المؤسسة الدينية في المملكة
ضحية أخرى من ضحايا الحرب على العراق
يوماً بعد آخر يفقد علماء المؤسسة الدينية في المملكة مقامهم
ومكانتهم بين أتباعهم، خاصة في نجد. وقد سبب انحدار مكانة علماء
المؤسسة الذين باتوا يعرفون بعلماء السلاطين أزمة بين العائلة
المالكة وبين الجمهور السلفي الذي يعتبر من الناحية التاريخية
الدعامة الأساسية لنظامها السياسي. فمشروعية النظام الدينية سقطت
بسقوط رجال المؤسسة الرسمية (الوهابية) ولم يعد بإمكان جيل كبار
العلماء السيطرة على الشارع والتحكّم بحركاته والسيطرة على روح
التمرد التي بدأت منذ زمن قصير تسري فيه. إن قيمة هذا الجيل الكبير
من العلماء تنحصر أساساً في توفير المشروعية، وتتجسد في قدرتهم على
إقناع الشارع السلفي النجدي بالإلتفاف وراء أمراء العائلة المالكة،
وبغياب هذه الوظيفة تتحقق أكبر خسارة لنظام حكم العائلة المالكة.
إن إخلاء الساحة النجدية لجيل متمرد من علماء السلفية يتمتع
بمصداقية أكبر لدى الجمهور السلفي مؤشر صادق على انحطاط مشروعية نظام
الحكم، خاصة إذا علمنا أن أغلب هؤلاء العلماء معارضون لنظام الحكم
السعودي وكثير منهم أدخلوا
السجون لسنوات طويلة، ونموذجهم السياسي نظام حكومة طالبان الذي أفتوا
بشأنه أنه النظام الإسلامي الوحيد في العالم؛ كما أن نموذجهم الجهادي
والرمزي: أسامة بن لادن. لا يظهر أن التعاطي بالقمع والإعتقال سيلمع
صورة رجال المؤسسة الدينية الرسمية، فحتى لو غاب هؤلاء سيظهر علماء
جدد من الجيل الشبابي، الذي يرفع شعار الجهاد ووجوبه في كل مكان من
العالم، ويدعو لمواجهة الغرب (الكافر) في داخل المملكة وخارجها. بل
يمكن القول بأن الفكر المتشدد نشأ في جزء كبير منه داخل السجون
والمعتقلات السعودية (راجع مقالة الأستاذ منصور النقيدان في العدد
الخامس من الحجاز: خارطة الإسلاميين في السعودية وقصة التكفير) الأمر
الذي يجعل المراقب يتوقع بأن المزيد من لجم الجناح المتشدد بآلة
القمع لا يزيده إلا قوة ورسوخاً وانتشاراً، ما لم تفتح محابس التغيير
السياسي والإصلاح الإقتصادي والإجتماعي.
من جهة أخرى، جاءت الحرب على العراق، لتكشف عن موقفين سلفيين
متناقضين، يستمدان رؤاهما من التراث الوهابي نفسه. أحدهما يمثله رجال
المؤسسة الدينية المقربين من الحكومة ويتبنون موقفها، من حيث أن
الحرب على العراق لا تستدعي مساعدته، وأن العراقيين قادرون على
مقاومة (الكفار) وأن الجهاد واجب كفائي (فرض كفاية) وأنه لا يجوز
لأحد من المواطنين السفر الى العراق لمقاتلة الأميركيين. ويستبطن
الخطاب الرسمي الديني هذا، ما يعتبرونه حقيقة أن القتال الدائر في
العراق، هو قتال بين مشركين وكفار، أو بين كفار وكفار، وهي مسألة
معروفة في التراث السلفي (الوهابي) وهذا يعني تقليص محدودية (دار
الإسلام) الى أدنى حدودها بحيث تشمل فقط أولئك الذين يعترف المذهب
الرسمي الوهابي بإسلامهم. أما الجيل الجديد من العلماء فيرى أن
القتال واجب ضد الأميركيين بغض النظر عن الموقف من سكان العراق الذين
يقعون ضمن الأكثرية (المشركة). ولأن التيار العام في العالم العربي
والإسلامي يرى أن الحرب (صليبية) وانها تنتهك حرمة ديار المسلمين،
فإن مصداقية رموز التيار السلفي المعارض تكتسب أرضاً جديدة بين
الأتباع.
