كتاب مثير للجدل
وثيقة تثبت إجرام آل سعود
محمد فلالي
ثمة سؤال كبير حول الغرض البعيد من إعادة إنتاج وتعميم
أدبيات تنتمي الى مرحلة ما قبل الدولة، والمسؤولة عن فشل
مشروع بناء الدولة الوطنية، وإن كانت توصّف مرحلة كانت
فيها الكتائب النجدية الوهابية تشّن الغارات على المناطق
الأخرى بهدف احتلالها ومصادرة ممتلكاتها وقتل من أبى الخضوع
لسلطانها.
كتب المؤرخين النجديين مثل ابن بشر وابن غنام وغيرهما
لا يمكن بحال توظيفها في بناء هوية وطنية أو صناعة وعي
مشترك بين السكّان، ببساطة لأن تلك الكتب تقسّم سكّان
الجزيرة العربية الى مسلمين وكفّار، وأن المسلمين هم من
اعتنق الوهابية وهاجر الى حيث يقيم الشيخ محمد بن عبد
الوهاب وأهل دعوته، والكفّار هم من سواهم على الإطلاق.
ينتشر هذه الايام في البلاد كتاب لمؤلف مجهول بعنوان
(كيف كان ظهور شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب)، درسه
وحقّقه وعلّق عليه عبد الله الصالح العثيمين، وطبع منه
ثلاث طبعات، أول طبعة منه كانت سنة 1403هـ من قبل دارة
الملك عبد العزيز.. ومن الواضح، أن مؤلف الكتاب نجدي الهوية
والهوى بحسب أدلة عديدة منها لهجة المؤلف واطلاعه بالتفاصيل
الدقيقة التاريخية والجغرافية بما في ذلك تفاصيل غفل ابن
غنام وابن بشر عن ذكرها، إضافة الى تعصّبه الواضح لعقيدته
الوهابية وإقليمه النجدي.
مهما يكن، فإن طباعة مثل هذه المخطوطات وتعميمها على
نطاق واسع ينطوي على أهداف محدّدة، إذ لا يمكن من خلال
هذه الأدبيات أن تنمي ثقافة وطنية وروحاً عاماً بين عموم
السكّان. نعم، مثل هذه الادبيات تصلح لتعزيز التلاحم الداخلي
في صفوف النجديين الوهابيين الذين شاركوا في الغارات على
المناطق الاخرى وسيطروا عليها، ولكن من المستحيل إقناع
الضحايا بأن يقبلوا بتلك الأدبيات كيما يتقاسموا روحاً
مشتركة مع من قتل آباءهم وأجدادهم وسبى نسائهم وصادر أموالهم
وممتلكاتهم..
بدأ مؤلف الكتاب بذكر بداية ظهور الشيخ محمد بن عبد
الوهاب وقال (إنّه لما رأى كثرة جهل الناس بدين نبيهم
صلى الله عليه وسلم وذكر قول الله تعالى (إنه من يشرك
بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار). ثم يقول
(ولما كان ـ أي إبن عبد الوهاب ـ صغير السن وجد أن أباه
عمّال (أي مواظب على الفعل) يرتشي، فقال له: يا والدي
هذا حرام عليك. فما يجوز لك أن تأكل الحرام. أما أبوه
فاغتاظ منه، وقام عليه، وأخرجه من بيته). وموضوع الرشوة
لم يرد في أي مصدر آخر.
تفاصيل المعارك التي خاضها ابن عبد الوهاب سواء في
داخل منطقة نجد أو خارجها لا تختلف عما ورد في كتب ابن
بشر وابن غنام والفاخري، بل كرّر مؤلف المخطوطة ما كان
يرددوه من استعمال العبارات الافتتاحية (غزا المسلمون..قاتل
المسلمون..وقُتِل من المسلمين..).. ونقتطف فقرة ذات دلالة
(وبعد ذلك أقام ـ أي الشيخ ابن عبد الوهاب ـ الجهاد. فأسلمت
شقراء وأبت قرة عندها تسمى ثرمداء والقرائن وأثيفية، وجاهدهن
حتى أسلمن..). وينقل عن رحلات ابن عبد الوهاب للتبشير
بدعوته، فيقول: (ورأينا أن الشيخ ابن عبد الوهاب لمّا
أنه قرأ العلم ورأى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
أتى العراق ولا حصل منهم تقويم دين نبيّهم لأنهم مفتونون
في حب الدنيا. ومن بعد العراق خرج الى ناحية مدينة نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم. فأراد أن يظهر الدين فما باشره
أحد لأنهم مفتونون في عبادة الأوثان. وخرج الى ناحية حريملا
من قرى نجد. وهي ديرة أهله وأبيه، وأراد أن يظهر الدين
عندهم ورآهم مخالفين لأنهم ما هم بلد حكم..).
