الثقافة الإنتقائية المأزومة
أزمة المملكة سياسية وثقافية. فهي منذ نشأتها اعتمدت على ثقافة
ممزقة للنسيج الإجتماعي والمشتركات الثقافية والمصلحية، وبصورة أدق
وأصحّ، فإن الثقافة المعتمدة والسياسة الحكومية المنتهجة زادت من
الشقّ باعتبار ان الدولة في بذورها ومكوناتها قامت بصورة انشقاقية
عصبوية غلبوية. والثقافة السائدة اليوم لا تسمح بالتلاقي ولا تميل
الى الإئتلاف، يعضدها في ذلك سياسة الحكومة التي استخدمت التعليم
الإعلام ووسائط التثقيف الجماهيري الأخرى في تأجيج العداء للآخر
الوطني والأجنبي على حد سواء، او على الإحتكار لفكر ورؤى محددة،
ويكفي مشاهدة التلفاز السعودي لنكتشف أي نمط ثقافي أحادي تجزيئي يجري
تبنّيه.
السياسة في المملكة لم تمل يوماً الى (الدمج) الوطني بقدر ما كانت
ولاتزال تعتمد نهج الإقصاء للمختلف فكراً وسياسة سواء بالنسبة
للمجموعات أو الأفراد. وأسهل الأمور التي تقوم بها: العقاب، والفصل
من الوظيفة، والحرمان من التعبير داخلياً، والإيذاء في حال التعبير
خارج الحدود.
حروب الإنترنت المذهبية قائمة على قدم وساق، والنظرة النمطية
للآخر تجعل الجميع يعيش التاريخ وينتظر تكرار تجاربه. ورغم صدمة
الحرب ضد العراق، فإن الحسّ الطائفي يرتفع عالياً، فـ ''أحفاد
العلقمي وعبد الله بن سبأ'' يتآمرون مع المستعمر واليهود ضد
''المسلمين'' والدعاء الأثير هو أن يمحي الله شيعة العراق على يد
الأميركان أو أن يفتك الكفار بعضهم ببعض. ومع أن الحسّ الداخلي لدى
المتطرفين يجابه في أحيان كثيرة بمواقف لا تتساوق مع الرؤية العقدية
النمطية، فإن تفسيرات أخرى تظهر لتخفف من وقع اهتزاز التنميط.
في الطرف الآخر تأتي ثقافة رد الفعل المذهبية أيضاً، لتتهم
''أبناء مسيلمة الكذاب'' و ''نبيتهم سجاح'' بذات التهم التي توجّه
إليهم؛ فهم من يعين المستعمر على غزو ديار المسلمين، وهم أعداء
الإسلام وعملاء الأجانب (خاصة الأميركان) في كل مكان وزمان.
تميل الثقافة المأزومة الى الإنتقائية حتى تتمكن من فرض النمطية.
فالنمطية الثقافية هي انتقائية في جذورها، لا ترى في التراث إلاّ
الجانب الشقاقي منه، ولا تعترف بالواقع إلا بما يخدم استمرار التنميط
ضد الآخر.
سيادة النمطية على الثقافة العامّة يجعلها عرضة للإبتزاز السياسي
السهل من قبل النظام السياسي السعودي القائم؛ إنها الصيد السهل الذي
يحرف اتجاهات الجمهور السياسية والنفسية الى مواضيع شديدة التوتر
والحساسية. ولأن الحسّ الطائفي والمناطقي لا يخبو بفعل التيار السلفي
الذي تعهد منذ نشأته بإضافة الوقود إليه كلما خبا ليستعر ويزداد
لهيباً، فإن الواضح الآن بأنه مادّة السلطة في تغطية مواضيع أكثر
حساسية وإقلاقاً. لنأخذ مثلاً موضوع الإصلاح السياسي، فالحسّ الطائفي
السلفي يجعله غير ميّال إليه، فبمجرد أن تلمح السلطة الى أن الإصلاح
في النهاية يؤدي الى إعطاء حصّة للحجازيين والشيعة وغيرهم من الفئات
المضطهدة والمحرومة في الشمال والجنوب، يتدافع غلاة الطائفية
للإصطفاف مع آل سعود ويرفضونه كما رأينا موقفهم هذا من (الوثيقة
الوطنية للإصلاح).
والآن ونحن نعيش الحرب على العراق، وحيث تريد الحكومة هدوءً
سلفياً تخرج منه بأقل الخسائر ـ كما يصرح المسؤولون ـ وحتى تتمكن من
الإلتفاف على مطالب الإصلاح السياسي.. نجحت السلطة في استثمار الحس
الطائفي في تعزيز الإلتحام السلفي معها، رغم انكشاف تواطؤ الأمراء مع
الحرب الأميركية، فظهر وكأن نهاية الرئيس العراقي هزيمة طائفية
للمذهب الوهابي، وتقوية لأعدائه في الداخل. نشير هنا الى أن
التلفزيون السعودي يبدو في بعض الأحيان وكأنه يدخل الحرب الى جانب
العراق، حتى أنك لا تكاد تفرق بينه وبين محطات فضائية أخرى معروفة من
حيث التحريض ضد الأميركيين وضد الحرب. وهكذا فإن الثقافة النمطية
سهلة الإستغلال وهي الصيد الرخيص لتحريف أهداف الجمهور عن قضاياه
الكبرى في الإصلاح ومكافحة الفساد والإستبداد.
الفساد بشتى أشكاله ينخر في الدولة، ويحرم مواطنينا من حاجاتهم
الأولية.. وفيما الإستبداد يضرب أطنابه حولنا في ظل تعنّت ورفض من
رموز العائلة المالكة، وفيما الحرب وآثاره قادمة إلينا، والمستقبل لا
قدرة لنا على اكتناهه.. تقودنا الثقافة المأزومة والنمطية الى هاوية
التخلّف والتشرذم.
هنيئاً لكم بالوحدة جميعاً! |