عبد الرحمن بن يحي بن علي المعلمي
(1313هـ ـ 1386هـ)
لا شك أن مجموعة المفاتيح والاقفال الخاصة بالكعبة
المشرفة تعتبر الى جانب قيمتها الدينية المقدّسة من أندر
المجموعات التي يقتنيها متحف سراي قابي في استانبول، وهي
تحفظ في دائرة البردة الشريفة ضمن ما عرف بإسم (الامانات
المباركة) التي لفت انظار المسلمين وحظيت بإهتمامهم منذ
زمن طويل.
غير أن هذه الآثار ومنها مفاتيح وأقفال الكعبة المشرفة
كانت تحفظ داخل القصر العثماني في صناديق وخزائن مغلقة
باختام السلاطين. ومن ثم لم يكن في مقدور أحد من خارج
القصر أن يطلع عليها ويشهد محتوياتها، حتى ولو كان من
خدّام البردة الشريفة. ولهذا السبب نكاد لا نعثر على شيء
من المعلومات في المصادر التاريخية حول تلك الآثار. وقد
حفظت أقفال ومفاتيح الكعبة هذه مع بقية الأمانات المباركة
لما لها من قيمة دينية، فلما تناولها البعض وبدأت دراستها
ظهر ما لها من قيمة فنية وأثرية الى جانب قيمتها الدينية.
وقد كان دخول هذه الأقفال والمفاتيح لأول مرة الى القصر
العثماني في أيام السلطان سليم الأول، أي منذ دخلت مكة
المكرمة والمدينة المنورة تحت الحكم العثماني عقب دخول
السلطان سليم الاول مصر عام 923هـ/1617م وقضائه على دولة
المماليك التي كانت تتبعها الأراضي الحجازية. وكان أمير
مكة آنذاك هو الشريف بركات بن محمد، فأرسل ابنه الشريف
أبا نمى، وكان يبلغ من العمر إثني عشر عاماً الى مصر بصحبة
سفير عرف بإسم عرار، فسلم مفاتيح الكعبة للسلطان سليم.
والمعروف أن الشريف أبا نمى دُعي الى ديوان السلطان
يوم الثالث عشر من جمادى الآخرة عام 923هـ/1571م ليقدم
تلك المفاتيح وغيرها من الهدايا التي جاء بها. إن اقفال
ومفاتيح الكعبة التي ترجع الى العهدين العباسي والمملوكي
جيء بها من مصر الى استانبول مع انتقال الخلافة الاسلامية
الى العثمانيين. ثم جرى العثمانيون على عادة ارسال الأقفال
والمفاتيح الى الكعبة المشرفة كما جرى عليها العباسيون
والمماليك من قبل. ومن المعروف أيضاً وجود قفلين ضمن مجموعة
كان السلطان العثماني بايزيد الثاني قد أرسلهما هديةَ
الى الكعبة قبل انتقال الخلافة الى العثمانيين. وهو ما
يمكن أن نفسره على أنه حركة هدف العثمانيون من ورائها
آنذاك الى أن يشعر الآخرون بوجودهم كقوة جديدة ظهرت في
العالم الاسلامي.
والمعروف أن تلك الأقفال والمفاتيح كانت تصل الى استانبول
وتدخل القصر العثماني في موكب عرف بإسم (موكب المفتاح).
ويمكننا أن نعرف شيئاً عن ذلك الموكب من خلال المصدر المؤرخ
في 1228هـ/1813م والمحفوظ في ارشيف متحف طوب قابي، إذ
نعلم من خلاله أن السلطان محمود الثاني أجرى بعض التعديلات
والترتيبات الجديدة على الاحتفال الذي أقيم لمفاتيح مكة
والمدينة عندما وصلت عن طريق البحر الى استانبول عام 1228هـ/1813م.
