(ورفعنا لك ذكرك)
سيرة المصطفى وتخليد آثاره
يحي مفتي
أضفت الديانات السماوية عناية خاصة على الآثار التاريخية
ذات المدلولات الدينية، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالرعيل
الأول المؤسس لنواة كل ديانة ومن لحق بهم بإحسان، لجهة
الإبقاء على وتوثيق الوشائح الروحية بين المؤمنين طيلة
مسيرة الأديان. وقد جبلت المجتمعات الغابرة على تخليد
آثارها لتكون معالم شاخصة على تجاربها ودروساً تستلهم
الأجيال اللاحقة منها معانٍ خاصة. ودوّن القرآن الكريم
بعض التجارب الماضية والحوادث المتميّزة لما لها من أهمية
فائقة في تزويد المجتمعات بالعبر. يقول تعالى (قل سيروا
في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم
مشركين) وفي آية أخرى (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا
كيف كان عاقبة الذين من قبلهم..)، وفي آية ثالثة (أفلم
يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من
قبلهم دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها) وفي قصص المجتمعات
القديمة قال تعالى (وعاداً وثموداً وقد تبيّن لكم من مساكنهم..).
ولعل التخليد الأبرز للتجارب البشرية، ما ورد في سورة
(الكهّف) حيث تبدأ بذكر هدف إنزال الكتاب، فيقول عزّ من
قائل (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له
عوجاً. قيّماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشّر المؤمنين
الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً حسناً). ثم تنتقل
السورة المباركة إلى تركيز ضوء كثيف على قصة أهل الكهف،
يقول تعالى (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من
آياتنا عجباً)، ثم تأتي الآيات المباركات لاحقاً لتشدّد
على ذكر هوية الفتية، فيقول عزّ من قائل (نحن نقصّ عليك
نبأهم بالحق، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى). وتستعرض
السورة قصة هؤلاء الفتية المؤمنة بتسليط الضوء على جوانب
مهمة في تجربتهم مع أهل زمانهم وحاكم بلدهم، الأمر الذي
جعلهم في نهاية المطاف رمزاً خالداً وتجربة إيمانية فريدة
تروى في القرآن الكريم لتكون عبرة ودرساً، وأثراً خالداً،
وهكذا هي قصص القرآن الكريم وأحوال الأنبياء التي وردت
تجاربهم وسيرهم في سور قرآنية مستقلة وتفصيلية أحياناً.
وحين ننتقل إلى الآثار الإسلامية نجد أن بعضها ارتبط
بتجارب تاريخية أقرّها الإسلام بل أحالها إلى فريضة عبادية
على المسلمين مثل الحج، والتي تمثّل تجربة فريدة عاشها
نبي الله إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وإبنه إسماعيل
من بناء الكعبة المشرّفة، إلى المسعى بين الصفا والمروة،
الى مقام إبراهيم الذي خلّده القرآن الكريم بالإسم وقال
(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى). ومن الآثار المقدّسة
والخالدة ما ورد في الآية الكريمة (في بيوت أذن الله أن
ترفع ويذكر فيها إسمه ليسبّح له فيها بالغدو والآصال،
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).
ونجد في صحيح البخاري حديثاً يروى عن النبي المصطفى
صلى الله عليه وسلم أنه قال (صلاة في مسجدي هذا خير من
ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، وفي ذلك دلالة
على مكانة المسجد النبوي وترميزاً له بين بقية المساجد،
بل وتشجيعاً على شدّ الرحال إليه والصلاة فيه.
وفي الرحلة الإعجازية لرسول الإسلام صلى الله عليه
وسلم يوم عرج به إلى السماء توقّف في محطّات عدة منها
المدينة المنورة، وطور سيناء، وبيت لحم، وقد صلى فيها
جميعاً. ويروي السيوطي في (الخصائص الكبرى): فقال له جبرئيل:
يا رسول الله أتعلم أين صليت؟ إنك صليت في طيبة وإليها
مهاجرتك، وصليت في طور سيناء حيث كلّم الله موسى تكليماً،
وصليت في بيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام.
