بعد تغييب طويل للصوت الديني الحجازي المعتدل
المدينة المنورة يحولها المتطرفون الى مصنعاً للتطرّف والتشدّد
المملكة ليست مصدراً للفكر المتطرف فحسب. إنها مركز الثقل الجاذب
إليه ولأصحابه أيضاً. هناك مراكز تصنيع للفكر المتشدد في الجامعات
والمراكز الدينية وحتى في المساجد.. بعضها بغرض الإستهلاك المحلي: أي
توفير الطاقم الديني ليحتل مواقعه في إدارات الدولة الدينية وفي
المؤسسة الدينية بمختلف فروعها، إضافة الى القضاء والتعليم وغيره.
والبعض الآخر يستهدف التصدير للخارج، حيث أنشئت الجامعة الإسلامية
لترويج المذهب الرسمي، فكان الناتج قاتماً أشعل فيه المتخرجون الحروب
والفتن الداخلية في بلدانهم وفي كل بلد وصلوا إليه.
إن مركز التطرف والتشدد الديني لا يعدو المنطقة الوسطى، وبالخصوص
القصيم بنجد.. فهذه المنطقة وبحكم جغرافيتها وانغلاقها التاريخي حيث
تطوقها الصحراء كانت منتجاً للفكر المتشدد، مقبلة عليه، وبعد أن قامت
الدولة صارت مصدراً له فارضة رأيها على الجميع. مثل هذا التشدد لم
تألفه مناطق المملكة الأخرى في الشرق والغرب والجنوب. والحجاز
باعتباره الثقل الديني، تزخر كتب التاريخ بالحديث عن تسامحه واعتداله
وقبوله بالتعددية الفكرية والحرية الدينية. ولكن بعد إقصاء النخبة
الدينية الحجازية وسيطرة الوهابيين على كل المعاقل الدينية واحتكارهم
للتعليم الديني والإفتاء والقضاء وغيره..
يراد من الحجاز أن يكون بؤرة تفكيك لا توحيد، ومنتدى لنشر التطرف
والإرهاب بعد أن كان حاضناً لكل أصوات العقل والإعتدال.
فيما يتعلق بالمدينة المنورة فإنها كانت بيئة معتدلة ومتسامحة،
وكان لوجود شخصيات دينية واعية من أمثال الشيخ عبد العزيز بن صالح ـ
رحمه الله ـ والشيخ عطية سالم، ومحمد المختار الشنقيطي، وعمر محمد
جاد.. كان لهؤلاء وغيرهم من المتعمّقين في الشريعة ومقاصدها أثر
ملحوظ في الحفاظ على هذه البيئة العلمية بكل مميزاتها الطيبة.
ولكن الذي قلّل من فرص استمرارية هذه البيئة وبأجوائها المعتدلة
وجود بعض الشخصيات التي هاجرت الى المدينة المنورة أو نزحت إليها تحت
غطاء أنها شخصيات مضطهدة في بلادها الأصلية، وفي مقدمة هؤلاء: ناصر
الدين الأباني الذي غالى أتباعه في اتباع مذهبه التشددي، حتى أطلقوا
عليه لقب محدّث العصر. ولقد بدأ الألباني حياته العلمية في المدينة
المنورة مدرساً بالجامعة الإسلامية، وكان من أوائل الذين نادوا
بإخراج قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم من الحرم، وهذه بداية القضية
التي لازال أتباعه يثيرونها حتى اليوم.
استغلّ الألباني وجود أتباع له وقام معهم بالإعتداء على معرض ناصر
العامر الرميح في شارع العينيّة ـ سابقاً ـ وتهشيمه بحجّه أن المعرض
يبيع أدوات المذياع والتسجيل. كان ذلك في بداية الثمانينيات الهجرية،
وكان التلفزيون لم يصل بثّه بعد الى المدينة المنورة والذي بدأ حوالى
عام 1387هـ. حينها قام الشيخ عطية سالم ـ أحد علماء المالكية
بالمدينة المنورة ـ بالردّ على الألباني في أكثر من قضية، ثم اختلف
الألباني مع الجامعة الإسلامية بعد صدور كتابه المعروف (حجاب المرأة
المسلمة) وطُلب منه مغادرة الجامعة الإسلامية، لكن خليّة متشددة من
أتباعه بقيت في داخل الجامعة.
