلة القبائل في نجد والشريف في الحجاز، وقتالهم بعد ذلك في معركة السبلة سنة 1929، والتي أدّت الى مقتل قائدي الإخوان سلطان بن بجاد وبعده فيصل بن سلطان الدويش المطيري.. والنتيجة حسب الهاشمي "فمرق وارتد..".

الثاني: جماعة الاخوان المسلمين، وحسب الهاشمي، فإنهم "كذبوا على الامة وخدعوها وأنهم يريدون إقامة حكم إسلامي عن طريق البرلمانات الطاغوتية والانتخابات الشركية، فلما وصلوا لحكم مصر ولم يصدقوا في دعواتهم، ابتلاهم الله فوق ما ابتلى آل سلول"(6).

سيادة التيار الحازمي

في تقييمه النهائي الذي يحاكم فيه دولة "داعش"، في ضوء نموذج معياري أخرج منه الدولة السعودية وجماعة الإخوان المسلمين، ينزع الهاشمي عن التنظيم وصفة الشرعية وفق معايير صارمة، كما يكشف عن الحال الواقعي للتنظيم ـ في ظل سيطرة تيار الحازمي ـ على النحو التالي:

"فكيان تؤكل فيه الحقوق، ويفشو فيه الظلم، وتمنع فيه الغنائم، ويغصب فيه الفيء، ويجوع فيه أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآل بيته ولا ينالهم من سهمهم نصيب، ويستحق أهل الثغور والجهاد الزكوات والصدقات من فقرهم وفاقتهم، ويتسوّل أبناء المهاجرين في الطرقات، ولا يعرف أبناء الأنصار حق ولا فضل، وتساوم أرامل الشهداء على أعراضهن من العوز.. فأين منهاج النبوة من كل هذا..؟! كيان تفشو فيه البدع والغلو، فيسب فيه السلف، ويلعن فيه العلماء، ويشتم فيه الصالحون ويرمى بالكفر فيه ذوو السابقة والدعوة الى التوحيد، ولا تكاد تخبو نار بدعة الا اشتعل أوار بدعة أشنع وأقبح.. فأين منهاج النبوة من كل هذا..؟ّ

كيان يؤتمن فيه الخائن، ويخون فيه الأمين، ويسجن ويكذّب الصادق، ويولّى ويصدّق الكاذب، ويقضي الغاشم الظالم، ويجلد البريء، ويسجن المتهم الشهور الطوال بغير بيّنة، ويقتل فيه المظلوم بغير حجّة ولا برهان، ويحارب فيه العلم وأهله، ويحذّر من طلبته، ويتتبّعهم نعاثل سفلة من "مسلمي الثورات" ما عرفوا خلقاً ولا ورعاً، ولا أحكموا علماً ولا فهماً، وما شمّ أحدهم رائحة التوحيد الا بعد أن أحرق البوعزيزي نفسه..!! وإذا وصف طالب العلم فأقل ما يقال عنه بأنه: خطر على الدولة..(7).

في النص ثمة لفتات على درجة كبيرة من الأهمية، أولاها أنه يحكي عن مرحلة حدث فيها ما يشبه الانقلاب داخل التنظيم، الذي رفع قوماً وخفّض آخرين. وأن سلوك التيار الحاكم في التنظيم ـ أي الحازميين ـ إزاء التيار المضاد ـ البنعليين ـ كانت تتسم بالقسوة، في سياق عملية إقصاء ممنهجة عبر تقليص النفوذ، وانتزاع الصلاحيات، واستبعاد قيادات وعناصر التيار البنعليين وان تطلب الإعتقال والقتل. يلفت الهاشمي الى هيمنة العنصر التونسي على سنام التنظيم، والذي قال عنه بأنه لم يلتحق بالسلفية الجهادية الا بعد الثورة التونسية آواخر العام 2010.

يمهّد الهاشمي من خلال المشهد القاتم كما يرسمه لواقع التنظيم لإيصال رسالة الى قيادة التنظيم: "فلا تعجب إذن أيها الخليفة أن ضاع بعد اتساع سلطانك، وهبط بعد إذ كان عظيماً شأنك، وأن تزول من تحت يدك الدولة وأنت تنظر لا تقوى على فعل شي، ولا تحرك ساكناً، ولا تسكّن متحركا"(8).

هنا يكشف الهاشمي حقيقة خضوع البغدادي تحت تأثير التيار الحازمي الذي خطف قرار التنظيم في مرحلة كان فيها "داعش" لايزال يمسك ببعض الأرض، ولكنه خاض معارك شرسة ومصيرية في العراق وسوريا، وأودى الحازميون بدولة "داعش" الى الهاوية.

يرصد الهاشمي أسباب انهيار دولة "داعش" ويقسّمها الى داخلي وخارجي:

الأسباب الداخلية: ويجملها الهاشمي في:

١ ـ انحراف المنهج، وانقلاب المبادىء، والنكوص على العقب، وجنوح نحو الغلو، واندفاع وهجوم نحو تبديع الأسلاف وتكفير الأخلاف.

٢ ـ تولية أهل البدع، والجهل، وقلّة الدين والورع، والعلم.

٣ ـ تولي الفاسدين أخطر المناصب والولايات الشرعية. ويذكر الهاشمي مثالاً على ذلك بما نصّه: "ولا تعجب فبعض أمرائك علينا سجد الجنود شكراً لله يوم شاع نبأ مقتله، وبعضهم ـ ممن لا زال حياً ـ يقنت عليه القائمون، ويدعو عليه الساجدون بأن يلحقه بسلفه، وليست يا إبراهيم ـ والله ـ من سهام هؤلاء الصالحين بسالم ولا بعيد..!"(9).

من كتاب النصيحة: فضائح القضاء الداعشي

٤ ـ صراع العسكر ـ المشايخ؛ حيث يلفت الهاشمي الى صراع داخلي في "داعش"، يتسم بالعنف والشراسة، ويدور بين القادة العسكريين والميدانيين ورجال الدين، ويتمحور حول من له الكلمة الفصل في دولة "داعش". ويظهر جلياً أن المرحلة التي كتب فيها الهاشمي رسالته، كان فيها التيار الحازمي، برغم سيطرته على مجاري الأمور الداخلية للتنظيم، متحالفاً مع القادة العسكريين فيه. وفي تعليقه على الحملة التي تعرّض لها المشايخ في التنظيم، يضيء على:

"حرب طلبة العلم، وازدرائهم واحتقارهم والتنقيص من قدرهم، وتتبّع زلاتهم وسقطاتهم، والحرص على إسقاطهم، بل تمادى الأمر الى اقتحام بيوتهم وسوقهم كالنعاج وحبسهم في الزنازين، ثم التهديد بقتلهم، بل لعلها قتلت بعضهم: وقالت: "طائرات الصليبيين"!!

ويمضي في تفاصيل الحملة بالقول:

"فلم يكف رؤوس الجماعة بإسقاط علماء الأمة الموحدين الصادقين الموالين لنا خارج الدولة، كمنع كتب الشيخ الامام المحدّث ناصر بن حمد الفهد، الذي بايعك بخط يده من قعر زنزانه ـ وكتب الشيخ العلامة علي الخضير وغيرهم، فك الله أسرهم وعجل هجرتهم ـ بل عطفت على الشيوخ وطلبة العلم والفضلاء في داخلها فتتبعتهم ولعنتهم. فمن صنّف يوماً لهذه الجماعة: "مدّوا الأيادي لبيعة البغدادي" (لتركي البنعلي، المفتي السابق لداعش) وصنّف دفاعاً عنك: "الخليفة بين النسّابة والسّبابة" صار يرمى بالشرك والردة زوراً وبهتاناً، ويلعن في المساجد والمعاهد، وهو الطاهر المبرأ من هذا كله، فأي كفران للمعروف بعد هذا الكفران، وأي نكران للجميل بعد هذا النكران..؟!(10).