أما بشأن إهتمام المسلمين بآثار المصطفى صلى الله عليه
وسلم وزوجاته وأهل بيته وأصحابه الكرام رضوان اللهم عليهم
أجمعين فقد اكتسبت طابعاً متميزاً، بحيث بلغ الحال بأصحاب
السيرة حد تسجيل دقائق الأمور وتفاصيل حياة الحبيب المصطفى
صلى الله عليه وسلم. فقد خصّص البخاري في صحيحه (الجزء
الرابع ص 82) باباً أسماه (باب ما ذكر من درع للنبي صلى
الله عليه وسلم وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه وما استعمل الخلفاء
من بعده من ذلك ومن شعره ونعله وآنيته مما يتبرك أصحابه
وغيرهم بعد وفاته). وسار على ذلك مسلم والترمذي والماوردي
وغيرهم، وهو أمر جبل عليه المسلمون حتى في حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم. ويورد هؤلاء روايات كثيرة بهذا الصدد.
وقد توارث المسلمون الإهتمام بآثار الرسول صلى الله عليه
وسلم في المأكل والملبس والمشرب حتى جمع العلامة السمهودي
في كتابه (وفاء الوفاء ـ الجزء الثالث) أسماء الآبار التي
شرب أو توضأ أو اغتسل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وثبتت تحقيقات المؤرخين حولها، كما كان المسلمون يحتفظون
ببعض آثاره عليه السلام، وحتى الأواني والأوعية التي استعملها
في حياته كالقدح الذي شرح فيه، فكان الخليفة عمر رضي الله
عنه يتبرّك بالشرب في قدح النبي صلى الله عليه وسلم وينضح
من مائه على وجهه، كما كان أنس بن مالك يحتفظ بقدح النبي
صلى الله عليه وسلم، وقد بقي حتى رآه البخاري في البصرة
فتبرّك بالشرب فيه، حيث ذكر القرطبي في (مختصر البخاري)
أنه رأى في بعض النسخ القديمة من صحيح البخاري: قال أبو
عبد الله البخاري رأيت هذا القدح في البصرة وشربت منه
وكان اشترى من ميراث النصر بن أنس بثمانمائة ألف.
وبلغ الإهتمام باقتفاء المواقع التي نزل بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم والأماكن التي حلّ فيها والبقع التي
صلى فيها والتبرّك بها وتعظيمها والصلاة فيها، ويعدّون
ذلك من الأعمال المستحبة. فقد أورد المالكي في كتابه (شفاء
الغرام بأخبار البلد الحرام) رواية محمد بن عيسى بن خالد
بن عوسجه قال: كنت أدعو ليلة الى زاوية دار عقيل بن أبي
طالب التي تلى الدار فمر بي جعفر بن محمد فقال لي: أعن
أثر وقفت هاهنا؟ قلت: لا، قال: هذا موقف نبي الله صلى
الله عليه وسلم بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع.
وعن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله بن عمر
يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدّث أن أباه كان
يصلى فيها وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في
تلك الأمكنة، ويعلّق على ذلك إبن حجر الهيثمي في (فتح
الباري) بقوله: عرف من صنيع إبن عمر استحباب تتبع آثار
النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك. وجاء في صحيح مسلم
عن عبد الله مولى أسماء رضى الله عنها قالت..هذه جبّة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجت إلي جبّة طيالسة
كسروانية لها لبنة ديباج و(رأيت) فرجيها مكفوفين بالديباج،
فقال: هذه كانت عند عائشة رضى الله عنها حتى قبضت فلمّا
قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن
نغسلها يستشفى بها.
وفي (صفوة الصفوة) ورد أن ولداً للفضيل بن الربيع أعطى
للإمام أحمد وهو في الحبس ثلاث شعرات فقال: هذا من شعر
النبي صلى الله عليه وسلم فأوصى الإمام أحمد عند موته
أن يجعل على كلّ عين شعرة وشعرة على لسانة ففعل ذلك به.
وهكذا فعل البخاري أيضاً.
وأورد إبن الإثير في ترجمة أنس بن مالك: أنه كان عنده
عصيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات أمر أن
تدفن معه، فدفنت بين جنبه وقميصه. وذكر الطبري في الجزء
الرابع من (تاريخ الأمم والملوك): (أن معاوية قال في مرضه
الذي مات فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني قميصاً
فرفعته وقلّم أظافره يوماً فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة
فإذا متّ فألبسوني ذلك القميص وقطّعوا تلك القلامة واسحقوها
وذروّها في عيني وفي فيَّ فعسى الله أن يرحمني ببركتها).
