محمد حسين زيدان
كتب الأستاذ عبد الله خياط ذات مرة في عكاظ بأن سهرة جمعت رؤساء
تحرير الصحف المرافقين لوفد رسمي إلى مؤتمر قمة الرباط في 1967م..
دار الحوار حول من يمكن أن يكون من كتابنا بين العشرة الأوائل.. فكان
الأستاذ الكبير محمد حسين زيدان ـ رحمه الله ـ بين الخمسة الأوائل.
وفي إجتماع آخر بفندق اليمامة بالرياض، ضمّ عدداً من رؤساء التحرير:
الأستاذ المرحوم عبد المجيد شبكشي، وعمران العمران (الرياض) وعبد
الله بن إدريس (الدعوة) وحامد مطاوع (الندوة) وعثمان حافظ (المدينة)
إضافة الى الأستاذ محمد علاقي وعبد الله خياط من صحيفة عكاظ، إضافة
الى آخرين اشتركوا في الحوار بينهم كلٌّ من: أحمد عبد الوهاب عبد
الواسع، والاستاذ عبد الغني آشي، والاستاذ عبدالله أبوالسمح،
والدكتور يوسف نعمة الله.. في هذا الإجتماع تكرر مرة أخرى الحوار حول
تسمية العشرة الأوائل من كتابنا.. ولكن رغم الاختلاف على بعض
الأسماء، جاء الأستاذ محمد حسين زيدان واحداً من بين الخمسة الأول،
بدون جدال.
الزيدان كان يمثل بالفعل أحد أركان الفكر ورواد الأدب في بلادنا،
وبموته فقدت المملكة (والحجاز بشكل خاص) واحداً من أبنائها البارّين
ومفكريها الفطاحل ورموزها العظام. فالزيدان مدرسة فريدة، وعنصر
''أستاذّي'' متميز لا يعوّض، ونكهة خاصة متميزة في أسلوب الكتابة
والتعامل أيضاً تُجسد قيمة ذلك الطراز من المعلمين، المثقفين،
الحكماء، المجربين.
لقد امتزج أسلوب الزيدان في الكتابة بما تمرسه من الأدب والتاريخ
والفلسفة وعلم الانسان وعلم الحديث ووشائج القبائل ومنابر الخطابة
والمحافل والمجالس، فاستحق لقب ''زوربا القرن العشرين''، أو كما سماه
عبدالله الجفري أول مرّة: ''فهو أحد من علمنا أن نحب الحياة''.
فلزيدان استيعاب خارق للتاريخ، ولاسيما التاريخ الاسلامي، وتذكر واف
للأحداث يدعو للانبهار ويجبرك على الاعجاب .. وهو ناقد سمح قوي
الحجة، يصيب ولا يجرح، وفيه صفات كريمة منها: التراجع حين يرى الصواب
عداه في أمر من الأمور، وتلك ميزة فضلاء العلماء.,ظح.,ح. كان العجوز
زيدان يحفل بحكمة الحياة، كان زوربا الزخم الفكري، والموسوعة
المُتنقلة على قدمين، والانسان الذي لا يعوّض، كان زوربا الكاتب
المُجنّح، فلم يكن إلا شاعرا ''ينثر'' كلماته الموسيقية بين ضلوع
الناس، كان زوربا المؤرخ، فلم يكن إلا ''نسّابة'' يعرف أصول وجذور
الناس، فيضع التقييم من أجل الحفاظ على القيمة! كان زوربا الكلمة،
فلم يكن فعليا إلا ذلك الفيلسوف الحكيم.. إلا أن الشباب كان في روحه
ونفسه كقطرات طلّ، لا تخضع لجغرافية شيخوخته، ولا للجوانب الأربع في
حياته، بل كانت رؤية العجوز زيدان تتمدد وتعبر المحيطات، لأنه يُعبر
عن إنسانيته. يصف زيدان نفسه على النحو التالي:
''أنا عربي.. سواء كنت من ذوي الأعراق، أو من ذوي الاستعراق!
أحارب الحيف، وأُكرم الضيف. يطعني السيف، أتمرد على العدالة، ويأخذني
الظلم الى الاعتدال. أصبر على الجوع، وأتستّر على الشبع. بالشظف
أسُود، بالترف أُستعبد.. أيستعبدني أحد.. وأنا بالترف تستعبدني
الشهوات.. وهذا حالي أصف به نفسي، كأّي نفس عربية تعيش اليوم!''.
