(1-2)
مستقبل المملكة ومعركة التحديث
''السيف والقرآن هما كل ما أملك''. عبارة تنسب الى الملك عبد
العزيز (1880 ـ 1953) مؤسس المملكة السعودية يلخص فيها محتوى التحالف
التاريخي بين الامام محمد بن سعود (توفي 1765) والشيخ محمد بن عبد
الوهاب (1703 ـ 1791) الذي أبرم سنة 1744. فمن وجهة نظر بعض
المسلمين، أن الملك عبد العزيز جسّد أمل الاسلام وأحيا تجربة السلف
الصالح وهكذا الفقهاء المبجّلين في المدرسة الحنبلية الذين نظّروا
لدولة مؤسسة على مبدأ تطبيق الشريعة الاسلامية، كما تشخّصت في فكر
شيخ الاسلام إبن تيمية (661 ـ 728) كما ظهر في كتابه الموسوم
(السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية) وايضاً في كتاب تلميذه
الشيخ ابن قيم الجوزية (691 ـ 751) (الطرق الحكمية في السياسة
الشرعية).
إن الانجاز السياسي البارز لابن سعود في توحيد الجزيرة العربية
فرض نفسه على المخيال الاسلامي عموماً الامر الذي حفّز عالماً
متنوراً مثل الشيخ رشيد رضا (1865 ـ 1935) لأن يصف عبد العزيز بأنه
الحاكم الذي حافظ وساند المبادىء الاساسية للسنة بعد الخلفاء
الراشدين الاربعة.
لقد نظر الشيخ ابن عبد الوهاب وسلالته من بعده الى السيف
(باعتباره رمزاً للسلطة الزمنية مظهراً نفسه في حكم ابن سعود)،
باعتباره الاداة التي ستؤول الى انتشار الوهابية في ارجاء الجزيرة
العربية، وأنها ستفرض تعاليمها وعقائدها ونموذجها المذهبي في المناطق
الخاضعة للسلطان السعودي. في الجانب الآخر، كان عبد العزيز الذي سعي
الى تأسيس مملكة مركزية موحدة يأمل في توظيف حليفه الديني الى اشتقاق
مصدر صلب للمشروعية. ومثل هذه المصالح المشتركة تطلبت مستوى محدداً
من تقاسم السلطة في سبيل تحقيق تطلع الطرفين. وهذا التطلع مبني على
درجة عالية من الانسجام وفي نفس الوقت على اتفاقية واضحة بين
الجانبين تنص على بقاء السلطات الزمنية في أيدي آل سعود، وفي المقابل
تبقى الشؤون الدينية في سلالة الشيخ ابن عبد الوهاب.
وهذا الفرز الواضح بين السلطة الدينية والسلطة السياسية يستمد
وجوده ومشروعيته ايضاً من معطيات تاريخية ودينية. فالتراث السياسي
الحنبلي أضفى اهمية كبيرة على مبدأ طاعة الامير، معارضاً أي نشاط
سياسي يفضي الى تهديم السلطة أو الانقسام داخل جماعة المسلمين. من
جهة أخرى، فإن المدرسة الحنبلية تقصر علاقة ودور العلماء في السلطة
السياسية وبشخص الحاكم على النصيحة والمشاورة الودية الممكنة بمقتضى
النص النبوي الشريف (الدين النصيحة). بكلمة، تعتبر المدرسة الحنبلية
المذهب الاسلامي الاكثر تسامحاً تجاه الحكام قياساً الى المدارس
الاسلامية الاخرى. ولذلك، فإن الشيخ ابن عبد الوهاب وأتباعه المخلصين
مالوا الى الخضوع الى الحكومة الزمنية. وفي نفس السياق، فإن العلماء
وجدوا في النصوص الدينية ما يكفي من وجهة نظرهم لتبرير وغفران ذنوب
الامراء طالما أن وحدة الامة متحققة، أو أن هذه الذنوب لم تصل الى حد
الاعلان السافر عنها أو ما يعرف بـ (الكفر البواح) كما هو مشروح في
الفقه الاسلامي الحنبلي.