في المقابل، نجد أن المدرسة السلفية المتشدّدة نهجت
مسلكاً مخالفاً لسيرة السلف في تخليد آثار المصطفى صلى
الله عليه وسلم، وبلغ الحال حد رفض الوهابيين كل ما يمت
بصلة إلى الإعلاء من شأن نبي الإسلام، فقال إبن سهيم عن
ابن عبد الوهاب أنه أحرق كتاب (دلائل الخيرات) لأنه مؤلفه
تحدث عن النبي بأنه (سيدنا ومولانا..)، بينما جاء في رثاء
إبن بشر لابن عبد الوهاب مشحوناً بعبارات التقديس، وكأنه
يتحدث عن نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل. ففي كتابه
(تاريخ نجد ص 182) يقول إبن بشر: توفي شيخ الإسلام، مفيد
الأنام، قامع المبتدعين، ومشيّد أعلام الدين، ومقر دلائل
البراهين، محيي معالم الدين بعد دروسها، ومظهر آيات البراهين
بعد أفول أقمارها وشموسها) ويضيف (فهو شيخ الإسلام، والبحر
الهمام اليي عم بركة علمه الأنام، فنصر السنة، وعظمت به
من الله المنة، بعد أن كان الإسلام غريباً، فقام بهذا
الدين ولم يكن في البلاد إلا إسمه، فانتشر في الآفاق وكل
أمر أخذ منه حظه وقسمه).
وفيما لا يزال أتباع المذهب السلفي الوهابي متمسّكين
بموقف إخراج قبر النبي صلى الله عليه وسلم من مسوّرة مسجده،
رغم أن زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها اتخذت غرفة
في جوار الحجرة النبوية التي تضم القبر الشريف، وأن دفن
الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قرب قبره
الشريف لدليل آخر على بركة مثوى رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وقد قام الوليد بن عبد الملك بإنشاء البناء حول هذه
القبور، حين قام بتوسعة المسجد ولم ينكر عليه علماء المدينة
ذلك، كما قام، من قبل، الخليفتان عمر وعثمان رضي الله
عنهما بذلك أيضاً، وهكذا في العهود الأموية والعباسية
والأشراف. ولما فتح المسلمون بيت المقدس في زمن الخليفة
عمر كانت قبور الأنبياء عليهم السلام مبنية ولم يأمر الخليفة
بهدمها، ولذلك يقول إبن تيمية في كتابه (الصراط المستقيم):
(عندما تمّ فتح القدس كانت لقبور الأنبياء هناك أبنية
ولكن أبوابها كانت مغلقة حتى القرن الربع الهجري)، وإغلاقها،
إن ثبت، لا يصلح دليلاً على الحرمة، لأن المسلمين كانوا
منتصرين فاتحين، وكان لديهم القدرة على هدمها ولكن لم
يفعلوا.
وقد جرت عاده المسلمين على تكريم رسول الله (ص) واهل
بيته (ع) ورجال الاسلام وهي عادة منتشرة في كل بقاع العالم
الاسلامي ولاسيما في تركيا وايران وباكستان والهند والعراق
وبلاد الشام ومن مصر والى المغرب حتى أقر بذلك الصنعاني
الوهابي في رسالته ( تطهير الاعتقاد من ادران الالحاد
):
(هذا أمر عمّ البلاد واجتمعت عليه سكان الأغوار والأنجاد
وطبق الأرض شرقاً وغرباً ويمنياً وشاماً وجنوباً وعدناً.
بحيث لابلدة من بلاد المسلمين إلاّ وفيها قبور ومشاهد..بل
هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلوا من قبر أو قريب منه
او مشهد..) أنظر: الجامع الفريد ـ ص 582
ومن نافلة القول، أن تخليد الآثار التاريخية أصبحت
تقليداً بشرياً توليه الشعوب إهتماماً كبيراً لما فيه
من حفظ كيانها وهويتها وتماسكها. وقد كتب صالح جمال مقالاً
بهذا الصدد نشرته صحيفة (الندوة) بتاريخ 24/5/1387هـ تحدّث
فيه عن عظمة الآثار الاسلامية فقال: (والذين يزورون الآن
بيت شكسبير في بريطانية. ومسكن بيتهوفن في المانية لايزورونها
بدافع التعبد والتأليه ولكن بروح التقدير والإعجاب لما
قدمه الشاعر الإنجليزي والموسيقي الإلماني لبلادهما وقومها
مما يستحق التقدير فأين هذه البيوت التافهة من بيت محمد
ودار الأرقم وغار ثور وغار حراء وموقع بيعة الرضوان وصلح
الحديبية).