أما الشخصية الأخرى المتشددة فهو أبو بكر الجزائري والذي قدم من
الجزائر ولم تكن له صلة بالعلم فهو في الأصل صحافي، ولكنه استطاع
إختراق البيئة العلمية في المدينة المنورة والتأثير عليها سلبياً،
وهو يكفّر مخالفيه صراحة وأطلق عليه أتباعه واعظ القصر، فأصبح لدينا
محدّث القصر وواعظ القصر، وبالتالي فإن الجزائري أخذ دور الألباني،
والتفّ جيل من الدارسين في الجامعة الإسلامية من سلفيي الداخل
والخارج حوله. وقد سنّ الجزائري وروّج لثقافة الجفاء للمصطفى عليه
أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وكان ينقل عنه قوله المتكرر والمفاخر
بالإثم: لقد قضيتُ كذا من السنين والعقود في المدينة ولكنني لم أقفْ
على القبر مسلّما (ويقصد قبر الرسول صلى الله عليه وسلم). وأخبر
الجزائري أحد طلابه المقربين أنه ـ أي الجزائري ـ رأى النبي صلى الله
عليه وسلم في المنام يشيحُ بوجهه عنه.
ولكي يكسب ثقة الشارع النجدي السلفي المتشدد وما يتضمنه من جماعات
متنوعة يميل أكثرها الى التشدد، زعم الجزائري أن المسلم ـ حقاً ـ هو
الموجود في منطقة القصيم، وكأنه بهذا يشير الى أن الناس في المدينة
المنورة قد خالط عقائدهم الشرك، أو هم مشركون فعلاً.
ومن نتائج تشدد هذا التيار السلفي الذي أسسه الألباني وطوّره
الجزائري خروج حركة (جهيمان) وقيام أتباعه باحتلال المسجد الحرام
بقوة السلاح في محرم 1400هـ. ومعلوم أن جهيمان كان أحد المقربين الى
الجزائري، بل هو تلميذه ومريده، وكان الجزائري يذهب الى المسجد الذي
يخطب فيه جهيمان ـ وقد كان أحد طلاب الجامعة الإسلامية ـ وكان موقع
المسجد في الحرّة الشرقية. الجزائري كان يذهب الى هناك ويشارك في
الإجتماعات التي تدار في المسجد، ونشر جهيمان للجزائري رسالته
المعروفة حول (الدولة الإسلامية) ضمن الرسائل التي كان جهيمان يختار
موضوعاتها والتي تناسب توجهه ومقاصده المتطرفة. لقد وجد الجزائري ذو
الخلفية العلمية الضيّقة والمتشددة ضد غير السلفيين من المسلمين
ضالته في جهيمان، ولكن ما أن أطلّت فتنة الأخير حتى توجهت الأصابع
الى كل من الألباني والجزائري.
ومع أن الشيخ عبد القادر شيبة الحمد منتسب الى التيار السلفي،
إلاّ أنه أخبر المسؤولين بأن مركز الفتنة هو الألباني وفكره، فمنع
الأخير من دخول البلاد.. أما الجزائري ـ الذي كانت له صلات قوية مع
أجهزة المباحث ـ فقد تنصل من جهيمان وحركته ونقده نقداً عنيفاً،
وأقرّ بأنه كان طالبه ولكنه خرج عليه كما خرج واصل على الأشعرية
وأنشأ مذهب المعتزلة في العصور الماضية!
بعد ذلك برزت شخصيتان أخريان قادتا الخط السلفي المتشدد: الأولى
شخصية مقبل الوادعي، وهو يمني الجنسية، درس في الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة، وكانت رسالة تخرجه عن قبر النبي صلى الله عليه
وسلم، ووجوب إخراج القبر الشريف من المسجد. بعد تخرجه ذهب الوادعي
الى اليمن فكان وراء نشأة التيار المتشدد، وانقلب على رفيقه عبد
المجيد الزنداني وكفّره كما كفّر الشيخ القرضاوي. ولما جاءت حرب
الخليج الثانية، قام الوادعي بتكفير الدول التي حاربت ضد العراق،
فمُنع من دخول السعودية، ولكن الوادعي ـ مثله مثل الألباني ـ نجح في
تأسيس تيار متشدد منغلق خلق زوبعة كبرى في اليمن، وكان له نصيب في
توتير العلاقات بين السعودية واليمن. وقد قام بعض السلفيين السعوديين
بزيارته أو الإقامة لديه في اليمن لتعلم الدين! ومحاربة المنكرات
وعادوا للقيام بأعمال عنف داخل السعودية نفسها.
