مشكلتنا هي مع الفكر الوهابي
كتب أحد الصحافيين السعوديين مقالاً حدّد فيه المشكلة الفكرية
التي أوقعت المملكة نفسها فيها بأنها تعود الى فكر إبن تيمية، وذلك
في مقال حمل عنوان: الوطن والمواطن أهم من إبن تيمية. فكرة المقال
تقوم على أساس أن الفكر الوهابي وريث فكر ابن تيمية، وقد طوّره الشيخ
محمد بن عبد الوهاب ليكون النسخة السعودية (الصحيح النجدية) التي
قامت الدولة على أسسها. وقد خلص الكاتب الى أن (أزمتنا مع ابن تيمية)
وكأنه أراد القول بأنها مع (الوهابية).
لقد تحددت معالم الفكر الوهابي فاقعة في بعدين رئيسيين لم يوجدا
في غيره من مذاهب معاصرة:
الأول ـ التكفير والقتال. فلم يوجد في الأولين والآخرين أحداً
كفّر عدداً من أهل القبلة بمثل ما كفّر الوهابيون. لا يوجد مسلم على
الأرض سواهم، وهذا طافح في كل كتب التاريخ السعودي المنشورة. وإذا
كان هناك من يجادل في هذه الحقيقة، فلا نظنّه قادراً على الجدال بشأن
حقيقة أخرى مرتبطة بها، وهي أن التكفير الوهابي ارتبط بالقتال، فهو
تكفيرٌ (رسالي) يتبع الإعتقاد بالفعل. فالكافر يُسلم أو يُقتل أو
يخرج من جزيرة العرب! المسلمون في تاريخهم القديم والحديث ابتلوا بمن
يكفر الآخر بسبب الضيق بالخلاف، ولكن ليس كلّ من كفّر رفع سيفه بوجه
الآخر لقتله، اللهم إلاّ الوهابيون، فأفعالهم وتشنيعهم بقتلاهم
والمجازر التي أقاموها لأعدائهم السياسيين والمذهبيين لا تزال تشكل
علامة فارقة في التاريخ الحديث للشرق الأوسط والجزيرة العربية.
بمعنى آخر: إن الفاصل بين التطرّف الفكري والعقدي من جهة، وبين
استخدام العنف من جهة أخرى، غير موجود في الأدبيات والممارسات
الوهابية، أو قلْ هو فاصل جدُّ محدود من الناحية الزمنية. نقول هذا
ونحن في عصر الدولة القطرية، وعلى افتراض أن الوهابيين وصلوا الى
الحكم وامتلكوا زمام أمر دولة هي بكل المقاييس نصف قارة غنيّة، الأمر
الذي يجعل المراقب يفترض انخفاضاً في حدّة مشاعر التكفير، وزيادة في
الفاصلة بين التكفير من جهة واستخدام العنف والقتال من جهة أخرى. لكن
هذا لم يحدث على وجه الدقّة، فالوهابيون رغم تسويد فكرهم على كل
المملكة رغم أقليتهم، لم يتخلّوا عن منطق التكفير للآخر، ولم يسقطوا
سلاح العنف واستخدام أجهزة الدولة في ذلك في سبيل تحقيق رؤيتهم.
الثاني ـ الإعتماد على فلسفة التكفير والهجرة. فهذه الفلسفة ليست
وافدة الى المملكة كما يظن البعض من بعض التنظيمات المصرية، أو
اعتماداً على فكر جاهلية المجتمع التي أتى بها سيد قطب وتبنّاها
إسلاميون وهم في أسوء حالات القمع داخل السجون المصرية. فالوهابيون
ومن منطلق تكفير الآخر، لم يبيحوا البقاء للمسلم (أي الوهابي
الموحّد) في ديار الكفر، سواء في الأحساء أو في الحجاز حيث الديار
المقدسة، مادام الحكم فيها كافراً، كالحكم العثماني، او حكم الشريف
حسين بن علي. كما لم يبيحوا السفر الى ديار الكفر سواء الى مصر أو
غيرها، وأصدروا في ذلك فتاوى، وكان سفر الأمير فيصل ـ الملك فيما بعد
ـ واحداً من اعتراضات الإخوان على (الإمام) عبد العزيز. فما دام
المجتمع والسلطة السياسية كافرتين، فإن المطلوب الهجرة، وعلى أساس
ذلك قامت فكرة الهجر الإخوانية قبل أن تسيّس من قبل الملك عبد العزيز
وتستخدم للضبط الأمني وكعمود فقري للمّ شمل القبائل التي تشكل العمود
الفقري للجيش السعودي. الهجرة، أو الهجر تفترض أن الحياة السابقة
حياة كفر، سواء كانت حياة بدوية (وهناك فتاوى وهابية تكفّر البدو
أيضاً) أو حياة مدنيّة بين الآخرين الذين تمّ تصنيفهم ككفار.