فقد قدّم له موظف التشريفات (البروتوكول) صورة لهذه التعديلات
الجديدة فوافق عليها. ويفهم من ذلك البروتوكول أن المفاتيح
كانت تأتي عن طريق البحر، إذ كان خبر اقتراب السفينة من
موقع البارودخانة يصل الباب العالي قبله بيوم. فقد جاء
في دفتر التشريفات (البروتوكول) أن الاشخاص المقرر اشتراكهم
في الحفل يقومون بالتوجه مبكراً الى منطقة داود باشا (ثكنة
داود باشا في استانبول) وبملابسهم الرسمية الخاصة بالاحتفال،
أما الموظف المعروف باسم كتخدا يك (أي الوكيل الذي ينوب
عن الصدر الأعظم) فكان يتوجه قبل هؤلاء بساعتين، وفي موكب
آخر الى ساحل البارودخانة، حتى يستعد هو الآخر لاستقبال
السفينة فيتسلم بكل التعظيم والاحترام المفاتيح من الأغا
الذي جاء بها ثم يقبلها ويرفعها على رأسه ثم يتوجه مع
القادمين بها الى منطقة (داود باشا). وعند اقترابهم من
تلك المنطقة يكون في انتظارهم جمع من المستقبلين وعلى
رأسهم شيخ الاسلام وأغا دار السعادة (أكبر موظفي القصر
الهمايوني والمشرف على دائرة الحريم فيه) والقايمقام باشا
(الوزير الثاني بعد الصدر الأعظم والنائب عنه في غيابه)
والقبطان باشا (قائد الاسطول العثماني) وغيرهم من رجالات
الدولة، فيتقدمون أربعين أو خمسين خطوة الى الأمام لاستقبالهم،
فيقوم الكتخدا بك مرة اخرى بتقبيل المفاتيح التي وضعها
على صينية من الفضة، وبعد أن يرفعها على رأسه يعود فيقدمها
لأغا دار السعادة، فيتناولها هو الآخر بنفس التعظيم والاجلال
ويضعها على منضدة مغطاة بالقماش، جرى اعدادها مسبقاً،
حتى يتمكن جميع الحاضرين في الاحتفال من مشاهدتها والنظراليها.
ثم يركب الجميع جيادهم وقد تصدّرهم أغا دار السعادة والى
جواره الكتخدا بك حاملاً المفاتيح في الصينية الفضية فيدخلون
القصر من الباب الهمايوني (في قصر طوب قابي)، ومنه الى
الباب الأوسط حيث ينزلون هناك عن خيولهم، ويقوم الكتخدا
بك بتسليم المفاتيح في صينيتها الفضية مرة أخرى الى أغا
دار السعادة منتظراً وصول المفاتيح الى الدائرة المعروفة
باسم (غرفة البردة الشريفة) أو في مكان آخر من القصر.
وعند
الوصول الى باب السعادة يعلن السلطان عن استقباله لأغا
دار السعادة ويقبل المفاتيح ثم يجلس على كرسي العرش الذي
وضع له هناك ويمر من أمامه للتهنئة: رجال الدولة وأغوات
الأندرون (القائمون على ادارة شئون البلاط العثماني) وأغوات
الانكشارية (أي كبار قوادها) والعلماء ورؤساء البوابين
(أي رجال الحرس السلطاني والمشرفون على دخول وخروج الناس
من والى القصر) وأغوات الركاب (وهم رجال المعية السلطانية
الذين كانوا يسيرون في المواكب الى جوار السلطان)، كل
حسب ترتيب وظيفته وتبعاً لنظام البروتوكول.
وهذه المسيرة التي تصور لنا طريقة وصول المفاتيح الى
قصر طوب قابي كانت تبدأ في بعض الاحيان من أماكن أخرى
ايضاً. فقد كانت المفاتيح تصل أحياناً الى الميناء المعروف
بإسم (وزير إسكله سي) أي ميناء الوزير حيث تبدأ مسيرة
الاحتفال من هناك. كما نفهم كذلك أن المفاتيح كانت تأتي
أحياناً أخرى الى جامع السلطان أحمد الشهير فيبدأ الموكب
من هناك، حيث ينطلق من ساحة الجامع متوجهاً الى شارع (ببيكخانه)
ثم يصعد منه الى شارع ديوان (يولي)، وعند وصوله الى النصب
التذكاري البيزنطي المعروف بإسم (ديكيلي طاش) ينزل من
ناحية (الصدفجية) ثم الى (التسترجية) فيدخل الى جامع بايزيد
من باب يعرف باسم (بوغدايجيلر) ثم يمر من ناحية (القزانجية)
حتى باب السراي القديم، فيعبر من أمامه الى خان الوالدة،
ثم ينزل الى سوق محمود باشا متوجهاً منه الى (المنجنة)،
ثم الى حي جغال أوغلى فينزل الى أسفل، ليمر من أمام الجوسق
المعروف بإسم (آلاي كوشكي)، ثم يميل من ركن جامع (زينب
سلطان) الى اياصوفية ثم من أمام باب (شكرجي) الى الساحة
المعروفة باسم (سراي ميداني) ثم يدخل الى قصر طوب قابي
من الباب الهمايوني متوجهاً من ناحية الباب الأوسط، حيث
ينزل الجميع من على جيادهم، وعلى هذه الصورة كانت تتاح
لحريم القصر فرصة مشاهدة الموكب من الجوسق المذكور.