ويذكر في هامش ص 10: أن طائفة من المشايخ ناصحوا أبو بكر البغدادي من بينهم تركي البنعلي، ثم جالسه الشيخ أبو بكر القحطاني (عمر بن سعود القحطاني، سعودي تولى منصب المفتي الشرعي، وهو من أفتى بقتل أفراد عشيرة البو نمر والشعيطات لرفضهما مبايعة البغدادي، وقتل في تلعفر في أغسطس 2017) فناصح البغدادي وبيّن له خطورة توغّل تيار الحازمي، وكذلك فعل أبو عبد الرحمن الزرقاوي (أو أبو عبد الرحمن الشامي)، ولكن رفض البغدادي مقابلته، قبل أن ينقلب الأخير على الحازميين ويعيّن ابو عبد الرحمن الزرقاوي رئيساً للجنة المفوَضة.

وفي 12 يناير 2014 توافرت معلومات ذات أهمية عالية عن طريق سلسلة تغريدات على تويتر تتحدث عن أوضاع "داعش" قبل شهور قلائل من احتلال الموصل. كان البغدادي في تلك الفترة يعقد اجتماعات مكثّفة، نظراً لظروف صعبة كان يعيشها التنظيم بعد أن فقد البغدادي عدداً كبيراً من رجالاته، حتى أنه طلب إجراء إحصاء داخلي لعدد التابعين له. طلب البغدادي من أبو علي الأنباري (عبد الرحمن بن مصطفى القادولي، نائب البغدادي) القيام بالمهمة، فأرسل الى جميع المجموعات في سوريا لموافاته بالعدد الإجمالي، فكانت الإحصائية الإجمالية 1757 مقاتلاً، أغلبهم من ثلاث جنسيات الأولى: تونس، والثانية: السعودية، والثالثة: ليبيا، إضافة الى الجزائر.

في ضوء هذه المعطيات يتبيّن أن الخطابات الحماسية التي كان يطلقها البغدادي منذ احتلال الموصل وما بعدها، لم تكن تحريضية بدرجة أساسية، بل كانت تعبوية ومحاولة لشدّ العصب الداخلي، بعد أن بدأت بوادر انشقاق في التنظيم، وتسرّب مقاتليه الى تنظيمات أخرى. ولذلك، صدرت فتاوى بتكفير التنظيمات الأخرى بهدف خلق رادع إيديولوجي/ إيماني لتحصين التنظيم من الداخل وسدّ منافذ الهروب منه. وقد كلف البغدادي أبو بكر القحطاني لاستدراج فتاوى من شيوخ سعوديين بردّة "جبهة النصرة" بقيادة أبو محمد الجولاني، و"الجبهة الاسلامية" بقيادة زهران علوش، وتالياً إقناع مقاتليه بمحاربة التنظيمين السابقين.

تجدر الإشارة الى أن أبو بكر القحطاني التحق بتنظيم (داعش) في العام 2012 بعد إطلاق سراحه من السجون السعودية عقب الإنتهاء من دورة المناصحة التي تقدّمها وزارة الداخلية، بالتعاون مع رجال دين في المؤسسة الدينية الوهابية، وأصبح الأقرب للبغدادي، وكان متحمّساً لمشروعه، حتى أنه غيّر كنيته من أبو حفص إلى أبو بكر تيمناً بكنية البغدادي.

وقد كلّف القحطاني السعودي عبد الله الفائز الذي رأس لجنة لتكثيف الحملة الإعلامية لإنقاذ دولة البغدادي. وكان الفايز موضع ثقة البغدادي شخصياً، وهو من المحاربين الأوائل في تنظيم "دولة العراق الاسلامية"، وقد أصيب في رجله، ودخل السعودية متسلّلاً بهدف تلقي العلاج في المستشفيات الحكومية، وقد أبلغ المستشفى الذي كان يعالج فيه السلطات الرسمية بأن لديه مصاباً بطلق ناري، فتمّ اعتقاله، ثم أفرج عنه لاحقاً ولكن تمّ منعه من السفر، وأرسل رسالة الى البغدادي، والعقيد حجي بكر (سمير عبد محمد الخليفاوي، الرجل الثاني في داعش قتل في سوريا على يد جماعات مسلّحة في يناير 2014) يتأسف فيها عن العودة الى التنظيم بسبب منعه من السفر، وانه مستعد لجميع أنواع الدعم الإعلامي والمالي.

ولكن رد البغدادي كان سلبياً، لأن المنع من السفر لم يكن في يوم ما حائلاً أمام هجرة المقاتلين، مع أن عبد الله الفايز التزم بما طلبه القحطاني بتكثيف العمل الاعلامي على شبكة الانترنت وتجنيد أعضاء جدد، ولكن القحطاني استمهله بعدم ضم أعضاء جدد قبل عرض أسمائهم عليه واعتمادهم من قبل شورى "داعش". وقد رفع الفايز أسماء سعوديين مثل: عبد الرحمن سلطان المعجل، وريّان أبو حيمد، وعدنان الشعلان الخالدي، وتميم القاضي. وقد تولّت اللجنة تكثيف دعم دولة البغدادي بالتصدي للشيوخ المعارضين للبغدادي تحت حسابات وهمية تحارب ما يسمى بالسرورية.

لم يقتصر نشاط السعوديين على الإعلام التعبوي، بل طلب البغدادي من القحطاني وعثمان نازح تحريض المقاتلين، لاسيما السعوديين، على القيام بعمليات انتحارية في جبهة النصرة وأحرار الشام. وقام القحطاني وعثمان نازح بتسجيل قائمة انتحاريين وتمّ تسليمها للبغدادي. وكان يرى الأخير بأن ضمان استقرار التنظيم وتحصينه يتم عن طريقين: الانتحاريين، والتفجير في تركيا للحيلولة دون دعمها لما يسميها بـ "الصحوات" حتى يحاصرهم وسط سوريا.

الإفتراس الداخلي في داعش
اعدام وسجن من يخالف البغدادي، من كتاب النصيحة الهاشمية

بعد سيطرة التيار الحازمي، خسر كثيرون مواقعهم، وتوارت الأسماء الكبيرة بعد غياب جيل من الآباء المؤسسين للتنظيم. وكان من آثار الانشقاق الحاصل في "داعش" على خلفية عقدية، تجاهل إعلام "داعش" الخاضع لسيطرة الحازميين، وفاة ميسرة الغريب، المتحدّث بإسم البغدادي، برغم من أنه لعب دوراً كبيراً في تعزيز أركان "الدولة"..

يسرد الهاشمي بعض آراء الحازميين الذين سيطروا على "داعش" والتي تمثّل ذروة التشدّد في حركة أفكار السلفية الجهادية، ويقول:

"ثم عاد الحمقى والنوكى والسفهاء يعملون عقولهم الخربة العفنة، وزبالات أفهامهم النتنة في علماء الأمة الأوائل بأثر رجعي كالرجيع، فابن قدامة المقدسي مُفوِّضٌ لا نترحم عليه، وابن تيمية يعذر بالجهل فننتبه من أقواله، والنووي عنده تمشعر نحذر منه (11)... فأسقطوا الأحياء والأموات، وحسبوا أنّه لم يبق للإسلام أي هم ليجدّدوا ما اندرس من معالمه ويحيوا ما مات من أعلامه، وهم والله من درسها وأماتها...". (12).

