طارق الحبيب:
أزمة الهويّة.. أزمة مقاربة!
هيثم الخياط
موضوع الهوية في السعودية بالغ الحساسية، فالدخول فيه
مغامرة والخروج منه خطيئة وهزيمة.. لا يريد أحد الحديث
عن الهوية، رغم أن الإحساس بأزمتها يبدو عاماً بل عارماً،
ولكن هناك من لا يريد تناوله من قريب أو بعيد، لأنه يرتبط
بتكوين الدولة السعودية، وبالأحرى بفشلها في تحويل الكيان
الجيوسياسي القائم على الإلحاق والقهر للمناطق الى دولة
وطن وأمة.
هذا من حيث المبدأ، وقبل الدخول في تفاصيل الموضوع
والنزوعات الإيديولوجية لدى من يقاربه، أو الزاوية التي
ينظر منها الى أزمة الهوية. بعد أن استقر مشهد الاستقطابات
الفكرية والايديولوجية يمكن، سلفاً، فهم خارطة طريق أي
باحث بحسب إنتمائه الإيديولوجي. فالقومي يقارب الهوية
الوطنية من منظور جيوسياسي فوق قطري، ويرى بأن الهوية
الوطنية تعبير عن امتداد لهوية قومية عليا، والأممي يراها
أكبر من ذلك وتتجاوز الأقوام داخل حدود جغرافية محدّدة،
ويراها بالسعة التي تستوعب كل أفراد الديانة الواحدة كالإسلام،
أو الأيديولوجية الكبرى كالشيوعية..وبين هذين الكيانين
تشتق وتتفاعل هويات فرعية وكلية بأحكام مختلفة وسط جماعات
ودول مثل الهوية الطائفية أو الدول القطرية التي لا تزال
عاجزة عن إنتاج هوية وطنية جامعة.
في ضوء المقدّمة المقتضبة، يمكن الدخول الى التصريحات
المثيرة للجدل التي أطلقها الإخصائي النفسي الدكتور طارق
الحبيب حول إنتماء مكوّنات سكانية في المملكة. قبل الدخول
في تفاصيل التصريحات ودلالاتها، لابد من الوقوف عند شخصية
الحبيب نفسه، الذي اعتاد على تقديم وصفات نفسية لأمراض
الأفراد والمجتمعات. برز الحبيب كشخصية عابرة لتخصصها
في مجال الطب النفسي، وتحويل علم النفس الى مادة ثقافية
يمكن توظيفها في وسائل الإتصال الجماهيري وكذلك الإعلام
الإجتماعي. لقد نجح الدكتور الحبيب والى حد كبير في جذب
جمهور لبرنامجه (لمسات نفسية) على قناة دبي الفضائية،
والذي كان يقدّم خلال شهر رمضان المبارك من كل عام. أسلوبه
الهادىء والإنسيابي منحه خاصية الجذب الجماهيري، خصوصاً
بالنسبة لشخصية تنتمي لتيار نادراً ما كان يستطيع إحداث
إختراق ثقافي أو إعلامي خارج نطاق المجتمع الديني..
كان يمكن للحبيب الإحتفاظ بنجاحه وتميّزه من خلال التمسّك
بما يتقنه من فنون العلاج النفسي، أو حتى في مجال علم
النفس الإجتماعي والسلوكي، وفي ذلك مساحة واسعة لإخراج
كل ما يحمله من إبداعات علاجية. ولكنه بدا في السنوات
الأخيرة وكأنه يميل الى الخروج من نطاق تخصصه لجهة الدخول
في المجال العام الذي يزدحم فيه الناس جميعاً، ثم ما يلبث
أن يخوض في الموضوعات ذات الحساسية العالية.
البعض يرى بأن الدكتور الحبيب أظهر ما أضمر طيلة سنوات،
حين كان في مرحلة بناء القاعدة الجماهيرية، فما قاله في
الإنتماء على قناة (الرسالة) ذات التوجّه الديني السلفي
المحض ليس فلتة ولا زلّة لسان، بقدر ما هي استبطانات عقدية
برزت في لحظة تاريخية مناسبة. هذا ما عبّر عنه ناشطون
سعوديون على شبكات التواصل الإجتماعي الذين شنّوا هجوماً
عنيفاً على ما وصفوه (الواعظ الدكتور) في إشارة واضحة
إلى انتمائه للتيار السلفي. بل طالب عدد كبير منهم عبر
تويتر وفيسبوك ومنتديات حوارية أخرى بمحاكمة الدكتور الحبيب،
وطالبوا بعدم ظهوره على الإعلام ومعاقبته على أقوله العنصرية.
