هل هو زمن العرائض؟!
لماذا لم يقدم الحجازيون عريضة خاصة بهم؟
بعد عريضة أو وثيقة الرؤية التي شملت الوطن بمجمله بمختلف أطيافه
السياسية والدينية والمناطقية.. جاءت عريضة الشيعة (شركاء في الوطن)،
فأكدت على ما تضمنته وثيقة الرؤية كمرجعية للإصلاح السياسي، وعرضت في
التفصيل جوانب من رؤيتها للحل فيما يتعلق بموضوع التمييز الذي أشارت
إليه وثيقة الرؤية. ولحق عريضة الشيعة في المنطقة الشرقية بعد بضعة
أسابيع عريضة تقدم بها الإسماعيليون في جنوب المملكة حملت إسم:
(الوطن للجميع والجميع للوطن). وهذه الوثيقة ـ العريضة وإن لم تشر
الى وثيقة الرؤية لكنها تحركت ضمن إطارها وفضائها الإصلاحي، فأكدت
على مطالب الإصلاح السياسية، وعرجت على المشكل الخاص الذي يعاني منه
الإسماعيليون، الذين يقدّر تعدادهم بما يزيد على ستمائة ألف نسمة.
والتساؤل هو: إذا كانت وثيقة الرؤية التي قدّمت الى ولي العهد
وتبنّاها قولاً حين استقبل بعضاً من الموقعين عليها، تضمّنت بشكل
واضح كل أزمات الوطن في خطوطه العريضة، ومن بينها مسائل التمييز
الطائفي على مختلف الصعد، فما هي الحاجة الى عرائض جديدة، بل ما هي
مبررات وجود عرائض (متخصصّة) لعلاج مشاكل تجمعات دينية مذهبية وإن
كانت قد قدّمت في إطار وطني ولم تخرج عن ثوابته؟
ثم إذا كان الحل السياسي مدخلاً لحل الأزمة الطائفية والمناطقية
التي تعصف بالبلاد وتهدد وحدتها واستقلالها، فهل العريضتان الأخيرتان
بما تحملانه من مقاربة تخرج عن إطار الحلول السياسية التي اعتمدتها
الوثيقة المرجع (ونقصد بها هنا وثيقة الرؤية)؟ بمعنى آخر، لماذا لم
يتم التركيز على الوثيقة الأصل في بعد الحلول السياسية للمشاكل؟ وهل
تشير العريضتان الأخيرتان الى تعذّر الحلول السياسية، ومن ثمّ لا بدّ
من فتح نوافذ أخرى للحلّ؟.
يضاف الى هذه الأسئلة: هل نحن بصدد عرائض جديدة تأخذ المنحى نفسه،
كأن يتقدّم الحجازيون بعريضة مثلاً، وكذلك سنّة الأحساء وغيرهم، وهم
ممن يعانون أيضاً من هيمنة المذهب الوهابي وسيطرته وقمعه؟ وهل هذه
العرائض مفيدة فعلاً للعمل الوطني بشكل عام أم لا؟
تداخل الأزمات المناطقية والطائفية
بالحالة السياسية
هناك اختلاط وتراكم في المشاكل بين ما هو سياسي وما هو ديني.
فالمملكة تعاني من أزمة مزدوجة (طائفية وسياسية) أو (طائفية /مناطقية
وسياسية). تتداخل المشاكل وتتداخل الحلول. فالخلاف المذهبي لم يكن في
المملكة ضمن حدود الإختلاف النظري، والشخصي، بل ترتب عليه اختلاف في
السياسة وتمايز في المواطنة، وفي الحقوق، والتمييز المناطقي من حيث
توزيع الثروة والتوظيف والقضاء وغير ذلك. ولهذا، فإن البعض قد يرى
بأن علاج المشكلة يتم من مدخلين: سياسي عبر الإصلاح، بما يتضمن من
إنتخابات وتمثيل ومشاركة شعبية في صناعة القرار، أي القبول بمبدأ
المساواة في المواطنة والذي هو غير متحقق، بغض النظر عن اختلاف
المذاهب والمناطق. والمدخل الآخر: إجتماعي ديني، فبدون قطع الإحتكار
المذهبي، والتخفيف من غلواء التشدد الوهابي، يصعب إنجاز الحل
السياسي.