يتوقّف الهاشمي عند النزاع المحتدم بين القادة الميدانيين وطلبة العلم أو المشايخ. ففي سياق التدليل على تخفيض شأن العلماء في تراتبية دولة "داعش" يقول، والكلام موجّه دائماً الى البغدادي:

"فلقد صار هذا الإستخفاف ديدن القادة والأمراء الذين وليتهم على رقابنا، وغدا حديثهم الممجوج واسطوانتهم المشروخة "الشرعيون خطر على الدولة"، و"طالب العلم أخطر شيء على الدولة" و"مشكلة الإخوة أنهم ينجرّون خلف طلبة العلم". فهذه اللجنة التي وليتها علينا وهذه عبارتهم وكلامهم، فقبّحهم الله ولعنهم لعنة تدخل معهم قبورهم ثم توردهم النار وبئس القرار"(13).

من الواضح، أن الهاشمي يحمّل البغدادي مسؤولية صعود تيار الحازمي وتسنّمه للمناصب العليا في الهيكل التنظيمي لدولة "داعش". وعلى ما يبدو، فإن القادة الميدانيين في "داعش" كانوا أميل الى تيار الحازمي، لكونه ينسجم مع نهجهم العملاني، في التسامح في قتال الخصوم وتوسعة مروحة المصنّفين في خانة الكفّار.

وعليه، فإن ثمة توافقاً بين فريق التيار الحازمي مع القادة الميدانيين، وكثير منهم أعضاء في التيار نفسه، والذي على ما يبدو تآزر على تهميش تيار ما عرف بـ "تيار المناهجة"، وهو الذي يقول بعذر الجاهل. اللافت، أن اللجنة المفوّضة التي ينتمي أعضاؤها لتيار الحازمي تشكّلت بقرار من البغدادي نفسه. عبارات الهاشمي في التقبيح واللعن والدعاء على أعضاء اللجنة المفوضة بالنار تشي بتكفيرهم.

في هامش ص 12 يحيل الهاشمي على ما بين القوسين (قالها شيبة السوء عبد الناصر للشيخ أبي عبد البر الصالحي الكويتي وحدثني بها، وعبدالناصر حينها أمير اللجنة المفوضة.. بين القوسين الثاني (قالها أبو اسحاق العراقي لجمع من القضاة في ولاية الخير/ دير الزور)، هذا الذي وليته من بين أعضاء اللجنة المفوّضة على القضاء والمظالم.."، وبين القوسين 3 قالها أبو حفص الجزراوي لأحد الولاة.

ويذكر خلفية مقتل من يصفه بـ "الشيخ والمحدّث القاضي أبي عبد البر الصالحي الكويتي في سجون جلاوزتك ـ أي البغدادي ـ في ديوان الأمن فقد صرّح أبو حفص الجزراوي بأنه هو من أمر بحبسه، وكان حبسه بعد أن كتب نصيحة لبيان باطل وضلال التعميم الأخير، الذي أضلّت به الأمة وكذب به على الله ودينه ثم على أمراء هذه الجماعة منذ تأسيسها..".

تجدر الإشارة الى أن ابو حفص الجزراوي وهو سعودي الجنسية وكان يشرف على صحيفة (النبأ) الناطقة بإسم "داعش"، وكان المسؤول عن صوغ وتعميم خطاب التنظيم في مرحلة صعود تيار الحازمي، وقد استلم الجزراوي في السابق منصب والي دير الزور، وهو ما يشير إلى علاقته الوثيقة بالقيادة العليا في "داعش"، بالنظر الى الأهمية المركزية لولاية دير الزور عسكرياً واقتصادياً.

وكان الجزراوي قبل ذلك يعمل ضمن "كتيبة المهاجرين والأنصار" التي أنشأها وقادها عمر الشيشاني، قبل مبايعته البغدادي في صيف العام 2013، في وقت كان أبو حفص الجزراوي يرفض البيعة، ثم بايع البغدادي وسلك الطريق السريع نحو المناصب العليا، الى أن تحوّل الى أحد أشرس صقور التيار الحازمي، وكان ممن فرحوا بمقتل تركي البنعلي.

يصف الهاشمي أبو حفص الجزراوي بأنه كان "خادماً عند عسكر طواغيت آل سلول، ولم يشم رائحة الاسلام الا بعد قدومه الشام ـ مع أننا لا نعلم يقيناً أنه استتيب أو تاب ـ وأما العلم فوالله ما شمّ رائحته لا من قبل ولا من بعد.. ثم بعد قدومه للشام خذّل الشيخ عمر الشيشاني على بيعة الدولة، وقال: "لو أن كل الناس بايعت الدولة ما بايعتها".

ولكن الجزراوي نفسه تسلّق سلّم المناصب في "داعش" حتى صار الموجّه الأول فيه عن طريق رئاسة تحرير صحيفة "النبأ"، وأيضاً تولي إمارة "دير الزور"، وبحسب الهاشمي "واليوم يتسلّط على رقاب قدامى المجاهدين، ومشايخ الموحدين، فيرمي أبا همام الأثري (=تركي البنعلي) بالردّة ويرمي أبناء عبد البر في السجن.."،وخلص للقول "كان هذا علجاً غارقاً في حمأة الردّة والكفر" يقصد ابو حفص الجزراوي.

وكان أعضاء اللجنة المفوّضة قد كفّرت تركي البنعلي. ويروي الهاشمي قصة اعتقاله من قبل من وصفهم بـ "جلاوزة البغدادي"، وهم من أتباع التيار الحازمي ويقول: "واقتيد ـ أي البنعلي ـ أسيراً كسير الجناح وحشر في محبس ضيّق قديم مشهور معروف للأعداء ظهرت صورته على قنواتهم بأنه أحد سجون الدولة ومعه أزيد من ستين مجاهداً عامتهم من خيرة المجاهدين المعروفين بالصلاح والسابقة ثم تقتلهم طائرات الصليب"(14).

 
تركي البنعلي، البحريني الذي تُنسب له فرقة البنعليين الداعشية!

ينقل الهاشمي صورة عن الافتراس الداخلي الذي عاشه "داعش"، والذي بلغ ذروته باعتقال قادة الصف الأول من تيار "المناهجة" بقيادة تركي البنعلي، ومعه مجموعة كبيرة من أنصاره ممن وصفهم الهاشمي "خيرة المجاهدين المعروفين بالصلاح والسابقة".

يوجّه الحسيني توبيخاً للبغدادي على ما أصاب المشايخ في دولته وقال: "فليكتب التاريخ ـ يا إبراهيم ـ أن العلماء وطلبة العلم يقتلون في سجون الخليفة الذي زعم يوماً أنه يستنفر الناس ويخصّ طلبة العلم منهم ويحثّهم على الهجرة لدولته.."(15).

في السياق نفسه، يلفت الهاشمي الانتباه الى التدابير التي فرضها التيار الحازمي بتأييد من البغدادي نفسه، ومن بينها منع الكتب المعتمدة من قبل للتدريس والتعميم في مدارس ومعكسرات "داعش". يقول الهاشمي عن البغدادي: "فأصدر ـ قبل يومين ـ بياناً كالحاً كوجهه يمنع فيه تداول خمسة كتب معتمدة من كتب المعاهد الشرعية في الدولة، بزعمه أنها مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.. ولازالت هذه الكتب منذ ألفت من عدة سنوات تدرّس للناس ـ عامة وخاصة ـ وتخرّج على ما فيها الفئام المجاهدين الذين ارتقوا الى ربهم شهداء..."(16).

والكتب المسحوبة من التداول بقرار من اللجنة المفوّضة صادر في يونيو 2017 هي: "مقرر في التوحيد"، و"تعلموا أمر دينكم"، و"فقه النوازل"، و"السياسة الشرعية"، و"التقريرات المفيدة في أهم أبواب العقيدة".

