الدولة والجذور المجنونة
بحـثٌ عـن وطـنٍ مُتَخَيّـل
وثيقتان هامتان عبّرتا عن ميول موّحدة رغم إنبثاقهما من محيطين
إجتماعيين متفاوتي الحجم وربما من إتجاهين إيديولوجيين متباينين.
الوثيقتان هما (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) أعدّها وقدّمها رهط من
دعاة الأصلاح في يناير الماضي وهم يتحدّرون من مناطق ومذاهب واتجاهات
ايديولوجية وسياسية متنوعة، والأخرى (شركاء في الوطن) في نهاية أبريل
الماضي رفعها جمع من شخصيات اجتماعية ودينية واعلامية من الطائفة
الشيعية. مضامين الوثيقتين تؤكد على أن ثمة مشاعر تتوالد تباعاً في
مسعى حثيث نحو البحث عن وطن متخيّل لا تنتمي تلك المضامين الى الواقع
المنبعثة منها، فهو مجرد الوطن الحلم الذي يأمل الجميع تحققه. فالوطن
المتخيّل في خبايا الوثيقتين والثاوي بداخل المعاني المراد إيصالها
لعلية القوم هو وطن ليس متصاهراً مع الدولة، التي يؤكد أربابها
وصنّاعها أنها لا يمكن أن تكون تعبيراً وطنياً او خلاصة من وحدة أمة.
إذا كان ثمة ملمح يستحق الوقوف عنده في هاتين الوثيقتين فهو أن
مشاعر الانتماء لوطن متخيّل تعكس نفسها بسطوة في مفردات الوثيقتين،
وكأن تلك المشاعر تنبّه الى الجبّلة التي تغمر بني الانسان وتشدّ
وثاقه بعرى وطن يجد فيه مأوى لمشاعره، وسكناً لروحه، ووسادة لقلبه،
وسناماً لكرامته، ومصدراً لفخره ومعبراً لعلاقات إنسانية مع أوطان
اخرى ينقل لها صورته، ويتبادل معها مشاعر المحبيّن لأوطانهم.
أمام تلك المشاعر المتدفقة نحو وطن متخيل، هناك في المقابل عمليات
هدم متواصلة لأسس ذلك الوطن، فبينما ينطلق موقعو الوثيقتين من وجود
وطن افتراضي يتطلعون الى السكن فيه والانضواء بداخله وتمثيله أمام
الآخر، تتكاتف جهود أخرى تهوّي بكل تطلع وطني وتطيح بكل أمل يقترب من
حقيقة اللحظة الحاسمة في ولادة الوطن. فهناك دائماً ترديد لمضادات
الوطن، كالمقام الطويل عند العقيدة السلفية للدولة من قبل أمراء
الدولة، وهو مقام يطوّر نزوعاً مناهضاً لأي ميل وطني، والحديث عن
دعوية الدولة، والحقانية التاريخية للعائلة المالكة، والخصوصيات
المناطقية والثقافية والدينية للدولة.
ولذلك فإن الوطن الحالي، الافتراضي، لم تظعن إليه أي من الجماعات
الموجودة بداخله، لأنها لم تتعرف عليه أو تطمئن إليه أو تعتقد به أو
تعتنقه. هذا الوطن لم يحمل مواصفات هذه الجماعات وسماتها بل هو وطن
يريد تغييبها وإلغاءها، إنه وطن جماعة محدودة العدد والتطلع والهدف.
فالذين يكتبون عن الوطن في هذا البلد، إنما يكتبون عن وطن متخيّل
يأملون ولادته، ويرجون المشاركة في تربيته وتنشئته، إنهم، بكلمات
أخرى، يتطلعون الى وطن من صنع أيديهم وناطقاً بإسمهم ومعبّراً عن
إرادتهم.. وطن يصيغ الجميع أحلامه، وألوانه وأهدافه الكبرى.
إذا كان الأمر كذلك، فإن من ينشأ خارج رحم الوطن لا ينتمي إليه،
ونتيجة فإن هذا الوطن، المتخيّل، لم ينجب الدولة هذه، فهي ليست من
نسله، لأن الدولة تمثّل ذروة تمظهر الوطن والتجسيد المادي له، وأقوى
تعبير عنه، فإذا لم يصنع الوطن الدولة، فإنها تكون خصماً له، وأهلها
غرباء فيها، فالوطن وحده مصدر التعارف ومنشأ الروابط، والدولة هي
الرابطة العليا المخلّقة في هذا الوطن.
وإن إدراك المعنى العميق واللامتناهي للوطن يسترعي تعريف ما ينجبه
من حقائق مادية وما يعكسه من روابط على الأرض. فالدولة كأبرز معنى
للوطن وأسطع تجسيداً له، تمثل رابطة عقلانية بين جمع كثير من
الأفراد، تستمد مشروعيتها من تحقق مجموع أو غالبية الإرادات
باعتبارها أفعالاً عقلانية.