ولد المفكر محمد حسين زيدان بالمدينة المنورة، وإلتحق بالمدرسة
النظامية الابتدائية بينبع البحر، بعد أن كان قد تعلم القراءة في سوق
''الحراج'' كما كان يحب أن يتباهى دائما، ثم إلتحق بالمدرسة العبدلية
بالمدينة، والتي سميت فيما بعد بالمدرسة الراقية الهاشمية ونال
شهادتها في أواسط عام 1925م، ثم إلتحق الزيدان بالمسجد النبوي
الشريف، وتلقى العلم على أيدي مشايخه الكبار. أما تاريخ ولادته، ففي
الصفحة الخامسة من واحدٍ من أبهى كُتبه: ''ذكريات العهود الثلاثة''
عام 1409هـ، جاء بأنه ولد في عام 1325 للهجرة، أما في الصفحة 305 من
الكتاب ذاته، فنجده قد ولد عام 1327 هـ. ولكن: هل تعني لنا هذه
التفاصيل شيئا حقاً؟ أن يكون الرجل في مقتبل ثمانينياته لحظة نشر
كتابه، أو أوسطها، أو حتى على ربيع تسعينياته؟ مع رجل عمره سنوات
ضوئية من العطاء، يُسقط منطق الأعوام بمعناها الأرضي اليومي .. مع
رجل في ميعة تدفقه المتجدد. لا يهمنا حقا عدد الدورات التي قام بها
حول الشمس، بل وهج الضياء الذي شعّ به في حياتنا الفكرية والثقافية.
أما كتاب الزيدان المذكور ''ذكريات العهود الثلاثة'' فهي ذكريات
لواحدٍ من أهم كُتاب المملكة على الاطلاق، وأحد رواد الحركة الأدبية
ذكريات يجد فيها المرء الصحو والمطر، والحزن والمرح، والجدية
والظُرف، والتاريخ والأدب، وفن السيرة، والمذكرات، والرحلات.. كتاب
ينبض نضارة وحيوية ولغة، رصانتها طراوة بعيدة عن التكلس والسّمِج
المتعالي.. فالزيدان تنوع في المعرفة، صدق فيه قول الأديب الجفري:
''موسوعة تمشي على قدمين''. كتاب تتجلى فيها الشخصية العربية في أبها
صورها، ونموذج لرواج التراث والمعاصرة في أحد تجلياته الهامّة.
في كتاب الزيدان يعيش القارئ فرحة الإلتقاء بالينابيع، ومعظم ما
ننادي به اليوم من أفكار معاصرة نجد جذورها لدى الانسان الأعرابي
النقي الذي صوّره الزيدان باتقان، والذي عاش التقشف، وعرف الألم
الجسدي، يتجلد مرضا وعلاجا قديما، وكيّا بالنار: ''لو كشفتم جسدي
لوجدتم فيه أكثر من ثلاثين كيّة''، وعاقر الأحزان الروحية، لكنه
روّضها، وامتطاها حصانا يركض به براري الابداع حتى أفق الضوء والمحبة
الانسانية، لا مباليا بماديات هذا العالم الفاني، نافيا عن نفسه تهمة
الثراء، مُطمئنا عاشقي حرفه الى افلاسه، مع بيان مفصل بديونه وكيفية
سداده لها، معزيا ذاته عن شائعة ثرائه قائلا: ''لأكون الرجل
المُحسّد، خيرا من أكون الرجل المشفق عليه''!
لقد آمن الأولون دائما بأن قطع جذور الشجر لا يساهم في التعجيل
بنموها، وبالمقابل فإن التراث لم يوجد لنكرر ما فعله أجدادنا العظام،
بل لنتابع الرحلة ونحن نهتدي بتجربتهم. وكتاب زيدان بهذا المعنى، كنز
من المعارف والخبرات، وذكرياته خلال عهود تاريخية ثلاثة ليست يوميات
ذاتية فحسب، بل صورة وطن عربي في مضائق تحديات العصر، عبر عين مرهفة
دافئة بعيدة عن التصوير الفوتوغرافي البارد، وعن الأيديولوجية
المحمومة في آن .. وقد نجح الزيدان بذلك الكتاب في تأصيل الانتماء
العربي الاسلامي، ووصل الماضي بالحاضر الواعد، لأن الأمة التي تجهل
تاريخها تجهل طريقها.. وهذا الخط العام يتحرك ضمن رؤية شمولية كلها
رحابة، لا تفوتها تثبيت كل ما من شأنه التأكيد على وحدة العرب
المسلمين أو كشف فضل العرب المسيحيين على اللغة العربية مثلا.. فهكذا
كانت جميع الدول العربية أوطانا للزيدان: ''وطني ليس هو الحوش الذي
ولدت فيه، أو المدينة التي ولدتني، أو المملكة التي حفظتني.. بل وطني
كل هذا العالم العربي''. وهكذا يكون الآباء اليسوعيون، واليازجيون،
والمعلوفون، وسواهم: ''عربا لا طائفيين، لم يكن هواهم إلا خدمة
العروبة، وخدمة اللغة، كانوا طلائع النهضة''.