ونحن هنا أمام مشهد سجالي داخلي يعكس ارتفاع منسوب التوتر الذي بلغه التنظيم والتجاذبات الحادة التي كان يعيشها في تلك المرحلة. فقد بدا تيار الحازمي وكأنه يؤسس لقطيعة مع الأجيال المتعاقبة على تنظيم "الدولة"، وهذا ما يكشف عنه حكم أبو حفص الجزراوي على الماضين من قادة "داعش" بأنهم "هلكوا على البدعة وخلاف السنة". ويتساءل الهاشمي مستنكراً: "فإما أن الدولة اهتدت بعد ضلالة، وكانت من قبل ضالّة تكذب على الله والأمة حين زعمت أنها منهاج النبوة، أو ضلّت بعد الهداية وانحرفت بعد الاستقامة وعميت بعد البصيرة.."(17).

يشدّد الهاشمي على دور البغدادي في تغطية مخالفات تيار الحازمي بقوله: "وأنت ترى هذه المصائب والبواقع المبيرة المفنية تحصل في سلطانك فلا تغيّرها، بل تقرها وتؤيدها.."، بل زاد الطين بلّة أنه "كلما كتب لك ناصح في بيان حال هذه اللجنة وانحرافها ومخازيها حولت كتابه اليهم لينزلوا به الويل والثبور وعظائم الأمور..."(18).

ما يشهده التنظيم من نزاعات شرسة هو تظهير لخلاف عقدي فارق بين حدي: إيمان وكفر، إذ بات التنظيم أمام فريقين متناقضين تماماً، وبحسب الهاشمي: "ولقد وصل التمادي في الخلل، والتهاوي في دركات الزلل، أن اختلّ مفهوم توحيد الحاكميّة والأتباع عند كثير من الجند، حتى لقد ابتلينا بمن يقول: "لو أمرني الأمير بالسجود لفلان لسجدت له، ولو أمرني الأمير بقتل فلان لقتلته ولو كان بريئاً، ولو.. ولو.. ولو.."(19).

انها صورة بالغة الدلالة ومكثّفة عن واقع "داعش" في لحظة بدأ الشقاق الإيديولوجي يأكل جسد التنظيم متزامناً مع تآكل أطرافه عسكرياً.

ينظر الهاشمي إلى واقع دولة "داعش" وجهازها البيروقراطي من موقع الآخر المتناقض، ويقول عن اللجنة المفوّضة، وأمراء الدواوين، والهيئات والولاة "ليس فيهم رجل واحد ـ سوى أبي همام (يقصد البحريني تركي البنعلي) ـ عرف بطلب العلم أو أشتهر بتحصيله.."(20).

خلاصة تقويم الهاشمي النهائي لحال دولة "داعش" في ظل سيطرة التيار الحازمي "أن تساهلت الولاة والأمراء في الدماء، ومن أعظم صور هذا التساهل التفريط في الجنود والتغرير بهم وعدم إحكام الغزوات والمعارك وعدم الخوف من الله في ذلك فيوردونهم المهالك، فإن كان من نصر نسبوه لأنفسهم وإن كان من هزيمة فالمخطىء هم الجنود وفي الغالب لأنهم "لا يسمعون ولا يطيعون" زعموا فكذبوا..!!(21).

وفي سياق النقد الذاتي لتجربة "داعش" في ظل هيمنة التيار الحازمي، يحمّل الهاشمي مسؤولية خروج مناطق واسعة من سيطرة التنظيم الى الولاة وأمراء "داعش" من المنتمين للتيار الحازمي، ومن بينهم والي دير الزور العراقي عبد الناصر، الذي أرسى حسب الهاشمي ما أسماه "فقه الإنسحابات": "فلم يدع لنا قرية ولا مدينة ولا ولاية إلا وأمر بانسحاب الجند منها كلياًّ أو جزئياً وما مهزلة سد الطبقة والخروج من الرقة بخافية عن بصير ففر وأمر الناس بالفرار وقدّم لذلك خدمة للصليبين لم يكونوا يحلمون بها البتة"(22).

وكان يهدد كل من يخالفه بعبارة: "والله أكتله"، باللهجة العراقية أي "أقتله".

يقدّم الهاشمي شرحاً تفصيلياً لمدى تغلغل التيار الحازمي في المنظومة المؤسسية لتنظيم "داعش"، حتى أصبح هو الفيصل في كل شؤونه، وبات قرار الحرب والسلم بل وإدارة شؤون دولة "داعش" بالكامل موكولة الى الحازميين بلا منازع، وبلا رقيب أو حسيب:

"وبعدما تولّى الظلمة والجهلة والمبتدعة غابت الرقابة عليهم، فصاروا يسرحون ويمرحون ويظلمون ويجورون، ولا رقيب ثم ولا حسيب، ترى أحدهم يبطش ويظلم ويبدّع ويكفّر كأنه مستيقن أنه لن يوقف بين يدي ربه..الخ"(23).

تحدّث الهاشمي أيضاً عن فساد جهاز القضاء في دولة "داعش"، وقد تم تعيين قاضٍ لديوان القضاء والمظالم بتجاوز الوالي، وهو أبو حذيفة التونسي المحسوب على تيار الحازمي وكان أبو حذيفة يقول في السابق: "أنا لا أرضى أن أدخل أولادي مدارس الدولة الاسلامية لأنها لا تعلم الكفر بالطاغوت، ومناهج التعليم الشرعي في مدارس آل سلول أفضل من مناهج الدولة الاسلامية".

وكان عبد الناصر، والي داعش في دير الزور، قد عزل خمسة من القضاة وأحالهم على المكتب الشرعي في ديوان الجند في يوم واحد، دون أن يعلم أمير الديوان بشيء من ذلك.. وينقل الهاشمي بأن أحد القضاة السابقين من طلبة العلم المهاجرين وقد طلب العزل والاعفاء: "والله يا أبا محمد لقد تيقنت أن قيمة القاضي في هذه الدولة أقل من قيمة الحذاء"(24).

بصورة إجمالية، تمّ استبعاد أكثر القضاة المهاجرين القدامى من المشايخ وطلبة العلم لعدم مسايرتهم قادة "داعش"..(25).

 
السعودي أحمد بن عمر الحازمي الذي تُنسب له الفرقة الحازمية الداعشية!

يعكس الهاشمي بعض صور المعاناة التي عاشها التيار المضاد لتيار الحازمي، ومن ذلك جلد المحتسبين وإهانتهم أمام "أبواب بيوت العصاة الفجرة بل الكفرة من سبّابي الذات الالهية وبائعي الدخان، يسجنون ويطردون وينفون الى أبعد الولايات وأسخن الجبهات، دون أن يتنزّل أو يتواضع الأمر بتعزيرهم للسماع منهم"(26).

ونعى الهاشمي في ختام الرسالة أحدهم فيقال: "وقد سجن من قبل الشيخ الصالح القاضي أبو عبد البر الكويتي، وقتل وذهب دمه هدراً، وسجن من بعده الشيخ القاضي أبو يعقوب المقدسي ولا يدرى مصيره وسجن من قبلهما الشيخ القاضي أبو عبد الرحمن الزرقاوي.. وسجن من قبلهم الشيخ أبو البراء العنزي قاضي ديوان الجند، فلم يخرجه الا تقدّم الرافضة في الموصل"(27).

