الاعلان عن مركز الحوار الوطني
البداية المعكوسة للاصلاح
كل تغيير مهما كان حجمه وطبيعته يعتبر هاماً، سيما في ظل بلد يمثل
أي تغيير بداخله مضاداً للارادة السياسية، أي أنه لم يتم وفق قراءة
موضوعية للأوضاع العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بمعنى
أوضح أن التغيير لم يقع في أي وقت على أساس شعور أهل الحكم بالحاجة
الى تطوير البنى السياسية والاقتصادية بما يتناسب وشروط العصر
ومستويات التطوّر الاجتماعي الداخلي.
التغيير بات منتظراً من كافة القوى الاجتماعية والسياسية،
ومطلوباً في كافة المستويات، وأن أي خطوة بإتجاه التغيير ستحظى
بترحيب شعبي، بشرط أن تلحقها خطوات أخرى، فقطار التغيير يجب ان لا
يتوقف، لأن في التوقف تفاقماً لمشكلات البلد. فالحديث عن الاصلاح لم
يعد صوتاً ناشزاً ولن يكون كذلك بعد اليوم، بل هو حديث الشارع ولغته
وتفكيره وسيتحول الى فعل في المستقبل.
الإعلان عن (مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني) يشكّل إستجابة
متميزة وربما عاجلة لمقترح تضمنه مطلب وطني ورد في عريضة (رؤية لحاضر
الوطن ومستقبله) رفعت في شهر فبراير الماضي الى ولي العهد، حيث طالب
الموقّعون على العريضة بتشكيل مؤتمر وطني للحوار (بحسب ما جاء في
المحور الخامس من العريضة). وعلى أية حال، فإن الموقف الرسمي يميل
الى وضع فكرة الحوار ضمن سياق دعوة ولي العهد بعض الرموز الدينيين من
الطيف المذهبي السائد في البلد للحوار، وما لحق الدعوة من تطورات.
فالاعلان عن المركز يأتي، بحسب السياق ذاك، إثر طلب ورد في البيان
الختامي، الذي تقدّم به المشاركون في اللقاء الفكري الذي تم في مكتبة
الملك فهد بالرياض في يونيو الماضي بدعوة من ولي العهد، حيث طالبوا
بمواصلة مسيرة الحوار الوطني ومأسسته.
وبالرغم من الجو الايجابي الذي أشاعه الاعلان عن المركز المذكور،
والنظر اليه باعتباره مؤشراً أولياً على وجود فرص وإحتمالات من أجل
البدء بتغييرات داخلية قادمة، الا أن الإعلان أثار تحفظات عديدة
هامة، من بينها:
ـ الحوار وإشكالية الرسمنة: فتأطير فكرة الحوار الوطني داخل حدود
السلطة، يعني إبقاء وظيفه الحوار ضمن إهتمامات، وشروط، وأغراض السلطة
نفسها. فثمة هواجس مشروعة حول ما يمكن أن تقوم به العائلة المالكة
حيال دور مركز تابع لها، تماماً كأي مؤسسة أخرى تعمل بصورة غير
مستقلة، خاصة وبالنظر الى ما حلّ بالدولة في السنوات الأخيرة، فقد
تآكلت مشروعيتها وشعبيتها على نحو سريع منذ أكثر من عقد من الزمن،
ولذلك فهذه الدولة تنظر الى هذا المركز، الذي يضم بداخله رموزاً
يمثلون ألوان الطيف الديني والاجتماعي كيما يلعب دوراً كبيراً في
إعادة بناء مشروعية ومكانة الدولة، هذه طبيعة المبادرات الرسمية
والاهداف المرجوّة منها، إذ لا يمكن رؤية مركز بهذه الصفة أن يطالب
العائلة المالكة بالتخلص من الفساد المستشري بداخلها، أو إعادة
الحقوق المنتهكة بفعل سياساتها، وصيانة الحريات المصادرة بفعل الدور
اللامحدود لأجهزة أمنها، وإطلاق إرادة السكان كيما يعبّروا عن رغبتهم
في شكل الحكم المنشود.
لذلك، فإن ما يقال عن أن المركز سيتحوّل الى ما يشبه أداة من
أدوات السلطة يبدو له ما يبرره، خصوصاً وأن فكرة الحوار الوطني كما
ألمح إلى مضمونها اللقاء الفكري الذي ضم شخصيات مذهبية متنوّعة، تحصر
مهمة الحوار في إطار تصالحات دينية ذات أبعاد إجتماعية. على الضد من
ذلك، هناك مفهوم آخر للحوار الوطني يخرجه من قمقم السلطة ويموضعه في
إطار إجتماعي أوسع، هذا المفهوم عبّرت عنه عريضة الرؤية حيث جاء
فيها:
(أن تدعو الحكومة الى مؤتمر وطني عام، للحوار في المشكلات
الاساسية، تمثل فيه جميع المناطق والفعاليات وجميع الأطياف الثقافية
والاجتماعية، على إختلاف ألوانها وتوجهاتها، ويشارك فيه نخبة من ذوي
الرأي، المهتمين بالمشاركة في الشأن العام، لمناقشة هذه المشكلات
والتحديات، من أجل وضع أساس دستوري، لبناء الصيغة التعاقدية لدولة
المؤسسات).
