مَنْ يُمثّل مَنْ في المملكة المتقاعدة؟
الحجازيون يمثّلون أنفسهم ولم ينيبوا أحداً عنهم!
في المجتمعات المتعددة، لا يمكن لجماعة أوفئة أثنية أن تُمثّل من
خارجها، أو تعبّر جهة نظيرة لها عن مصالحها في الدولة، بغض النظر عن
طبيعة السلطة سواء كانت تسلّطيّة أو ديمقراطية حرّة. فالجماعة التي
تتميّز عن غيرها بالمعتقد أو بالأرض أو باللغة أو بالعرق، وسواء كانت
أكثريّة في الدولة، أم أقليّة، تميل الى الثقة بأبناء جلدتها ومن
يحمل ثقافتها وهويتها ويعرف طموحات أبنائها وتطلّعاتهم. وكلّما كانت
الأزمة الأثنيّة أو الطائفية معقّدة وحادّة كلما ارتفعت السدود
والحدود بينها وبين نظيراتها، وأصبحت الجماعة متميّزة عن غيرها وفق
قاعدة (نحن وهم)، وبالتالي اشتدّت أواصر الرابطة الأثنيّة، الأمر
الذي يزيد من تعقيد تمثيلها من خارج أبنائها الى الحدّ الذي يبدو فيه
الأمر مستحيلاً.
والمملكة ـ التي لم يُعترف بالتعدّد فيها منذ نشأتها الحديثة ـ
كانت تواجه أزمة التمثيل بالتعمية والتغطية على حقائق الأرض، ولكن
المشكلة مازالت قائمة، وهي جوهر السياسة المحلية وتمثل عمق الأزمة
الإجتماعية والسياسية. والمملكة، وبسبب سياسات السلطة وطبيعة نشأة
الدولة السعودية الحديثة، شهدت صراعاً دموياً في جوانب منه، وثقافياً
دينياً حادّاً بين التكتلات التي تشكل سكان الدولة؛ وكان ولاة الأمر!
يعتقدون بأن ذلك الصراع مفيدٌ لهم سواء في احتكار السلطة في يد
العائلة المالكة وحلفائها، وفي إقصاء المخالف المختلف، وفي منع قيام
ثقافة وطنية وروح وطنية يمكن أن تهدد في المستقبل الحكم المحافظ،
وتؤسس لمرحلة جديدة.
لهذا، فإن العلاقة بين التجمعات السكانية في المملكة اتخذت طابع
العداء والحذر والتحاسد والخوف فيما بينها، وهذا ـ وإن خدم السلطات
في المدى المتوسط ـ إلاّ أنه أفضى الى شروخ إجتماعية غير قابلة للجبر
في المدى المنظور، كما أن ذلك أدّى الى تهديد أسس الدولة ووحدتها.
ومن الغريب أن الفئات الإجتماعية المختلفة مناطقياً ومذهبياً في
المملكة لم تلتق ولو لمرّة واحدة على أساس المواطنة، بل أن مؤتمر
الحوار الفكري الذي عقد قبل نحو شهرين يعدّ الأول منذ تأسيس الدولة،
الأمر الذي يعطي صورة عن عمق المأساة، وكيف أن مشروع الدولة كان
قائماً على تفتيت المجتمع من أجل وحدة السلطة.
سلطة العائلة المالكة موحدة اليوم في ظاهرها، والدولة السعودية
الحالية ممزّقة مثلما هو مجتمعها، وإن النفخ في الخلافات الداخلية
الذي كان السياسة المفضلة للعائلة المالكة أوصل الجميع بمن فيهم
العائلة المالكة الى مفترق طرق: إمّا أن تتقسم المملكة، أو تتقسم
السلطة على الفئات الإجتماعية التي تبلورت بفعل التمايزات العميقة
بينها.
ووفق هذا، فإن الشروخات الإجتماعية الحادّة، ارتدّت على الدولة
وعلى العائلة المالكة، وعمّقت معضلة التمثيل السياسي للمجاميع
السكانية، وإن أعاقت مسألة التغيير والإصلاح، ولكن هذه الإعاقة تمثل
خطراً حقيقياً لا منفعة للسلطة نفسها، فهي تفتح الباب أمام إصلاحات
أو مطالب من نوع مختلف: العودة الى حضن الأثنيات وعصر ما قبل قيام
الدولة السعودية، أي بعبارة أصح: حين تنغلق الأبواب أمام الإصلاح
السياسي والتمثيل الحقيقي للمكونات المجتمعية السعودية، تُفتح
الأبواب أمام الخيارات الأخرى.