|
د. طارق الحبيب في برنامج
تلفزيوني |
لدى الدكتور الحبيب فكرة مقتضبة عن الهوية والإنتماء،
قد تكون مستعارة من الكتب الكلاسيكية التي تناولت العلاقة
بين الهوية والجغرافية، وحيث الرابطة بين الإنسان والطبيعة
كمكوّن رئيسي ومصهر للهوية، وكان يرى بأن البلاد التي
تقع على البحر أو التي تمرّ بها أنهار يكون فيها الولاء
للوطن واضحاً وقوياً كما في مصر، بينما الطبيعة الصحراوية
للأرض تجعل الولاء، في البداية للقبيلة، ومن ثم للمدينة/
القرية/ المنطقة، وأن البعد الديني الذي سيطر التيار الديني
في المملكة جعل الولاء يقفز من القرية/ القبيلة في قفزة
مجهولة، إلى الولاء أو الإنتماء للأمة الاسلامية..
بطبيعة الحال، وكما يبدو، فإن الدكتور الحبيب أغفل
بقصد أو خلافه فشل دور الدولة في تنشئة ثقافة وطنية، دون
أن يشير الى ضرورة وجود برنامج إدماج وطني فاعل لجهة تخليق
هوية وطنية عليا وجامعة، من خلال تحقيق تمثيل سياسي متكافىء
لكل المكوّنات السكانية والإنتقال بالكيان الجيوسياسي
من مجرد سلطة داخل دولة إلى دولة وطنية حقيقية، يتعزز
فيها الشعور الجمعي من خلال تمثيل متكافىء وفاعل.
أشار الدكتور الحبيب إلى مادة (التربية الوطنية) من
زاوية ثقافة الهوية، وقال عنها بأنها لا تسمن ولا تغني
من جوع، كما تناول دور خطباء الجمعة وضرورة تأهيلهم كيما
يضطلعون بدور تعميم الحس الوطني، وهو ما لم يحصل ببساطة
لأن فاقد الشيء لا يعطيه، لأن خطباء الجمعة نشأوا على
اعتبار الوطن (وثناً) يعبد من دون الله، وأن ما يجب الدعوة
إليه هو كيان أمة يديرها أتباع السلف الصالح، وأن من لا
يسير على هديهم لا مكان له فيه، لأنه شاذ ومن شذّ شذّ
قي النار.
الآراء التي قدّمها الطبيب الداعية قد تكون صحيحة فيما
لو وضعت في سياق مقاربة أشمل لأزمة الهوية في المملكة،
وبالتالي وضع المشكلة في إطارها الوطني العام، والنأي
عن لغة التخوين والإتّهام، لأن ما فهمه كثيرون من آرائه
هو تشكيك في ولاء أهالي الشمال والجنوب، بما يلامس حدود
الكرامة الوطنية للسكّان، فيما كان السبيل الأسلم هو الدخول
الى أزمة الهوية من بوابة أخرى، أي من خلال تكوين الأمم
والدول الوطنية، وماهو دور النظام السياسي في بناء الهوية
الوطنية.
رؤية الحبيب جاءت بطريقة اختزالية وإلى حد كبير تخوينية،
ما فجّر أزمة وأعاد تحضيرالمكوّنات الأيديولوجية المتشدّدة
لدى الحبيب، حيث أعيد إلى مرجعيته السلفية كمحرّك وملهم
لمثل تلك الأفكار. وقد يكون ذلك صحيحاً جزئياً على الأقل،
وإن كان الحبيب بدا كما لو أنه يغادر حقل تخصصه والانغماس
في شأن ثقافي ينطوي هو الآخر على بعد تخصصي غير قليل.
ولأن علوم السياسة والاجتماع السياسي والاثنولوجيا سبقت
بقية العلوم في أن تتحوّل الى مادة جدل ثقافي عام، فقد
اعتقد كثيرون، وقد يكون الطبيب النفسي طارق الحبيب من
بينهم، أن استعمال لغة هذه العلوم ربما يكون متاحاً وسهلاً،
وطالما أنه مجال مفتوح لكل الناس، فلماذا لا يكون مثل
الحبيب أحد هؤلاء الأفراد القادرين على التلبّس بعلوم
السياسة وعلم الإجتماع السياسي والإثنولوجيا وغيرها وتحويلها
إلى موضوع تجاذب ثقافي وإيديولوجي، تماماً كما نجح هو
نسبياً في تحويل الطب النفسي الى مادة ثقافية جدلية.