ثم إن البعض قد يرى بأن جذر الأزمة مذهبي، الذي أسس لحالة من
التمييز السياسي والإقتصادي والإجتماعي، ولأن الحل السياسي ـ حتى
الآن ـ لا يلوح في الأفق، فمن الممكن ـ ضمن الظروف الراهنة وحسب
القائلين بهذا الرأي ـ تخفيف حدّة الضغط والتشدد الطائفي الوهابي
ريثما تأتي الحلول السياسية الكبرى، والتي تتطلّب زمناً، في حين أن
الموقعين على العرائض، يستعجلون الحل، وغير قادرين على تحمّل الوضع
القائم.
فالإصلاح السياسي ينتفع به الجميع، وبقاء الوضع الحالي، فيه إضرار
بشكل أكبر بالمختلفين مذهبياً، وإن كانوا لا يتساوون في حجم
المعاناة. فهناك حلولاً كليّة، لا تلغي الحقوق الخاصة لأتباع المذاهب
المتعددة.
بلا شك، فإن أي عمل جمعي مفيد ومهم، والعرائض هي واحدة من وسائل
الضغط، أو تحمل هذا المعنى، ولكن هذا العمل الجمعي، رغم أنه في جوهره
سياسي، لكنه يركز على الحل المذهبي المدمج سياسياً عبر التعددية
الثقافية والمذهبية والقبول بهما وكذلك عبر الإحترام للرأي الآخر، في
حين أن الحل السياسي المؤجل قادر على جمع المتناقضات ضمن الأطر
السياسية والإندماج الوطني. الخشية أن تعزز المطالب الخاصّة مسألتين
في غاية الأهمية: الأولى، أنها تعزّز الهوية الخاصة في غياب الهوية
الوطنية التي لم تولد بعد، والثانية، أن تستبعد الحلول السياسية
الوطنية، أو تكون بديلاً لها.
ورغم أن عريضتي الشيعة في الشرقية والإسماعيليين في الجنوب حرصتا
على الجوانب السياسية وأشارت اليها صراحة كموضوع المشاركة السياسية،
بشكل يجعل من مطالبهم بوقف التمييز إحدى لبنات الإصلاح السياسي..
إلاّ أن الأمراء السعوديين فيما هو واضح يميلون الى إغراق الإصلاح
السياسي في متاهة الإختلافات المذهبية، أو تأجيل الحلول السياسية
بذرائع بناء اللحمة الداخلية الإجتماعية. وربما يكون المؤتمر الذي
دعا إليه ولي العهد حول الحوار الفكري، نموذجاً لتغليب المذهبي على
السياسي، أو بديلاً له. ومع أنه لا توجد إيحاءات قويّة بهذا الشأن،
إلا أن الأمراء الآخرين (نايف وسلطان وسلمان) بتصرفاتهم وتصريحاتهم
ووقفوفهم أمام الإصلاحات يدفعون بالمراقب الى احتمالية استخدام دعوة
ولي العهد للحوار الفكري في سياق مختلف يجمّد معه الوضع السياسي سنين
أخرى قادمة.
مآل وثيقة الرؤية
كل العرائض قدّمت لولي العهد السعودي، وكلّها نالت اهتماماً منه،
ظاهرياً على الأقل، وكلها أيضاً تضمنت لقاءات مع الموقعين أو بعضاً
منهم، وهذا يدل على اعتراف بوجود مشكلة عويصة في البناء الإجتماعي
والسياسي للدولة. ينبغي التذكير أن العريضتين الأخيرتين كانتا
مختلفتين في مضامينهما السياسية عن باقي العرائض القديمة التي عادة
ما يتقدّم بها سكان المنطقة الشرقية ونجران. العرائض القديمة لم تكن
تحمل إيحاءات سياسية واضحة، ومطالب سياسية محددة، وكانت تنشغل في
الغالب بالشأن الخاص بعيداً عن العام، أي أنها لا تقدم حلولاً
لمشاكلها الخاصة ضمن الذهنية والإطار الوطني. في هذه المرّة، كان
الأمر مختلفاً كثيراً، فالمطالب السياسية شديدة الوضوح، والحلول
السياسية للمشكل الطائفي واضحة، وحوت العريضتيان مطالب سياسية وطنية
عامة، إضافة الى الحقوق المؤسسة مذهبياً.