تجدر الإشارة الى أن البغدادي كان قد أعلن عن تشكيل (لجنة الرقابة المنهجية) التي تمتحن الناس في عقائدهم، وهي تعيد إنتاج الدور الذي لعبه أبو عمر البغدادي، زعيم "دولة العراق الإسلامية"، الذي كان يمتحن الأعضاء الجدد للتأكد من انتمائهم السلفي ونقاوة معتقداتهم. وبرغم من أن اللجنة تعكس النزعة المؤسساتية وتطوّر دولة "داعش" بيروقراطياً، إلا أن اللجنة كانت مصمّمة، في حقيقة أمرها، لفرز الحازميين عمّن سواهم، أي للتأكّد من التزام الأعضاء بالنهج التكفيري وفق رؤية الشيخ أحمد عمر الحازمي، الذي يرفض مبدأ العذر بالجهل.

النكاية.. التموضع قاريّاً

خسر "داعش" معركة الدولة، وإن الانشقاق الداخلي لم تعد له أولوية، لأن الدولة نفسها بصفتها كياناً جيوسياسياً، لم تعد "باقية" فضلاً عن أن "تتمدد". كان على التنظيم المتشظي على وقع سجال عقدي، أن يعيد لملمة أشلائه ولكن وفق معايير جديدة، وتالياً الانتقال من الواقع الحقيقي الى الواقع الافتراضي، أو بكلمات أخرى الانتقال من "الدولة الواقعية" الى "الدولة الافتراضية"، بعد خسارته الأرض وتشتّت الشمل، فلن يكون قادراً على أن يتحوّل الى مظلّة لتيارين متصارعين: الحازمي والبنعلي ومشتقاتهما. بل سوف يبدأ من حيث انتهى، حين قرّرت قيادة "داعش" التخلّص من التيار الحازمي وتصفية تركته السابقة، والانتصار للبنعليين.

تنبّهت دول كثيرة لوجهة المهاجرين من بقايا "الدولة"، في سياق رفع مستوى الجهوزية لمواجهة تداعيات "الهجرة المضادة". وبحسب تصريحات وزير الاستخبارات الإيراني محمود علوي في 7 نوفمبر 2017 فإن بلاده تستعد لمحاولات تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) الرامية الى التموقع في آسيا الوسطى بعد هزائمها العسكرية في الشرق الاوسط.

وقال محمود علوي انه على الرغم من ان تنظيم "داعش" لم يعد يمتلك أجزاء كبيرة من الاراضي إلا أنه لا يزال يمتلك مخزوناً كبيراً من الأسلحة مما يعني استمرار تهديده في المنطقة وما بعدها. وأضاف أن إيران، التي ساعدت في دفع المسلحين الى خارج المعاقل في لبنان والعراق وسوريا، تتوقّع أن تحاول المجموعة إقامة موطأ قدم في قلب آسيا، حيث حققت بالفعل مكاسب في السنوات الاخيرة.

وقال علوي: "لقد فقد داعش أراضيه، لكنه لم يلق أسلحته، ويبحث عن أرض في أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى من أجل إحياء فكرة الخلافة الإسلامية"، وفقاً لوكالة أنباء مهر شبه الرسمية الإيرانية.

وقبل يوم من تصريحات علوي، صرّح وزير الدفاع الافغاني دولت وزيري للصحافة، انه سيسعى للحصول على مساعدة إيران للقضاء على التمرّد المستمر في الدولة التي مزقتها الحرب. وقد تؤدي هذه الخطوة الى تعقيد الوضع على الأرض، حيث يتواجد حوالي 14 ألف جندي أمريكي في أفغانستان.

وفميا لا يزال الوجود الداعشي في أفغانستان متواضعاً نسبياً، ولكنه لا يزال قوياً بما فيه الكفاية لقتل الجنود الأمريكيين، وشن هجمات قاتلة وسط المدنيين بل ومنافسة حركة طالبان في مناطق معينة.. فإن مقاتلي "داعش" تركوا بصمة أقل وضوحاً في باكستان. وقد أعلنت جماعة جند الله التابعة لتنظيم "داعش" مسؤوليتها عن إطلاق نار كثيف على حافلة في كراتشي في مايو 2015، لكن الحكومة الباكستانية رفضت فكرة كونها أول هجوم لتنظيم "داعش" في البلاد، بدلاً من إلقاء اللوم على الهند التي نفت مسؤوليتها. كما أعلنت بعض الجماعات المسلحة الأخرى مثل جماعة الأحرار، ولشكر جانغفي مسؤوليتها عن بعض الهجمات الأخرى المنسوبة لتنظيم "داعش" في باكستان.

وزير الدفاع الإيراني العميد أمير حاتمي أكد خلال لقاء تاريخي مع قائد الجيش الباكستاني الجنرال قمر جاويد ياجوا فى 7 نوفمبر 2017: "أن أمن باكستان جزء من ثوابت السياسة الخارجية في ايران". مؤكداً على أهمية التعاون الثنائي بين البلدين في مجال حماية ودعم القوى الدفاعية للبلدين، مضيفاً أن احترام استقلال جميع دول المنطقة وسيادتها ووحدة أراضيها جزء من ثوابت السياسة الخارجية في ايران(28).

بالإضافة إلى أفغانستان وباكستان، أنشأت جماعات منتسبة لتنظيم داعش بؤراً استيطانية في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك مناطق القوقاز وشبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى وجنوب شرق آسيا(29).

وبخلاف الاعتقاد السائد، فإن قيادة "داعش" كانت مدركة في مرحلة مبكرة بأن عليها أن تخوض مرحلة ما بعد إطاحة الخلافة، ولا بد أن تجترح طرقاً جديدة لإعادة التموضع حفاظاً على نواتها الصلبة. كانت الرسائل التي تبعث بها قيادة التنظيم من الرقة، عاصمة الخلافة، لأنصارها في قارات العالم بالبقاء حيث هم، والاستعداد لخوض مواجهات ساخنة.

منذ بداية مارس 2016، بدأ تنظيم (داعش) يفقد الأرض تدريجياً، ويعاني من خسائر كبيرة. كان تظافر الأطراف عموماً ممثلة في سوريا وحلفائها أو ما يطلق عليها (القوات الرديفة)، أي روسيا، وايران، وحزب الله، والفصائل العراقية والافغانية، وما يقابلها ممثلاً في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، برغم من تضارب الأجندات وأهداف الحملة العسكرية على التنظيم، قد أفضى في نهاية المطاف الى إنهاكه، وتقويض أركان دولته.

كان سقوط مدينة الرقّة، عاصمة دولة "داعش"، يعني نهاية الحلم الذي عاشه قادة التنظيم على مدى سنوات، وقد شبّه سقوط الرقّة بسقوط الرايخستاغ برلين في الحرب العالمية الثانية، إذ عنى تدمير النواة الصلبة للتنظيم.

 
الرقّة عاصمة داعش.. سقوط الرايخستاغ، سقوط حلم الخلافة!

وبحسب إحدى الدراسات الميدانية، فإن "داعش" حين تضعفه الهزائم في ساحة المعركة، يبدأ كوادره بتغيير أساليب توظيفهم، لا سيما فيما يتعلق بالجهود التي تستهدف آسيا الوسطى.

استحضار مشهد الماضي ينطوي على فائدة لقياس فارق التحوّل في ميزان القوة لدى تنظيم "داعش". هذا ما تظهره بوضوح الماكينة الدعائية للتنظيم.