وبذلك يمكن المجادلة بأن إستقلالية المركز ستكون وحدها الضامن
الوحيد لكي يمارس دوراً فاعلاً ومثمراً، والسبب في ذلك أن إضفاء صفة
رسمية على المركز يعني في حقيقة الأمر إجهاضاً لمهمته وموقعه الحيادي
كطرف يراد منه أن يضطلع بمهمة تجسير الفجوة المتّسعة بين السلطة
والمجتمع.
نشير هنا الى الدور التخريبي الذي قامت به الدولة على مدار عقود
طويلة، فهي جعلت كل ما ومن ينتسب إليها مشكوكاً في أمره، بحيث أصبحت
الدولة جهة غير موثوقة أو مأمونة لدى الناس، فكان يسعى البعض ومن أجل
درء الشبهة عن نفسه الا يخالط رجال الدولة أو العمل فيها أو الدخول
في مشاريعها. وبات من الضروري من أجل الحفاظ على مكانة وسمعة الأعضاء
المرشّحين للانضمام للمركز أن يرفضوا أي محاولات لابتزازهم من قبل
السلطة، وأن يسعوا الى إخراج المركز والحوار معاً الى الهواء الطلق،
وتحريرهما من قيود السلطة، إن أرادوا إنجاح مهمة الحوار وأهله.
ـ البعد الوطني للحوار: بالاندراج في سياق الدعوة التي أنتجت
اللقاء الفكري في الرياض بين شخصيات دينية، يكون المشاركون في مركز
الحوار الوطني متحدرين حصرياً وبصورة تلقائية من إتجاهات دينية،
وبالتالي إخراج باقي القوى السياسية والاجتماعية من العملية
الحوارية. ولكن هل هذه الانتقائية قادرة على تعويض غياب تشكيلة واسعة
من القوى الوطنية والاجتماعية؟ وهل بإمكان الدولة أن تحصل على إجابات
نهائية لمشكلاتها الداخلية من خلال الإتكال على فئة محدودة، دون
التقليل من شأن أفرادها ومكانتهم الاجتماعية وتأهيلهم العلمي.
ما نود قوله أن هذه الانتقائية من شأنها أن تبعث رسالة قلق ليس
إزاء هذه المؤسسة فحسب، بل والعملية الاصلاحية برمتها، إذ أن هوية
الاعضاء المشاركة في الحوار الوطني كفيلة بأن تكشف عن الموضوعات
المنوطة به، وتالياً وظيفته. إن نعت الحوار بالوطني يتطلب إستيعاباً
كاملاً لكافة القوى الاجتماعية والسياسية والدينية، من أجل البدء
بصورة صحيحة في مناقشة قضايا ذات أبعاد وطنية، والتوصل الى حلول تصلح
لتسوية مشكلات وطنية.
تحقيق المعنى الوطني للحوار يتوقف على سعة الاطار المرسوم له
وقدرته الاستيعابية، ففي هذا البلد قوى سياسية وإجتماعية وشخصيات
فكرية وتيارات ثقافية لا يمكن إغفالها وتغييبها عن أي عملية حوارية
تتم تحت عنوان الوطن.
ـ تديين الحوار: يستبطن إعلان مركز الحوار الوطني بالنظر الى سياق
نشأته والشخصيات المرتبطة به، مؤشراً قوياً على أن المركز يسعى
لمعالجة مشكلات ذات أبعاد دينية/مذهبية فحسب، من شأنها أن تفيد في
تخفيف التوترات الاجتماعية والسياسية. والحال أن مشكلات هذا البلد
تتجاوز الحد الديني وتكاد تغطي كل مرافق الحياة، الاقتصادية،
والاجتماعية، والاخلاقية، والأمنية، والثقافية، وبالتالي فإن ثمة
حاجة الى أعمال ضخمة يشارك فيها عدد كبير من المتخصصين وأصحاب الرأي
من أجل تشخيص المشكلة واقتراح إطارات عملية لحلول فاعلة.
لقد عبّرت القوى الوطنية عن موقف إيجابي حيال كل من اللقاء الفكري
وهكذا الاعلان عن مركز الحوار الوطني، ولكنها في ذات الوقت إعتبرت كل
ما تم بمثابة خطوة غير مكتملة، إن لم يكن محاولة إجهاضية لمطلب وطني
عام يطالب بتشكيل مؤتمر وطني للحوار في مشكلات المجتمع والدولة.