تناغم الخطاب الديني الرسمي مع السياسي الممثل في العائلة
المالكة، حطّ من شأن من يسمون بـ (علماء السلاطين) كما بنظام الحكم
السعودي نفسه الذي لم ينجح في تبرير الدعم الذي قدّمه للقوات
الأميركية في غزو العراق (قواعد ومطارات وأجواء).
كان يهم العائلة المالكة، أن تنأى السعودية كدولة وشعب عما يجري
في العراق، لئلا يزيد من نقمة الأميركيين فيعتبرونها هدفهم القادم
بعد العراق. ويعتبر مشاركة السلفيين في الحرب الى جانب صدام والقوات
العراقية أمراً مهماً في كشف صورة الإنشقاق الداخلي، ولذا حرص
المسؤولون السياسيون والدينيون على إقناع الأتباع الذين تعالى صوتهم
بعدم المشاركة بحجج مختلفة. ما يجدر ذكره أن صوت السلفية المتعالي ضد
الحرب والجهاد لم يثمر حتى الآن عن مساهمة ولو إسمية في القتال ضد
القوات الأميركية في العراق، كما لم يتعرض الوجود الأميركي داخل
السعودية، وكذلك الغربي، الى مشاكل طيلة فترة الحرب الماضية، وهذا ما
جعل البعض يعتقد بأن السلفيين يمتلكون (بوقاً) جيداً، ولكن بدون
إرادة حقيقية للقتال، حتى وإن تماشى مع قناعاتهم الدينية.
وكانت جريدة الوطن السعودية نشرت في السادس من أبريل الحالي
تصريحات لعدد من الشخصيات الدينية السلفية الرسمية تدعو المواطنين
(السلفيين النجديين بدرجة أساس) لعدم المساهمة في القتال. فقد وجه
عدد من العلماء والمشايخ في
السعودية الشباب السلفي إلى عدم الخروج لأرض العراق للمقاتلة في
الوقت الراهن لأسباب مختلفة تنوعت بين كفاية الفرض، ونقص آلة الحرب،
وضعف تنظيم عملية الجهاد، وغموض معتقد راية الحرب الدينية، بجانب
أهمية موافقة ولي الأمر (أمراء العائلة المالكة) عند الخروج للجهاد.
وقال القاضي بالمحكمة الكبرى الشيخ الدكتور إبراهيم الخضيري إن
الجهاد يتطلب موافقة الإمام (الملك فهد) وموافقة الأبوين المسلمين..
وشدد أن عملية 'الجهاد' ليست 'خبط عشواء' بل يجب أن يكون له راية
إسلامية واضحة (أي ليس تحت راية البعث). وحث الشيخ الخضيري شباب
السلفية على طاعة ولي الأمر لأنه الحاكم الشرعي وله البيعة، فمن يحكم
السعودية (أئمة مسلمون على كتاب الله وسنة رسوله وفق بيعة شرعية
وإجماع من العلماء وأهل الحل والعقد والرأي والمشورة لذلك وجب التزام
الضوابط والنظم التي يضعونها).
ولذرّ الرماد في العيون دعا الخضيري قادة البلاد في مزايدة مكشوفة
إلى 'عسكرة' الشعب السعودي خاصة في ظل الظروف الراهنة التي توجب على
ولي الأمر تجييش الشباب السعودي وتطوير آلية الدفاع لحماية مقدسات
المسلمين وعقيدتهم، مضيفا: تدريب حتى المرأة لتستطيع حمل السلاح
والدفاع عن نفسها وتعلم أمور التمريض للمساعدة في وقت الشدة والحروب.
(يجب على ولي أمرنا (الملك) أن يجيّش الشعب ويدربهم تدريبا عسكريا
مكثفا وأن تضاعف أعداد الكليات العسكرية، والآلات الحربية لتدريب
الشباب السعودي الواعي المدرك ليعلموا كيفية الذود عن البلاد المقدسة
عند الحاجة إليهم، مبينا أن البلد في الوقت الراهن أحوج ما تكون
لتضافر الجهود من علمائها وساستها لما فيه مصلحتها وحمايتها).