المهم.. إذا كانت البلاد متعددة في مذاهبها ومناطقها وتاريخها
وأعراقها ومناخها وتراثها، وهو واضحٌ للعيان، فإن أزمة التمثيل تبدأ
بالسياسة، فمن الذي يمثّل البلاد كقيادة؟!
الجواب الإبتدائي: العائلة السعودية المالكة هي الممثل الوحيد
للشعب، بغض النظر عن الطريقة التي وصلت فيها الى الحكم.
بيد أن القضية لا يمكن أن تحسم بهذه السهولة، فالعوائل المالكة ـ
كما يرى إرنست غلنر ـ أقدر على تمثيل المجتمعات المتعددة إذا ما كانت
خارج التأطير الأثني، أي إذا ما جاءت من خارج التنوّع القائم، وفي
بعض الأحيان تكون العوائل المالكة خارجية المنبت والأصل، ومع ذلك
يكون لها قبول داخلي، طالما أن كل جماعة لا تقبل بسيادة الأخرى
عليها؛ وهناك أمثلة عديدة تدعم هذا الرأي، من بينها العائلة الهاشمية
المالكة في العراق بعيد استقلاله، ومحاولات بعض الأطراف السياسية في
العراق اليوم لإعادة الملكية قائمة على هذا المبدأ: إيجاد قيادة
رمزية للشعب من خارج التصنيفات الأثنية والمذهبية. ذات الأمر ينطبق
على العائلة المالكة في الأردن وفي مصر قبل ثورة يوليو 1952 وكذلك
العائلة العلوية المالكة في المغرب، إضافة الى أمثلة أخرى من العالم.
لكن العائلة المالكة السعودية هي جزء من جماعة مذهبية ومناطقية،
وتشاء الأقدار أن هذه الجماعة هي التي غزت واحتلت المناطق الأخرى
وسيطرت على شؤون الدولة كافة، السياسة والدين والإقتصاد والعسكر وغير
ذلك. ومع أن العائلة المالكة حاولت الترفّع عن العوائل الأخرى
والقبائل العديدة التي شاركتها غزواتها ومعاركها، ووضعت حدوداً
للتداخل الإجتماعي (الزواج مثلاً) إلا أنها أبقت على تمثيلها الواضح
لفئة إجتماعية سياسياً ومصلحياً ومذهبياً وقدّمتها على غيرها. ولهذا
لا ينظر كثير من المواطنين الى العائلة المالكة إلا على أساس أنها
تمثّل الفئوية، وتحابيها، وتدعمها، وقد حسمت خياراتها بهذا الشأن حتى
في هذا الظرف العصيب الذي تمرّ به الدولة.
فعلى سبيل المثال، يصرّ الأمير نايف على أن الدولة السعودية
(سلفية) ولم يكتف بالقول إنها إسلامية أو حتى سنيّة المذهب؛ وفعل
الأمير سلطان ذات الأمر في تصريح أخير له، فأكد على ذات المعنى،
ودافع عن مذهب الدولة (السلفيّة) وعن (الوهابية) وعن مؤسسها. وسلطان
نفسه، كما بقية الأمراء السعوديين، يرون أن نجد هي الأساس في الدولة،
بل ليس كلّ نجد وإنما القصيم، حتى أن سلطان صرح قبل بضع سنوات بأن
بلاده تفتخر بأن أكثر مسؤوليها من القصيم!
ومثل هذه الأقوال قد تهضم على مضض، لو أن الدولة فعلاً تمثّلها
أكثرية سكانية ومذهبيّة. ولكن ـ كما هو معروف حتى من الإحصاءات
الحكومية غير الموثوقة ـ فإن نجد (سكاناً ومذهباً) لا تمثل سوى
أقليّة في البلاد، وإن اهتمام العائلة المالكة بتمثيلها وإرضائها على
حساب المجاميع السكانية الأخرى يطرح سؤالاً ملحاً حول مصداقية تمثيل
العائلة المالكة لما يسمّى بالشعب السعودي.
ونحن هنا لا نطرح التمثيل بالمعنى السياسي المتعارف عليه، من حيث
الإختيار والإنتخاب، وإنّما على مستوى أدنى من ذلك: شعوراً وتحقيقاً
لمصالح متوازنة لمن يُزعم أن العائلة المالكة تمثّلهم.
