قراءة في كتب العقائد
المذهب الحنبلي نموذجاً
في تواصل مع مشروعه النقدي يعدّ الاستاذ حسن بن فرحان
المالكي (قراءة في كتب العقائد.. المذهب الحنبلي نموذجاً)
الصادر عام 2000، كحلقة في سلسلة الدراسات التاريخية التي
يقوم بها لجهة طرح الاسئلة الكبرى والشائكة مؤمّلاً في
أن يجد القراء في مقارباته حافزاً على (كشف وتفسير الاسباب
الدقيقة والعميقة والحقيقية لتراجع الحضارة الاسلامية
وضعف المسلمين..).
وأصل فكرة الكتاب ترد الى ردود أفعال على محاضرة كان
الاستاذ المالكي ألقاها في نوفمبر 1999 بنفس العنوان في
أحدية الدكتور راشد المبارك في الرياض. وكانت المحاضرة
قد أثارت ردود فعل مما تطلبت كتابة بعض الايضاحات، والتي
تنطوي في أول وهلة على دفاع عن الذات، حيث يؤكد المالكي
على كونه حسب قوله (من طلبة الحق والعلم ومن أهل السنة
والجماعة ولا أرفع من الشعارات الا قال الله وقال رسوله
(صلى الله عليه وعلى آله وسلم) متحرياً والصوات بحسبت
قدراتي واجتهادي..) وبالتالي فهو لا ينفي عن محاولته إمكانية
الخطأ ولكنه يرجو أن يكون الدليل والبرهان مرشداً له ومقصداً.
الايضاح الثاني، هو الفصل بين الاسلام والمسلمين، إذ أن
نقد أخطاء المسلمين لا يضرّ بالاسلام قيد شعرة، فالاسلام
غير المسلمين، وبالقياس ذاته، كأن يقوم سني بنقد أخطاء
أهل السنة، لأن السنة غير أهل السنة، واستطراداً كأن يقوم
حنبلي ـ النشأة والتعليم والالتزام العام الواعي ـ بنقد
أخطاء الجنابلة، لأن الحنابلة غير احمد بن حنبل، مع أن
الاخير نفسه بشر يخطىء ويصيب. وعليه كما يقول الاستاذ
المالكي (إن ما نفعله ـ أنا وبعض الباحثين ـ من نقد ذاتي
لبعض جوانب الغلو أو المنكر داخل كتب او فكر الحنابلة
هو من هذا الباب ونحن لا ننتظر موافقة أحمد بن حنبل ولا
الشافعي ولا غيرهما على تصحيح خطأ أو رد باطل ولكن من
توفيق الله عز وجل للأئمة أنهم يامرون أصحابهم بمحاكمة
أقوالهم للكتاب والسنة..). والتوضيح الثالث، تأكيد الاستاذ
المالكي انتمائه التقليدي للمدرسة الحنبلية، حيث يقول
(إنني حنبلي سني مع نقده لأخطاء وقع فيها بعض السنة أو
الحنابلة..) مع أن الانتماء للحنبلية لا يعني بالنسبة
له الانحباس التام والنهائي في دائرة المذهب، فهو يؤكد
مراراً في كتبه الأخرى على كون (الانتماء الشرعي المجزوم
بشرعيته ووجوبه هو للإسلام فقط أما الانتماءات لغير الاسلام
ففيها تفصيل..) منها أن (الانتماء الذي لا يلزم من انتقاض
المذاهب الخرى ولا الازدراء بأصحابها لمجرد مخالفة المذهب
فهذا ليس فيه محذور إن شاء الله..).
التوضيح الرابع، بحسب المالكي، يتصل ببداية منهجه النقدي،
وكونه ليس مقتصراً على التراث الحنبلي فحسب، حيث أن هذا
المنهج قابل للتطبيق على مجمل التراث الديني، ولذلك أكّد
بأنه سيقوم (بنقد مواطن الغلو في جميع المذاهب المشهورة)
السنية وغير السنية إيماناً منه (بأن بيان الاخطاء وإيضاحها
يسهم في وحدة المسلمين لأن كل أصحاب مذهب لا يعرفون التواضع
الا إذا عرفوا أخطاء مذهبهم وهذا يدفع أصحاب المذاهب لتصحيح
مذهبهم قبل الانشغال بنقد الآخرين).
لعل ما يلفت المالكي إليه في مشروعه النقدي أن المؤاخذات
التي يحملها مذهب ضد آخر لا تعني خلو هذا المذهب من ذات
المؤاخذات، وهذا ما يلزم الانشغال بالذات قبل الآخر لاعادة
اكتشاف الاخطاء الواردة فيها قبل التفكير في أخطاء الآخر.
وبحسب توصيف المالكي (لن تكون هناك ثمرة من إتهامنا الآخرين
ـ كالخوارج ـ بالتكفير إذا كنا نكفر بعض المسلمين، ولا
فائدة من إتهام المرجئة بالإرجاء إذا كناب مرجئة في بعض
الجوانب ولا فائدة في إتهام الآخرين بالطعن في الصحابة
إذا كنا نطعن في بعض الصحابة أو نسوّغ طعن بعض الناس في
بعض الصحابة كما لا فائدة في ذمنا من يغلو في الصالحين
إذا كنا نغلو في أئمتنا وصالحينا).
وفي هذا المقطع رسالة جليلة لكل المتمذهبين ودعوة مفتوحة
لهم من أجل التحرر من النرجسية الواهمة التي تملي على
الاتباع الاعتقاد الكاذب بالطهرانية التامة لكل ما هم
عليه من متبينات عقدية، إذ أن الانشغال بالذات يمنح أصحاب
كل مذهب فرصة اكتشاف الاخطاء، إذ ليس هناك مذهب (بمنأى
عن الاخطاء كبيرة كانت أو صغيرة). إنها التفاتة تستحق
الوقوف طويلاً والتفكير مليّاً لأن أصحاب المذاهب وبخاصة
اولئك المتصارعين على مواقع الانترنت او في الكتب ووسائل
الاعلام والنشر الاخرى غفلوا عن أخطائهم وانشغلوا بما
هم به أولى، ولو فعلوا ذلك لكانوا قد أزالوا ما علق بتراثهم
المذهبي الكثير من الاخطاء.