ويقول أيضاً (منذ سنوات قليلة عمدت مصر إلى تسجيل تاريخ
(أبو الهول) ومجد الفراعنة وراحت ترسلها أصواتاً تحدّث
وتصّور مفاخر الآباء والأجداد وجاء السواح من كل مكان
يستمعون إلى ذلك الكلام الفارغ إذا ما قيس بمجد الإسلام
وتاريخ الإسلام ورجال الإسلام في مختلف المجالات).
وهذه الدعوة ليست شاذة بل التزم المسلمون العمل بها
قديماً، فلقد زار الرحالة إبن جبر مقبرة البقيع في القرن
السادس الهجري، وكتب مشاهداته في هذه الزيارة، فيقول:
(إن بقيع الغرقد واقع شرقي المدينة تخرج إليه على باب
يعرف بباب البقيع، وأول ما تلقى عن يسارك عند خروجك من
الباب المذكور مشهد صفية عمة النبي (ص) وهي أم الزبير
بن العوام وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الامام المدني
وعليه قبه صغيرة مختصرة البناء وأمامه قبر السلالة الطاهرة
إبراهيم ابن النبي (ص) وعليه قبة بيضاء وعلى اليمين منها
تربة إبن لعمر ابن الخطاب إسمه عبدالرحمن الأوسط وهو المعروف
بأبي شحمة وهو الذي جلده ابوه الحد فمرض ومات، وبأزائه
قبر عقيل بن ابي طالب وقبر عبدالله بن جعفر الطيار وبأزائه
روضة فيها ازواج النبي (ص) وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة
من أولاد النبي (ص) وتليها روضة العباس بن عبدالمطلب والحسن
بن علي (ع) وهي قبة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب
البقيع المذكور، وعن يمين الخارج منه ورأس الحسن (ع) الى
رجل العباس وقبراهما مرتفعان عن الأرض متّسعان مغشيان
بألواح ملصقة أبدع الصاق مرصعة بصفائح الصفر، ومكوكبة
بمسامير على أبدع صنعة وأجمل منظر، وعلى هذا الشكل قبر
إبراهيم إبن النبي (ص) ويلي هذه القبة العباسية بيت نسب
لفاطمة بنت رسول الله (ص) ويعرف بيت الحزن ــ الأحزان
ــ يقال إنه البيت الذي آوت اليه والتزمت فيه الحزن على
موت أبيها المصطفى (ص) وفي آخر البقيع قبر الخليفة عثمان
وعليه قبة صغيرة مختصرة وعلى مقربة من مشهد فاطمة بنت
أسد أم علي بن ابي طالب).
ويعلّق إبن جبر على ذلك قائلاً (ومشاهد هذا البقيع
أكثر من أن تحصى لأنه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة
المهاجرين والأنصار، وعلى قبر فاطمة المذكورة ــ فاطمة
بنت اسد ــ مكتوب ماضم قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي الله
عنها وعن نبيها).
وفي مكة المكرمة، كانت مقبرة المعلا والتي تضم قبور
اهل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضوان
الله عليهم، وكذلك قبور زوجات وقرابات نبينا المصطفى صلى
الله عليه وسلم كقبر أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (ع)،
وقبر آمنة بنت وهب أم رسول الله (ص)، وقبر عمه أبي طالب،
وقبر جدّه عبد المطلب.