لكننا كنا نتمنّى لو أن وثيقة الرؤية قد تمّ تفعيلها، وإخراجها
الى الحياة قبل أن تودع الى ثلاجة الموتى.. كأن يقوم كبار الموقعين
عليها بخطوة أخرى متقدّمة ضاغطة ـ بصورة من الصور ـ للبدء في
الإصلاحات السياسية الوطنية الكبرى. ولربما يكون طرح عريضتي الشيعة
والإسماعيلية ناجماً عن انسداد للحل الوطني، أو عدم توقّع تطور في
هذا الشأن. ومن ثمّ، جاءت غلبة الأزمة الخاصة بالجماعة وهي ضاغطة
مؤلمة، على الأزمة العامة التي يتساوى فيها الجميع في بعدها العام.
نحن نتمنّى ونأمل أن تُبعث الروح في وثيقة الرؤية، وأن يعتبر ما
جاء في العرائض اللاحقة، تفصيلٌ لبعض بنودها المتعلقة بحقوق الجماعات
المذهبية. إذ لا يمكن أن تلغي العرائض الخاصة عريضة الرؤية بما حازته
من إجماع، ولا نظن أن هدف الموقعين في العرائض الخاصة هذا الأمر،
لأنها أكّدت عليها بالإسم أو على أهم بنودها، فضلاً عن أن الموقعين
على العرائض اللاحقة كانوا قد ساهموا في وثيقة الرؤية.
لماذا لم يقدّم الحجازيون عريضة خاصة
بهم؟
نعتقد أن هناك أسباباً عديدة دفعت بالحجازيين الى عدم التقدّم
بعريضة بإسم أهل الحجاز، فرغم أنهم واقعون تحت الإضطهاد شأنهم شأن
البقية، إلاّ أن لأزمتهم خصوصية من نوع ما.
يتعرّض الحجازيون الى تمييز ثلاثي الأبعاد:
أولاً ـ تمييز على خلفية دينية / مذهبية من قبل الوهابيين، فهم في
نظرهم كفاراً أو مبتدعة أو مشركين، أصحاب الموالد، وصوفيين وغير
ذلك.. حتى أن الدكتور محمد عبده يماني حين تحدث أمام ولي العهد بعيد
انتهاء مؤتمر الحوار الفكري في الرياض قال في كلمته بأنه كان ينوي
عدم المشاركة، إذ كيف يشارك أناساً في نقاش (يعتقدون بكفرنا ولا
يسلّمون علينا)؟!
ثانياً ـ تمييز على أساس مناطقي، فالحجاز كحدود وكمنطقة واضحة
المعالم، ولها من الإرث التاريخي المصادم لنجد الكثير، وبالتالي فإن
النزعة النجدية لم تأخذ بعداً مذهبياً فحسب، بل بعداً تاريخياً
مناطقياً شديد القسوة، واتسم بالحدّة والمنافسة. إن الحجاز أكبر كيان
مناطقي في المملكة وأكثرها تسييساً وأعظمها خطراً، وله من الإرث
السياسي الإستقلالي ما يجعله منافساً للسلطة الحاكمة ضمن محيطها
النجدي. ولهذا فإن البعد المناطقي في الحجاز غالب على البعد الديني
وغيره.
ثالثاً ـ التمييز على أساس عنصري، فالمنطقة الحاكمة والمذهب
الوهابي الحاكم، ينظران بازدراء الى الحجازيين وينتقصون من مواطنيتهم
وكراماتهم وينظرون بازدراء إليهم (كطرش بحر أو مخلفات حج)! والمذهب
الوهابي يحوي قدراً غير قليل من عناصر العنصرية والقبلية. كما أن نجد
في مجملها تمجّد الأحساب والأنساب والعنصر، وترى نفسها أرفع شأناً
حتى من (الأشراف) الذين هم من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم!