إلا أن مؤلفات الزيدان لم تتوقف عند ذلك الكتاب الروعة، وحول
موضوع سرد الذكريات وحسب، بل ألف الزيدان كتبا تعني بالعديد من
المناحي والشئون الفكرية والأدبية، فاستهل مشواره في التأليف بكتابه
''سيرة بطل'' (1967) ثم اهتم بالتأريخ، فكان أول حجازي يبحث تاريخيا
حول قضية نجدية، وذلك في كتابه ''رحلات الأوروبيين الى نجد وشبه
الجزيرة العربية'' (1977)، ثم تباينت مؤلفاته، فكانت هناك كتب
التاريخ مثل ''محاضرات وندوات في التاريخ والثقافة العربية'' (1978)
وكتاب ''المنهج المثالي لكتابة تاريخنا'' (1978)، وكانت هناك الكتب
التي تتحدث عن الشأن السياسي- الاسلامي، كما في كتابه ''المؤتمر
الاسلامي هو البديل المثالي للخلافة الاسلامية'' (1979). ثم ألّف
كتاب ''كلمة ونصف'' (1981)، وهو ذاته اسم عموده اليومي السابق بعكاظ،
وكتاب '' أحاديث وقضايا حول الشرق الأوسط - دراسات'' (1983) ثم كتاب
''خواطر مجنّحة'' (1984). ثم توالت مؤلفاته الأدبية، ابتداءاً من
''تمر وجمر''، ومرورا بكتاب ''ثمرات قلم''، وانتهاءاً بكتاب
''المخلاة'' والذي كان آخر إصداراته، حيث صدر قبل وفاته بأيام في عام
1992م. كما أن التاريخ يذكر مؤلفات هامة للزيدان، تخص مسائل وطنية
وقومية، منها ''عبد العزيز والكيان الكبير''، و''العرب والارهاصات
والمعجزة''، و''فواتح الدارة''، وكتاب ''أشياخ'' والذي احتوى على
مجموعة من مقالاته الهامّة. وهذا بالطبع غير تاريخنا العلمي الذي
أثراه الزيدان بالعديد مما كتبه في الصحف والمجلات، وبأحاديثه في
الإِذاعة، وبما سجّل للتلفزيون.
كان الزيدان بالفعل نصيرا للثقافة ومهموما بها، وفي الوقت ذاته
كان أحد روافدها في المملكة الفتيّة، فهو من قال فاتحاً النار بشجاعة
على بعض سياسات السياسي: ''الذين جنّدوا المثقف ليؤدي ما عليه، ليكون
مسموعا ومقروءا.. لا بد أن تتوفر له الامكانيات: حرية التعبير، ولا
نعني الاباحة بكل شئ، وانما بعض الراحة في القول''! واستمر الزيدان
حياته في الدفاع عن قضية المثقفين، وبالضغط على أصحاب القرار، رغبة
منه في إزالة التبعية المهينة من على كاهل المثقفين، وإعطائهم حرية
أكبر لعطّاء أكبر: ''لا بد أن يُعطى للمثقف قيمة في مجتمعه.. وهي
قيمة الزهادة في كل ما يغري به، ليكون حرا في تفكيره.. لا يقيّد
بعطاء، ولا يقيّد بتبعية. فإذا أردنا أن يكون عليه واجبا، فيجب أن
نعطيه ما يستحق من التكريم: أن نقرأ له، أن نفهمه، أن نعطيه شيئا من
الحرية.. شيئا من الاعزاز والتكريم، فهو له حق وعليه واجب''.