يعتقد المالكي بأن الموضوع العقدي تضخّم بدرجة كبيرة
نتيجة للصراعات السياسية والمذهبية، بل أصبحت في الأزمنة
المتأخرة لا تعني عند كثير من الناس الا تتبع بعض المسلمين
السلفيين أو الاشاعرة ما يرونه من المخالفات الفكرية عند
غيرهم من المسلمين مع تناسي الاخطاء الكبيرة لأفكارهم
(ثم إتباع ذلك التتبع بالتكفير أو التبديع والتضليل والتفسيق
مع الاستعداء السياسي والاجتماعي).
ويعتقد المالكي بأن أكثر التراث العقائدي قائم على
أقوال الرجال وخصوماتهم وليس قائماً على الكتاب والسنة،
ويستدل على ذلك بمقارنة بين ما في فهرس أي كتاب في العقيدة
والقرآن الكريم (فسترى الفرق الواضح بين الهداية التي
أرادها الله لك ـ اي القارىء ـ في كتابه الكريم والمخالفات
الشرعية التي ينادي بها المتخاصمون ويزعمون انها من الواجبات
العقدية).
ولكن السؤال: ماهو أثر كتب العقائد على المسلمين؟
يجيب المالكي بأن أسباب نكسات المسلمين في الماضي والحاضر
هو تفرّق المسلمين، وأن تفرّقهم يكمن في الاتهامات المتبادلة
بالضلالة والبدعة والكفر مع الاستغلال السياسي لهذه الطوائف
(إذ أصبحت كل فرقة ترى ان اليهود والنصارى والصليبيين
والمغول أقرب لها من الطائفة الأخرى التي تلتقي معها في
الأصول العامة للاسلام). ثم يقول (ولو رجعنا لسبب هذا
التبادل في التكفير والتبديع لوجدنا كتب العقائد في الانتظار!!
إذ كانت الكتب المؤلفة في (العقائد) هي ذاكرة هذا الفساد
كله، ومحور شرعيته ومحطات انطلاق لكل خصومة بين المسلمين..).
يبدأ المالكي قراءته في كتب العقائد بالبحث في المصطلح
(العقيدة) والتي لم يجد لها أصلاً في القرآن الكريم او
السنة النبوية، بل ولم ترد في أقوال الصحابة أو التابعين،
بما يستوعب القرون الثلاثة الاولى، بخلاف مصطلح الايمان
الذي كان مشهوراً، فمصطلح العقيدة إذن هو مستحدث إخترعه
الغلاة، تماماً كما هو مصطلح (السلف).
بالنسبة للاختلافات العقدية، فيؤكد المالكي، بأنها
ظاهرة مألوفة وشائعة، وأن الاصل في المجتمعات هو تباينها
واختلافها بل هي ظاهرة صحيّة اذا بقي الاختلاف في دائرة
السلم والاجتهاد، ما لم يكن طريقاً لتفريق الامة وتحاربها.
ويعتقد المالكي بأن جذور الاختلافات العقدية تعود الى
عامل سياسي، وتحديداً الاختلاف الحاصل يوم السقيفة وموقف
المسلمين منها وآثارها الفكرية، حيث أن (ولاية أمر الناس
وتصريف شئون المسلمين وحمايتهم من الاختلاف والتشتت) أفضى
الى وقوع انشقاق كبير في بنية الاجتماع الاسلامي، والتي
مهّدت لظهور المدارس الفكرية المتنوعة لاحقاً. ويجرد المالكي
الاحداث الكبيرة التي أدت الى ظهور النزعة العقدية، منها
وصية ابي بكر بالخلافة لعمر ثم وقوع الفتنة الكبرى في
عهد الخليفة عثمان (رضي الله عنه) والآثار الفكرية الناجمة
عنها وموقف المسلمين منها والانشعاب الكبير الحاصل في
الامة وبداية تشكّل المدارس العقدية على خلفية سياسية
(فقد بدأ في آخر عهد ثمان تياران في النمو وهما تيار العلوية
(الشيعة) وتيار العثمانية (النواصب). ثم جاء الانفلاق
الثاني في المجتمع الاسلامي في خلافة علي رضي الله عنه
وحدوث الفتنة الثانية وآثارها الفكرية ومواقف المسلمين
منها، وكان للمعارك الثلاث التي شهدها عهد علي: الجمل
وصفين والنهروان انعاكسات فكرية وايضاً تجسيدات لتشكيلات
عقدية جديدة قد يكون من أبرزها الخوارج ولكن الاستقطابات
المتنوعة كانت قائمة بانتظار فرصة الاستعلان عن نفسها
في مرحلة ما.
إن الحوادث المتوالية التي وقعت فيما بعد بدءا من صلح
الحسن ومروراً بقيام الدولة الاموية على اساس الملك العضوض
ومن ثم الدولة العباسية، تركت تأثيرات خصامية عميقة وخطيرة
على المجال الفكري الاسلامي. ففي العهد الأموي ناصرت السلطة
السياسية اتجاها فكرياً، وكان يطلق عليه أهل السنة والجماعة،
وكانت الاخيرة أي الجماعة تعني الرأي الصواب وهي الجماعة
الموالية للنظام الاموي من علماء وعوام وأصبح الذي ينكر
الظلم أو ينقد الوالي شاذاً أو (ضد الجماعة) ومن شذّ شذّ
في النار (ومن هنا تكوّن تيار(السنة والجماعة) خليطاً
من تيار العثمانية والنواصب وتيار المحايدين وتم استبعاد
العلوية من (السنة والجماعة) ووصفهم بـ (الشيعة) و(الخشبية)
ثم (الرافضة). أما الخوارج فقد أخرجوا أنفسهم من البداية
إذ هم يرفضون تماماً الانصياع تماماً للحكم الاموي ولا
يودون حكماً علوياً أيضاً، ثم ظهور تيار المعتزلة من الصحابة
وغيرهم الذين آثروا القعود عن القتال رغم اعترافهم بشرعية
بيعة علي).