وعلى صعيد الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، فإن التعددية التي لم يعترف
بها في المملكة لم تنعكس شراكة في التأسيس ولا في الإدارة ولا في غير
ذلك. فلا البلاد تدار بمنطق الكفاءة، ولا بمنطق التعدد الذي يفرض
الشراكة بين الجماعات المختلفة حتى مع وجود نظام تسلّطي. لكن
التسلّطية اجتمعت مع الفئوية لتخرج علينا دولة مسخاً تتحكّم فيها
الأقليّة في كل شؤونها.. فئوية لا تؤمن بالتعدد ولا بالحوار ولا
بالشراكة في الحكم ولا تقبل بغير امتلاك الحقيقة وامتلاك السلطة
كاملة غير مجزئة.
حين لا يكون هناك مجال حتى لمجرد الإعتراف بالأمر الواقع من جهة
التعدد المناطقي والمذهبي، تأتي الأقليّة المتسلّطة فتبرّر لك لماذا
معظم أجهزة الدولة ووزاراتها بيد فئة ومنطقة، ولماذا معظم مقاعد مجلس
الشورى محتكرة إليها؟ يقولون: كلّنا أبناء وطن واحد، وخادم الحرمين
الشريفين! لم ينظر سوى الى الكفاءة، فكل عضو يمثل كل أبناء الوطن،
وكل وزارة تمثل مصالح العموم!
فهل هذا هو الواقع فعلاً؟!
وحتى المتطرفين الوهابيين، الذين كفّروا كل أبناء الوطن، يصبحون
ممثلين للشعب بمجمله، رغم أنهم لا يعترفون بإسلام الآخرين، ولا
يؤمنون أو يقبلون بمواطنة يتشارك فيها الجميع وتضعهم على حدّ سواء مع
الآخر المواطن (الكافر) بنظرهم!
ومع هذا، يأتي هؤلاء ليمثلوا وجه البلاد سياسياً في الخارج، وكذلك
وجهها الديني. وحين يتحدثون عن المملكة وشعبها فهم قسمان من وجهة
نظرهم: أهل السنّة والجماعة، والروافض الكفار. وهم بالطبع من يمثّل
أهل السنّة والجماعة! أما أهل الحجاز فكفار هراطقة صوفية! إنهم
يعتبرون أنفسهم ممثلين لكل السنّة بمن فيهم أهل الحجاز حينما يريدون
مواجهة الشيعة. والسؤال كيف تمثّل إناساً من الناحية الدينية أنتَ لا
تعترف أصلاً بإسلامهم، ولا بعلمائهم، بل تكفر علماء الحجاز، وتطعن في
ديانتهم وتقواهم، وتؤلف الكتب ضدّهم، ولا تردّ حتى السلام عليهم؟!
بعد هذا يأتيك طواغيت السياسة الصغار، المحتكرون لقراراتها،
والمسيطرون عليها! فإذا تحدثوا لنخبة الحجاز، أثاروا النعرة
الطائفية، وأزالوا الحواجز نظرياً ليشكلوا جبهة مقابل الشيعة، وحين
يذهبون الى الشيعة يقولون لهم نحن وإياكم أقرب عرقاً وأصلاً ومصالح
وتاريخ من الحجازيين، فدعوهم وتعالوا معنا نصطف لحماية الوطن! ومصالح
الوطن!
ومثل هذه الألاعيب رغم تهافتها وانكشافها، جاءت للتغطية على سيطرة
الفئوية على الحكم ومقدراته، وتستهدف الإستمرار في ذات المنهج
الإستبدادي والتسلطي. إطمئنوا! لن يمثّل الحجاز دينياً أو سياسياً
إلاّ أهله، وهذه الدولة القائمة لن تبقَ إلاّ إذا أُعيد الإعتبار
لواقع التعدد وقامت مؤسسات الدولة على الإعتراف بالآخر وشراكته
وتمثيل لذاته بصدق.
وبكل الصدق نقول، إن المذهب الرسمي (الوهابي) لا يمثلنا دينياً،
وآل سعود لا يمثلوننا سياسياً.. ونظنّ أن المناطق والجماعات الأخرى
تشاركنا الرأي هذا.
نحن أبناء منطقة متميزة، بل أبناء منطقة كانت دولة، لم تعدم
الرجال ولا الفكر، ومن الحيف أن يفرض علينا التمثيل الفئوي بالقوة،
ومن الظلم كل الظلم أن تُرهن البلاد بيد أقليّة.. وحكم الأقليات لا
يستمر إلاّ بالعنف والتضليل، وحين تزول العصا، أو يصعب استخدامها لن
يجد الحاكمون منّا ولاءً إلاّ إذا كنّا أكفّاء، أما والحال هذه، فإن
الحكم شأن نجدي وهابي لا يمكن لحرّ أن يقبل به.
هذه هي الحقيقة، مهما حاول المتسلطون إخفائها والتعمية عليها. |