تخليد الآثار النبوية الشريفة
أضفت الديانات السماوية أهمية خاصة وفائقة على تخليد
الآثار الدينية والتجارب التاريخية للرعيل الأول المؤسس
لنواة هذه الديانات ومن لحق بهم من أجيال ورثت من الاسلاف
تلك الاثار والتجارب في سبيل الابقاء على جذوة التدين
مشتعلة وتوثيق الوشائج الروحية على مرّ العصور والاجيال،
لأن الديانات في الوقت التي كانت تخاطب فيه عقول البشر
جاءت لتخاطب المشاعر النبيلة والعواطف الصافية وتؤكد على
تفعيلها لما لها من دور كبير في تمريس المعتقدات والجوانب
الفكرية لدى البشر، وهي عادة جبلت عليها المجتمعات منذ
قديم الزمن وهذه الحقيقة نجدها جليّة في كتاب الله عزوجل
حين يستعرض تاريخ الامم وقصص الأنبياء، فخلّد بعض التجارب
والاحداث لما فيها من أهمية بالغة للحقب التاريخية اللاحقه
ونقل العبر والدرس للمجتمعات البشرية. يقول تعالى: (قل
سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم..).
ويقول تعالى (أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة
الذين كانوا من قبلهم دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها)،
وفي قصص المجتمعات القديمة قال تعالى (وعاداً وثموداً
وأصحاب الرسّي وقروناً بين ذلك كثيراً) وقال عز من قائل
(وعاداً وثموداً وقد تبين لكم من مساكنهم ..).
هكذا فعل الوهابيون ببيت النبي في مكة
|
في المقابل نجد ثمة اضاءة كثيفة على حوادث ذات دلالة
خاصة جرت في تاريخ المؤمنين بالاديان السابقة، فقد خلّد
القرآن الكريم قصة فتية الكهف بسورة كاملة ، حيث تذكر
أهمية قصة الكهف بقوله تعالى (أم حسبت أن أصحاب الكهف
والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) ثم تأتي السورة المباركة
على ذكر هوية الفتية في قوله تعالى (نحن نقص عليك نبأهم
بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى) ليعقبها استعراض
لأحوالهم بالتأكيد على جوانب مهمة في تجربتهم مع أهل زمانهم
وحاكم بلدهم الى أن أصبحوا رمزاً ايمانياً وأثراً خالداً
يقدّم للمجتمعات اللاحقة ، عبرة والاقتداء واقتفاء آثارهم،
وهكذا هو حال قصص القرآن الكريم وأحوال الانبياء التي
وردت قصصهم بصورة مستقلة وتفصيلة.
وحينما ننتقل الى الآثار الدينية الخالدة في العصر
الاسلامي نجد أن بعضها ارتبط بجوانب عبادية طقسية، أقرّها
الاسلام وأمر المسلمين الالتزام بها، وهناك أمثلة عديدة
من التراث الاسلامي يمكن ذكر بعض منها في هذا الصدد، ومن
أبرزها مناسك الحج والتي هي عبارة عن ممارسات خاصة في
واقعة محددة اقتصرت على نبي الله ابراهيم (عليه السلام)
وأسرته هاجر واسماعيل، فلقد بنى ابراهيم (عليه السلام)
عرشاً الى جانب الكعبة ليكون مأوى لزوجته هاجر وابنه اسماعيل
(عليه السلام)، وربما كان زرباً لغنم اسماعيل ـ فيما بعد
ـ فأصبح هذا العرش مدفناً للنبي اسماعيل (عليه السلام)
وأمه هاجر، وليكون هذا المدفن فيما بعد جزءاً من الكعبة،
ولابد أن يطوف حوله الطائفون من زوّار بيت الله الحرام
في مناسك الحج و العمرة وبذلك تحول المدفن الى أثر ديني
ورمز تاريخي مخلد بأمر من الله سبحانه وتعالى.
من جهة ثانية لما عكف إبراهيم (عليه السلام) على بناء
الكعبة استخدم صخرة ليصعد فوقها كيما يباشر البناء فجعل
الله سبحانه وتعالى هذه الصخرة أثراً خالداً ومنسكاً دينياً
حيث أمر سبحانه وتعالى المسلمين بالصلاة عند هذه الصخرة
فقال تعالى (واتخذوا من مقام ابراهيم مّصلى) كما خلّد
سبحانه وتعالى اثر قدمي نبيه على الصخرة وما زالت هذه
الآثار باقية بعد مرور أكثر من أربعة الآف سنة.
من جانب آخر يأتي منسك السعي بين الصفا والمروة ليدق
مسمار الخلود لقصة هاجر في السعي سبعة اشواط بين تلك الصخرتين
للبحث عن ماء تسد به رمق رضيعها إسماعيل ثم يصبح ذلك النبع
المائي الذي فحصه اسماعيل برجليه هو الآخر أثراً خالداً
يتوق المسلمون من زوار بيت الله الحرام الشرب منه وهو
ماء زمزم وهكذا حال بقية المناسك كرمي الجمرات والوقوف
في عرفة والذبح وغيرها.