وفي عام 1234هـ/1818 ـ 1819م عادت مكة المكرمة مرة
أخرى الى الادارة العثمانية فأمرالسلطان محمود الثاني
آنذاك بإقامة احتفال كبير لاستقبال المفاتيح القادمة من
الأراضي الحجازية، فخرج الموكب هذه المرة من مسجد أبي
أيوب الانصاري.
وجاء في وثيقة أخرى تحمل تاريخ 1228هـ/1813م أن المفاتيح
القادمة من مكة حملها الى استانبول كامل اسماعيل باشا.
بينما جاء في وثيقة أخرى كذلك بخصوص المفتاح المحفوظ في
دائرة البردة الشريفة في قصر طوب قابي داخل كيس مشغول
بالقصب أرسله أمير مكة الى استانبول عام 1034هـ/1633م
على أيام السلطان مراد الرابع. وكان ذلك المفتاح وضع بجانب
صندوق السنجق الشريف ليصاحبه في بعض الحملات العسكرية،
وقد استخدمه السلطان مراد الرابع لأول مرة في ذلك الغرض
في حملته على بغداد، ثم حفظ بعد العودة في خزانة الغرفة
الخاصة المعروفة في القصر بإسم (خاص أوده). ثم خرج نفس
المفتاح مرة ثانية عام 1094هـ/1683م في حرب العثمانيين
على النمسا، وذلك باقتراح من الدفتردار وتصديق من السلطان.
وتتحدث إحدى الوثائق ايضاً عن تنظيم موكب المفتاح،
وتذكّر المشاركين في الحفل، والملابس التي لبسوها، مما
يدل على مدى عناية السلاطين العمثانيين بذلك الموكب ومدى
الأهمية التي حظي بها كغيره من الاحتفالات الأخرى التي
كانت تقام بمناسبة ارسال الصرّة والمحمل الشريف الى الأراضي
الحجازية. وقد جرى تنظيم تلك المواكب والاحتفالات بشكل
أكثر دقة وعناية، وخاصة عندما دخلت الدولة العثمانية مرحلة
ضعفها. وتشير المصادر التاريخية الى أن هذه المواكب والاحتفالات
نظمت عدة مرات على أيام السلطان محمود الثاني، فقد كانت
ترمز، بل وتؤكد على أن السلاطين العثمانيين هم حكام مكة
والمدينة وخلفاء المسلمين. وكان قسم هام من المفاتيح القادمة
ـ بطرق شتى الى متحف سراي طوب قابي ـ يعرض حتى أيام الحرب
العالمية الثانية في القسم المعروف بإسم قسم (الخزينة)
اما اليوم فهي تعرض في قسم الأمانات المباركة وقسم الخزينة
معاً مع بقية المقتنيات الأخرى.
ولأجل الاطلاع على معلومات مفصلة عن بناء الكعبة وتاريخها
وعمل الأبواب والأقفال لها والاهتمام بها في العصور السابقة
للاسلام وفي عصر صدر الاسلام وفي العصر الأموي نلفت الانتباه
الى مصنفات المؤرخين القدامى الذين كتبوا بإسهاب عن هذا
الموضوع أمثال الطبري والأزرقي وابن اسحاق وابن هشام وغيرهم.
وفي العصر العباسي، كان يحدث أن يشترك الخليفة في القافلة
التي تسير من بغداد لأداء فريضة الحج، وهكذا كان يفعل
هارون الرشيد وغيره من الخلفاء العباسيين، اذا ما خرجوا
للحج، ويتضح من صور وكتابات المفاتيح التي ترجع الى أواخر
العصر العباسي ـ من هذه المجموعة ـ أن أولها يرجع الى
زمن المستنجد بالله (555هـ/1610م)، كما ترجع ثلاثة أخرى
الى زمن أبي العباس الناصر (575 ـ 622هـ/1180 ـ 1225م).
أما آخر مفاتيح هذه المجموعة العباسية فيرجع الى زمن المستعصم
بالله 622هـ/1225 أي آخر عهد الخلافة العباسية ببغداد.
ومن الملاحظ أن استخدام الذهب على وجه الخصوص في الاصلاحات
والترميمات الواسعة التي حدثت في الكعبة في العهد العباسي
زمن الخليفة المتوكل. فالمعروف أن اسحاق بن سلام الصائغ
عمل في الكعبة وغيرها من المباني الهامة في الفترة بين
رجب 241هـ/856م وشعبان 242هـ/856م.
وقد زار ابن جبير الكعبة عام 579هـ/1138م وتحدث في
رحلته عن بابها وأفاض بمعلومات كثيرة حول الموضوع. إذ
ذكر ان الباب بعرض ثمانية أشبار وبارتفاع ثلاثة عشر شبراً،
وأنه من الفضة ومطلي بالذهب. كما يضيف أنه يطل على الجهة
الشرقية وله حلقتان من الفضة. وتدلنا النقوش الكتابية
على الرخام الموجود في الحِجر والتي عملت بامر ابي العباس
أحمد الناصر عام 576هـ/1180م أنه أحدث بعض التجديدات في
الكعبة. ويشير أحد المفاتيح الموجودة الى ذلك التاريخ.