ما يمكن قوله هنا، أن ابن سعود توسل بالمدرسة الحنبلية للحصول على
وصفة الشرعية، ووجد في الوهابية ضالته. فهي الى جانب كونها تمثل
المذهب المهيمن في منطقة نجد، فإنها كانت حركة تطهرية دينية خالصة
حملت هدفاً رئيسياً :''لتطهير العقيدة واستعادة التوحيد الصارم،
وعبادة الله وحده''. يرى نقّاد ودارسو تراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب
بأن التسعة عشر كتاباً الذين ألّفها الاخير رغم كونها لا تحتوى ـ
ظاهراً ـ على أي فكر سياسي أو لا تعالج أياً من القضايا المعاصرة،
الا أنها بالتأكيد ساهمت بدرجة عظيمة في تشكيل الايديولوجية السياسية
للدولة السعودية والتي ما زالت نشطة ومستعملة بدرجة واضحة وفاعلة.
وليس ثمة شك في أن الظروف التاريخية والاجتماعية والدينية لعبت
دوراً مركزياً في تمهيد الطريق لقيام الدولة السعودية. الا أن هذه
الدولة شهدت منذ ولادتها نزعتان رئيسيتان:
الاولى: الحفاظ وحماية القيم الدينية كجزء من التزام آل سعود لكل
من الاسلام والتحالف مع العلماء، والثانية: تبني برامج التحديث كخيار
موضوعي وحتمي للدولة.
فيما يتصل بالنزعة الاولى، كانت العلاقة الودية بين العرش السعودي
وعلماء الدين تمثل ميزة بارزة للتاريخ المعاصر للجزيرة العربية. فمنذ
سقوط الرياض عام 1902 سعى الملك عبد العزيز الى احياء التحالف
التقليدي مع العلماء وعبّر عن دفاعه عن المعتقدات الوهابية. وهذا ما
أسبغ على حركته معنىً دينياً ونتج عن احتواء وانضمام قافلة كبيرة من
الانصار. فهنا تلتقي التطلعات السياسية بالاهداف الدينية لتمثل
المبرر لتشكيل الجيش العقائدي المعروف بـ (الاخوان) في سنة 1912. فقد
أنشأ عبد العزيز عفريتاً ـ حسب روبرت ليسي ـ إسمه الاخوان الذين
سعّرت مشاعرهم الغاضبة، واطلق حماسهم من اجل الغزو والفتح لتحقيق
تطلعاته السياسية. وعلى أية حال، فإن عبد العزيز الذي لحظ لاحقاً في
الاخوان كمؤشر تهديد في استقرار حكمه، قرر التخلص منه مرة واحدة والى
الابد. وما تجدر الاشارة اليه، أن مما غذّى الخلاف بين قيادات
الاخوان وابن سعود هي الاهداف المتنافرة بين الطرفين، فالاخوان
يريدون دولة فتوحات وشريعة صارمة، وعبد العزيز يريد دولة مركزية
حديثة. فالاخوان يزعمون بأن رسالتهم هي نشر الاسلام في العالم
المملوء كفراً والحاداً، وهي رسالة لم تكن مطلقاً في أجندة ابن سعود
السياسية. وحسب م. عبير (1993): ''بخلاف الجهاد الوهابي ـ السعودي في
القرنين الماضين، فإن الحملات العسكرية لابن سعود لم تكن تستهدف نشر
الوهابية ولكن اعادة تأسيس سلطة البيت السعودي''.
في وقت لاحق وحين انفجر الخلافة بين الطرفين أصبحت المهمة الوحيدة
للاخوان، هي استعادة الشريعة التي تقوّضت تحت ابن سعود، الذي أصبح
مجرد ''طالب ملك، موالياَ وشريكاً للكفار في أعمالهم''. فالنزاع
المتنامي بين الاخوان وابن سعود تصادف مع ادخال التكنولوجيا والتعليم
الحديث الى البلاد، وهو أمر عارضه الاخوان بمقتضى الحكم الشرعي
''البدعة'' وهي حسب تعريف الشيخ ابن عبد الوهاب ''كل اعتقاد أو عمل
ليس مستنداً على القرآن وأحاديث النبي أو السلف الصالح''. ولذلك سعى
عبد العزيز الى اذابة التجمد الديني للاخوان من خلال اذابتهم في
المجتمع الحديث، وفي حالات الفشل قرر تدميرهم كما في معركة سبلة في
30 مايو 1929، بدعم كامل من بريطانيا بموجب معاهدة الحماية الموقعة
في 1915.
