الحكومة تسوّق بضاعة عداء أميركا لتربح دعمها
يتذكر المواطنون وبخاصة من اشتغل بالكتابة السياسية وفي جانبها
النقدي على وجه التحديد قراراً إعلامياً أمنياً صدر في بداية
الثمانينات يختلط فيه على المرء الجهة التي أصدرتها إن كانت وزارة
الاعلام أو الداخلية. المهم أن هذا القرار يقضي بحظر توجيه النقد لأي
دولة مصنّفة في خانة الحلفاء والاصدقاء للمملكة. وقد حدث أن منعت
دائرة الرقابة التابعة لوزارة الاعلام أو الداخلية ـ لا فرق ـ نشر
بحوث أو مقالات تضمنت تعريضاً ببعض الدول الحليفة للمملكة. وكانت
الولايات المتحدة أحد أبرز الدول التي منعت الحكومة السعودية النيل
منها سواء في الصحافة المحلية أو خطب المساجد سيما في الحرمين
الشريفين، فضلاً عن التلفزيون والاذاعة.
هذا القرار عطّل طاقة النقد لدى الأقلام المحلية النزيهة، حتى
فضّل بعضهم تكسير الأقلام على الدخول ضمن فرق (الطبّالين). وحدث أن
أوقف بعض الصحافيين عن الكتابة لأنه تحدث بكلام غير مقبول لدى
الحكومة عن حليفها الأميركي، وبعضهم دخل المعتقل وربما خرج بعاهات
جسدية ونفسية بسبب خرق القرار ذاك.
الحكومة السعودية بعد الحادي عشر من سبتمبر واجهت حملة اعلامية
ضارية في الغرب وفي الولايات المتحدة بوجه خاص بسبب التنشئة العقدية
المناهضة للغرب ولكل من هم مصنّفين في قائمة المشركين وأهل الضلال.
ولذلك أبلغت الادارة الأميركية حليفتها السعودية بأن تقوم بعملية
غربلة للمناهج التعليمية من المواد الدينية الباعثة على كراهية
المسيحيين واليهود، باعتبار أن تلك المواد تحرّض متلقيها على العنف
والتطرف. وقد استجابت الحكومة السعودية للطلب الأميركي وقامت بخطوات
عاجلة من قبيل اعتقال جماعات مصنّفة في قائمة الارهابيين والمقرّبين
بطبيعة الحال من تنظيم القاعدة.
الا أن في هذه الخطوات ما لبثت أن أخذت شكلاً ماكراً منذ أن بدأت
الاستعدادات العسكرية لشن الحرب على العراق، وانتشار أنباء حول
تغييرات جيوسياسية جوهرية في المنطقة، حيث شعرت العائلة المالكة في
السعودية بأنها باتت أحد الخيارات المخفّضة لدى الادارة الاميركية
والتي من المحتمل استبدالها بأشكال حكم تقوم على تحالفات بين قوى
محلية مدعومة من الولايات المتحدة، كما في نموذج العراق.
الحكومة السعودية تنبهت في وقت مبكّر الى النوايا المتبرعمة في
الاوساط السياسية الاميركية حول تغييرات دراماتيكية في منطقة الشرق
الأوسط بناء على تحالفات جديدة تقوم على قدرة المتحالفين مع الولايات
المتحدة في إرساء أساس صلب للمصالح المشتركة. ولذلك بدأت العائلة
المالكة ووزارة الداخلية بوجه التحديد تلعب دوراً مزدوجاً، فمن جهة
أبدت أمام الولايات المتحدة والعالم الخارجي الذي ينتظر منها القيام
بإجراءات مرضية موقفاً صارماً لمواجهة التطرف وجماعات العنف التي
تتغذي فكرياً ومالياً على مصادر في داخل السعودية، وفي المقابل شجّعت
سريّاً الميول المتطرفة (Radicalization)
لدى بعض الجماعات، مستغلة تلك المشاعر التلقائية إزاء الحرب على
العراق من قبل التحالف الانجلو ـ أميركي، لدرجة أن لغة الاعلام
والصحافة تبدّلت بصورة مفاجئة وبات نقد الولايات المتحدة بصورة حادة
مقبولاً ومسموحاً ليس في الصحافة المحلية فحسب بل وحتى التلفزيون
الذي بات ينقل تصريحات شديدة اللهجة ضد الولايات المتحدة وخصوصاً في
بلد لم يعتد على هضم هذا النوع من النقد أو توفير مساحة له في
إعلامه.