وحينما ندخل من بوابة التاريخ الاسلامي نجد أمامنا
مجموعة آثار خالدة شدّد عليها الاسلام وأشاد بها رجال
الاسلام من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومن
هذه الآثار ما جاء في تفسير الآية (في بيوت اذن الله ان
ترفع ويذكر فيها اسمه ليسبح له فيها بالغدو والآصال رجال
لا تلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله..)، اذ يروي الحافظ
السيوطي عن أنس بن مالك وبريده أن رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) قرأ قوله تعالى ( في بيوت اذن الله ..الاية
) فقام اليه رجل وقال: أي بيوت هذه يا رسول الله ؟ فقال
(صلى الله عليه وسلم) بيوت الانبياء..
ولاشك أن حديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم) كما ورد
في الجزء الثاني من (صحيح البخاري) (صلاة في مسجدي هذا
خير من ألف صلاة فيما سواه الا المسجد الحرام) دلالة على
مكانة هذا المسجد وتميّزه عن باقي المساجد ميز هذا المسجد
عن غيره من المساجد والاّ لما كانت الصلاة فيه خير من
ألف صلاة من الصلاة في المساجد الاخرى.
وفي الرحلة الاعجازية لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يوم عرج به الى السماء توقف في محطات عديدة منها المدينة
المنورة وطور سيناء وبيت لحم وصلى فيها جميعاً فقال له:
جبرائيل: يارسول الله أتعلم أين صليّت؟ إنك صليت في (طيبة)
واليها مهاجرتك وصليت في (طور سيناء) حيث كلّم الله موسى
تكليماً وصليت في (بيت لحم) حيث ولد عيسى (عليه السلام)
وروى شداد بن آوس حديثاً مشابهاً له.
أما عن اهتمام المسلمين باّلاثار المتعلقة برسول الله
(صلى الله عليه وسلم) وأهل بيته وأصحابه الكرام رضوان
الله عليهم فقد اتخذ طابعاً متميزاً بلغ حد تسجيل دقائق
الامور عن حياة المصطفى. فقد خصص البخاري في صحيحه باباً
اسماه ( باب ماذكر من درع للنبي (صلى الله عليه وسلم)
وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه وما استعمل الخلفاء بعده من
ذلك ومن شعره ونعله وآنيته مما يتبرك أصحابه به وغيرهم
بعد وفاته). وسار على ذلك مسلم والترمذي والمارودي وغيرهم،
وهو أمر إعتاد عليه المسلمون حتى في حياة رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) فعن انس بن مالك قال كان النبي (صلى الله
عليه وسلم) يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه
قال فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتيت فقيل لها هذا
النبي (صلى الله عليه وسلم) نام في بيتك على فراشك قال
فجاءت وقد عرق و استنقع عرقه على قطعة اديم على الفراش
ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها
ففزع النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: ما تصنعين يا أم
سليم فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا. قال: أصبت.
وعن الجعيد بن عبد الرحمن قال سمعت السائب بن يزيد
قال: ذهبت بي خالتي الى الرسول الله(صلى الله عليه وسلم)
فقالت: يا رسول الله ان ابن إختي وقع فمسح رأسي ودعا لي
بالبركة وتوضأ فشربت من وضوئه ثم قمت خلف ظهره فنظرت الى
خاتم بين كتفيه..).
وعن ابي جحيفة قال: كان (صلى الله عليه وسلم) يمر..
وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم قال
فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فاذا هي أبرد من الثلج وأطيب
رائحة من المسك. وعن أنس قال: ما مسست حريراً ولا ديباجاً
ألين من كف النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا شممت ريحاً
قط أو عرفاً أطيب من ريح أو عرف النبي (صلى الله عليه
وسلم).
وعن مالك ابن مغول قال سمعت عون بن ابي جحيفة ذكر عن
أبيه قال: دفعت الى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو بالأبطح
في قبّة كان بالهاجرة خرج بلال فنادى بالصلاة ثم دخل فأخرج
فضل وضوء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فوقع الناس عليه
يأخذون منه...