الديباجات المدججة بعبارات وكلام عن الوطن في العرائض المدفوعة
الى من هم فوق، وفي الكلام الانشائي المسيّل في مقالة صحافية أو في
مقطوعة أدبية أو حتى مادة نقدية تمثل تطلعات أصحابها نحو الوطن
المتخيّل، كما تمثل وسائل مخاطبة معه، باعتبار الانتماء الى وطن
إشباعاً لحاجة عاطفية بدرجة أساس.
الدولة السعودية بمكوّناتها الحالية وأدائها العام والفريق
البيروقراطي الضخم الذي يديرها تحمل نموذجاً لوطنها هي، وليس وطن
الآخرين، الذين يشكّلون الأغلبية في هذه الدولة، فهناك ما يشبه صراع
أوطان داخل هذه الدولة، وكل له طريقته الخاصة في الفهم والتعبير عن
وطنه. وطن يحمله المستفيدون من الدولة يريدون منه أن يهيمن بحسب
الرؤية الغرامشية لمفهوم الهيمنة، ووطن آخر يحلم به كل الباقين
المتضررين من الوطن الآخر غير الوطني، وطن تترعرع فيه المشتركات بين
من يعيش على أرضه، وتتوّج بولوج الروح المشتركة بداخله، فتظهر على
شكل دولة/ وطن/ أمة.
ليس هناك ما يشيع الاعتقاد بالدولة الراهنة، السعودية، بكونها
وطناً، بل هناك كما أسلفنا عمل دؤوب ومتواصل من أجل وأد أي جنين وطني
يأتي بدولة وطنية، وبالتالي يقوّض أسس الدولة الراهنة اللامنتمية.
أراد التوّاقون الى وطن في عرائضهم ورسائل الشكوى أن يبلغوا من
فوق بأنهم يتعاملون مع وطن لا يؤمن من فوق به، ويخاطبون وطناً لا
يعرف من فوق لغته بعد، ويطالبون بوطن يسكنون إليه ويأويهم جميعاً دون
أن يبقي أحداً خارج حدوده، ولا في ظله، لأنه نشأ كي يحضن أبناءه
جميعاً.
هذا الوطن لم يولد بعد، وبالتالي فهو لم ينجب هذه الدولة القائمة،
يتوثق ذلك في انحباس ولاة الأمر في الحلقات الأولى التي نشأوا منها
وتمثّلوا فيها، فهم في حالة إبلاغ متواصل لمن تحت بأنهم لا يحملون
خصائص مشتركة مع رعاياهم، فهم من طينة وفضاء ودعوة ودم وتاريخ مختلف،
ومن أراد البقاء في وطنهم فليتحلل في خصائص غيره، وليمحو ذاته في ذات
أخرى خاصة.
هذا ما لم يأمله المحاربون من أجل حريتهم، وانعتاقهم، وهو خلاف
لمنطق العصر أيضاً، فالتوق الى صناعة وطن من المقهورين لا يؤدي سوى
الى فنائه واضمحلاله، لأن الوطن، من بين أشياء أخرى قليلة في الكون،
يصنع بالإرادة الحرة، فإذا استبدلت الحرية بالقهر تخلّق شيء آخر غير
الوطن، وليكن دولة، ولكن ليست وطنية بحال.
ثمة مفارقة مدهشة حقاً، أن إنشدادين متقابلين يتنافسان على الحضور
الكثيف في الوعي والسلوك العام لدى كثير من الجماعات المنضوية بداخل
الدولة السعودية في الآونة الأخيرة، وهما: الإنشداد الوطني النازع
نحو تشكيل جماعات ضغط وطنية وبؤر عمل مشتركة من أجل إحراز ما تواطأ
أعضاؤها على الحلم به وهو الوطن المتخيّل، والانشداد الخاص المذهبي
والقبلي والمناطقي، فالنزوعات المذهبية لم تقتصر على الوهابية في نجد
والشيعة في المنطقة الشرقية بل هناك تكتيلات مذهبية أخرى يراد
تفعيلها كما بين أتباع المذهب الاسماعيلي في نجران والذين دخلوا
مرحلة التعبير العلني عن هويتهم وذاتهم الإثنومذهبية، وهكذا أتباع
المذهبين المالكي والشافعي في الحجاز والأحساء، وهناك النزوع القبلي
المتفاقم أحياناً فالكتابات التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة عن قبائل
معروفة في السعودية تمثل إحياءً للهويات الفرعية التي جرى طمسها بعد
قيام الدولة، فكان فشل الأخيرة في بناء هوية عليا جامعة قد فسح
الطريق أمام تلك الهويات كي تبعث من جديد، بعد أن أفادت من ماكينة
التحديث كي تستعيد حيويتها وعنفوانها. وما يقال عن النزوع المذهبي
والقبلي يسري بدرجة موازية على النزوع المناطقي، والذي غالباً ما يجد
مثاله البارز في الصراع الخفي/ الظاهري بين نجد والحجاز، على أن
النزعة المناطقية تكاد تكون طاغية على أغلب المناطق سيما تلك التي
جرى تهميشها لأسباب مناطقية.
ولكن التحليل المنطقي يرشدنا الى أن هذين الانشدادين المتقابلين
الكلي والفرعي أو الوطني والفئوي هما رد فعل تلقائي على فشل الدولة
الحالية، فشلها في أن تصنع وطناً وفشلها في أن تتخلص من عبء
(الخصوصية) المتميّزة التي بها تقهر الجماعات الخاضعة تحت سلطانها.