وحقيقة الامر، أن الاخوان كآلية ومحتوى انتهت صلاحيتهما بعد اعلان
الدولة السعودية كحقيقة جيوـ سياسية. وهذا يعني، أن الجهاد كتبرير
لتشكيل وتحريك النشاطات العسكرية للاخوان أصبح متعارضاً مع شروط
ومبادىء واهداف الدولة. فابن سعود كان، بلا شك، مدركاً بصورة تامة
لشروط استقرار مملكته، ولذلك سعى الى المحافظة على توازن دقيق بين
الاعراف القبلية، والنفوذ الديني، والانسجام داخل عائلته، ومتطلبات
التحديث. فبالنسبة لابن سعود، يجب توظيف واستثمار كل هذه العناصر
لحساب أولوية كبرى، يعني انشاء مملكة مركزية موحدة.
وعلى أية حال، فإن مشكلة مستقبل الدولة تكمن في التناقضات بين
التطرف الديني وسيرورة الدولة أو بحسب الاستقطابات التقليدية بين
الاصالة والمعاصرة. حافظ وهبة، المستشار المصري لابن سعود والذي تولى
مكتب الخارجية من سنة 1922، ينقل تفاصيل معارضة العلماء في يونيو
1930 فيما يخص منهج ادارة التعليم في مكة، على أساس أن هذا المنهج
يحتوي على تعليم الفن ولغات اجنبية وجغرافيا والذي يحتوي على موضوع
حول دوران الارض. في محاولة لتغيير موقف العلماء، قام حافظ وهبه
بتوضيح أهمية هذه المواد، ولكن أحد العلماء رد عليه قائلاً : ''فيما
يخص الجغرافيا، فإنها تحتوي على فرضيات حول دوران الارض واحاديث حول
النجوم والكواكب التي أحدثها الفلاسفة الاغريق، وقد استنكرها
السلف''.
وبخلاف الموقف عام 1921 حيث تنازل عبد العزيز لحليفه الديني وأوقف
استعمال اللاسلكي في مراسلاته مع المناطق الاخرى، الا أنه في هذه
المرة قرر تعزيز سلطانه مستعملاً دوراً متوازناً وفاعلاً لازالة كل
المعوقات التي تحول دون تطوير دولته. فقد قاوم بصرامة كل التحديات
متوسلاً تارة بالاقناع الودي أو المراوغة. فحين شكى علماء نجد الى
عبد العزيز بشأن الاحتفال بالعيد النبوي الذي كان قائماً في الحجاز،
أصدر عبد العزيز أمراً بالمنع، ولكن حين أراد الفوز بالمناظرة كان له
ذلك. في 29 مايو 1933 وقع وزير مالية ابن سعود عبد الله سليمان
اتفاقية مع ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال) تستند على أمر ملكي،
وتم بموجب هذه الاتفاقية منح سوكال امتياز التنقيب عن وتطوير النفط
في البلاد. وقد عارض العلماء هذه الاتفاقية على اساس أنها ستفتح
الابواب للكفار للاستيطان في الجزيرة العربية، وستؤدي الى الفساد
الاخلاقي في المجتمع، وستدخل الخمور والصور الخلاعية وبعض أدوات
الشيطان. ولكن عبد العزيز ''تجاوز المعارضة'' حسب نداف سافران.
ومهما يكن، فإن على عبد العزيز أن يكيّف سياساته مع شروط التحديث
فيما يحافظ على درجة معقولة من الالتزام تجاه الاسلام والعلماء. فابن
سعود والحكام اللاحقين من بعده وجدوا أنفسهم أمام قوتين كبريين:
علماء نجد المتمسكين بقوة بالتعاليم الصارمة للوهابية مناوئين كل
اختراع جديد والذي يصنّف في خانة (البدعة)، والثانية التيار المدني
الحيوي والضروري لنظام الحكم.