وأخيراً رأى الخضيري عدم مغادرة الشباب السعودي السلفي المملكة
لخوض الحرب في العراق لأن أمريكا مع بريطانيا يريدون أن يجمعوا
الشباب المسلم ويورطوهم في منزلق خطير لقتلهم شر قتلة.. مبينا (أن
القتال مع العدو إذا كان المسلمون غير قادرين على الجهاد منهي عنه).
وفي تبرير العاجز المخذِّل أعرب الشيخ الخضيري عن أمل المسلمين في
الشعب العراقي حيث إن الجهاد عليهم فرض عين لكن ليس بإسم رئيسهم
'صدام حسين'، وإنما للدفاع عن مقدسات المسلمين وأعراضهم وممتلكاتهم.
وعاد فأكد نصحه لشباب المسلمين خارج العراق وفي أي مكان أن لا يدخلوا
الحرب لأنها غير متكافئة وهم غير مؤهلين للقتال في هذه الظروف الحرجة
ولضعف الآلة العسكرية لديهم مشدداً على الدول العربية والإسلامية أن
يعينوا العراق بكل وسائل الإعانة لإهدار طاقة أمريكا، ولامتصاص آلتهم
العسكرية، وإهدار اقتصادها.
وعوضاً عن ذلك طالب المسلمين أن يجاهدوا عبر الإنترنت بالكلمة
لنشر حقائق الإسلام السلفي والجهاد. وكما تريد الحكومة، دعا الخضيري
الشعب الى الإلتفاف حول القيادة السياسية السعودية ونبذ وجهات النظر
التي لا تصب في مصلحة الدين والمعتقد والبلد والأمة.
أما الشيخ خالد الغفيلي فلم يؤيد خروج الشباب السلفي دون إذن ولي
الأمر لأنه الولّي على شؤون المسلمين فيكون بإذنه الشجاعة والجلد
والصبر. وشدد على عدم ترجيحه ذهاب الشباب للعراق في الوقت الراهن،
ورأى أن ما نراه مجرد حماس وثورة الشباب وعنفوان النشاط الذي بداخلهم
مبينا أن 'الجهاد' فرض كفاية، وأهل العراق فيهم الكفاية للقيام بذلك
عن بقية المسلمين فلا يوجد متطلبات حقيقية لمجابهة العدوان في أراضي
العراق. وزاد الغفيلي أن أهم دوافع الجهاد في سبيل الله هي أن تكون
راية الحرب إسلامية أي تحت أمير والذهاب بعشوائية أو تحت راية جاهلية
أو غير بينة المعالم يشكك في المقصود.
على صعيد آخر دعا خطيب جامع الأمير خالد بن سعود بالرياض الشيخ
عبدالله السويلم إلى عدم استعجال شباب السلف الى الخروج للحرب في
الوقت الراهن إلى حين تتضح الأمور ومعالم الأهداف الرئيسة من وراء
الحرب. وأضاف بأن من يخرج يجلب مفسدة كأن يترك أبويه أو يفارق عياله
وهم محتاجون له! وألمح الى أن القتال في العراق سيكون تحت راية غير
إسلامية!