يصوّر المؤلف المناطق التي استهدفها ابن عبد الوهاب
بدعوته وكأنها حواضن للفساد وبيئات خراب وإفساد وظلم،
فيكرر قصص الزنا والرشى والنهب والسرقة بما يبرر لابن
عبد الوهاب وأهل دعوته إعلان الجهاد والقتل بذريعة تطبيق
أحكام الله.
وما هو صادم في روايات الكتاب، هو أهوال الغزوات التي
يتحدث عنها وكأنها عادية. في الفصل الاول يتحدث المؤلف
عن غزوات عبد العزيز بن محمد بن سعود، ويصف أحوالها فيقول
مثلاً (حارب قرية تسمى الهلالية وأخذها وأخرج أهلها منها
ودخلها..وأسلم رياض العارض وضرما..). وفي الفصل الثالث
يتحدث المؤلف عن غزوة غزاها عبد العزيز على قبيلة آل مرة،
وبعد ذلك أرسل شرذمة من قومة على عيون تسمى خلاصة ويقول
(وأن كل صنم يلقونه على وجه الأرض يهدمونه متّبعين بذلك
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كلما بعث علي بن
بن أبي طالب قال له: لا تدع قبراً مشرفاً إلا ساويته وتمثالاً
إلا طمسته. التماثيل التي تصير صوراً على قبور بني آدم).
فهو يتحدث هنا عن قومين منفصلين المسلمين والكفار وأن
ما يقوم به الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه إنما هو
الدعوة للإسلام بين أقوام الكفر والضلال..
في حديثه عن الشيخ ابن عبد الوهاب ما يدهش كقوله (وكان
أكثر قتاله العرب أصحاب بيوت الشعر حتى أسلموا. وكان حين
ظهور الإسلام أصابهم جوع عظيم..) هو بالتأكيد لا يتحدث
عن مرحلة الاسلام في عصر الرسالة الأول، لأن كل ما ذكره
قبل وبعد ذلك يدور حصرياً حول عصر الشيخ ابن عبد الوهاب..
في الفصل الخامس يتحدث عن غزوة غزاها عبد العزيز على
اليمامة، في أسفل وادي الدرعية، ثم يصف الغزوة بقوله (فأخذهم
ـ أي عبد العزيز ـ وقتل منهم قوماً لا يحصون..وقتل أغلبهم.
وذبح رجالهم ولا ترك إلا أولادهم ونساءهم). يقول ذلك المؤلف
من باب الفخر والتمجيد لما فعله عبد العزيز، دون أن يستحضر
بشاعة الفعل ومشروعيته أو عدم مشروعيته الدينية.
وفي الفصل الثامن يتحدث عن غزوة غزاها عبد الله بن
رشيد وحارب مزينة، ثم يقول (فأخذهم وذبحهم في أرض القبلة.
وذبح منهم ستين رجلاً. وأتى بغنيمتهم للمسلمين..). وفي
السنة الثانية تجهّز وغزا قوماً من بني شمر (فأخذهم وحبسهم
وكانوا نحو مئتي رجل وأعطوه قيمة ديتهم وفدوا أرواحهم
فأخذ ديتهم ووضعها في بيت مال المسلمين).
في الفصل التاسع، يتحدث المؤلف عن غزوة سعدون بن عريعر
على ولاية القصيم يقول: (ونزل سعدون على القصيم وانتقضت
(يقصد نقضت عهدها) قرى القصيم منها إحدى وثلاثون مدينة.
وعصى عليه بريدة، وأخذ في حصارهم أربعة أشهر. وبعد ذلك
أخذهم وذبح علماءهم ورجع عنهم، ونحر الذبائح).
لا يتردد المؤلف في تثبيت الموقف العقدي في كل المعارك،
فجيوش الوهابية وال سعود هم المسلمون وغيرهم كفار ومشركون،
ولذلك كثيراً ما تتردد عبارة (نصر الله دينه وخذل عدوانه)،
فالنصر الالهي هو ما يتحقق على يد جيوش ال سعود والخذلان
هو لغيرهم من بقية الفئات الاجتماعية والمناطق. وحين يتحدث
عن نخل الاحساء وتمرها وعيونها وأثمارها، يختم بالقول
(فجميعه صار اليوم تحت يد ابن سعود. وأقام الدين ونصر
المسلمين). وفي غزو العدوة وهي قرية تابعة لامارة منطقة
حائل، غزاها سعود وقد رحل عن البئر أهله فتتبع آثارهم
وكبسهم وحاصرهم وأخذهم وقتل من شيوخهم خمسة، ومن العامة
نحو مئتي رجل، ثم يقول: (وأخذ أموالهم جميعاً.. ونصر الله
الدين وخذل أهل الردى والمفسدين)، وهؤلاء ليسوا سوى آباء
وأجداد من هم تحت الدولة الحالية. وليتخيل المرء كيف ستكون
مشاعر هؤلاء وقد قتل آباؤهم وأجدادهم ذبحاً وعلاوة على
ذلك صنّفوا في خانة الكفار!