وقد توارث المسلمون الاهتمام بآثار المصطفى (صلى الله
عليه وسلم) حتى بعد انتقاله الى الرفيق الأعلى فتتبعوها
في دقائق الامور حتى في المأكل والملبس والمشرب حتى جمع
العلامة السهروردي في الجزء الثالث من كتابه (وفاء الوفاء)
أسماء تلك الآبار التي شرب أو توضأ او إغتسل منها رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) وثبت تحقيقات المؤرخين حولها،
كما كان المسلمون يحتفظون ببعض آثار رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) وحتى الأواني والأوعية التي استعملها الرسول
(صلى الله عليه وسلم) في حياته كالقدح الذي شرب منه، فقد
كان أمير المؤمنين الخليفة الفاروق يتبرك بالشرب في قدح
النبي (صلى الله عليه وسلم) وينضح من مائه على وجهه، كما
أن أنس بن مالك كان يحتفظ بقدح النبي (صلى الله عليه وسلم)
وقد بقي حتى رآه البخاري في البصرة فتبرك بالشرب منه حيث
ذكر القرطبي في مختصر البخاري أنه رأى في بعض النسخ القديمة
من صحيح النجاري: (قال ابو عبدالله البخاري رأيت هذا القدح
بالبصرة وشربت منه وكانه إشترى من ميراث النضر بن أنس
بثمانمائة الف).
بل إن الاهتمام بلغ حد تتبع المسلمين للمواقع التي
نزلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والاماكن التي حلّ
بها والبقع التي صلّى فيها للتبرك بها وتعظيمها والصلاة
فيها ويعدّون ذلك من الاعمال المستحبة فقد أورد العلامة
المالكي في الجزء الثاني من كتاب (شفاء الغرام بأخبار
البلد الحرام) رواية محمد بن عيسى بن خالد بن عوسجة قال:
كنت ادعو ليلة الى زاوية دار عقيل بن ابي طالب التي تلي
الدار فمر بي جعفر بن محمد فقال لي: أعن أثر وقفت ها هنا؟
قلت لا.. قال: هذا موقف نبي الله (صلى الله عليه وسلم)
بالليل اذا جاء يستغفر لاهل البقيع.
وعن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبدالله بن عمر
يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها يحدّث أن أباه كان يصلي
فيها وأنه رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) يصلي في تلك
الأمكنة ويعلق على ذلك إبن حجر الهيثمي في (فتح الباري)
بقوله: عرف من صنيع بن عمر استحباب تتبع آثار النبي (صلى
الله عليه وسلم) والتبرك. وجاء في (صحيح مسلم) عن عبدالله
مولى أسماء رضي الله عنها قالت:.. هذه جبّة رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) فأخرجت إلّيّ جبّة طيالسة كسروانية
لها لبنة ديباج و(رأيت) فرجيها مكفوفين بالديباج فقالت:
هذه كانت عند عائشة رضي الله عنها حتى قبضت فلّما قبضت
قبضتها، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يلبسها فنحن
نغسلها يستشفى بها..
وفي (صفوة الصفوة) أن ولداً للفضل بن الربيع أعطى للامام
أحمد وهو في الحبس ثلاث شعرات فقال: هذا من شعر النبي
(صلى الله عليه وسلم) فأوصى الامام أحمد عند موته أن يجعل
على كلّ عين شعرة وشعرة وشعرة على لسانه ففعل ذلك به،
وهكذا فعل البخاري. وأورد ابن الاثير (في أسد الغابة في
معرفة الصحابة) في ترجمة أنس بن مالك أنه كان عنده عصيّة
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلّما مات أمر أن تدفن
معه، فدفنت بين جنبه وقميصه.
وذكر الطبري في الجزء الرابع من (تاريخ الامم والملوك):
(أن معاوية قال في مرضه الذي مات فيه أن رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) كساني قميصاً فرفعته وقلم أظفاره يوماً
فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة فاذا مت فألبسوني ذلك
القميص وقطّعوا تلك القلامة واسحقوها وذروها في عيني وفي
فميّ فعسى الله أن يرحمني ببركتها).
ونجد في الوقت الراهن أن بعض الدول الاسلامية تولي
اهتماماً بالغاً بالآثار الاسلامية وقد ترى بعض هذه الدول
قد نصبت في متاحفها صناديق زجاجية تضم تلك الآثار كسيوف
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخطوطه الشريفة والخلفاء
الراشدين والصحابة رضي الله عنهم وخطوطهم الشريفة وحتى
الأحذية والملابس وآثار الاقدام كما في تركيا ومصر وبلاد
الشام وغيرها وهي عادة سارية جارية في بلدان العالم التي
تكرّم قادتها وزعمائها.
فاذا كان كذلك فلا غرابة في أن يولي المسلمون وأولى
منهم المتشرفون بمجاورة المصطفى من أهل الديار المقدسة
الاهتمام الشديد بمكان مولد المصطفى، وبمسجده، وقبره الشريف
وهكذا قبور أهل البيت والصحابة الكرام والاثار الاسلامية
عموماً لأنها تروى سيرة أعظم وآخر ديانة سماوية.. فقد
ضمّت المدينتان المشرّفتان مكة المكرمة والمدينة المنورة
مقامات مشرّفة لقادة الرسالة كيما تبقى مصدر إشعاع روحي
خالد عبر التاريخ.
|