الشيخ عرابي بن محمد صالح سجيني
ولد رحمه الله بمكة عام 1296هـ، وبعد أن تلقى مبادئ القراءة وحفظ
القرآن وتجويده، شرع في طلب العلم فأخذه عن العلامة الشيخ عبد الله
أبو الخير والعلامة الشيخ كاظم والعلامة الشيخ جعفر لبنى فلازمهم
وتفقه على يديهم ونبغ في الفرائض وأصبح مرجعاً لحل قضايا الوارثين،
وأجازه مشايخه إجازة عامّة.
ولما أُسست مدرسة الفلاح وعين السيد محمد بن حامد مديراً لها وعقد
حلقته بباب الصفا أسرع الشيخ عرابي سجيني الى تلقي العلم وانتهال
المعرفة عن الشيخ محمد حامد فأخذ عنه اللغة العربية والتفسير والحديث
فازداد علماً وتقوى وتمسكاً بالهدي النبوي، ثم قام برحلة الى مصر
ومنها الى تركيا وصادف أن أعلنت الثورة العربية بعد عودته من رحلته
فاشتغل بالمحاماة وأضحت داره مرجعاً يقصدها ذوو القضايا فيحلها
بالتوفيق والإصلاح في هدوء ووقار.
واعتاد رحمه الله الإجتماع بأصدقائه في الأسبوع مرة، ولكن الشريف
حسين توجس شراً من ذلك الإجتماع فبثّ عيونه على المجتمعين وتربّص
بالشيخ عرابي فمنعه من المحاماة ومازال يضيّق عليه حتى سجنه فصبر
رحمه الله على بلائه واستسلم لقضاء الله وقدره حتى أفرج عنه فلزم
بيته وعكف على المطالعة والبحث في حل غامض المشاكل ولم يشتغل في
العهد الهاشمي أو يتولّى منصباً.
ولما استولى الملك عبد العزيز على الحجاز انطلق الشيخ عرابي وسطع
نجمه وبرزت مواهبه، فكلفه الشيخ عبد الله بن بلهيد بتشكيل القضاء
وتوسيع أعماله، فكان موفقاً في تنفيذ ما أسند إليه بسهولة ويسر.
ثم طلب منه الشيخ حافظ وهبة تأسيس إدارة كاتب عدل فوفق في تكوينها
وإسناد الوظائف الى الأكفاء فكان موضع تقدير الحكومة وإعجابها.
وفي 15 شعبان عام 1344 عين الشيخ عرابي أميناً لبيت مال المسلمين
فقام بمهمته في أمانة وإخلاص ونزاهة، فصدر الأمر بتعيينه نائباً
لرئيس المحكمة الكبرى في 22 صفر عام 1346 فملأ المركز وأبدى نشاطاً
وكفاية لحل القضايا، وفي 1 ربيع الأول عام 1351هـ نقل لرئاسة كتابة
العدل فظل في عمله زهاء عشر سنوات ثم ضمّت إليه رئاسة المحكمة الكبرى
مدة كان خلالها ملء السمع والبصر وحديث المجالس في رحابة صدره وحل
النزاع بين الخصوم ثم استقلّ برئاسة كاتب العدل.
وفي عام 1371هـ صدر الأمر الملكي بنقل الشيخ عرابي الى رئاسة
المحكمة الكبرى ولكنه اعتذر للملك لكبر سنّه وعدم استطاعته القيام
بمهام أعمال القضاء، فصدر الأمر للأمير فيصل (الملك فيما بعد) بتخيير
الشيخ عرابي بين القضاء أو البقاء في رئاسة كتابة العدل أو إحالته
على المعاش، فاختار رحمه الله إحالته على المعاش ليرتاح ويتجه الى
عبادة ربه فيما بقي من عمره، ولكن الأمير فيصل نائب الملك على
الحجاز، رأى أن إحالة الشيخ عرابي الى المعاش خسارة لكتابة العدل
لعدم وجود من يقوم بها إذ ذاك فأمر ببقائه في رئاسة كتابة العدل ثم
أُسندت إليه وظيفة نائب رئيس مجلس الأوقاف الأعلى فقام بالوظيفتين
خير قيام، وكان مجلس المعارف لا يبت في قرار إلاّ بعد أخذ رأي الشيخ
عرابي واستشارته من ناحية الشرع لما له من خبرة وهو الى ذلك كان يكلف
بالإشتراك في اللجان التي يصدر الأمر بتشكيلها، وكان رحمه الله يشغل
معظم أوقاته بمهام وظيفته في إدارته ومنزله ومدرسته التي كان يعتكف
فيها متقرباً الى الله بعبادته.
والشيخ عربي سجيني بجانب معلوماته وتجاربه وخبرته وحنكته كان الى
آخر أيامه قوي الذاكرة بحيث يذكر الشخص المراجع أن هذا المنزل اشتراه
فلان منذ أربعين سنة ثم باعه عام كذا وحدث بينه وبين فلان خلاف في
الحدود. ذكر أحد الحاضرين في مدرسته أن الشيخ رحمه الله وكان أمامه
شخصان متبايعان فسأل أحدهما عن اسمه وقبل أن ينطق باسم أبيه قال له
رحمه الله: أنت ابن فلان وقد كان جدك رحمه الله يشتري المنازل ثم
يبيعها بربح فقد اشترى كذا وكذا وباعه على فلان بكذا ثم ضاع الصك
فلجأ إليّ فذكرته بتاريخه فتحصل عليه. فبهت الرجل وأكبر الجالسون قوة
ذاكرة الشيخ عرابي وحافظته.
وكان رحمه الله الى آخر أيامه رغم اعتلال صحته يستقبل أصحاب
القضايا ويحل مشاكلهم ويصلح بين الخصوم قبل وصولهم الى الحكام
ممتلكاً أعصابه مغتفراً زلاّتهم. وهو الى ذلك لم ينس أصدقاءه
واجتماعه بهم في يوم الثلاثاء والترفيه عن نفسه بالتحدث معهم، وكان
يمتلك قلوبهم بحديثه الهادئ الرزين.
توفي رحمه الله في 12 محرم عام 1379هـ وخلف ولدين هما الشيخ
إبراهيم القاضي الشرعي السابق بأمانة العاصمة والأستاذ سعود بالجامعة
المصرية بكلية الطب. |