السعودية الحديثة: بداية التحدي
التاريخ السياسي للدولة السعودية يخبرنا بأن الدولة شهدت مرحلتين
رئيسيتين: مرحلة عبد العزيز، والتي رهنت الدولة لحكم ملكي ـ قبلي
مطلق، بمعنى أن ابن سعود قاد البلاد كزعيم قبيلة. فقد كان ''كل شيء
في الدولة، فلا أخوانه، أو أبناؤه، أو وزراؤه أو أمراء المناطق أو أي
شخص آخر قد قام بعمل أو بمبادرة بدون مشاورته، فكل القرارات يجب أن
يصادق عليها الملك..''. المرحلة الثانية: ما بعد ـ عبد العزيز.
فبالرغم من أن الملك كان يتمتع بسلطة غير محدودة الا أنه يتعين عليه
الاخذ بنظر الاعتبار/ والمحافظة على الاجماع داخل العائلة المالكة،
واضعاً نصب عينيه التطورات الجديدة وتحديات التيار التحديثي.
بالنسبة للمرحلة الاولى، فإن النظام السياسي السعودي كان على
امتداد عقدين من الزمن (من 1932 ـ 1953) معتمداً على الممارسات
الشخصية وفي الغالب الارتجالية لابن سعود أكثر من اعتمادها على
المؤسسة، فالجهاز الحكومي لم يتشكل بعد ومازال في طوره الجنيني. فمن
الفترة الواقعة بين سقوط الرياض 1902 وحتى سقوط جدة 1925، لم يكن
هناك أي من التأسيسات الوزراية في البلاد، وانما ''ديوان الشيوخ''
الذي كان يقوده الملك تولى ادارة شؤون الدولة، ومن ثم شكّل أساس
الجهاز الوزاري.
وحالة كهذه تعود الى القيادة الكاريزمية الطاغية للملك ابن سعود
والذي محق طيلة عهده ضرورة الهيكلية الحكومية للدولة. وعوضاً عن ذلك،
كانت مهمته الرئيسية تجيير كل الجهود لبناء مملكة مركزية موحدة بأي
صورة كانت. وقد لعب الحجاز دوراً فاعلاً في مأسسة الدولة وذلك
للتقاليد السياسية والمجتمعية الغنية والطويلة الامد. فقد ورث ابن
سعود '' النظام الاداري المعدّل للشريف حسين وتشابكات ادارة حكومة
اكثر تعقيداً''. وبعد ذلك دشّن مجلس الشورى في الحجاز في 21 يناير
1925، وهو مجلس كان يفترض فيه أن يتولى مهمة تشكيل السلطة التشريعية.
اقراراً بأهمية ميراثها وتجاربها الادارية، قام عبد العزيز باستثمار
التقاليد البيروقراطية للحجاز لتأسيس قاعدة تمأسس الدولة.
الحقيقة أن الحجاز كتجربة راسخة ومتطورة تعرضت لانهيار كبير في
مؤسساتها الثقافية وشعرت بالتهديد من وصول البدو والذي نتج في محصلته
النهائية عن طمس شخصيته التاريخية وهويته الاجتماعية والثقافية
وتراثه المحلي. فبالنسبة للمجتمع الحجازي، كانت الخسارة من الناحية
العملية حقيقة مؤلمة، منذ أن قررت العائلة المالكة نقل الدوائر
الحكومية من الحجاز الى نجد في عهد الملك فيصل (1964 ـ 1975).