وفي المدينة المنورة قبر والد النبي صلى الله عليه
وسلم، عبدالله، الى جانب مساجد وبيوت عريقة بديعة يفوح
من جنباتها عبق الرسالة، منها مساجج بأسماء الصحابة مثل
مسجد سلمان في المدينة المنورة، وبيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم الذي أقام فيه أول ما قدم إلى المدينة، وكذلك
البيت الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم، وشعب الهواشم
بمكة، وبيت السيده خديجة وبيت فاطمة الزهراء في زقاق الحجر
بمكة وبيت الحمزه بن عبدالمطلب عم النبي (ص) وبيت الأرقم
وهو البيت الذي كان يجتمع فيه الرسول (ص) مع اصحابه في
بداية ظهور الاسلام، وقبور شهداء بدر ومكان العرش الذي
نصب للرسول (ص) في مكان موقعة بدر وبيت علي بن أبي طالب
الذي ولد فيه إبناه الحسن والحسين رضوان الله عليهم، وسور
المدينة المنورة، ومحلة بني هاشم في المدينة ومسجد ثنية
الوداع ومسجد نعلة، ومسجد سلمان الفارسي ..ومئات الآثار
الاسلامية التي كانت عامرة البناء ومصدر إشعاع لعامة المسلمين
الذين كانوا ينظرون إلى هذه الآثار وهي تجسّد حركة الرسالة
الإسلامية، وتحفر في ذاكرتهم قصة تلك الصفوة المؤمنة التي
قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهض بالأمانة
الالهية ونشر رسالة الاسلام في ربوع مكة والمدينة وباقي
البقاع، فكان المسلمون على مر التاريخ يستلهمون من هذه
الآثار روح الرسالة وقيمها بما كان يدّفق فيهم معاني الكرامة
والعزة والإصرار على حفظ ذلك المجد الإسلامي والتاريخ
التليد لأبطال الإسلام وقادته.
غير أن غياب هذا المعنى الرفيع عند الوهابيين دفع بهم
إلى إعمال آلة الهدم بكل الآثار الاسلامية حتى ساهموا
عن جهل أو عن سابق إصرار وعناد في طمس معالم الإسلام وهو
مخطط لم يقدم عليه أحد طوال التاريخ الاسلامي.
ففي عام 1804م تمكّن آل سعود وبمساندة حلفائهم الوهابيين
من الإستيلاء على المدينة المنورة فنهبوا خزائنها لاسيما
التي كانت في الحرم النبوي الشريف، ووصف ذلك الجبرتي قائلاً:(
إن سعوداً إستولى على المدينة وأخذ تلك الذخائر، ويقال
أنه عبى سحاحير من الجواهر المحلاة بالألماس والياقوت
العظيمة القدر وفي ذلك أربعة شمعدانات من الزمرد وبدل
الشمعة قطعة من الماس مستطيلة تضيء نورها في الظلام، ونحو
مائة سيف جرابها ملبّسة بالذهب الخالص، منزل عليها الماس
وياقوت ونصابها من الزمرد ونحو ذلك وسلاحها من الحديد
الموصوف، كل سيف منها لاقيمة له، (أي لايقدر بثمن)، وعليها
رفعات بإسم الملوك والخلفاء السابقين وغير ذلك). ثم انهال
الجيش الوهابي على مقبرة البقيع ومقابر المسلمين الأوائل
وبيوت الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وزوجاته وقراباته
والصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فطمست جميعها
وغاب رسمها بعد الغزوة الثانية للوهابيين، على مكة المكرمة
والمدينة المنورة يقول محمود شاكر في كتابه ( كنت مفتشاً
في المملكة العربية السعودية ) إنهم هدموا: المنزل الذي
ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأساؤوا بعملهم
هذا إلى الدين والتاريخ، لأن المنزل الذي ولد فيه الرسول
(صلى الله عليه وسلم) ليس ملكاً للمسلمين فحسب..ولكنه
ملك للتاريخ)، ثم يقول (كما هدموا الألوف من القبور التاريخية
والمساجد الأثرية ولا يمكن حصرها أو تقدير قيمتها الدينية
والآثرية).
ويقول المؤرخ بورتون:( كان يوجد في المدينة المنورة
ما بين خمسين وخمسة وخمسين مسجداً في بقعة مقدّسة لايعرف
معظمها اليوم حتى أهالي المدينة أنفسهم وأغلبها معالم
تاريخية وآثار عظيمة تعود إلى صدر الإسلام وتاريخ المسلمين
الأوائل).