وقد وجدت القوى السياسية والاجتماعية ووسائل الاعلام المحلية
نفسها أمام هامش غير مسبوق من الحرية متخذة من موضوع العراق قاعدة
لتوجيه حراب النقد ضد الولايات المتحدة. ونسيت هذه القوى جميعاً
بأنها تُزج في لعبة (المصداقية) و(المقامرة السياسية) تقودها الحكومة
السعودية كيما تقدم شهادة براءة أمام الحليف الأميركي، وكيما تبعث
رسالة محددة لصانعي السياسية الخارجية الأميركية مفادها أن خيارات
التحالف الاستراتيجي لا يجب أن تتبدل دون مراعاة الواضح والمجهول عن
الحلفاء.
تأجيج المشاعر المهيئة تلقائياً بالعداء ضد الولايات المتحدة كان
أحد الوسائل المستعملة ضد كل القوى السياسية والدينية، وهذا ما يجعل
مهمة الحكومة السعودية سهلة وقابلة للاستثمار السريع دون عناء
التأهيل السياسي والايديولوجي. هذه القوى تشمل:
ـ التيار السلفي
ـ التيار الليبرالي الوطني
ـ الشيعة
فقبل انطلاق الحملة العسكرية الأميركية على العراق في العشرين من
مارس الماضي، استدعت وزارة الداخلية ممثلة في الأمير محمد بن نايف
عدداً من مشايخ التيار السلفي ممن يحظون بقاعدة شعبية واسعة في الوسط
الوهابي النجدي، وطالبتهم بكتابة عرائض ضد الولايات المتحدة بإسم
معارضة الحرب على العراق والاحتلال الأميركي للمنطقة، على أساس أن
العراق سيكون قاعدة ومنطلقاً لضرب الحركة الدينية الوهابية في نجد،
وقد وجّه جماعة من علماء الدين السلفيين قبل الحرب بشهرين نداءً الى
العالم الاسلامي للدفاع عن المسلمين في العراق. وقد تواصلت البيانات
والخطابات وبلغة مصعّدة ومشحونة بالعداء للولايات المتحدة وصبغ ذلك
الصحف ووسائل الاعلام والتلفزيون وكأن الحكومة السعودية أرادت أن
تخبر الادارة الأميركية بما يحمله مواطنوها من كراهية وأن ليس فيهم
من يستحق أن يحظي بـ (هدية الديمقراطية)، فإنهم إن منحوا الحرية
فسيستعملونها ضد الولايات المتحدة.
إثارة العائلة المالكة في السعودية مشاعر الكراهية والعداء ضد
الأمريكان (وهي التي تعتبر عند الشارع العربي عميلاً لهم) من أجل
إيصال رسالة لهم بأنهم مازالوا الجهة الأصلح لإدارة البلد وأن خيارهم
الأفضل هو العائلة المالكة، قد تختفي خلف موجة مشوّهة من المواقف
والتصريحات المزدوجة لدى المسؤولين السعوديين.
بعد أيام من سقوط بغداد في التاسع من أبريل الماضي أعلن عن تشكيل
جديد يدعى (اللجنة العالمية لمقاومة العدوان) برئاسة الشيخ الدكتور
سفر الحوالي، فيما تولى الدكتور محسن العواجي، المشرف على موقع
(الوسطية) منصب الناطق الرسمي بإسم اللجنة، وقد ضمت اللجنة أسماء
كبار من سلفيين بارزين وإسلاميين يتراوح إتجاههم من سلفي متشدد الى
ليبرالي. هذه اللجنة بحجمها الكبير وعضويتها الواسعة لابد أن تثير
سؤالاً كبيراً وخصوصاً حين ينظر اليها ضمن ظروف السعودية وقوانينها
التي تحظر أي أشكال التجمع المعروفة سواء على قاعدة ثقافية أو
إجتماعية أو سياسية أو حقوقية. كما أن اللجنة حين ينظر اليها من خلال
هوية الاعضاء المنتمين اليها لا بد أن تثير سؤالاً آخر حول أغراضها
والقوة الدافعة لها.