أما حال الحجاز، فلا يكاد يتخيّله المرء الا في سياق
الجاهلية وما جرى في الأيام الأولى من رسالة الاسلام.
يقول (ومن بعد ذلك أطاعت له العرب أهل نجد كافة إلا الحرمين
لم يطيعوه. وأما أهل بيوت الشعر فجميعهم أطاعوا له ونسأله
أن ينصر من نصر الدين والمسلمين، ويخذل أهل الشرك والمشركين).
وفي غزوه المدينة المنورة يقول المؤلف (وأمر ـ أي سعود
ـ على أهالي نجد أن يقطعوا السبل عن المدينة حتى يضايق
أهلها ويدخلون في دين الاسلام. وبقوا في حصار المدينة
نحو خمس سنوات إلى أن طاعت المدينة على يد سعود بن عبد
العزيز. فنصره الله). وحين يتحدث عن غزو مكة ويقول عنها
بأنها (ما صارت تحت حكمه) أي حكم سعود، وقال عن الشريف
غالب (وكان الشريف ما أسلم بعد..). في غزوة تربة المشهورة
قام سعود بقطع أشجار النخيل، وأخذ الأموال وقتل من كان
محاصراً في القصر وأخذ أموالهم.
وفي غزوة سالم بن شكبان، أمير بيشة بعد دخولها تحت
سلطة الدولة السعودية سنة 1213هـ وقد لعب دوراً مركزياً
في إخضاع مكة لحكم آل سعود، الى ناحية الشريف وتبعه قحطان
من قبل اليمن واتوا على عثمان في أرض الطائف ومشوا على
الشريف (وتناطحوا هم وإيّاه فهزموه، وقتلوا من قومه خلقاً
كثيراً لا يحصون. وانهزم الشريف لناحية جدة وترك مكة ما
فيها غير الارامل والأيتام ودخلوها المسلمون وهدموا القباب
التي كانت بمكة تعبد من دون الله، وصارت تحت يد المسلمين).
يشعرك المؤلف وهو يسهب في سرد تفاصيل الغزوات أن عنوان
الجهاد يبدو مجرد أداة تضليلية تختفي في أحيان كثيرة حين
يسترسل المؤلف في ذكر الغزوات بقدر من الحماسة والتفصيل.
على سبيل المثال، يذكر غزوة ابن مذود على ناحية سبيع ويقول
(وكان معه مئة وعشرون رجلاً. فأتاهم بالليل وهم نائمون،
وأخذ دبشهم. ومن قام منهم قتله حتى قتل منهم ستة رجال.
ورجع إلى أهله وهو غانم ثلاث مئة بعير). وهذه القصة تبعث
أسئلة حول دوافع الحرب والمبررات الشرعية لتصرفات ابن
مذود في النهب والقتل!
ليس في الكتاب ما يشكّل إضافة علمية بارزة، مع التشديد
على الأخطاء الكثيرة الواردة في نص المخطوطة، والعبارات
الركيكة ومجانبة المعايير العلمية في كتابة التاريخ.
ما يهمنا ليس المخطوطة، وإنما في الدلالات التي تحملها
إعادة طبعها محقّقة عدّة طبعات ونشرها على نطاق واسع.
والأنكى من ذلك، أن تكون المخطوطة من متبنيات دارة الملك
عبد العزيز، وهي مؤسسة رسمية يفترض فيها النأي عن كل ما
يثير مشاعر السكّان ويوغر صدورهم لجهة استذكار ما جرى
في الماضي من ويلات وجرائم بحق آبائهم وأجدادهم.
إذا كانت النخبة الحاكمة واعية لما تفعله، لأن ثمة
تجارب سابقة تفيد بتكفّل أمراء من آل سعود بطباعة موسوعات
محددة مثل (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) رغم ما تفيض
من قصص الكراهية، فتلك مصيبة. ولاشك إن تبني مؤسسات رسمية
لكتب بعينها توليها عناية طبعاً وتعميماً يثير تساؤلاً
مشروعاً عن الغرض من وراء ذلك، فهل خسرت النخبة الحاكمة
كل رصيدها الشعبي حتى باتت تلوذ بخطاب فئوي لشد ما تبقى
من القاعدة الشعبية في نجد مع الدولة..ولكن هل يدرك هؤلاء
بأن مثل تلك الإصدارات تفجّر النزعات الانفصالية وتعزل
الجمهور الأعظم ليس عن النخبة الحاكمة بل وعن الدولة القائمة،
بحيث تجعلهم يفكرون في زوال الكيان الذي قام على قتل آبائهم
وأجداددهم، ونهب اراضيهم والتسلّط عليهم بغير رضا منهم.
|