في بداية أبريل 2016، نشر جهاز دعاية داعش "مركز الحياة للإعلام" (تأسس في مايو 2014)، مقطعي فيديو على موقع يوتيوب. في المقطع الأول، قال رجل يبلغ من العمر 60 عاماً يدعى أبو أمين، وأنه جاء مع زوجته وأولاده من مدينة أوش في قيرغيزستان، سعياً وراء الخلاص من خطاياه، وحماية الخلافة وتعزيزها. وعلاوة على ذلك، فإنه يشجّع المسلمين في آسيا الوسطى على اقتفاء سيرته والإنضمام إلى داعش مع أسرهم. ووفقا له، فإن دولة "دار الإسلام" (الخلافة، حيث تطبّق الأحكام الإسلامية) لديها جميع الشروط اللازمة لتربية الأطفال والعيش مع أسرهم وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية. ودعا من وصفهم جميع المسلمين الحقيقيين إلى مغادرة "دار الكفر"، لأن الحكم قد سقط، ويسيطر عليه الشياطين. يظهر المدعو أبو أمين في الفيديو وهو يجلس مع حفيده، وكان خطابه الذي دام نصف ساعة باللغة الأوزبكية مصحوبا بترجمة إلى اللغة الروسية في عنوان فرعي.

وفي المقطع الآخر، يظهر رجلان من الجنسية الكازاخستانية، مع اثنين من الأولاد الصغار يدعوان المسلمين الكازاخستانيين إلى المجيء إلى سوريا والإنضمام إلى "داعش". واحد منهم يدعى مارات مولينوف، من قرية كازيغورت في منطقة جنوب كازاخستان، وقبل مغادرته إلى سوريا - مع زوجته وأطفاله الستة - درس اللغة الروسية في المدرسة المحلية. ويحتوي المقطع مشاهد عن الأولاد الصغار في زي تمويه، ويناشد رئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف، باللغة الكازاخية، ويطلق عليه "كافر"، وكازاخستان - "كافريستان". في نهاية الفيديو، ثمة نداء إلى تثقيف الأطفال على أساس الشريعة في الخلافة، حيث يتم إنشاء جميع شروط التربية الإسلامية للمسلمين الحقيقيين الذين يصلون إلى سوريا.

ينتمي هذان المقطعان الى العهد الذهبي للتنظيم، حين كانت الهجرة الى دولة "الخلافة" استراتيجية ومحورية في تجنيد العناصر، ولكن الحال تغيّر جوهرياً، فقد تغيّرت تكتيكات التجنيد في آسيا الوسطى، ولم يعد هناك مراكز إيواء للمقاتلين الجدد مع عوائلهم، فضلاً عن أن تكون هناك طرق سهلة لوصولهم الى حيث يقيم قادة التنظيم.

هي الهجرة المضادة إذاً، والتي تأخذ أشكالاً متعدّدة، بحسب كل منطقة يتواجد فيها التنظيم كماً ونوعاً وهدفاً..

في مرحلة "النكاية"، ثمة مروحة واسعة من التكتيكات يعتمدها "داعش" في إطار العمل باستراتيجية إعادة الانتشار كونياً. في مناطق معينة، يلجأ التنظيم الى مجرد القيام بأعمال أمنية خاطفة، في سياق المشاغلة لصرف الأنظار عن خطة ممنهجة يجري العمل على تنفيذها في دول أخرى: إما لتشكيل خلايا، أو القيام بأعمال نوعية، أو حتى التحضير لعملية تسلل كبيرة.

خارطة عمل "داعش" باتت أكبر مما نتخيّل وهي تمتد من الصين ولا سيما في مناطق تواجد المسلمين على الحدود الافغانية والباكستانية، ومروراً بمنطقة أوراسيا وآسيا الوسطى وصولاً الى القارة السمراء.

في مقاطع الفيديو الترويجية، هدد مسلحو "داعش" بالعودة إلى ديارهم لإطاحة الحكومات القمعيّة وتطبيق الشريعة. فهناك عمل مكثّف لناحية تشجيع عناصر التنظيم على الهجرة المضادة، بعد أن كانت تدعوهم وأسرهم على الانتقال للعيش في دولة "الخلافة" وتحت حمايتها.

كازاخستان

في الإرشيف المصوّر لتنظيم "داعش" ما يكفي من المقاطع المحرّضة على القتال والهجرة، ومن بينها شريط فيديو بعنوان (كيف ينفّذ الأطفال الكازاخستانيون حكم الإعدام في أعداء الإسلام)، والذي نشر في يناير 2015.

https://www.youtube.com/watch?v=CAzFPgCa-L8

تجدر الاشارة الى أنه في نوفمبر 2014 أعلن عن وجود 300 مواطناً كازاخياً في صفوف "داعش" نصفهم من النساء.

https://www.youtube.com/watch?v=06jHEMsYnws

شكّلت كازاخستان منطقة حيوية في استراتيجية داعش على مستوى الاستقطاب والتجنيد وبالتأكيد نظر اليها قادة "الدولة" بكونها جزءاً من الاحتياطي الاستراتيجي للتنظيم. بدأ الاهتمام الخاص بكازاخستان من قبل "داعش" في مرحلة مبكّرة، ولا سيما بعد إعلان "الدولة الاسلامية في العراق والشام" في 8 إبريل 2013. فقد استطاع "داعش" تجنيد أعداد كبيرة من المتطوّعين، ومن بينهم مهاجرون من جمهورية كازاخستان، التي يعتنق معظم أهلها المذهب الحنفي، وهي من الدول المنتجة للغاز.

كان أول ظهور إعلامي للمقاتلين الكازاخيين في المناطق الخاضعة لتنظيم "داعش" في منتصف أكتوبر 2013 من خلال الإصدار العاشر في سلسلة (رسائل من أرض الملاحم ـ 10) بعنوان (في ضيافة عائلة مهاجرة)، عائلة كازاخية هاجرت الى سوريا للالتحاق بدولة "داعش". يخبر أحد أفراد العائلة ويدعى عبد الرحمن عن سبب قدومه وكان يتحدث بلغته الأوزبكية قائلاً: "هاجرنا من كازاخستان إلى أرض الشام بهدف الجهاد في سبيل الله والإسراع بدخول الجنة". ثم تحدّث أبو حفيظ الكازاخي الذي بدأ كلمته بحضور جمع من المقاتلين الكازاخيين: "الحمد لله الذي أخرجنا من الظلمات الى النور وأنعم علينا بنعمة الجهاد" وأضاف: "الحمد لله..لقد أمرنا الله بالهجرة، فهاجرنا بإخواننا وأهلينا وأقاربنا، الحمد لله لكي نجاهد في سبيل الله"(30).

 
السعودي عمر القحطاني، أفتى بقتل عشيرتي البو نمر والشعيطات
لرفضهما بيعة البغدادي!

بعد عام من ذلك الإصدار، وتحديداً في ديسمبر 2014، نشر مركز "الحياة" للإعلام التابع لتنظيم "داعش" إصداراً آخر بعنوان "فاستبقوا الخيرات"، يظهر فيه مهاجرون من كازاخستان مع أطفالهم وهم يرتدون الزي العسكري ويتدربون على حمل السلاح. وفي حديث لأحد الأطفال يطلق على نفسه إسم عبدالله، وهو في حدود العاشرة من العمر، أنه جاء من كازاخستان إلى أرض الخلافة ليصبح مجاهداً ويقطع رؤوس الكفار، كما تذبح رؤوس الحيوانات(31).

في العدد الخامس من مجلة (Dabiq) باللغة الإنجليزية والناطقة بإسم تنظيم "داعش"، تصدّرت صورة هؤلاء الأطفال الأوزبكيين غلاف المجلة الأمامي والخلفي، والتي حققت شهرة عالمية حيث أصبحت الصورة الأكثر تداولاً في وسائل الاعلام على مستوى دولي(32).