لقد هيأت الظروف السياسية المعقّدة ظهور الغلو لدى
الشيعة والتعصب والنصب لدى التيار الاموي، الذي شجّع على
ظهور الجبرية التي ظهرت بالشام نتيجة اليأس من الاصلاح،
وعقيدة الإرجاء كرد فعل لظهور التكفير عند الخوارج وبعض
المعتزلة وغلاة الشيعة وبتشجيع وحماية من السلطة الأموية،
وظهور القدرية المنشقة من باطن العقيدة الارجائية وكرد
فعل عليها حيث رأى أصحابها بأن المرجئة يهادنون بني أمية
ويقرون بشرعية خلافتهم ويحرمون الخروج عليهم او الانكار
عليهم. إن التراث العقدي لهذه الفرق وانبثاثاتها والانشقاقات
اللاحقة ظهر من باطن المعتزلة والاشعرية والتي دخلت في
حركة جدلية واسعة النطاق. فمما نسب الى القدرية طرحها
لموضوعات عقدية كانت مورد نقاش جدلي محتدم من أبرزها:
نفي الصفات ومحاربة التجسيم والتشبيه، والقول بخلق القرآن
وأنه محدث مخلوق، وأن الانسان حر مختار صانع لأفعاله غير
مجبر على الفعل، وأن الخلافة تصلح في غير قريش من الصالحين
لها، وأخيراً ذم ظلم بني أمية.
وكان ظهور تيار الجهمية نسبة الى جهم بن صفوان مفصلاً
هاماً في تاريخ الخصام العقدي واستعمال العقيدة مبرراً
لتصفية الخصوم. فقد كان الجهم من الدعاة لكتاب الله وسنه
رسوله وتحقيق العدالة، ولكنه قتل على يد خالد القسري عام
124هـ وذلك بعد أن خرج على بني أمية، وقد نقل المالكي
ما قاله القاسمي (فبنو أمية لم يكونوا يقتلون الناس الا
عندما يخرجون بالسيف فعندئذ يلفقون لهؤلاء التهم (العقدية)
حتى يذبحوا زعماً منهم بأن فعلهم هذا نصرة للسنة والاسلام).
ويخلص المالكي من كل ماسبق للقول:(أن ما ننشره في كتب
العقائد من تكفير وذم مبالغ فيه للجهمية والقدرية والشيعة
والمعتزلة كان إتباعاً منا للسياسة الأموية دون علم فنحن
ورثنا خصومات علماء الشام مع هؤلاء ووصفهم لهم بالكفر
والزندقة والمجوسية والحكم عليهم بالنار..).
يسلط المالكي الضوء على تيار المعتزلة الذي ظهر في
القرن الثاني، الذين تبنى أصولاً عقدية خمسة هي: التوحيد،
العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان للمعتزلة تأثير كبير
على مجمل التراث العقدي للمسلمين.
تلك المقدمة التاريخية الفكرية كانت ضرورية لتشكيل
سياق النشأة للمدرسة الحنبلية نسبة الى الامام احمد بن
حمد بن حنبل الشيباني (241هـ) وكان من كبار المحدثين الفقهاء
في عصره. يقول المالكي بأن الامام أحمد ابتلي من أصحابه
كما أبتلي جعفر الصادق من اصحابه، وعليه (لا يجوز أن ننسب
الى الامام احمد ما أضافه تلاميذه وأتباعهم من التكفير
ومدح يزيد بن معاوية وتشبيه الله بخلقه وما الى ذلك..).
لقد غالى محبو الامام أحمد فيه حتى (جعلوا محبته دليلاً
على الاسلام وبغضه دليلاً على الكفر والزندقة!!).
نقد المذهب الحنبلي في
العقيدة
يصدر المالكي في نقده للتراث العقدي الحنبلي عن رؤية
من الداخل لا تنم عن ضعف الانتماء أو هشاشة في المعتقد
بل تكشف قراءته الواعية عن التزام علمي رصين وموقف ايماني
راسخ. ولذلك فهو يخالف الشائع في المناهج السائدة وينطلق
من (القاعدة بالتركيز على النقد الذاتي لكثير من المسائل
والتجاوزات الموجودة داخل المذهب الذي أنتمي اليه..).
ويعلل المالكي تركيزه على نقد عقائد الحنابلة بأن لها
أكثر من فائدة وهي:
1ـ المشاركة في تصحيح أخطاء المذاهب ونقد الغلو
2 ـ عدم مجاراة الآخرين في التركيز على الفرق الأخرى.
3 ـ إحياء النقد الذاتي.
4 ـ تعلّم وتعليم الانصاف.
ويجمل المالكي ما حوته كتب العقائد ـ ومن أبرزها كتب
عقائد الحنابلة ـ على كثير من العيوب الكبيرة التي لا
تزال ـ حسب قوله ـ تفتك بالأمة ولعل من أبرزها: التكفير،
الظلم، والغلو في المشايخ، والشتم، والكذب، والقسوة في
المعاملة، والذم بالمحاسن، والأثر السيء في الجرح والتعديل،
والتجسيم الصريح، أو التأويل بالبالطل، وإرهاب المتسائلين،
وتفضيل الكفار على المسلمين، وتفضيل الفسقة والظلمة على
الصالحين، والمغالطة، والانتصار بالأساطير والأحلام، وتجويز
قتل الخصوم، والاسرائيليات، والتناقض، والتقوّل على الخصوم،
وزرع الكراهية الشديدة مع عدم معرفة حق المسلم، والأثر
السيء على العلاقات الاجتماعية، واستثارة العامة والغوغاء،
والتزهيد من العودة للقرآن الكريم مع المبالغة في نشر
أقوال العلماء الشاذة، مع انتشار عقائد ردود الأفعال (كالنصب
وذم العقل)، وجود القواعد المعلقة التي يطلقها بعضهم،
والتركيز على الجزئيات وترك الأصول، وإطلاق دعاوى الاجماع،
واطلاق دعاوى الاتفاق مع الكتاب والسنة والصحابة، وتعميم
معتقد البعض أو بعض الأفراد على جميع المسلمين، مع إرجاع
أصول المخالفين كل فرقة أصول الفرقة الأخرى لأصول غير
مسلمة يهودية أو نصرانية او مجوسية..الخ
في نقده لظاهرة التكفير في العقيدة الحنبلية، يؤسس
المالكي لمنطلق علمي وديني في التعاطي مع الاختلافات العقدية
بين المسلمين، وحسب رأيه (لا يجوز تكفير المسلم الذي يشهد
ألا لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله ولم ينكر شرائع
الاسلام الظاهرة المعلومة من الدين بالضرورة كالصلاة والصوم
والزكاة والحج ولم ينكر تحريم المحرمات المعلومة من الدين
بالضرورة كالكذب والخيانة والظلم والزنا والسرقة, كما
لا يجوز تبديعه ولا شتمه ولا لعنه..).