أليس مثيراً للدهشة أن تمنح الحكومة مساحة كبيرة للتيار السلفي
كيما يملأ الدنيا ضجيجاً ضد الولايات المتحدة، في وقت تعيد الأخيرة
إرسال مطالبها للحكومة السعودية مرة تلو الأخرى من أجل الاستغفار عن
الذنب السبتمبري، وذلك بإستئصال جذور التطرف ومصادر تمويله في
الداخل، كيف وهي تسمح للصحافة المحلية والاذاعة والتلفزيون بشحن
مشاعر الكراهية ضد الولايات المتحدة والتأليب عليها وتشجيع محاربتها
خارج الحدود.
ففي مقابلة مع الشيخ عايض القرني مع العربية مساء الخامس من مايو
دعا الداعية السلفي العراقيين لأن ينفروا خفافاً وثقالاً ضد
الأميركيين، داعياً الى تناسي الخلافات الطائفية (مؤقتاً) حتى يتفرغ
الجميع، أهل التوحيد وأهل البدع بحسب التصنيف المعمول به في الأدبيات
العقدية السلفية، لمواجهة الخطر الأميركي ولربما كيما يفاد من أهل
البدع وأن يهرق دمهم في معركة مع خصوم أهل التوحيد ونيابة عنهم.
أليست هذه فلسفة أهل التوحيد في نجد، وأليست هذه فلسفة الحكومة بغية
إيصال رسالة محددة للادارة الأميركية بأنها وحدها لا شريك لها الخيار
الأفضل في هذه البلاد الضامنة لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
ورغم أن ثمة مؤشراً إيجابياً على لغة المثيرين للسخط الشعبي ضد
الولايات المتحدة، إذ أن ذلك يعني فيما يعني أن السياسة والحسابات
السياسية قد بدأت تتسلل الى تفكيرهم وتنعكس في مواقفهم، رغم أن
البواعث شريرة وتعكس الى حد كبير نوايا الجهاز القابع خلف الستارة،
والذي يتولى مهمة تحريك مشاعر العداء ضد حليفه اللدود، أي الولايات
المتحدة، وعلى أية حال فإن هذا الاسلوب لا تأمن الحكومة أن ينقلب
عليها ضدّياً خصوصاً إذا ما صحا التيار السلفي على نوايا الحكومة
ومنهج الابتزاز الذي تلعبه مع حليفها الديني كيما تقدّمه طعماً في
معركة يخوضها غيره بالنيابة عنها لتحصد ثمار البساطة السياسية لدى من
يستثارون للانشغال بعدوات مفتعلة.
التيار الليبرالي
ليس التيار السلفي وحده الذي وقع ضحية الاستنفار العدائي للولايات
المتحدة، فقد سقط التيار الليبرالي هو الآخر ضحية مشاعر مؤججة. كنا
قد حذرنا في العدد الخامس من مجلة (الحجاز) بأن البيان الذي كتبته
مجموعة من التيار الوطني الليبرالي قبل الحرب على العراق بقليل والتي
عبّر الموقعون على البيان عن معارضتهم للحرب الاميركية على العراق،
قد أسيء إستعماله من قبل الحكومة التي تبرّعت هي بإيصال نسخة منه الى
الدوائر السياسية الأميركية، لغرض معروف تماماً، وقد ذكرنا ما نصه
(أن العائلة المالكة تمتلك من أدلة الإقناع ما يكفي لدرء خطر
الديمقراطية عنها، فهي قادرة على إيصال رسالة مشوّهة حتى عن دعاة
الإصلاح من ليبراليين وديمقراطيين بأنهم يحملون نوايا عدائية
للولايات المتحدة بدليل كتاباتهم الموتورة). فمن المعروف أن الادارة
الأميركية تنظر الى النخب الليبرالية بإعتبارها الوسيط المضمون الذي
تنتقل على يده وعبره عملية الدمقرطة، فإذا كانت هذه النخب تحمل عداءً
للولايات المتحدة فإن ذلك سيجعل الاخيرة مترددة في (وربما معارضة
لفكرة) تشجيع الديمقراطية في البلدان التي تضم نخباً من هذا القبيل.