من هنا فإن مطالب الحجازيين فيما لو تقدموا بها بصورة جمعية،
سينظر إليها كمطالب (إنفصالية) مطالب متنافسين أكفاء، وليس مطالب
مستعطفين أقليّات، أو أقلية مقابل أقليّة. والحكومة السعودية شديدة
الحساسية من أن يتقدم الحجازيون بمطالب كهذه، وإذا ما تقدّموا بها في
المستقبل فسينظر إليها كمؤشر إنفصالي لا يستهدف مجرد رفع الحيف
والظلم عن أهل الحجاز في الأبعاد الإقتصادية والإجتماعية والسياسية
والدينية، بل أن ما يكتب في العريضة يعتبر تأسيساً لمطالب قادمة قد
تفضي ـ من وجهة نظر آل سعود ـ الى تعزيز الوضع الخاص للإنطلاق باتجاه
الإنفصال.
ينبغي التذكير هنا أيضاً، أن الحجاز لم يشهد مطالب جمعيّة لهذا
السبب، كما لم يشهد مطالب تعزف على الوتر الجمعي الخاص للحجاز وتتخذ
طابع الشمول، بل كانت المطالب تتمحور حول قضية صغيرة خاصة أكثر من
رؤية عامة. مثال ذلك، ما حدث في الأشهر الماضية من مطالبات حول موضوع
تدمير بعض الأماكن التراثية الحجازية على يد الوهابيين.
من المحتمل أيضاً، أن تكون سياسة الحكومة السعودية تجاه الحجازيين
مختلفة عنها في الشرقية أو الجنوب، فهناك اعتمدت سياسة العزل
والإقصاء الكلي، وهنا محاولة للتموية بالإشراك السياسي الجزئي،
وتلبية المطالب الصغيرة، حتى لا يطالب الحجازيون بحقوقهم ككينونة ذات
استقلال نفسي وثقافي وفكري واجتماعي.
مهما كانت الأسباب ووجاهتها، فإن نشاط النخبة الحجازية يأخذ
مسارين واضحين:
س الإشتغال بالعمل الوطني، والتحرك من أجل إصلاح سياسي، يشمل خيره
إن تحقق أهل الحجاز وغيرهم، أي أبناء الوطن بقضّهم وقضيضهم بمن فيهم
أمراء العائلة المالكة. وبقدر ما تكون هذه النخبة فاعلة، فإن أهمية
الحجاز ومركزيته في التغيير والتطوير والإصلاح والريادة باقية
ومستمرة.
الثاني ـ هناك بين النخب من لا يأمل بتغيير سياسي في المستقبل
المتوسط والمنظور، وأفرز القمع السلطوي المتعمّد والمنهجي للخصوصية
الحجازية، أثراً سيئاً في بداية عقود تأسيس الدولة، ولكن سقوطها
المريع في الطائفية والمناطقية، أعاد إحياء الهوية دينياً وثقافياً
واجتماعياً. ولذا توجهت بعض الجهود في هذا الإتجاه كرد فعل طبيعي على
التهميش وخشية من ضياع التراث والهوية الخاصة. بيد أن هذا التوجه
يقابل بالحذر الحكومي، والخشية من أن يقفز الحجازيون من فوق هذا
التراث الى مطالب الإنفصال.
قد تكون في العرائض (الخاصة بأهل الحجاز) فوائد من نوعٍ ما،
ولكنها ستذكي الروح المناطقية مقابل مناطقية وطائفية الدولة.. وقد
تفيد هذه الخطوة في الدفع قدماً باتجاه الإصلاح الداخلي، لأن ما يجري
هو في الحقيقة انفجار للهويات ومطالبة بحقوقها ضمن البوتقة الوطنية،
وبدون الإصلاحات ستبقى هذه الهويات سيفاً مصلتاً على رأس الدولة
نفسها. |