وفوق ذلك، يستدرك المالكي بأن حتى ارتكاب المسلم لمكفر
لا يستدعي تكفيره ابتداء (حتى يسأل عن سبب ارتكابه ذلك
ويتم التحاور معه والمناظرة وتقديم البراهين والأدلة لتقوم
عليه الحجة ويفهم الحجة وتؤخذ منه حجته إن كان عنده حجة
أو دليل ويصبر عليه ويلتمس له العذر وتتم دعوته للحق برحمة
ولين.
ما جرى، على العكس من ذلك التأسيس التسامحي، أن أصحاب
النزوعات العقائدية نسوا هذه المبادىء عند تخاصمهم ولم
يسلم اهل السنة ممثلين في الحنابلة والأشاعرة وغيرهم ولم
يسلموا من ولوج باب التكفير والتبديع وأشباههما. مثال
ذلك تكفير الامام أبي حنيفة والحنفية وذمهم وتبديعهم في
كتب الحنابلة. ثم جاء من بين المحسوبين الكبار على المذهب
الحنبلي من يكفّر عموم المسلمين مثل الحسن البربهاري إمام
الحنابلة في عصره (ت 329هـ) حيث قال في مقدمة كتابه (شرح
السنة):(إعلموا أن الإسلام هو السنة والسنة هي الاسلام).
وقال في (ص 109) مكفراً كل من خالف شيئاً مما ألفه في
كتابه شرح السنة :(فإنه من استحل شيئاً خلاف ما في هذا
الكتاب فإنه ليس يدين الله بدين وقد رده كله!!) وشبّه
كتابه ـ الجامع للبدع والأحاديث الموضوعة والأقوال الباطلة
ـ بالقرآنه الكريم عندما قال:(كما لو أن عبداً آمن بجميع
ما قال الله الا أنه شك في حرف، فقد ردَّ جميع ما قال
الله وهو كافر).
لم يكن البربهاري وحده المكفّر الحنبلي الوحيد، بل
تتلوه أسماء لامعة في الخط الحنبلي، ومن بينهم ابن تيمية
رحمه الله الذي رغم أنه تاب من تكفير المسلمين من الفرق
المخالفة كما نقل عنه الذهبي الا أن التأصيل للتكفير موجود
في كلامه عندما بالغ في التفريق بين توحيد الربوبة وتوحيد
الألوهية فهوّن من شأن الأول وبالغ في شأن الثاني، والتفريق
نفسه ـ على حد المالكي ـ تفريق مبتدع ليس في كتاب الله
ولا سنة رسوله ولم يقل بهذا التفريق أحد من الصحابة ولا
التابعين. وبالرغم من أن ابن تيمية رحمه الله يدعو لهجر
الكلام والفلسفة وعرض الدين من النصوص الشرعية بينما هو
هنا يأتي بشي لم يؤثر في كتاب الله ولا سنة رسوله (صلى
الله عليه وعلى آله وسلم) فقد كان النبي (صلى الله عليه
وعلى آله وسلم) يدعو الناس الى الشهادتين ونبذ عبادة الأوثان
وتأدية أركان الاسلام كما في حديث معاذ بن جبل في بعثه
الىاليمن وغير ذلك من الأدلة الكثيرة الوفيرة التي لم
نجد فيها هذا التقسيم المبتدع.
يعلق المالكي على هذه القسمة المبتدعة من حيث تداعياتها
على الاجيال اللاحقة بالقول (والسيء في هذه القواعد الباطلة
التي يقعدها أهل العلم كإبن تيمية أن لها ما بعدها.. وقد
زلّ بهذا التقسيم عوالم أصبحوا يكفرون المسلمين لوجود
اخطاء عقدية فقرنوا بينهم وبين الكفار ولم يحفظوا لهم
شهادة أن لا اله الا الله وأن محمد رسول الله. ويخلص هنا
المالكي بتوجيه الخطاب لهؤلاء المكفّرة (ونقول لهم ما
قاله النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) لأسامة بن زيد:(ماذا
تفعلون بـ : لا اله الا الله يوم القيامة)؟!.