وفي 13 يناير 2015 نشر "داعش" شريط فيديو يظهر الفتى الكازاخي عبد الله والذي يطلق عليه "شبل الخلافة"، وهو يقوم بتنفيذ إعدام رجلين وصفهما بأنهما عميلان للاستخبارات الروسية، وعرّف الاثنان عن إسميهما، وهما جنبلاط ياسينجانوفيتش ماماييف من كازخستان (مواليد 1976)، وسيرغي نيكولايفيتش أشيموف (مواليد 1980)، وأنهما قدما لمهمة في سوريا، ولم يستبعد مراقبون وخبراء أن يكون الشريط مزوّراً وأنه صُوّر لأغراض دعائية، وبحسب صحيفة "كوميرسانت" الروسية بناء على استطلاع لآراء الخبراء أن الشريط قد يكون ملفقاً.

وقد ذيل الفيديو بنص كتب باللغتين العربية والإنكليزية يمجّد فتيان "داعش" بما نصّه: "العزة شامخة في أرض الخلافة واقفة على جثث الكفار الموضوعة تحت أقدام هؤلاء الفتية المجاهدين"(33).

حظي المقاتلون الكازاخيون باهتمام خاص من قادة "داعش"، فقد اشتهروا بالتديّن الشديد، والتعليم العالي، وهذا ما جعلهم يتسنمون مناصب عليا في التنظيم. ولكن حادثة السرقة في أكتوبر 2016 والتي قام بها قائد كتيبة "أبو أنس الشامي"، المدعو أبدو يارتب يرزان والملقب بـ"أبو فائزة الكازاخي"، إبان وجوده في (محافظة الحسكة) التي يطلق عليها "داعش" ولاية البركة، ووزّع جزءاً منها على المقاتلين الكازاخ، فأصبحت العناصر الكازاخية موضع شك. برغم من ذلك، بقي أولاد المهاجرين الكازاخيين جزءاً جوهرياً من البنية العسكرية للتنظيم، فقد قاتلوا في صفوف "كتيبة الكازاخ" وخاضوا معارك مع قوّات سوريا الديمقراطية "قسد" في فبراير 2017.

ترك مشايخ السلفية الذين كانوا يلقون الخطب المحرّضة على القتال تحت عنوان "الجهاد" في المساجد في كازاخستان، تأثيراً واضحاً على الشباب والفتيان لناحية الانخراط في مشاريع قتالية مجهولة العواقب، كما حصل بالنسبة لتنظيم "جند الخلافة" الأوزبكي الذي تأسس عام 2011، متأثّراً بخطابات الجهاد في المساجد الأوزبكية من دعاة سلفيين.

داعش في وادي فرغانه

إن دعوات "داعش" الى شعوب آسيا الوسطى للهجرة الى "دولة الخلافة" مستعيناً بجهاز دعائي كفوء أصبحت في الوقت الراهن موجّهة نحو "الهجرة المضادة"، إذ كان نجاح "داعش" مرتبطاً بحجمه وسيطرته على الأرض، وإمكانياته المالية والبشرية. بكلمات أخرى، إن عملية استقطاب العناصر وتجنيد المقاتلين الجدد كانت مرتبطة بخطة إعلامية ممنهجة وموجّهة.

وكتب وليام ماكنتس، وهو زميل في مركز سياسة الشرق الأوسط لمؤسسة بروكينغز ومدير مشروع العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي، بأن "داعش" ينتصر في حرب وسائل التواصل الاجتماعي لأنها استراتيجية ولا سيما "في مجتمعات آسيا الوسطى". وفي هذا الصدد، حاول جهاز الدعاية في "داعش" أن يأخذ في الاعتبار الظروف المحلية الخاصة للأعضاء المحتملين حين صوغ رسالته.

وقد واجه "داعش" مشاكل فنيّة ولوجستية في تجنيد المقاتلين من آسيا الوسطى. ومع ذلك، فإنه وعلى الرغم من الهزيمة العسكرية والخسارة التدريجية للأراضي، فإن "داعش" تعمّد حشد مواد دعائية.

وخلال الحرب الشاملة عليه في سوريا والعراق منذ العام 2016، سعى "داعش" للحفاظ على زخمه الاعلامي عبر إنتاج وانتظام المواد السمعية والبصرية، من خلال عرض أمثلة على الرحمة، والصداقة الحميمة في صفوف المسلّحين التي هي جذّابة للمجنّدين الأجانب.

بدأ شيوخ "داعش" في التأكيد على العدالة الاجتماعية في الخلافة و"النقاء" الديني والقيم العائلية لتربية الأطفال وفقاً لأحكام الشريعة. هذه الدعاية "السلمية" موجهة في المقام الأول إلى الجزء الهامشي وغير المتعلّم من سكان وادي فرغانة (والذي تتقاسمه كل من أوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان)، الذين يتعرضون للتمييز الديني. البطالة، والفقر، والاضطهاد لأسباب عرقية أو دينية، وكذلك فساد السلطات تجبر الناس اليائسين على السعي إلى تحقيق السلام المعنوي والذهني من خلال اللجوء الى التديّن.

فيما مضى، كان "داعش" يدعو مواطني وادي فرغانة للذهاب إلى سوريا والعراق، ليس فقط لحماية الخلافة، ولكن أيضاً من أجل تحقيق ما يعتقدونه العدالة الاجتماعية والدينية. وقد حاول "داعش" التعويض عن إخفاقاته العسكرية عن طريق تنظيم حركة "الهجرة المضادة" وهذا ما يثير مخاوف السلطات الروسية.

ومن المعروف أن مواطني آسيا الوسطى وروسيا الاتحادية يشكّلون ثالث اكبر مصدر للمقاتلين الأجانب في تنظيم "داعش"، بعد أوروبا والشرق الأوسط. ويبدو واضحاً، أن وسط آسيا يلعب دوراً محورياً في الصراع، وأن حجم التجنيد من المقاتلين الأجانب تجاوز مرحلة الصراع الأفغاني/ الباكستاني في أوجها. وبرغم من غياب بيانات دقيقة عن أعداد المقاتلين من آسيا الوسطى الذين انضموا إلى "داعش"، فإن الجمهوريات السوفياتية السابقة مثل كازاخستان، وتركمانستان، وطاجيسكتان، وأوزبكستان، وقرغيستان كانت بمثابة الخزّان البشري لتنظيم "داعش"، وكان ينظر اليها بكونها مناطق واعدة لاستقطاب المقاتلين.

لناحية أعداد المقاتلين من تلك الجمهوريات المنضوين في "داعش" قدّمت مجموعة صوفان المتخصّصة أرقاماً ذات صدقية عالية. وقد حدّدت تقارير موثوقة صادرة عن مجموعة صوفان حول مقاتلين أجانب في سوريا من 12 ـ 15 من الجمهوريات السوفياتية السابقة. وبالإستناد إلى أفضل المعلومات المتاحة، كان هناك ما لا يقل عن 4700 مقاتل من هذه المنطقة، بناء على أدنى التقديرات التي قدمتها السلطات الروسية. وجاءت غالبية المقاتلين من شمال القوقاز - الشيشان وداغستان - مع عدد أصغر، ولكن لا يزال كبيراً، من أذربيجان وجورجيا(34).

بعد الهجوم الشامل على "داعش" في سوريا والعراق، فإنّ عدداً كبيراً من المقاتلين من آسيا الوسطى لقوا مصرعهم. خبراء روس مثل آندري سيرنكو من (مركز الدراسات الأفغانية) ذكروا بأنّ العديد من هؤلاء هم في طريق العودة إلى بلدانهم عبر تركيا. وهو ما أكّده أيضاً الخبير ليف كورولكوف الذي يصفه الإعلام الروسي بأنه كان يعمل للاستخبارات الروسية في السابق، حيث قال: "إن العديد من المقاتلين الذي كانوا مع أسرهم هناك وأصبحوا في وضع محرج انتقلوا إلى تركيا وانتشروا فيها"، أما البعض الآخر فقد رحل إلى وطنه أو إلى بلدان أخرى مثل ليبيا وأفغانستان(35).