الشخصية الأخرى هي ربيع بن هادي المدخلي، والذي أصدر كتابه
(القطبية) كفّر فيه سيد قطب وجميع الحركات الإسلامية الأخرى ما عدا
حركات السلف وتياراته المتشددة المنبثقة من الألباني والجزائري
والوادعي. ومن محاسن الشيخ ابو بكر بن زيد أنه ردّ على هذا الكتاب،
ولكن أتباع الوادعي من آل المدخلي ـ من الجنوب ـ تكاثروا الى الحد
الذي يصعب معه لجمهم.
هناك شخصيات أخرى برزت لتبلور مواقف التشدد في الحجاز وخاصة في
مدينة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام والتي أتخذها التيار السلفي
المتشدد موقعاً لترويج أفكاره وبثها الى العالم. من بين هذه الشخصيات
محمد سرور زين العابدين، ويطلق على جماعته (السرورية/ السروريون)
وهؤلاء يتبنّون مواقف ابن تيمية في العقيدة، ورأي الإخوان المسلمين
في النواحي السياسية.. وما كانت قضية الأخذ بآراء ابن تيمية إلا
ستاراً لحركة سياسية، والغريب أن محمد سرور زين العابدين كان هو
الآخر نتاج بيئة غير علمية أو فكرية فهو فنّي كهربائي، واستطاع أن
يجمع حوله المتشددين الذين لم يجدوا بعد الألباني والوادعي ولكبر سن
الجزائري من يقودهم.. وكالعادة تنبهت الحكومة متأخرة لهذا التيار،
فتمّ ترحيل محمد سرور زين العابدين، وفصل عدد من أساتذة الجامعة
الإسلامية كان من بينهم د. عبد العزيز قاري. واليوم توجد قيادة
السروريين ومركز توجيههم في برمنجهام بالمملكة المتحدة، ويصدرون مجلة
(السنّة).
هناك مجلة أخرى ـ اسمها البيان ـ وهي تصدر من لندن من جناح سلفي
متشدد نشأ في السعودية، وهو مدعوم من رجل كفيف إسمه صالح السحيمي
وأتباعه وهم من يمول البيان ومركز التيار السلفي في لندن. وقد استقطب
هذا المركز عناصر التشدد القادمة من الجزائر وغيرها، ولكن القيادة
والتمويل والإدارة لاتزال بيد سعودية سلفية (أمينة!). السحيمي آنف
الذكر، يدعو علانية الى هدم الآثار الإسلامية في الحجاز وخاصة في
المدينة المنورة من خلال درسه المرخص به رسمياً داخل الحرم النبوي
الشريف، وهو يأخذ على المسؤولين تجديدهم لعدد من المساجد مثل مسجد:
الجمعة، وذي الحليفة، ومسجد القبلتين، ويجاهر بهذا الرأي في دروسه.
هذه هي جذور حركة التشدد في المدينة المنورة، وهي كما نرى حركة
وافدة من نجد أولاً، استعانت بعناصر خارجية اتخذت من الجامعة
الإسلامية (وهي جامعة غرضها تخريج الدعاة السلفيين بغرض مناصرة الحكم
السعودي في كل أنحاء العالم) موقعاً لها. في حين لم تعرف مدينة
الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم الغلو والتشدد سواء ضد
المواطنين أو غيرهم إلا بعد أن سيطر الوهابيون على الأماكن المقدسة
واستخدموها لترويج دعوات مذهبية انقلبت في الأخير على نظام الحكم
نفسه وتولته بالتكفير ودعت الى إسقاطه. والجامع بين كل تيارات السلف
المتشددة حقدهم على آثار الرسول وآل بيته وصحابته، فكل جماعة تزايد
على أختها وتريد أن تسحق ما تبقى من تلك الآثار، التي لم يبق منها
إلا القليل جداً بعد أن تولتها معاول التدمير والتطرف بالتدمير
والسحق. حتى قبر الرسول يريد المتشددون إخراجه من المسجد النبوي، وهم
لا ينتظرون إلا الفرصة المناسبة للقيام بذلك.
على العكس من ذلك تماماً، عرفت المدينة المنورة بالتسامح
والإعتدال والوسطية خاصة في عهد المشايخ: صالح الزغيبي، وعبد العزيز
بن صالح، وعطية سالم، وعبد المجيد حسن جبرتي، ومحمد المختار
الشنقيطي، وعبد الرحمن أبو مضّاي، وعمر جاد فلاتة عليهم جميعاً رحمة
الله.
|