يرد ايضاً إسم ابن القيم رحمه الله المقلد لابن تيمية
والناشر لعلومه، الذي لم تسلم مؤلفاته وأبحاثه من التكفير
إن لم يكن كثيراً من المسلمين فبعضهم. فعلى سبيل المثال
يلحظ المالكي أن ابن القيم يعقد فصلاً في نونيته بعنوان
(فصل: في بيان أن المعطل مشرك!!) ويقصد بالمعطلة هنا ما
ذكره الشارح الدكتور محمد خليل هراس: بأنهم (الفلاسفة،
والمعتزلة، والأشعرية، والقرامطة، والصوفية) فهناك خلط
بين القرامطة والأشعرية!! فضلاً عن الخلط بين المعتزلة
والقرامطة!! يقول ابن القيم ـ رحمه الله وسامحه ـ في قصيدته
النونية:
لكن أخو التعطيل شر من اخي
الإشراك بالمعقول
والبرهان
إن المعطل جاحد للذات او
لكمالها هذان تعطيلان
والمشركون أخف في كفرانهم
وكلاهما من شيعة
الشيطان
|
يعلق المالكي على ذلك بالقول: فهذا تكفير واضح لجمهور
المسلمين فإن الحنابلة قلة سواءً في عصر ابن القيم أو
قبله أو بعده وأغلب المسلمين أما أشاعرة أو شيعة أو معتزلة
وهم من الذين يؤولون الصفات التي يسميها ابن القيم (تعطيلاً)
ولهم حججهم في هذا كما أن للمثبتين حججهم.. إن تكفير بعضهم
لبعض محرم شرعاً والتكفير بلا برهان دليل على قلة العلم
وقلة الورع ويؤدي لرمي المسلم بالباطل مع التعصب وضيق
العطن.
ويمضي المالكي في توصيف نزعة التكفير الظاهرة في مؤلفات
ابن القيم ـ تبعاً لشيخه ابن تيمية ـ فكما بالغ الاول
في ذم الاشاعرة والمعتزلة والشيعة والصوفية فقد بالغ خصومه
من الاشاعرة خاصة في ذمه وتكفيره ورميه بكل طامة لأسباب
كثيرة لكنها لا تبرر لهم تكفيره ومن تلك الأسباب هذه القصيدة
التي كفرهم فيها أو لمح لكفرهم..
لقد كان لتلك المؤلفات التكفيرية ردود فعل مضادة من
قبل علماء المسلمين من المذاهب الأخرى الذين ردوا بشدة
على أحكام التكفير من ائمة المذهب الحنبلي، مثل السبكي
والكوثري وغيرهم، ولا غرابة في ذلك. يعلق المالكي على
ذلك: يجب أن نتفهم غضب هؤلاء وذمهم لنا لأننا لو سمعنا
ـ نحن الحنابلة ـ بأن جامعة من الجامعات تقوم بتدريس كتب
فيها تكفير احمد بن حنبل أو ابن تيمية أو محمد بن عبد
الوهاب فهل سنقبل بهذا.
ومن العيوب التي رصدها المالكي من خلال كتب العقائد
الحنبلية هي الظلم مثل قول غلاة الحنابلة:
ـ المرجئة مثل الصابئين
ـ المرجئة يهود
ـ الرافضة أكفر من اليهود والنصارى!!
ـ المعطلة أكفر من المشركين
ـ المرجئة والقدرية ليس لهما نصيب في الاسلام!!
ـ الحنفية كاللصوص
ـ وصم المتأولين للنصوص كالأشاعرة وغيرهم بـ (الملحدين)!!
ومخانيث المعتزلة!!).
ـ الجهمية كفار
ـ القدرية كفار
ـ الرافضة كفار
ـ القدرية مجوس.
ـ إنكارهم لفضائل المخالفين بأنهم لا يعرفونهم بطلب
العلم ولا بضبط الرؤية ولا صلاح السيرة ولا تجنب الكبائر
ويريدون ابطال الشريعة، والمعطلة يريدون نفي وجود الإله..الخ.
بل لم يجد المالكي عالماً خالف غلاة الحنابلة في أمر
وعلموا بمخالفته إلا ذموه واتهموه بالبدعة أو الزندقة..
ويعلق على ذلك (وهذا له دلالة على الجهل بالنفس وبالآخرين
ويدل على تعصب مذموم شرعاً وعقلاً).
والى جانب ما سبق، هناك العنف الذي عدّه المالكي وسيلة
اتخذها الحنابلة لفرض عقائدهم وإرهاب المخالفين لهم من
المسلمين كما في محاصرتهم لابن جرير الطبري المؤرخ والمفسر
المشهور حتى دفن في بيته وادعو عليه الرفض والالحاد، والافتراء
على الخصوم مثل زعمهم أن جهم بن صفوان كان يريد أن يمحو
آية (الرحمن على العرش استوى) ويزعمون بأنه يصلي على عيسى
ولا يصلي على النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وأنه
ذم النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) و(أنه يحل المسكر).
وكذلك قولهم أن من قال القرآن مخلوق فهو يعبد صنماً
وأنه قد قال على الله ما لم تقله اليهود والنصارى. وقد
عنون عبد الله بن أحمد عنواناً في كتابه (السنة) (باب
من زعم أن الله لا يتكلم فهو يعبد الأصنام).
وفي مجال الغلو في شيوخ الحنابلة وأئمتهم فيثبت المالكي
ما ينكره الحنابلة على الآخرين حين يغلوا في أئمتهم وشيوخهم،
وإن التبرير الذي يسوقه الحنابلة لذلك أن غلو الآخرين
في بعض علمائهم وأئمتهم يعد عند الحنابلة (تمييعاً للعقيدة!!)
بينما يسبغ الحنابلة على فعل الغلو عندهم كونه (ذباً عن
أعراض العلماء فلحومهم مسمومة!!).