أما الدكتور عبدالله المصلح فاتخذ منطلقاً آخر للتخذيل والتقعيد
عن الحرب فقال: إنه مما لا شك فيه أن النصرة والتناصر بين المسلمين
واجب وإنه لا بد من أن يغيث المسلم أخاه بقدر ما يستطيع، ولكن أمام
الشاب السعودي السلفي المسلم أن يقف موقفا يتأمل فيه الأمر من حيث
تحقيق المنافع ودفع المفاسد ولكون الفتوى لا بد أن يراعى فيها الزمان
والمكان والأحوال والأشخاص. وتابع إنه (لا يليق بالمسلم أن يذهب في
هذه الفترة على الإطلاق) وحدد عدّة أسباب منها: (إن العراق لم يظهر
عجزه أمام هذه القوة بحيث يتحول فرض العين منهم إلى غيرهم، ولم يظهر
العراقيون للناس عجزهم عن دفاعهم عن بلادهم فهو فرض عين عليهم ولكن
ليس بفرض عين في حق غيرهم). وثانياً، يقول المصلح: (يجب أن نعتبر بما
كان قد وقع في حرب أفغانستان الأخيرة يوم أن ذهب إليها مجموعة من
الشباب المتحمسين دون دراسة للأحوال والأوضاع وأصبح كثير منهم مصيدة
يتصيدها الأعداء) وثالثاً: (إن النبي يوم أن كان يرى سمية تعذب وبلال
يحرق جسده بالصخور الملتهبة لم يكن يطلب من الصحابة مواجهة المشركين
في تلك المرحلة لأن وقت المواجهة لم يكن قد أعد له رسول الله
العدة).. وأخيراً (فإن مراحل الجهاد تمر بحسب الأحوال، وقوة شبابنا
الذين سيخرجون بها ليست سوى صدورهم العارية التي يواجهون بها هذه
الكتل الحديدية المسلحة وذلك الحقد الصليبي الدفين).
أما الشيخ سليمان الضحيان فرأى أن الحرب ليست بين جيش كافر غاز
ومسلمين عزل: (إن من المخل تصوير المسألة على أنها حرب من جيش كافر
على ديار المسلمين). وقال بأن من يريدون القتال مجرد شباب متحمس
يتمتع بعواطف جياشة ولكنهم (يقعون في خطأين، أحدهما: إنهم يحملون
تصورا سطحيا قائماً على تصوير ما يحدث على أنه غزو جيش كافر لديار
الإسلام.. إن عليهم إعادة النظر فيما يحدث هناك).
وكرر الضحيان بأن الحرب في الحقيقة بين فئة كافرة هي جيوش الغرب
وفئة مرتدة عراقية: (إن ما يتم هو حرب بين فئتين إحداهما كافرة كفرها
كفر أصلي، وهي الجيش الأمريكي والبريطاني، والأخرى نظام بعثي كافر
كفره كفر ردة، ويجمع العالم على استبداده، واستهتاره بدماء الشعب
العراقي المسلم.. وعليه فإن تصور المسألة شائك جدا، والجزم بحكم شرعي
فيها يحتاج إلى مجمع فقهي، ومن التبسيط المخل تصوير المسألة على أنها
حرب من جيش كافر على ديار المسلمين دون الأخذ بالاعتبار واقع النظام
البعثي هناك ومعاناة الشعب العراقي منه).
وتابع أنه (ليس ثمة مصلحة راجحة في مشاركتهم ـ السلفيين ـ في تلك
الحرب، فإن فائدة مشاركتهم على أكثر تقدير ستطيل أمد الحرب لا أقل
ولا أكثر، وإطالة أمد الحرب - مع ما فيها من فائدة إحراج أمريكا -
إلا أن فيها زيادة في سقوط المسلمين الأبرياء نتيجة القصف من القوات
الغازية، وفيها أيضا إطالة أمد نظام استبدادي قمعي بعثي كافر، وإن
كان بعضهم سيقول إن أمريكا ستنصب حكومة عميلة في بغداد، فهل نظام
البعث في بغداد اليوم بعيد عن العمالة؟ وعلَّ هؤلاء الشباب الأخيار
يعلمون من جاء به إلى حكم العراق؟).
هذه مختصرة الآراء الدينية الرسمية الداعمة للموقف السياسي
للعائلة المالكة الخائفة من انعكاسات الحرب عليها داخلياً. وهي آراء
تبريرية في أكثرها، وتلحظ النتائج السلبية التي يمكن أن تفرزها الحرب
على الصراع الداخلي بين التيار السلفي الجديد وبين رجال المؤسسة
الدينية الكبار (وعاظ السلاطين) وامراء العائلة المالكة من جهة
ثانية. من المؤكد أن هذه الحرب قد أضعفت آل سعود وحلفائهم الدينيين،
ومن شبه المؤكد أنهم سيكونوا ضحايا مواقفهم من الحرب في المستقبل. |