مزيد من الإعتقالات معادل لعدم الإستقرار وتآكل الشرعية
مجتمع مسيّس وعائلة مالكة انتهت صلاحيتها
بات في حكم المعروف أن القمع المجرّد الذي يمارسه أيّ نظام سياسي
لا يأتي بالإستقرار.
وبات في حكم المؤكد أن هناك معادلة واضحة الطريق تقول بأن المزيد
من استخدام أدوات القمع تؤدي الى تناقص في شرعية النظام، وهي دلالة
على غياب الرضا والقبول بالحكم القائم.
ومن المعلوم بالضرورة أن الأنظمة السياسية ـ وإن كانت تستخدم عصا
القمع ـ فإنها قد تستطيع إطالة عمرها بوسائل أقلّ ضرراً، وهي ملاحقة
مسببات الإختلاف بين النظام السياسي والجمهور.
كانت الحكومة السعودية في بدايتها تعتمد على قمع (الآخر) مع
الإحتفاظ ببيضة القبان ـ كما يقال ـ وهي ولاء معقل النظام وأساطينه
في نجد. ولكن الولاء هذا، بدأ ينسحب الى الدوائر الضيقة جداً، فكثر
المتذمرون والساخطون على الدولة ورعاتها.
الأسباب كما نعلم كثيرة.. فبعد القمع وسيل الدماء الذي أقامت عليه
الدولة السعودية أعمدتها، جاء النفط ووفّر غطاءً رائعاً واستخدم
كبديل للإصلاح السياسي ومالت الكفة لاستخدام الجزرة في كثير من
الأحيان. ولكن مع تقلص مداخيل النفط، وتصاعد (الحاجة) الى الإصلاح
الداخلي بسبب الفساد غير المسيطر عليه وفشل العائلة المالكة من
التحول بالحكم التقليدي الى نظام عصري يمكن من خلاله ضبط الوضع
الإداري والمالي وتنفيس الهيجان والألم الداخلي للمواطنين.. بعد هذا
أصبح النظام يعاني من مشاكل بنيوية لم يشأ أن يلتفت اليها.
بيد أن الخيارات التي أمام الحكم، وبدل أن تتجه لإصلاح وضع
المالكة أولاً والسيطرة على تجاوزاتها ونهبها لخيرات الوطن، وبدل أن
تسعى الى تصحيح الأخطاء التي تودي بحياة الناس والبلاد الى المزالق
الخطرة، ترك الأمراء إصلاح أنفسهم ونظامهم، وعدوا على المواطنين
يسومونهم المزيد من الضغط النفسي والإقتصادي والإجتماعي والسياسي
والأمني. أي أنهم لم يكيّفوا أنفسهم للوضع الحالي، وانتهوا الى مسعى
غير مجدٍ وهو تكييف المجتمع بأسره ليتماشى مع الحالة غير الطبيعية
التي أفرزتها سياساتهم.
ولأن تكييف المجتمع بالنحو الذي يريدون لا يتطلب إقناعاً بل فرضاً
جاء تضخم أجهزة الأمن ووسعت من ممارساتها القمعية في الآونة الأخيرة
من جهة الإعتقالات والتعذيب، واستبعدت خيارات الإصلاح لصالح
الإستمرار في السياسة الخطأ في شتى المجالات.
ربما لا تستطيع العائلة المالكة إصلاح نفسها بما يكفل إنضباط
الأمراء ووقف تعدياتهم، أو أن ذلك يكلفها كثيراً أو يحتاج الى جهد
غير عادي، وهنا تبدو الوسائل القمعية (في متناول اليد) ويسهل ـ حسب
وجهة نظرهم ـ إسكات الجمهور بمجرد أن يتم التلويح بالعصا الغليظة.
هذه الوسيلة التي يبدو أن العائلة المالكة استقرت على استخدامها، في
غياب (المهدئات) الإقتصادية والبرامج الإجتماعية، قد تعطي حلولاً
آنيّة لمعضلة عدم الإستقرار الذي نشهده في المجتمع السعودي اليوم،
ولكنها تؤسس لحالة انفصامية بين ذلك المجتمع والحكومة، بشكل يجعل
الجمهور منتظراً لفرصة يعبر فيها عن احتقانه بوسائله الخاصة المماثلة
لوسائل السلطة (العنف).