يورد المالكي مثالاً لذلك غلو الحنابلة في الامام أحمد
نفسه، فقد رووا فيه من الآثار والأعاجيب ما يشبه غلو الشيعة
في جعفر الصادق رض الله عنه ومن ذلك: قول الحنابلة في
أحمد:(من أبغض أحمد بن حنبل فهو كافر) ونسبوا ذلك للشافعي
ولا يصح. وزعموا أن الامام احمد به يعرف المسلم من الزنديق،
وأن الخضر أثنى عليه وكذلك النبي موسى عليه السلام وأن
نظرة من أحمد خير من عبادة سنة، وأن الله عز وجل يزوره
في قبره كل عام، وأن قبره من ضمن أربعة قبور يدفعون عن
بغداد جميع البلايا، وأن التبرك بقبر أحمد مشروع، وأنهم
كانوا يضعون قلم أحمد في النخلة التي لاتحمل فتحمل من
بركته، وأنه غضب على منكر ونكير لما سألاه في القبر وقال
لهما: لمثلي يقال: من ربك؟!! فاعتذرا له، وأن الجن نعت
احمد قبل موته بأربعين صباحاً وكأنها تعلم الغيب!! وأنه
رؤي في المنام يبايع الله عز وجل، وأن الله يباهي به الملائكة،
وأن أحد الحنابلة سأل في المنام عن أحمد بن حنبل ويحيى
بن معين فأجابه المسئول: بأنهما قد زارا رب العالمين ووضعت
لهما الموائد، وأن أحد الحنابلة رأى الله في المنام فقال
له الله: من خالف أحمد بن حنبل عذب، وأن الله أمر أهل
السموات وجميع الشهداء أن يحضروا جنازة احمد وان اهل السموات
من السماء السابعة الى السماء الدنيا اشتغلوا بعقد الألوية
لاستقبال أحمد بن حنبل، وأن زبيدة (صاحبة العين) رآها
أحدهم في الجنة وسألها عن أحمد فأخبرته انه فارقها وهو
يطير في درة بيضاء يريد زيارة الله عز وجل، وأن من كانت
به ضائقة وزار قبر احمد يوم الاربعاء ودعا رزقه الله السعة،
وأن كل من دفن في المقبرة التي دفن فيها احمد بن حنبل
مغفور له ببركة أحمد بن حنبل، وأن الله ينظر سبعين ألف
نظرة في تربة أحمد بن حنبل ويغفر لمن يزوره، بل بالغ بعضهم
وزعم أن الله نفسه يزور احمد بن حنبل في قبره كل عام.
يعلق المالكي على هذه القائمة الواضحة في غلوها: فبالله
عليكم لماذا نسكت عن هذا الغلو وننشغل بنقد غلو الآخرين
في أئمتهم ونشنع عليهم ونبدعهم وقد نكفرهم لقولهم بنحو
هذا الغلو أو قريب منه ونحكم عليهم بأنهم محرفون، وهذا
لا يعني تبرير أو تسويغ غلو الآخرين لكننا بحاجة للتواضع
وأن ننقد أنفسنا اولاً، ونعترف أنه ما من عيب نعيب به
الآخرين إلا وهو فينا، هذا على سبيل الاجمال، فلماذا نرى
القذا في أعين الآخرين ونغمض جفوننا على جذع الغلو؟.
تشريع الكراهية بين المسلمين
أصحاب العقائد، على حد المالكي، يشرعون من عندهم الكراهية
بين المسلمين بعبارات وأقوال باطلة ولا مستند لها من الشرع
كأقوال البربهاري في كتابه (السنة)، وينتقي المالكي طائفة
من أقواله ونقوله التي تؤسس للكراهية بين المسلمين من
بينها:
ـ من أحب صاحب بدعة احبط الله عمله!! وأخرج نور الاسلام
من قلبه!! ويعلق المالكي على ذلك (وهذا يشبه إدعاء العلم
بالغيب!!).
ـ آكل مع يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع!!
ـ إذا علم الله من الرجل أنه مبغض لصاحب بدعة غفر له!!.
ـ ومن أعرض عن صاحب بدعة ملأ الله قلبه إيماناً!!
ـ ومن انتهر صاحب بدعة آمنه الله يوم الفزع الأكبر.
ـ ومن أهان صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة!!
ـ ومن أقرّ بما في هذا الكتاب ـ يقصد كتابه المسمى
شرح السنة!! ـ وآمن به واتخذه إماماً ولم يشك في حرف منه
ولم يجحد حرفاً واحداً فهو صاحب سنة وجماعة كامل قد كملت
فيه السنة!!
ـ ومن جحد حرفاً مما في هذا الكتاب أو شك او وقف فهو
صاحب هوى.. (ولا يدين الله بدين)!!
الاستدراك على الشرع(أو
بدعة إشتراط فهم السلف)
على العكس من إجماع المسلمين قاطبة على إعتبار الكتاب
والسنة هما المرجعية النهائية في كل نازلة واختلاف، فإن
غلاة الحنابلة او السلفية يشترطون شروطاً ليس لها نصيب
في هذين المصدرين، فزادوا على ذلك شرطاً آخر ومنحوه سلطة
تفوق الكتاب والسنة. يقول المالكي (فلما رأى أصحاب العقائد
ومنهم السلفية الحنابلة ان العودة للكتاب والسنة سيلغي
أكثر الشتائم والتكفيرات والتبديعات والمخالفات الموجودة
في كتب العقائد لجاؤا الى الزيادة على ما ذكره الله عزل
وجل بقولهم: (إن الكتاب والسنة لا تكفي فلا خير في كتاب
بلا سنة ولا خير في سنة بلا فهم السلف الصالح)!! وهكذا
نفوا الخيرية عن الكتاب والسنة بهذا الشرط البدعي الذي
اشترطوه وانتقصوا به من كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله
عليه وعلى آله وسلم).
ويعلق المالكي بالقول: ولا أدري هنا ماذا يقصدون بـ
(فهم السلف) إن كانوا يقصدون الصحابة فقد اختلف الصحابة
في فهم كثير من العقائد والأحكام فبأي فهم نلتزم؟! وإن
كانوا يقصدون اتباع ما فهمه الصحابة كلهم فهذا لا يخالف
فيه أحد لكن حصول هذا الاجماع في الفهم صعب بل مستحيل
إلا في أمر دليله واضح.
وإن قصدوا إتباع فهم آحاد السلف فيما لم يختلفوا فيه،
قيل لهم اختلافهم في الفهم دليل على أن فهمهم يخطىء ويصيب؟!
فإذا كان كذلك فمن يضمن لنا أن فهم الآحاد منهم ليس من
القسم الذي أساؤوا فهمه.
وأرود المالكي أمثلة حول تباين الفهم بل وخطئه في زمن
الرسول (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، من ذلك ما فهمه
عدي بن حاتم من الآية الكريمة (وكلوا واشربوا حتى يتبين
لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) وقد رده عليه
رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم). وفهمت زوجات
النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) من قوله (صلى الله
عليه وعلى آله وسلم):(أولكن لحوقاً بي أطولكن يداً) على
الحقيقة بينما هذا كان مجازاً فهو كناية عن الانفاق والصدقة.
