لحظة الحقيقة
رأفة بنا.. زعماءنا الورقيين
أسماء كبيرة، تماثيل منصوبة في الميادين العامة وفي مداخل
البنايات، وأطنان من الأوراق المحشوة بعبارات التفخيم والتضخيم،
وحاشية معلولة تتقن فن صناعة الصنم.
إن لحظة الحقيقة لابد أن تأتي، وأن السير بإتجاه مضاد لحركة
التاريخ لا يؤول سوى الى السقوط المدوّي. تلك الاسماء الكبيرة
المليئة بالرعب تحولت الى غبار يتناثر في الهواء يصعب رؤيته، فتلك
الاسماء ليست منتجات شعبية، بل وجدت الشعوب نفسها أمام معلب كاريزمي
يخترق الأسواق ويفرض نفسه على جمهور المستهلكين.
تلك الاسماء الورقية فرضت على الشعوب قائمة قضايا وهمية، وأوهمت
ضحاياها بأن لها قضية وزعيماً ومجداً لابد أن يتباهوا به وأن يخلّفوه
لأبنائهم. إنها عملية عبث بالوعي يراد منا جميعاً الاستسلام لها
وإطلاق أدوات العابثين كيما تفرض علينا قضيتنا وخصمنا وزعيمنا وصولاً
الى هزيمتنا.
كل ما يتم ليس من صنعنا من الخصومة، الى الزعامة الى القضية والى
المعركة التي يراد منا خوضها وصولاً الى الهزيمة التي نتكبدها، إنها
منظومة تدابير لا تمت الينا بصلة.
النخبة الثقافية والسياسية العربية سقطت تحت دوي القصف الاعلامي
المتواصل عبر الفضائيات وراحت توهم نفسها وجمهورها بأن المعركة التي
خاضها الحلفاء ذوي النزوع الاستعماري ضد نظام صدام حسين هي معركة
الأمة، وغاب عن النخبة بأن الهزيمة التي ستقع ستؤدي الى انفلاش روح
الأمة، فالاحباط الناتج عن هزائم متكررة منذ حرب 1967 ومروراً بحرب
الولايات المتحدة مع تنظيم القاعدة وحكومة طالبان واخيراً مع النظام
العراقي، لم يسفر سوى عن تذرر روحنا المكسورة منذ نكبة حزيران.
تلك الاسماء التي تطلَّب بناؤها وترسيخها عقوداً تبدَّدت بطريقة
مدهشة ومثيرة للسخرية، فأين تلك القصور، وتلك الجيوش، والأجهزة
الأمنية وطوابير المتزلفين، والمخصصات المالية الضخمة لبناء الصنم.
غابت جميعاً عن المشهد في أول لحظة مواجهة، وخرج الضحايا كيما يشهدوا
حتف زعيم ورقي.
الزعماء الورقيون في بلادنا العربية من المحيط الى الخليج يكررون
أنفسهم ويلعبون نفس الدور هذا بإسم الله وهذا باسم ماركس وذاك باسم
الحرية والعدالة، ولكنهم جميعاً أوفياء ومخلصون لأنفسهم
وأهوائهم..كلهم جميعاً ورقيون.
في بلادنا التي تحكم فيها سلطة بإسم الاسلام لا تختلف كثيراً عن
نظام صدام حسين، فالحكومة في بلادنا لا تمثل سوى مصالح أقلية إن لم
يكن مصالح عائلة تفرض سيطرتها على مقدرات وثروات السكان. يوازي ذلك
أبواق، وصحف، وفرق المتزلفين ومحطات تلفزة كلها موقوفة من أجل بناء
تمثال الزعيم، من عبد العزيز الى فهد بن عبد العزيز.
يدهشك حقاً أن تراثاً جبّاراً تراكم على طول تاريخ الجزيرة
العربية قبل وبعد الاسلام يكاد الناهبون الجدد يختزلونه في حقبة
تاريخية تبدأ منذ قيام دولتهم. فتاريخ الاسلام الذي بدأ منذ نزول
الوحي على سيدنا المصطفى (ص) وبذل هو وأصحابه الأرواح من أجل تشييد
أركانه، يشهد على ذلك آثار عظيمة لهم قد بنوها بدمائهم، وإن تعرض
كثير من هذه الآثار الى الدمار والاندثار بفعل مشاريع أطلق عليها صفة
التوسعة ولكن في جوهرها مشاريع محو لتراث الآسلام..هذا التاريخ جرى
طمسه لكي يبدأ منذ سيطرة ابن سعود على الرياض والأحساء والحجاز وعسير
وحائل، حتى لم يعد يعرف هذا البلد ذاكرة تاريخية الا ما شحنها الملوك
السعوديون.
تلك الرمزية التاريخية الوهمية للعائلة المالكة التي لم تكن تغري
سواء صانعيها أو الخاضعين تحت تأثير ''شرهاتها'' قد شهدت إمتحاناً
أولياً في حرب الخليج الثانية حين تكشّفت مدى هشاشة هذا النظام الذي
جاء رموزه الورقيون هروباً من المناطق القريبة من جبهات الحرب الى
مدينة جدة ومعهم كثير من المتزلفين والمنتفعين. لقد أدارت قيادة
القوات الأميركية في الرياض والمنطقة الشرقية السلطة في البلاد ولم
يعد يدرك الناس بأن حكومتهم الرشيدة قد تنازلت مؤقتاً عن سلطانها
للأجنبي كيما تدفع عن زعيمها التاريخي خطراً غير محتمل ضد عرشه
الطاووسي.
تصوّروا لو أن هذه القوات الأميركية جاءت ـ كما حصل في بغداد في
التاسع من أبريل ـ الى الرياض أو الدمام أو جدة، وبغرض ازالة العائلة
المالكة، هل ستختلف مشاعر المواطنين عن تلك المشاعر التي سادت حين
سلّمت العائلة المالكة مفاتيح الحكم الى القيادة العسكرية الأميركية
طيلة أيام حرب تحرير الكويت.
أي رمزية ورقية تلك التي رهنت شعباً كاملاً لوهم أسمه الزعيم
التاريخي والقائد الملهم وأمير المؤمنين..إنها رمزية تنفلش غير مأسوف
عليها. إن ما يحقن المشاعر بالغيض والغضب هو تلك الزعامة الورقية
التي عبثت بوعي الأمة ولم تزرع فيه سوى الهزيمة، والانكسار، فهل يرأف
من بقي من الورقيين بشعوبهم حتى لا يرون تماثيلهم ورمزيتهم تنهار على
الهواء مباشرة. |