بالنظر الى المرحلة الثانية، فيمكن القول أنه بالرغم من التنبؤات
التي أعلن عنها عدد من المراقبين الاجانب والمستشارين والخبراء حول
سقوط مملكة ابن سعود في أوائل الثلاثينات الا أن الخلف ورثوا مملكة
مستقرة، ولكن غير منظمة. ولذلك كان من أهم معالم هذه المرحلة هو
تأسيس أجهزة الدولة منذ أن تم تخصيص حصة هامة من مداخيل النفط في
برامج التحديث. ولعل من المناسب الاشارة الى أنه بعد خمسين سنة من
الحكم المطلق (1902 ـ 1953) وافق عبد العزيز قبل اسابيع قليلة من
وفاته على انشاء مجلس للوزراء. ولعل هناك من يجادل بأن ابن سعود عمد
بهذه الخطوة الى تمهيد الطريق لأبنائه الستة والاربعين للامساك بزمام
البلاد من بعده. الامر الملكي القاضي بتشكيل المجلس نص على تعيين ولي
العهد سعود (الملك لاحقاً) رئيساً للمجلس. وعلى اية حال، فإن انشاء
المجلس قدّر له أن يبقى مسألة نظرية حتى وفاة عبد العزيز.
في مارس 1954 وضع الملك سعود نظاماً جديداً لمجلس الوزراء، كما
وضع نظاماً جديداً أيضاً للديوان الملكي. وعين ولي عهده فيصل رئيساً
لمجلس الوزراء. وفي حقيقة الامر، فإن المجلس نزع السلطة التشريعية من
مجلس الشورى القديم، والذي كان مؤلفاً من العلماء والتجار. فمجلس
الوزراء قد نظر اليه باعتباره ''تدشيناً لعصر جديد في ترقي النظام
السياسي السعودي''.
وما يمكن اعتباره نقطة بداية لتقويض الدور التقليدي للعلماء كان
الصلاحية العظمى الممنوحة للمجلس الوزاري.
فبناء على المادة الثامنة عشرة من نظام مجلس الوزراء: يتولى
المجلس ادارة السياسات الداخلية والخارجية والمالية والاقتصادية
والتعليمية والدفاع، وكل الشؤون العامة للدولة، كما يتولى تنفيذ هذه
السياسات ويملك الصلاحيات التنظيمية والتنفيذية والادارية، ويشرف على
الشؤون المالية والشؤون الوزارية والمصالح، ويأخذ الاجراءات اللازمة
في هذه الاصعدة، كما أن صلاحية الاتفاقيات والمعاهدات الدولية يجب
المصادقة عليها من قبل المجلس، وأن القرارات الصادرة عن المجلس لا
تعلّق أو تمس الا في حالات محددة تتطلب أمراً ملكياً.
ولا حاجة للقول، بأن بداية الدولة السعودية الحديثة من الناحية
الواقعية كانت من منتصف الستينيات، أي منذ تولي فيصل السلطة، ففي
عهده ، بدأت تتضح ملامح الجهاز الوزاري والذي بدوره تعاطى مع الاوضاع
الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجديدة، حيث بدأت الدولة تستوعب
التكنوقراط في التشكيل الوزاري للدولة. في عام 1965 احتل التكنوقراط
ست وزارات من أصل 14 وزارة، وفي 1975 حيث كانت الكابينة مؤلفة من 24
وزيراً كان نصيب التكنوقراط 14 وزيراً وفي عام 1982 حجزوا 16 حقيبة
وزارية من أصل 27، بينما كانت حصة آل الشيخ بسيطة ثابتة ممثلة في 3
وزارات.
وفي المحصلة، فإن الستينيات كانت تمثل نقطة تحول في تاريخ الدولة
السعودية، شهدت تحولاً كبيراً للبنى القديمة، ظهر في انتشار التعليم
الحديث والذي مهد الارضية لنوع من العلمنة لجهاز الدولة، وبخاصة مع
ادخال العناصر العلمانية في الجسد الحكومي كرد فعل على التيار القومي
العربي. فقد وجدت الدولة نفسها أمام خيار الميل ـ بفعل النزعة
القومية المتنامية ـ الى التحديث الذي غطى على جهود علماء الوهابية
لترسيخ المعتقدات الوهابية المحافظة، ومقاومة تأثير الاتجاهات
الحديثة الطاغية. في يوليو 1965، توفي عضو في العائلة المالكة يدعى
خالد بن مساعد (وكان متمسكاً بالقيم الصارمة للمذهب الوهابي) نتيجة
الاضطرابات التي أعقبت تدشين محطات التلفزيون في الرياض وجدة. وهذا
يعني أن العائلة المالكة خضعت لضغط العصر الجديد والتحول الخارجي،
ومعارضة للمعارضة الدينية المحلية.