إننا اليوم نعيش مرحلة تغيير كوني، والسعودية واحدة من محاور ذلك
التغيير، فهي لم تمر في تاريخها الحديث ـ منذ أن تأسست ـ بمعضلة
كالتي تعيشها اليوم. لقد فقد النظام أدوات ضبطه للجمهور، وسقطت هيبته
الأمر الذي يجعل السؤال عن جدوى العنف مشروعاً. مؤسسة النقد السعودية
قالت هذا الشهر (مارس 2003) أن نسبة البطالة في السعودية وصلت 31.7%
وهذه النسبة المخيفة جداً لا تشمل على الأرجح العنصر النسائي.. في
حين أن عدد السعوديين تحت سن العشرين بلغوا 50% من عدد السكان، أي أن
من هم تحت سن الثلاثين عاماً قد تفوق نسبتهم ثلاثة أرباع السكان.
وهذه النسبة العالية من الجيل الشبابي الذي يتعرض لأكبر امتحان،
لا يتوافق ذهنياً مع العائلة المالكة، التي يحكمها رجال في أرذل
العمر قد توقف الكون وحركته عند رجليهم!
وهو جيل لم يخبر دموية تأسيس المملكة التي كان الأمراء يخوفون بها
جيلي الآباء والأجداد، وبالتالي فعناصر الجيل الجديد الشاب هم من يضع
قدرة العائلة المالكة وسلطتها أمام التحدي من خلال المواجهة
المباشرة.
وهذا الجيل لم يستفد من الطفرة النفطية وبالتالي ليس لديه ما
يخسره من الصراع.
وهذا الجيل هو الأكثر تعرضاً لتأثيرات العولمة وتكنولوجيا
الإتصالات، مما أدى الى رفضه دعايات وتبريرات السلطة لفشلها وعجزها.
أي أن الأمراء اليوم لا يستطيعون أن يقنعوا المواطن بموقفهم السياسي
الداخلي والخارجي، وكذلك ما يزعم حول نجاحاتهم التنموية، خاصة مع
المقارنة بأحوال الدول الخليجية المجاورة.
لهذا كله فإن الجيل المحروم هو الجيل الأكثر تسييساً، والأكثر
استعداداً للمواجهة، والأكثر ضغطاً من أجل التغيير، وهي أمور لا
تتواءم مع وضع العائلة المالكة الحالي، وليس لديها استعداد للتنازل
من حصتها من أجل استيعابه او على الأقل منع تحوّله الى مادة مدمرة.
الذي نراه اليوم: اتكاء على العصا أكثر من اللازم. وهذا يشير الى
فشل مؤكد. فالعصا السياسية والأمنية لا يمكن أن تعمل بمعزل عن الحالة
الإقتصادية والإجتماعية. ومادامت الدولة فاشلة في هذا الحقل الأخير،
وهي تعلم بأنها لن تستطيع الإيفاء باحتياجات المواطن في المدى
المنظور من جهة الخدمات الإجتماعية الأساسية (التوظيف، التعليم،
الصحة مثلاً) فإن من الحمق والغباء بمكان التصدي لدعوات الإصلاح
السياسي، والتوسع في استخدام القبضة الحديدية التي يلوّح بها الأمير
نايف عبر شاشات التلفزيون.
إن هذا النهج غير مقبول شعبياً، فضلاً عن أنه لن يحلّ المشكلة من
جذورها، ولربما أعطى نتائج معاكسة وسريعة، فضلاً عن أن هناك حقيقة لا
يجب أن تغيب عن البال دائماً، وهي أن استخدام العنف بشكل مفرط يؤدي
الى انحدار الشرعية بشكل مفرط أيضاً.
يتصاعد في المملكة اليوم الغليان ضد العائلة المالكة، من كل
المناطق وكل المذاهب وكل التوجهات السياسية. وهي تقف دونما حليف
حقيقي لا في الداخل ولا في الخارج. ودونما مصادر مادية تعتمد عليها
سوى الآلة الأمنية، ودونما برنامج سياسي أو اقتصادي يتصف بالشمولية
والإقناع لدى المواطن.
وفي مثل هذه الحالة لن يتوقع أحدٌ سوى المزيد من العنف والعنف
المضاد، والمزيد من الدعوات المطالبة بتغيير نظام الحكم بأكمله،
وإقصاء العائلة المالكة التي يبدو أنها تثبت يوماً بعد آخر أن
صلاحياتها قد قاربت على الإنتهاء. |