وهذا بالضبط ما أرادت الحكومة السعودية إيصاله الى الادارة الأميركية
حيث وجدت في بيان النخبة الوطنية الليبرالية بما حمل من عبارات
ومفردات ذات دلالات سياسية وإيديولوجية معينة على أنه (صيد ثمين) من
أجل تقديمه للإدارة الأميركية كيما توقف الحديث عن الديمقراطية في
السعودية.
بيان المثقفين السعوديين ضد الغزو الأميركي للعراق، وإن وضع في
سياق التيار العريض المعارض للحرب في الوسطين العربي والدولي، الا
أنه بالتأكيد يحدث ردود فعل معاكسة خصوصاً حين يرفض الموقعون عليه
دعوة السفارة الأميركية في الرياض من أجل التشاور حيال البيان، وكان
الرفض إشارة واضحة على موقف سياسي يتجاوز موضوع الحرب على العراق،
وكان بإمكان المدعويين إيصال ما يريدون الى السفير الأميركي ولكن حتى
هذا القدر المطلوب من تيار ليبرالي يؤمن بالحوار المفتوح قد تنازل
عنه من أجل التمسك بما يصنّف عادة في قائمة المواقف المبدئية، وهذا
ما زاد من فرص استغلال الحكومة، ولربما هذا ما يجعلها مطمئنة الى أن
ما تقوم به سيلقى قبولاً لدى الحليف الأميركي الذي يهمه بدرجة
أسياسية وجود مناخ مستقر يحيط بمصالحه الحيوية في المنطقة. بل قد
يزيد في ذلك، أن فشل القوى السياسية المحلية في إيصال رسالة واضحة
حيال موضوع الديمقراطية مفصولة عن المخاوف المرتبطة بها من تنامي
العداء للغرب سواء كان ذلك صادراً عن جهات دينية أو ليبرالية
(وغالباً يسارية) فإن ذلك سيعزز خيارات العائلة المالكة أيضاً في
الداخل كما يظهر في التركيبة الوزارية الجديدة والتي جاءت على الضد
من تطلعات الناس وآمالهم. ولا شك أن العائلة المالكة تدرك ذلك
تماماً، أي أن هذه التركيبة لا تلبي الحد الأدنى من طموحات الناس في
التغيير السياسي.
الشيعة في السعودية
البيانات الشيعية ضد الولايات المتحدة التي صدرت قبل وخلال الحرب
على العراق كانت هي الأخرى محمّلة بجرعات كراهية، وربما كان المناخ
العدائي ضد الولايات المتحدة قد حرّك فيها شيئاً داخلياً لا يدركه
بوضوح من هم خارج هذه الطائفة، ولربما أمكن تفسيره على نحو سريع بأنه
حتى لا تحسب الطائفة على جبهة الممالئين لأعداء الأمة، فقد عبّر
الشيعة عبر علمائهم عن موقف متشدد من الولايات المتحدة باعتبارها
نموذجاً جديداً من الاستعمار والامبريالية العالمية.
من الواضح أن الحكومة أساءت إستغلال المسألة العراقية ونجحت في
ذلك، وأظهرت كافة التيارات الدينية والوطنية في جبهة الأعداء
للولايات المتحدة، كما نجحت في تحويل العراق الى ساحة المواجهة مع
الولايات المتحدة كيما تمنع عن نفسها أخطار محتملة لاحقة.
العائلة المالكة كانت منذ نشأتها ظهيراً للإستعمار، والعائلة
المالكة لم تكن يوماً في صف أي قوة وطنية تحررية عربية أو إسلامية أو
عالمثالثية. هذه الحقيقة يجب أن لا تغيب عن أذهاننا، كما يجب أن لا
يغيب عن الذهن حقيقة أن العائلة المالكة لم تعاد الولايات المتحدة أو
تخشاها إلا بعد أن رأت كرسيها يميل الى الإهتزاز. لذا ـ ومن أجل بروز
مشروع وقيادة وطنية ـ علينا أن نتفهّم أسباب العائلة المالكة وراء
تأجيج المشاعر هذا، وهو على كل حال يشمل كل العالم بدون استثناء.
والعائلة المالكة هي آخر من يصدّق عداءه لأميركا، وهي مستعدة أن تبيع
كل شيء بما في ذلك الوطن من أجل أن تبقى حاكمة. |