العلماء والتحديث: المناظرة العويصة
مع ترسيخ الحكم السعودي ومن ثم اكتشاف البترول بكميات تجارية كانت
العائلة المالكة محثوثة نحو الدخول في عملية تحديث واسعة النطاق من
أجل الايفاء بمتطلبات بناء الدولة الحديثة.
ومن الناحية العملية، فإن عهد الملك فيصل (حكم من 1962 ـ 1975)
مثّل نقطة تحول أساسية في تاريخ الدولة السعودية، من منظور كثافة
المجهودات التي قام بها من اجل هضم عملية التحديث داخل الجهاز
البيروقراطي.
ويجب التذكير دائماً بأن التحديث كان يعني بالنسبة للعائلة
المالكة ليس اكثر من الجانب التكنولوجي الذي يراد استثماره في مشاريع
العمران والصناعة داخل هذا البلد، مع الاحتفاظ بمسافة احترازية
للحيلولة دون تخريب قيم وتقاليد المجتمع. هكذا يراد منا استقبال
التفسير الرسمي للتعامل الانتقائي مع برنامج التحديث. ينقل عن مسئول
رسمي رفيع بأن بلاده نجحت في استيعاب التكنولوجيا وتحييد
الايديولوجيا، أي بمعنى آخر أن عملية التحديث اريد منها نقل مجموعة
المعدات الضرورية من اجل تشغيل مؤسسات الدولة دون حاجة لمعرفة الاسس
المعرفية التي بني عليها المعامل التي انتجت تلك المعدات، أي باختصار
تحديث بلا حداثة.
قيل آنذاك بأن التحديث يجب ان يسير جنباً الى جنب مع ايمان
المجتمع وعقيدته. ولذلك جرى استعمال اللغة الدينية بافراط حتى في
الموضوعات غير المتطلبة لتفسيرات دينية خالصة. فالملك فيصل صاحب
عبارة ''دستورنا القرآن'' لم يقصد بذلك سوى التأكيد على أن التحديث
لن يدخل بدون رقابة الى بلاده، وان الحداثة بما تتطلب تحويلاً في
مسار الحكم لن تلقى ترحيباً داخل العائلة المالكة.
لقد رفض الملك فيصل وبصورة قاطعة الاستيراد غير المشروط للتحديث.
ففي هذا الوقت شهدت البلاد تغييرات هامة في النظام القضائية
والتعليمية والتجارية وهي مجالات يحتفظ علماء الدين بآراء صارمة
ومحددة حيال المسائل الواردة فيها. ومن سوء طالع هؤلاء العلماء ان
تكون هذه المجالات البوابة الاولى التي يخترقها التحديث، رغم أن
التعديلات الواردة فيها لا تتوافق مع مقتضيات الشريعة الاسلامية، حسب
تفسيرهم طبعاً. وكيما يخفف من حدة التحول نحو شكل مخفف من العلمانية،
كان الملك فيصل بحاجة ملحة ومستمرة للتواصل مع العلماء وطمأنتهم لما
يقوم به والحصول على موافقتهم او في الحد الاقل صمتهم كيما ينال جرعة
الشرعية الضرورية من اجل التغييرات التي يقوم بها. وعلى اية حال، لم
يكن الملك او العلماء قادرين على تفادي الجوانب الايديولوجية
والسياسية للتحديث.
تعكس فتاوى الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ المفتي الابرز في
الدولة السعودية الحديثة طبيعة الاعتراضات الحادة التي عبّر عنها
العلماء حيال التعديلات القانونية المتصلة بمجالي القضاء والتجارة؛
كما أن ادخال التعليم الحديث وافتتاح المدارس العصرية للبنين والبنات
قدح فتيل معركة مفتوحة بين المؤسسة الدينية الرسمية والحكومة وبخاصة
التيار التحديثي فيها. |