وهذا أيضاً يثبت أن المفتاح جرى تجديده أثناء تلك التجديات.
والمعروف أن الخليفة الناصر كان في سعي دائم من أجل وحدة
العالم الاسلامي ولكنه لم ينجح في ذلك.
أما في العهد المملوكي فقد استنّ المماليك لأول مرة
سنّة ارسال المحمل بكسوة الكعبة الى مكة. فكان أول من
أرسل المحمل منهم هو السلطان الظاهر بيبرس (658 ـ 676هـ/1260
ـ 1277م). والمعروف أن المحمل كان يذهب في موكب خاص وأول
مفتاح يرجع الى ذلك العهد في المجموعة هو المفتاح الذي
أرسله الظاهر بيبرس، ويمكننا القول إنه أرسل مع أول محمل
للكعبة.
ولما دخل العثمانيون مصر جرى خلفاؤهم على تلك السنّة،
الا أن سلاطينهم قبل انتقال الخلافة اليهم كانوا يهتمون
بمكة والمدينة، وروي أنهم أرسلوا الصرّة اليهما، الا أن
مفاتيح وأقفال الكعبة لم ترسل الا من السلطان بايزيد الثاني.
وعدم وجود مفتاح أو قفل يرجع الى السلطان سليم الأول
أمر يسترعي الانتباه، الا أنه يمكن القول أن المفاتيح
المرسلة من قبل هذا السلطان لم تصل الينا لسبب ما، إذ
لا يمكن لسلطان سلمت اليه مفاتيح الكعبة عقب دخوله مصر
ان لا يكون أرسل هو الآخر قفلاً أو مفتاحاً الى الكعبة.
أما في عهد السلطان سليمان القانوني (926 ـ 974هـ/1520
ـ 1566م) فقد بلغه أن سقف الكعبة تداعى للسقوط، وأن الميازيب
يلزم تجديدها، وكان قد عملها الوالي العثماني في مصر (مير
أحمد) من معدن آخر غير الذهب والفضة، فأمر السلطان سليمان
القانوني أن يصنع الميزاب من الفضة ويُستبدل بالقديم.
أما الميزاب الذي أمر يصنعه والي مصر (مير أحمد) فقد جيئ
به الى استانبول حيث حفظ في خزانة الدولة. وفيما يتعلق
بباب الكعبة فقد ذكرت المصادر، وهي تتحدث عن الترميمات
التي جرت عام 1039هـ، أن الباب الذي أمر السلطان سليمان
القانوني بصنعه قبل ذلك من الذهب والفضة قد وضع في مكانه
من الكعبة مرة ثانية. كما يوجد ضمن المجموعة قفل من الفضة
يرجع الى نفس السلطان ويحمل تاريخاً يسبق وفاته بعام واحد،
وهو أول قفل فضي في المجموعة.
ويضم القسم الثالث من الرسالة المعروفة بإسم (رسالة
معمارية) التي تتحدث عن حياة رئيس المعمارين التركي محمد
أغا معلومات عن أعمال ذلك المعمار وعن ترميم الكعبة في
عهد السلطان مراد الثالث (982 ـ 1003هـ/1574 ـ 1594م).
فقد بلغ السلطان خبر حاجة الكعبة للترميم، فأرسل المعمار
سنان اليها عام 1590، فقام يتفحص حالتها ثم وضع لها الرسم
والخطة وعاد الى استانبول. غير أن التحفظ من القيام بترميمات
في الكعبة حال دون تحقيق المطلوب لترميمها ولم تتعد تلك
المحاولات مرحلة الاعداد.
وبعد ذلك ساءت حال الكعبة وأوشك بناؤها على الانهيار
فقام شيخ الاسلام صُنع الله أفندي بإبلاغ السلطان أحمد
الأول بذلك، وأشار عليه بضرورة تغيير ميزابها ونطاقها.
وعليه كلف السلطان أحمد الأول المعمار محمد أغا بترميم
الكعبة. فقام ذلك المعمار، حسب الخطة التي رسمها قبل ذلك
المعمار سنان، فجدد الميزاب والنطاق، وبعد أن عرضا في
احتفال كبير في مزرعة داود باشا أرسلا الى الكعبة، ووضعا
في مكانيهما، كما تشير المصادر الى أنهم أرسلوا منبراً
عالياً للمسجد النبوي وثلاثة مفاتيح للحجرة المطهّرة.
|