كان الزيدان عملاقا أمسك أطراف المعرفة، وأبعاد النقاش: فقد كان
حكيما، ومؤرخا، ونسابة، وكاتبا، وصاحب إضافات ستحتفظ بها لإسمه
المكتبة العربية. وكان الزيدان أحد أؤلئك الذين اعتبروا التاريخ
والتراث أكبر همّومهم، فقد قال ذات مرة مجيبا على سؤال صحافي:
''التاريخ والتراث حين ركضا الي، ركضت اليهما''. كما أجاب الزيدان
على سؤال ما إن كان يعتبر نفسه أديبا أم مؤرخا بالدرجة الأولى
بالقول: ''المؤرخ جمّاع يستقرئ الأحداث.. وقد يكون أديبا، والأديب
يفقه التاريخ، فالتاريخ هو الشئ الأول من كل شئ.. والأديب قد يكون
مؤرخا''.
فكم هي الأحداث والمسائل التاريخية التي فصل فيها الزيدان بعبقرية
لا مثيل لها، أو أضاف اليها رأيه المدجج بالحجة والرؤية دائما. فقد
فصل الزيدان في قضية الشعر العربي ونشأته.. فقال: ''تاريخنا يقرر: أن
أدبنا أدب أمة.. أدب شعوب تتلاقح وتتصل مع بعضها، فليس في الأدب
العربي أدب اقليمي، بدليل أن الشعر العربي نشأ في نجد، ثم انتقل الى
الحجاز، فإذا مصر والأندلس والشام والمغرب تلتهم الشعر وتعتبره
شعرها''!
والزيدان وبالرغم من ولعه بالتراث والتاريخ، فقد كان من أنصار
الشعراء الحداثيين، فهو من قال مجيبا على سؤالٍ يسأله عن رأيه في
الشعراء المحدثين، وما إذا كان يؤيد فكرة التجديد في الشعر: ''رأيي
هو: عمل المتنبي، وابن الرومي، ومن إليهما.. سمُّوهم المحدثين كترتيب
تاريخي، زمني .. الجاهليّون، المخضرمون، المحدثون .. فلقد أجاب هؤلاء
بأنهم أبدعوا كما أبدع الأولون ( وزادوها حبتين )''.
وفصل الزيدان كما هو معروف في حكم الغناء والموسيقى، حين وقف
بثقة، مناصرا الموسيقار طارق عبدالحكيم، ضد غوغاء المتعصبين، قائلاً:
''إن هذا الشاب الذي لم يأتِ من فراغ، فهو لم يخلق الموسيقى في هذا
البلد، فالحجاز بلد الموسيقى. أحل الحجازيون الموسيقى، وأحل
العراقيون النبيذ فقد امتد له عرق في مرج، وامتد له عرق في العقيق،
وإن لم يؤثر عليه عرق في العراق، هو ظالم وهو مظلوم، هو ظالم إذا
ادَّعى أنه خلق''.
ومن الأحداث والأمور التي فصل فيها الزيدان، هي إيراده لحكم الأخذ
من الغرب، في معرض دفاعه عن الناقد عبدالله الغذامي، والذي اتهمه
البعض في عقيدته وقت نشره لكتابه ''الخطيئة والتكفير''، كون الغذامي
أخذ عن الغرب والغربيين، فقال الزيدان بقوة: ''إن على هذا البعض -
متهمي الغذامي- أن يرجع إلى ابن قدامة في '' المغني والشرح الكبير ''
ليجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت نهيتكم عن إتيان
الحبالى، ثم علمت أن الروم تفعلها ولا يضرها فأتوهن) والصور محرمة
كان حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يحمل الدينار
الرومي والعملة الرومانية وفيها صور. والسيف الذي استعملناه، لم
نصنعه بادئ ذي بدء بأيدينا بل كنا نأخذه من الناس، فالأخذ من الغرب
بحصانة وفهم على طريقة السلامة هذا أمر ينبغي عليه الثناء لا تنبغي
عليه المذمة.. (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها) فعتبي على
هذا البعض أنه اختار موضوعاً أحال الاعتزاز بالغذامي إلى شيء من
الابتزاز''.