استنفرت أجهزة الأمن القومي في روسيا لمواجهة تدعيات "الهجرة المضادة"، منذ خروج المحافظات العراقية والسورية من سيطرة "داعش". وقد صدر قانون في روسيا في العام 2017 يمنع انضمام المواطنين للقتال في صفوف "داعش"، وبجسب مسؤول في جهاز الأمن الاتحادي إن شرطة الحدود الروسية تعتقل المواطنين العائدين، ويتم القاء القبض على بلداتهم(36).

وفي 29 سبتمبر سنة 2015، أصدرت المحكمة العليا الطاجيكية قراراً بحظر حزب النهضة الاسلامية في طاجيكستان (إربت) بسبب وجود صلات مع تنظيم "داعش"، ووصفته بأنه منظمة إرهابية. وقد ألقي القبض على أعضاء بارزين في الحزب - انتهكت شروط اتفاق السلام في عام 1997 الذي أنهى الحرب الأهلية الدموية التي استمرت خمس سنوات في طاجيكستان من خلال جلب المعارضة إلى الحكومة.

وقد اختار الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمن التهديد الذي يشكله تنظيم "داعش" من أجل القضاء على المعارضة السياسية في البلاد، وزيادة تعزيز سلطته الشخصية.

وكانت أجهزة الأمن في قرغيزستان قد أوقفت في 13 مايو 2016 ثلاثة سياسيين أحدهم وزير سابق بتهمة تدبير انقلاب في هذه الجمهورية السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى(37).

ولم تتمكن السلطات القيرغيزية من قيادة إصلاحات سياسية واقتصادية قبل المظاهرات في ربيع 2016. وتمكّن الرئيس ألمازبك أتامباييف بتسييس تهديد "داعش"، من خلال تحييد المعارضة المحلية، وصرف انتباه الجمهور بعيداً عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الملحّة.

في أوزبكستان، كمثال آخر، يستخدم القادة السياسيين تنظيم "داعش" كأساس لشن حملة ضد الزعماء الدينيين وأقارب الجهاديين الذين يقاتلون في أفغانستان، وباكستان، وسوريا، والعراق.

في الهجرة المضادة، بدأ صراع أجندات يحتدم بين العائدين، والأنظمة المحلية، وأجهزة الأمن القومي. وراء الستار، ثمة مسرح ساخن من المواجهات بين أجهزة أمنية قمعية تستخدم ذريعة الحرب على الإرهاب وبين المقاتلين العائدين من دولة "داعش". روسيا تستخدم تهديد "داعش" لتنفيذ طموحاتها الجيوسياسية، والحصول على نفوذ عسكري في الشرق الأوسط.

وليس سراً أن العديد من السياسيين والصحفيين الروس يتّهمون الولايات المتحدة بإنشاء داعش لتهديد المصالح الاستراتيجية لموسكو. وتحت ستار القتال ضد "الجهاديين"، بدأت أجهزة الأمن الروسية حملة إعتقالات جماعية للعمال المهاجرين من آسيا الوسطى، مما يوحي بأن لهم صلة بتنظيم "داعش".

في كل الأحوال، فإن النظم التي تعاني من الفقر التام، والنظم السياسية الفاسدة، والجرائم العالية، وهياكل السلطة القمعية، واضطهاد المعارضين السياسيين، وانتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع، وعدم وجود إصلاحات ديمقراطية، لا تستطيع مواجهة تحدي معقد كالإسلام الراديكالي(38).


المصادر

1 ـ مؤسسة البتار الإعلامية، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، تغطية خاصة لخطبة وصلاة الجمعة في الجامع الكبير بمدينة الموصل، 6 رمضان 1435هـ الموافق 3 يوليو 2014،

https://archive.org/details/kutba_j

2 ـ أبوبكر البغدادي يدعو المسلمين لـ «الهجرة إلى الدولة الإسلامية»، 14 مايو 2015، صحيفة (الحياة)، أنظر:

https://goo.gl/Ekjwuz

3 ـ أبي محمد الحسيني الهاشمي، "النصيحة الهاشمية" لأمير الدولة الاسلامية، دير الزور، 11 شوال 1438هـ/ 6 يوليو 2017. ص2 أنظر رابط الرسالة:

https://app.box.com/s/w0n6hwkn6qo7zmkzroneafa7c6wmgod

4 ـ النصيحة الهاشمية، المصدر السابق، ص 2

5 ـ المصدر السابق، ص 3

6 ـ المصدر السابق، ص 6

7 ـ المصدر السابق، ص 7

8 ـ المصدر السابق، ص 8

9 ـ المصدر السابق، ص 9

10 ـ المصدر السابق، ص ص 10 ـ11

11 ـ المصدر السابق، ص 11

12 ـ المصدر السابق، ص 11

13 ـ المصدر السابق، ص 12

14 ـ المصدر السابق، ص 14 ـ 15

15 ـ المصدر السابق، ص 15

16 ـ المصدر السابق، ص 17

17 ـ المصدر السابق، ص 17

18 ـ المصدر السابق، ص 18

19 ـ المصدر السابق، ص 18

20 ـ المصدر السابق، ص 19

21 ـ المصدر السابق، ص 20

22 ـ المصدر السابق، ص 20

23 ـ المصدر السابق، ص ص 21 ـ 22

24 ـ المصدر السابق، ص 23

24 ـ المصدر السابق، ص 24

25 ـ المصدر السابق، ص 24 ـ 25

26 ـ المصدر السابق، ص 33

27 ـ وزير الدفاع الايراني: ايران تعتبر أمن باكستان جزء من أمنها، وكالة مهر للأنباء، 7 نوفمبر 2017، أنظر:

https://goo.gl/B4zCMQ

28- TOM O'CONNOR, WHERE WILL ISIS BE IN 2018? IRAN SAYS AFGHANISTAN AND PAKISTAN ARE NEXT AS ISLAMIC STATE LOSES IN IRAQ AND SYRIA, Newsweek, 12 October 2017;

http://www.newsweek.com/where-isis-2018-iran-says-afghanistan-pakistan-islamic-state-loses-iraq-syria-745837

29 ـ سعد الدين هلالي، كازاخستان والمسلمون فيها (1)، الوطن نيوز، 9 مايو 2013، أنظر:

https://www.elwatannews.com/news/details/178190

30 - https://archive.org/details/rasil

31- https://archive.org/details/al.hayat.khayrat.original.quality

32 - http://www.ieproject.org/projects/dabiq5.pdf

33http://archive.org/download/hayat41/uncovering_an_enemy_within.mp4

34 - FOREIGN FIGHTERS An Updated Assessment of the Flow of Foreign Fighters into Syria and Iraq, Soufan Group, December 2015;

soufangroup.com/wpcontent/uploads/2015/12/TSG_ForeignFightersUpdate3.pdf

35 ـ الإرهاب كمهنة ـ وسط آسيا خزان "داعش" البشري الجديد، موقع (دويتشه فيله)، 22 يناير 2017، أنظر:

http://p.dw.com/p/2W2pW

36 ـ محاربة المتشددين تضع روسيا في مواجهة مواطنيها العائدين من سوريا، موقع "إرم" نيوز، 2 يوليو 2016، أنظر:

https://www.eremnews.com/news/world/518101

37 ـ توقيف 3 سياسيين بتهمة تدبير انقلاب في قرغيزستان، موقع (العربية)، 13 مايو 2016، أنظر:

http://ara.tv/z47bg

38- Uran Botobekov, ISIS and Central Asia: A Shifting Recruiting Strategy, The Diplomat, May 17, 2016;

https://thediplomat.com/2016/05/isis-and-central-asia-a-shifting-recruiting-strategy

الصفحة السابقة