ولا ننسى الحادثة المشهورة حول الصلاة في بني قريضة حيث
اختلف المسلمون في تفسير حديث النبي (صلى الله عليه وعلى
آله وسلم) حين أوصى سرايا المسلمين بالصلاة في بني قريضة،
ففهم أناس ذلك على أنه أمر بالصلاة في بني قريضة بينما
فهم آخرون بأن ذلك استحثاث منه (صلى الله عليه وعلى آله
وسلم) لهم بأن ينجزوا مهمتهم وأن يحققوا النصر، الذي يرمز
اليه بالصلاة في بني قريضة.
وهناك قصص كثيرة في اختلاف الصحابة في فهم بعض النصوص
القرآنية والحديثية. ثم إن هذا الفهم ـ كما يقول المالكي
ـ لم يقل به أحد من الصحابة فلم يقل أحد منهم للتابعين:
إذا فهمتم من آية كريمة فهماً فلا تأخذوا به حتى ننظر
ماذا نفهم منها؟!
وعليه، فإن القاعدة المشهورة (الكتاب والسنة وفهم سلف
الأمة) باطلة بإجماع سلف الامة من المهاجرين والانصار
الذين لم يشترطوها واكتفوا بما ذكره الله عز وجل من (التحاكم
للقرآن والسنة) أما زيادة اشتراط الفهم فهو استدراك قبيح
على الآية الكريمة.
وإذا ما وعينا هذه الحقيقة التاريخية الساطعة، أمكن
طرح الاسئلة الاستنكارية التالية:
من من الصحابة فضّل الآثار وأقوال الرجال على القرآن
الكريم؟
ومن منهم جعل المسلم شراً من اليهودي والنصراني؟!
ومن منهم كفّر المسلمين؟!
ومن منهم تسمّى بغير الاسلام؟!
ومن منهم زهَّد في كبائر الذنوب؟!
ومن منهم غلا في علمائهم وكبارهم؟!
ومن منهم أفتى باغتيال المخالفين له في الرأي؟!
ومن منهم شبّه الله بخلقه؟!
ومن منهم ركّز على الجزئيات وترك الأصول؟!
الخاتمة وأبرز النتائج
يخلص المالكي من فحصه الدقيق لكتب العقائد الحنبلية
الى نتائج هامة تمثل تلخيصاً مكثفاً للقراءة النقدية للتراث
العقدي الحنبلي، ونعرضها هنا بصورة اجمالية:
ـ ليس لمصطلح (العقيدة) بهذا المعنى الشائع أصل لا
في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم،
ولا كان هذا المصطلح مستخدماً في عهد الصحابة ولا التابعين
ولا كبار أئمة السلف في القرن الثلاثة الاولى.
ـ لفظ (الايمان) هو اللفظ الشرعي المهجور، وأن العودة
اليه أصبح ضرورة لاساءتنا استخدام المصطلح الأول وادخالنا
في كل باطل لكن شجاعتنا في العودة للمصطلح الشرعي تحتاج
لسنوات طويلة!!
ـ العودة للتسمي بإسم الإسلام فلا مذهب الا الاسلام
ولا عقيدة غير الاسلام ولا دين الا الاسلام فمن نطق بالشهادتين
موقناً بها فهو مسلم في الاصل ولا يخرج الا بارتكاب مكفر
وبعد انتفاء الموانع..
ـ بدعية التمذهب العقدي لفرقة من الفرق الاسلامية فلا
يجوز الانتماء المطلق الذي يوالي ويعادي عليه الا للاسلام
نفسه. ولا يجوز للمسلم أن يرى أن مذهبه العقدي يصلح بديلاً
للاسلام فلا سنة ولا شيعة ولا معتزلة ولا سلفية ولا اشعرية
ولا إباضية ولا صوفية.. وإنما هو الاسلام فقط.
ـ ضرورة العودة للقرآن الكريم بما فيه من مجمل الايمانيات
(التي يسمونها العقائد) ومجمل الأوامر الظاهرة والمحرمات
الظاهرة والاخلاق الواجبة وعدم الزام الناس بالمتشابه
منه. ثم العودة لمتواتر السنة ثم الصحيح المشهور وترك
المتنازع في المختلف فيه من السنة..
ـ لم تكن الايمانيات (التي يسمونها عقائد) مفصولة عن
الاحكام والأخلاق بل كانت الدعوة لكل هذا دعوة واحدة وهي
الدعوة للاسلام في شمولها وتكاملها دون المبالغة في جانب
أو إهمال جانب، أما غلاة العقائديين فقد بالغوا في (الخصومات
العقدية) مثل مبالغة غلاة الحنابلة في الاثبات والتكفير
والتبديع، ومبالغة الصوفية في (المحبة)، ومبالغة جماعة
التبليغ (في الفضائل) ومبالغة الأخوان المسلمين وحزب التحرير
في (الخلافة والحكم). فكل حزب يعتصم ويوصي بالاعتصام بما
يراه متميزا به عن الآخرين، وكأن الاتفاق مع الآخرين جريمة
والمحافظة على الظلم فضيلة..
ـ إن غلاة العقائديين يجعلون مسألة من المسائل المستحدثة
أهم من أركان الاسلام كما يفعلون مع مسألة (خلق القرآن)
التي كفّروا بها جميع المسلمين إلا من تابعهم وامتحنوا
بها الخلق وفرقوا بها بين الأمة.
ـ معظم ما سطرته كتب العقائد مما ليس في القرآن وصحيح
السنة مستحدث، ما أنزل الله بن من سلطان ولا بعث به النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى هذا فلا يجوز إمتحان
الناس به ولا إعلانه على أنه دين الاسلام وإنما يجب أن
يبقى في مستوى البحث العلمي فقط.