فهذه الجماعات تعبّر عن رفضها للدولة الراهنة بمخاطبة وطن تعلم على
وجه اليقين بأنه غير موجود، ولسان حالها يقول إننا نطالب بوطن،
وبرفضها لتلك (الخصوصية) تلجأ الى بعث خصوصياتها لتجبه بها محاولة
الصهر القسري أو حتى الدعوة اليها.
هذا الوطن يقضي بحقوق مشتركة وواجبات أيضاً مشتركة، ويدعو الى
المساواة بين أبنائه لا فرق بين ذكرهم وأنثاهم، ولا فرق بين نجديّهم
وحجازيهم، ولا سنيّهم وشيعيّهم، ولا قحطانيهم وعدنانيهم، فهو وطن
الجميع، ولذلك أصبح منبوذاً، ولذلك نقول بأن الموقعين على العرائض
يخاطبون وطناً آخر متخيّل، وأن الاصلاح فيه ليس جزئياً بل يطال جوهر
وتكوين الدولة، لأنها لا تصح بحال أن تكون أساساً لبناء وطن.
ليس الفكر الديني السلفي المناهض بتكوينه الايديولوجي لمبدأ الوطن
وحده المسؤول عن غياب الوطن، بل العائلة المالكة أيضاً تمثّل خصماً
موضوعياً وعنيداً له أيضاً، لأن الوطن يسلبها بعضاً هاماً من
امتيازاتها، تماماً كما فعل الوطن في بريطانيا وفي كل المملكات
والامبراطوريات في العالم، التي تحوّلت الى أوطان ودول وطنية، وما لم
ترضخ العائلة المالكة الى منطق الوطن ومصلحته فستبقي المسافة الى
الوطن بعيدة للغاية.
ألا يبعث على الغرابة والدهشة أن الكتابة عن الوطن في هذا البلد
نادرة جداً إن لم تكن تقترب من العدم، وإن وجدت فهي تعود الى أناس
ينتمون الى ذلك الوطن غير الوطني، أي الى المنتفعين من الدولة
الراهنة، رغم أن الجهاز العاطفي لدى كتّاب هذا البلد لا يختلف في
عنفوانه وطاقته عن الأجهزة العاطفية في البلدان الأخرى، التي صبّت
تلك المشاعر الفيّاضة في قصيدة وطنية أو مقالة تتغنى بأمجاد الوطن،
أو قصة عن تراث وتاريخ وإنتصارات وحضارة هذا الوطن. إنه شكل آخر من
الأشكال القاسية للحرمان حينما تختنق مشاعر الانتماء وتذبل ثم تموت
في صدور أصحابها من كتّاب وروائيين وشعراء وتشكيليين.
إنه العار حقاً أن تتحدث شعوب العالم عن أوطانها، وهذا البلد
مازال يبحث عن وطن كي يهديه مشاعره المكبوتة، ويعطيه بصدق ما غمرته
الدولة بسطوتها وقهرها من قدرات أبنائه الذين مازالوا بانتظار
الولادة المتأخرة لهذا الوطن.
صفوف المتعاهدين على مبايعة الوطن كما تنبىء كتابات مكتظة متدافعة
على امتداد أكثر من عقد قد صاغوا نموذجاً منشوداً لوطن جميل، يتمتع
فيه أبناؤه بالحرية، والمساواة والعدل والديمقراطية والتعددية،
وينبذون فيه (الواحدية الثقافية) و(النزعة الاستئصالية)، و(احتكار
السلطة)، و(تبديد الثروة). وما بين القوسين ليس سوى انتخاباً
لمصطلحات أنتجتها أقلام المثقفين والإصلاحيين في هذا البلد وعبر
مناظرات ثقافية ممتدة وساخنة.
إنفجارات الرياض في الثاني عشر من مايو رفعت الى ساحة المناظرة
الثقافية الموضوع المستور ولكن الأشد إلحاحاً في هذه الفترة، وهو
الفكر الاستئصالي كأحد أبرز منتجات اللاوطنية والدولة الراهنة،
فالرزمة المتعاظمة من المقالات النقدية هذه الأيام للفكر الاستئصالي
الديني المقنبل للشاحنات الانتحارية تلك تجتمع على أن غياب الوطن
وحده المسؤول عن نشوء ظواهر فئوية تقامر بالقاطنين الأصليين داخل
الدولة وتحرمهم من حق التعبير عن أفعال ذات تأثيرات جماعية، ولو كان
الانتحاريون ينتمون الى وطن لحال الأخير بينهم وبين الانخراط في عمل
كارثي، أو لكان الوطن أحد الكوابح الفعالة لمكائن العنف النشطة هذه
الأيام.
بكلمة، إن الجميع يعيش في دولة بلا وطن، والشعور بذلك بات طاغياً
ويجنح بالغالبية العظمى للانتقال اليه بخيالهم كيما ينتقلون معه في
الواقع ليصنع لهم دولة الوطن. |