اما البقيع فقدتحولت الى ارض مستوية تتناثر عليها أحجار
غير منتظمة بعد أن مسحها الوهابيون وطمسوا معالمها ويصف
المستر تر ما شاهده في زيارته للمدينة عام 1925 ـ بعد
احتلال آل سعود لها للمرة الثانية ـ فيقول (وحينما دخلت
إلى البقيع وجدت منظره كأنه منظر بلدة قد خربت عن آخرها..فلم
يكن في أنحاء المقبرة كلها مايمكن أن يرى ويشاهد سوى أحجار
متبعثرة وأكوام صغيرة من التراب لا حدود لها وقطع من الخشب
والشيش مع كتل كثيرة من الحجر والآجر والسمنت المتكسر
هنا وهناك ..وقد كان ذلك أشبه بالتكايا المتبعثرة لبلدة
أصابها الزلزال فخربها كلها وألقيت بجانب السور الغربي
للمقبرة أكواماً كبيرة من ألواح الخشب القديمة والكتل
الحجرية وقضبان الحديد. وكانت هذه بعض ما جمع من المواد
الإنشائية المبعثرة وكوّم هنا بانتظام. وقد ازيلت الأنقاض
من بعض الممرات الضيقة حتى يمكن للزائرين أن يمروا منها
ليصلوا إلى مختلف أنحاء المقبرة. وفيما عدا ذلك لم يكن
هناك ما يدل على شيء من الإنتظام، فقد كان كل شيء عبارة
عن وعورة تتخللها مواد الأبنية المهدّمة وشواهد القبور
المبعثرة ولم يحدث هذا بفعل الزمان وعوارض الطبيعة بل
صنعته يد الإنسان عن عمد وقصد.
فقد هدمت واختفت عن الأنظار القباب البيضاء التي كانت
تدل على قبور آل البيت النبوي وقبر الخليفة الثالث وقبر
الامام مالك وغيرهم وأصاب القبور الأخرى نفس المصير، فسحقت
وهشمت حتى الأقفاص المصنوعة من المواد الحديدية التي كانت
تغطي قبور الفقراء من الناس قد عزلت جانباً وأحرقت).
اما الرحالة السويسري جون لوسي بوكارت والذي أسلم،
واتخذ إسم الشيخ عبدالله او ابراهيم فيقول (وتبدوا المقبرة
حقيرة جداً ولاتليق بقدسية الشخصيات المدفونة فيها وقد
تكون، أقذر وأتعس من أي مقبرة موجودة في المدن الشرقية
الأخرى التي تضاهي المدينة في حجمها، فهي تخلو من أي قبر
مشيّد تشييداً مناسباً وتنتشر القبور فيها وهي أكوام غير
منتظمة من التراب يحدّ كلاً منها عدد من الأحجار الموضوعة
فوقها ويعزى تخريب المقبرة الى الوهابيين)، ويخلص إلى
القول بأن (الموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر
وحفر عريضة ومزابل).
ويضيف الكاتب المصري المعروف محمد حسنين هيكل مشاهداته
فيقول (لم أجد في البقيع بقية لبناء أو قبة على الاجداث،
ما حمل بوخارت على أن يسمى هذا المكان ( جنة البقيع )..فلولا
أنك تعرف أن هذا المكان هو البقيع وأن به رفاتاً خلف أصحابها
على التاريخ أعظم الذكر، ولولا أن هذه الحجارة المحيطة
بكل قبر غطّتها لحسبتها فضاءً مسوّراً لاشيء فيه البتة).
هكذا إذن قدّم الوهابيون المتعصّبون صورة الإسلام للزائرين
الذين جاءوا الى مهد الرسالة، ليرشفوا من أريج الرعيل
الأول الذي نشر أعظم دين في تاريخ البشرية، ليجدوا آثارهم
مجرد أطلالاً وركاماً، وكأن من أعمل آلة الهدم فيها ينتمي
إلى غير دين المسلمين، ولا يسير على خطى سيرة الموحّدين
الذين تركوا لنا إرثاً عظيماً كي يستمد منه اللاحقون روحاً
تتجدد كلما غرس من سبق أثراً يدّل على استمرارية النهج
القويم، والتزاماً بسيرة سيد المرسلين وصحبه المنتجبين.
إن التدمير المتسلسل للآثار الإسلامية والذي يكشف عن
نوايا غير نزيهة لدى الحكّام السعوديين، لا يمكن تفسيره
سوى أنه نهج مخاصم لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وما
تحويل المدينتين المقدّستين إلى ساحة تنافس بين الأمراء
من أجل الإنقضاض عليهما، بعد أن طمست الآثار التاريخية
فيها، وما تبقى منها لا يتعدّى 5 بالمئة من إجمالي الآثار،
سوى نزوع نحو تنفيذ مخطط تدميري واسع، يهدف الى تحويل
المسجدين الحرام والنبوي إلى مجرد بنائين بلا روح، تميهداً
إلى القضاء على الإسلام.
|