ـ إن المبالغة في صغائر المعتقدات المرتكزة على نصوص
ظنية الثبوت او الدلالة لم يكن نتيجة لأهمية تلك العقائد
المتنازع عليها وإنما نتيجة الصراعات السياسية بالدرجة
الاولى ثم الصراعات المذهبية وحب العلو في الارض والتفرد
بالزعامة نتيجة التحاسد والتنافس بين العلماء.
ـ تحولت العقائد الى عمل فكري محض ليس له أثر على السلوك،
فاشتغل المسلمون بالاقول دون الافعال.
ـ إذا كان المسلمون في الماضي معذورين في التنازع لقوة
الخلافة وضعف الكفار وظنهم ان تنازعهم لن يكون له الخطر
المستقبلي على الاسلام وأهله فليس لهم اليوم مبرر لهذا
التنازع مع ضعف المسلمين السياسي والاقتصادي والعسكري
وعلى هذا فالاعتصام بحبل الله والالتقاء على الخطوط العريضة
أمر واجب لا يصد عنه الا مشارك في الجرائم التي تنفذ ضد
المسلمين في أقطار الأرض..
ـ أصبحت العقائد في الأزمنة المتأخرة لا تعني سوى الانتصار
لما شذّت به الطائفة عن سائر المسلمين مع التقوقع على
هذا وكأنه الاسلام ذاته!! مع الضيق في ذلك والتفصيل المبالغ
فيه والولاء والبراء في ذلك! مع إقناع النفس بأن زمننا
هذا زمن فتنة وبلاء!! وأننا نحن الغرباء!! الذين أخبر
النبي (ص) بأنهم يصلحون إذا فسد الناس!!.
ـ أسرف غلاة العقائديين في التكفير والتبديع والتضليل
مع الاستعداء السياسي والاجتماعي ضد المخالفين لهم في
إختياراتهم الدقيقة التي قد تكون خاطئة أيضاً، وهم مع
هذا يسرفون أيضاً في الكذب على الخصوم والافتراء عليهم.
ـ غلاة العقائديين من أقل الناس فهماً لحجج المخالفين
نتيجة قيام العقائد عندهم على التقليد والتسليم دون اعتراض
على ظلم ولا حديث موضوع ولا إساءة في حق الله..
ـ غلاة العقائديين من أجهل الناس في طرق الاستدلال،
ومع هذا الجهل يأتي التعصب ومهاجمة المخالفين أدنى مخالفة
لأنهم أحرص على حماية المذهب والدفاع عنه أكثر من حرصهم
على الاسلام نفسه..
ـ لكل أصحاب عقيدة مغالية سلف يعتصمون بهم أكثر من
اعتصامهم بالنصوص الشرعية الصحيحة من كتاب وسنة ويغالون
في أئمتهم.
ـ غلاة العقائديين لا يتحاكمون للكتاب والسنة وانما
يتحاكمون لاختيارات منسوبة لبعض العلماء أو ردود أفعال
لخصومات سلفهم.
ـ يقوم أصحاب كل عقيدة مغالية ـ وأغلب العقائد اليوم
مغالية ـ بإضفاء الممادح الكبيرة على سلفهم ذلك المدح
الذي يقنعون به العوام أنهم على شيء!! والغريب أن هذا
يتم مع نهيهم عن الغلو في الصالحين.
ـ مصطلح السلف الصالح أصبح عائماً يدور مع المذهبية
حيث دارت.. ويتم احترامهم لشخصيات السلف أكثر من احترامهم
للنبي صلى الله عليه وسلم بلسان الحال. بل مخالفة بعض
رموز السلف أكبر من خشية مخالفة نصوص القرآن الكريم..
ـ يجمع غلاة العقائديين من متناثر أقوال علماء سابقين
فيجمعون هذا الى هذا لتخرج لهم (منظومة عقائدية)!! يعادون
فيها ويوالون فيها، ولا يتركون لغيرهم أن يجمع كما جمعوا
ولا أن يعود للنصوص الشرعية بحجة (زيغ) من اعتمد على نفسه
في معرفة النصوص الشرعية!
ـ السلف الصالح أصبح صلاحه يضبط بالالتزام المذهبي
وليس بالنصوص الشرعية فكلما كان الرجل متعصباً ملتزماً
بحرفيات المذهب فاحش القول عبوساً يهجر إخوانه المسلمين
كلما انثالت عليه الممادح والتزكيات والوصف بالصلاة في
السنة والامامة في الدين!! والشدة على المخالفين!.
ـ معظم الكتب المؤلفة في العقائد عند غلاة العقائديين
الباطل فيها أكثر من الحق لاحتوائها على البدع والأحاديث
الموضوعة والتكفير والظلم والجهل..الخ
ـ يجب أن تقوم الجامعات الاسلامية عندنا في المملكة
خاصة بالمبادرة بنقد كتب العقائد قبل أن يفقد الناس ثقتهم
فيها وأن يتيحوا لطلابهم حرية نقد كلام البشر من غير الانبياء
صلوات الله عليهم نقداً نزيهاً مدللاً بالأدلة الشرعية.
ـ يجب رحمة المسلمين جميعاً، فالاسلام رحمة، والنبي
(صلى الله عليه وعلى آله وسلم) بعثه الله رحمة للعالمين،
فحوَّله بعض الناس ـ بضيق تصوراتهم ـ الى عذاب إذ أصبح
كل المسلمين ـ عند هؤلاء أصحاب الافق الضيق ـ مبتدعين
ضالين لا تنالهم الشفاعة وأصبحت الجنة ـ في نظر بعض طلابنا
ـ مقصورة على الحنابلة ومحبيهم.
وفي الختام يميّز المالكي بين نوعين من السلفية: سلفية
قريبة من منهج السلف الحقيقيين، وهي تعم كل الذين ينطلقون
من الكتاب والسنة ولا يأنفون من محاكمة الأقوال والمعتقدات
الى هذين الأصلين، وسلفية زائفة لا دخل للسلف بها، وهذه
السلفية الزائفة تقوم على أصلين عظيمين وهما الكذب والظلم.
|