أجندة المركز ليست معلنة حتى الآن، ولكن هناك خشية من أن يتم
إرساء مفهوم خاطىء للحوار الوطني بحيث يكون محصوراً في معالجة
موضوعات ظلت تبحث في إطارات أخرى مثل (مؤسسة التقريب بين المذاهب)
كالتي نشأت في مصر في الستينيات أو نظيرتها في إيران لاحقاً. إن
الاصرار على الدخول الى المشكلات الوطنية من بوابة مذهبية، يعني أن
البداية الصحيحة لم تقع حتى الآن، وأن وقتاً طويلا سيمضي قبل أن
تتوصل السلطة الى حقيقة أن لا حل منتقص يمكن له أن يقضي على مشكلة
ذات أبعاد متشعبة.
تديين الحوار الوطني، يسقط بلا شك قائمة مفتوحة من المطالب
السياسية والوطنية كما عبّرت عنها عريضة الرؤية، والتعضيدات اللاحقة
التي حظيت بها في الصحافة المحلية وفي منتديات الحوار، بل وعكست
نفسها في عرائض أخرى للشيعة في المنطقة الشرقية والاسماعيلية في
الجنوب. فالحوار يجب أن يدخل من باب السياسة الواسع، ويجب أن يعالج
المشكلات الحقيقية والمباشرة، وليست التوترات المذهبية سوى واحدة من
تلك المشكلات.
ـ الغاية والواسطة: تأسيس المركز والزخم الاعلامي الذي حظي به منذ
لحظة إعلانه ينطلق من وجود مشكلات من نوع ما دينية او مذهبية يراد
لها أن تحل عن طريق الحوار بين أطراف تحمل رؤية معينة وأتباع ومكانة
إجتماعية. ولكن ثمة مخاوف من أن يتم تحويل المركز الى مجرد عنوان
جامد، كباقي العناوين الأخرى التي أعلن عنها سابقاً، بدءا من العنوان
الكبير أي الاصلاح السياسي، ومروراً بمجلس الشورى والمناطق بإضافة
سلسلة من المجالس المتخصصة والفرعية، التي كانت عناوينها أكبر من
محتوياتها. وبالتالي يصبح المركز مجرد هيكل لا روح فيه، ولا فعل له،
ينتظر قراراً سياسياً أو حدثاً أمنياً ضخماً، أو تطوراً غير محسوب
داخلي أو دولي كيما تبعث الروح فيه.
تنبّه التجارب السابقة الى التداخل الشديد بين الوسائل والغايات،
وللأسف الشديد فإن كثيراً ما تستحوذ الوسيلة على الغاية بحيث تصبح
الوسيلة هدفاً بحد ذاتها، فحينئذ يتحوّل مجرد الإعلان عن المركز
هدفاً نهائياً، بحيث يفقد وعلى نحو سريع مبرره والغاية التي من أجلها
نشأ. فالمطلوب هو منح المركز دوراً جوهرياً في بلورة رؤى وأفكار
إصلاحية عبر حوارات وطنية صريحة وجادة، تؤسس لمناخ سياسي وثقافي جديد
قادر على إستيعاب تطلعات السكان وأفكارهم وهمومهم. إن محاولة عزل
المركز عن محيطه الاجتماعي وتركه يعمل في الخفاء أو بعيداً عن
الأضواء سيحبط أول ما يحبط غاية الحكومة من المركز، فهي تريد منه أن
يساعدها على تسوية مشكلات عويصة، تتعرف من خلال الاعلان عن هذا
المركز بأنها غير قادرة بمفردها على حلها دون الاستعانة بأطراف أخرى
من خارجها، ولكن من داخل هذا الوطن الكبير. وهذه المشكلات تتصل بدرجة
أساسية بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولا يمكن والحال هذه أن يعاد
بناء هذه العلاقة على أسس صحيحة دون أن يملك المركز سلطة وصلاحية
كافية تؤهله لممارسة دور الوسيط الفاعل والناجح بين السلطة والمجتمع.
فمن المفارقات الصادمة والمثيرة للسخرية في آن، أنه في الوقت الذي
يتحدث الجميع عن الحوار وضرورة الحوار والرغبة في فتح قنوات الحوار
بين فئات المجتمع، تشهد بلادنا في تلك الأجواء أسوأ سجل لها في هذا
المجال، فقد كممت الأفواه وصودرت حرية التعبير بقرارات عليا، فتمت
إقالة رئيس تحرير جريدة الوطن السابق جمال خاشقجي بقرار من ولي
العهد، وتم فصل مدير تحرير جريدة عكاظ بقرار من الأمير سلطان، وتم
إيقاف عدد من الصحافيين عن الكتابة لمدد متفاوتة بقرارات من وزير
الداخلية الأمير نايف وأمير الرياض الأمير سلمان..فأين صدقية الحوار
إذن. وإذا كانت الحكومة غير قادرة على تحمّل الرأي الآخر المنشور عبر
الصحافة، فكيف يمكن أن لها أن تحتضن التنوع الفكري والمذهبي، وكيف
يمكن لها أن تؤسس له مركزاً حوارياً. |