إن نزوع الوهابيين تجاه مناطق يمارس فيها (الجهاد) في كل أصقاع
العالم، يحمل في طياته هروباً من السلطة الكافرة، والمجتمع الضالّ،
كما يحمل آمالاً بتشكيل سلطة إسلامية صحيحة ينضوي تحت لوائها أهل
الإيمان من كل مكان، فكان نموذج (الطالبان) ومحاولة خلق نموذج في
الشيشان. وقد عدّ عدد من علماء الوهابية حكومة الطالبان الحكومة
الإسلامية الوحيدة في العالم التي تطبّق الشريعة، واسترخصوا دماء
الآخرين في محاولة لتكرار التجربة الوهابية الأولى، أو الثانية
(الإخوان).
إن تفجيرات الرياض في 12 مايو الماضي أفرزها نفس الفكر الوهابي
الذي لم يتطوّر منذ أن تأسّس، والسبب في عدم قدرته على التطوير، أنه
ليس مذهباً فقهياً، بل هو مذهب عقدي، أو ينزع باتجاه التمايز عن
الآخر عقدياً، والإعتقاد ـ كما نعلم ـ صعب التغيير، والخلاف فيه أو
تعزيزه وتضخيمه وتثبيت ما هو مختلف بشأنه متساوقاً مع حالة التنميط،
هذا الخلاف يصعب ردمه، ويصعب تجاوزه، ويصعب التسامح فيه والتسامي
عليه. وهذا جعل من المذهب الوهابي جامداً، رغم الزعم بأنه يؤمن
بالإجتهاد، ولكننا لم نرَ أحداً يحق له الإتجاه إلا أنفسهم، فهم
يجتهدون في دماء المواطنين وأعراضهم، ولكنهم لا يقبلون وجهة نظر
مخالفة. وبهذا يمكن القول أن المذهب الوهابي هو بحدّ ذاته يعيش أزمة،
نقلها الى الدولة المتأزمة نفسها، التي يرى زعماؤها أنهم غير قادرين
لا على تطويعه باتجاه التسامح، ولا على استبداله والإستغناء عنه، ولا
على وضع شركاء آخرين في عملية تفضي الى توسيع أفق زعماء المذهب، والى
اجتهاد حقيقي في التراث الوهابي ضمن إطار المصلحة الوطنية.
نعم مشكلة المملكة المزمنة والرئيسية التي تتصاغر أمامها كل
المشاكل هي أزمة المذهب الوهابي، وبدون حلّ لهذه الأزمة فإن المشاكل
الأخرى ليس تأتي فقط في الدرجة الثانية فحسب، بل أنها تعوّق حلّها
وتؤجّلها الى أمدٍ غير محدود. يجب أن تتوضح العلاقة بين الدين
والدولة، بين المذهب والعائلة المالكة، وبين الوهابية والمذاهب
الأخرى، ودور المذهب وفكره في صياغة الشخصية السعودية، ووضع محددات
لما يمكن للدولة أن تتبناه، وليس أن تأخذ المذهب الوهابي بقضّه
وقضيضه، مع ما يحويه من تطرّف وعنف وإتهام وإهمال للمذاهب الأخرى.
الأمراء لديهم صورة مبسّطة حول الأمور، وحلولهم لن تكون فيما
يعتقد سوى بدائية، والنتيجة المتوقعة: تطوّر للأزمة السياسية
والإجتماعية لن يحدد السلفيون والعائلة المالكة وحدهم نتائجها ورسم
مساراتها. |