والزيدان أحد أؤلئك الذين توجّوا الشخصيات بكلمات عطرة في حياتهم،
فهو من قال في الغذامي مثلا: ''ما خرج من طبعه وانما أخرجني من
انطباع، بعد الذين لا يعرفون قدر هذا الأستاذ، حين كرمّوه .. قلت أنه
يستحق، وقد أنالني التكريم بتكريمه''. ولم يكن الغذامي وحده من توّجه
الزيدان بعناقيد من كلماته العطرة، فهو من قال في أبو الضياء عزيز:
''صوت العزيز الذي يحكمني أن أركب بعيري لأكتال من فيضه.. فليس هو
يوسف عليه السلام، ولا أنا أحد أخوة يوسف، هم امتاروا ما يكال، وأنا
أمتار نظيم الكيل''.
وقال في حمزة شحاتة: ''أستاذ كبير، أجمل ما فيه ليس شعره، أجمل ما
فيه نثره.. أجمل ما فيه تلك النرجسية .. أحمد ما فيه أنه محدث لبق،
فإذا ماج لس الأستاذ عزيز وجلست وجلس غيرنا ومحمد عمر توفيق أو حمزة
شحاتة يتكلم: كنّا نطرب لحديثهما، كان نديداً يعاملنا بالندادة،
ونعامله بالندادة أيضا''. والزيدان هو من قال في شخصية الأديب
الحجازي الكبير أحمد السباعي ''أنها ازدواجية، فيها التزاوج،
فالانفصام في شخصيته.. شخصية ابن الحارة وشخصية الأديب''، وعلى هذا
المنوال توّج الزيدان كبار الشخصيات التي عاصرها، مثل عبدالوهاب آشي،
والسرحان، ومحمد سرور الصبان، والعطار، وشكيب أرسلان، ومحمد حسين
هيكل، وطه حسين، ومحمد حسن عواد، ومحمود عارف، والشيخ محمد حافظ،
وأبو تراب الظاهري، وحمد الجاسر، وابن عثيمين، ورفيق دربه الحجازي
الهاشمي الكبير ياسين طه، وغيرهم الكثير.
لم يكن الزيدان يوما ذلك الانسان الفرد. النرجسي الذي تستهويه
صفحة البحيرة، ولا المرآة .. لأن اعجابه الذاتي لم يكن بنفسه، ولا
بأستاذيته، بقدر ما كان اعجابا ''بالكلمة'' التي يطلقها: عميقة في
سويداء الحقيقة .. أو مجنحة بألوان المعاني، واللغة! وقد كان الزيدان
رحمه الله نصيرا للمظلومين، ومُكرّما للمرأة، فحين عالج الزيدان
السيرة مسطرا تراجم تاريخية لطائفة من الصحابة، لم ينس
''الصحابيات''، واعتبرهن من بعض أبطال الأمة، وصنّاع التاريخ الذين
أضاءوا الدنيا، ولم ينس: أم سلمة، وأسماء ذات النطاقين، وأم المؤمنين
خديجة، وأهدى تلك السِير الى الجيل الطالع الذي يصنع مستقبله إذا لم
يعرف ماضيه وجذوره. ورؤية زيدان للتراث معاصرة، وبالغة العمق .. فهو
لا ينفي العلم بل ينادي بالتعايش بينه والايمان، قائلا ببساطة ثاقبة:
متّعونا بالعلم، ولا تمنعونا من بركة زمزم! وتكريم زيدان للمرأة لا
يقتصر على النساء العربيات التاريخيات، بل يشمل بحنانه واحترامه
مبدعات عصريات أمثال: مي زيادة، وعائشة التيمورية، وباحثة البادية،
وسواهن، وتلك المرأة الغامدية التي قابلته في مطلع الستينات
الميلادية والتي قال فيها: ''هزّتني تلك البنت الأسدية الغامدية من
السراة. أعجبني كلامها عن عزيز ضياء في تكريمه. وأنا كنت رجعيا،
وأكره تعليم البنات.. ولكني علّمت بناتي ولله الحمد. وهذه الغامدية
جعلتني أكون معها ليرتفع تعليم البنات مثلها.. إرتفعت هي في هذا
التحدي وهذا التعدي لمناقشة عزيز. كأنها عشقت بيانه. مثقفة معززة،
بناتنا يتقدمن ويسِرن الهويني بما تحكمه التقاليد، وأنا بهن فخور''.
رحم الله الزيدان رحمة واسعة، بكل ما تركه لنا من عبق للماضي
والأصالة، وبكل ما تركه من فكر مضئ للحاضر والمستقبل. |