لا يعني ذلك مطلقاً وضع كل ما قاله الطبيب طارق في
خانة المهمل واللامعقول، فقوله، على سبيل المثال، بأن
الاعلام السعودي يلتقط هويته من الفضائيات العربية كونه
بلا هوية خاصة، هو صحيح مئة بالمئة لأن الإعلام السعودي،
وخصوصاً الفضائي منه بدرجة أساسية لا يعكس ثقافة وقيم
وعادات المكوّنات الإجتماعية بكل أطيافها في الجزيرة العربية،
ولكنه، وربما هذا ما يجعل عمله من الخارج، يمثّل هوية
هجينة تجمع بداخلها ثقافات المجتمعات العربية التي تسيطر
على الإعلام الفضائي العربي، وأهمها (لبنان، ومصر، وسورية..).
وفي تطبيق ذلك على الهوية، أن الجدل المتصاعد في قضايا
تمس الرأي العام وغياب الجو الحضاري في النقاش والتحليل
إعلامياً عائد من وجهة نظره إلى غياب (هوية محدّدة)، وأن
الاعلام السعودي ماهو إلا لاقط صفات الهوية من الفضائيات
العربية عن طريق المحاكاة والتقليد.
لأهل الجنوب والشمال الحق أن يغضبوا من تصريحات الدكتور
الحبيب، ولكن ليس على خلفية التشكيك في إنتمائهم لأرضهم
وجذورهم الإجتماعية والتاريخية والثقافية المرتبطة بالمكان
الذي ولدوا فيها وترعرعوا، فهذا أمر لا يصح لأحد مهما
علا أن يثيره، لأن ذلك مندغم في الكرامة، ولكن لابد من
وقفة أمام مشاعر الغضب للقول: ماذا نعني بالإنتماء؟ وهل
الإنتماء هو الولاء أم هو تظهير له في لحظة حاسمة؟.
من الأخطاء الشائعة في مقاربات الهوية، أن إنتماء الأفراد
والجماعات لا يوضع في سياق هوية وإنما في سياق آخر يرتبط
بولاء هؤلاء الى كيان ما، وليكن الدولة. الذين غضبوا من
تصريح الحبيب حين قال (حينما يأتي إنسان الوسطى ويذهب
للجنوب يجد إنسان الجنوب انتماؤه لدول مجاورة أكثر من
انتمائه للوسطى أو الشمالية)، فهموا من ذلك (التشكيك في
وطنية أهالي الشمال والجنوب)، واستطراداً أو بصورة أكثر
تحديداً (التشكيك في ولاء أهالي الشمال والجنوب للدولة
ـ أي لآل سعود). أليس هذا ما يفضي إليه التسلسل الجدلي؟.
بل هذا ما ذكر بالدقة في قراءة بعض من تابعوا ردود الفعل
على تصريحات الحبيب، حيث التقطوا ما اعتبرواه تشكيكاً
في وطنية (أبناء السعودية) ورصدت مقالات لكتّاب ومدوّنين
سعوديين تنتقد أسلوب الحبيب (في تصنيفه للإنتماء الوطني).
هذا الاستنتاج قارٌ في اللاوعي لدى من يقارب موضوعة الهوية،
بما يستبطن هروباً عفوياً من أزمة كبرى ترتبط بكيانية
الدولة السعودية، التي تفتقر إلى مقوّمات بناء الدولة
الوطنية، بما تستتبعه من إمتثالات: ولاء وطاعة ومحبة.
|
القرني انتقد الحبيب بجهالة!
|
ولإنصاف الرجل، يؤسس الحبيب لرؤية في الهوية تقوم على
اعتبار أن (طبقات المجتمع السعودي التي كان يقصدها.. أطيافاً
مختلفة كونه مجتمعا قاريّاً ذا بنية نفسية متعددة، فالشرق
يختلف عن الغرب من حدودها كما الجنوب عن شمالها)، وأشار
إلى ملاحظة ينطلق منها في رؤيته في الهوية وهي أن السعودية
(تختلف بطبائع وطريقة العيش في حدودها)، واعتبر بأن هناك
أربع دول في (مملكة) لا تتشابه مع الدول الأخرى.
لم يشعر الحبيب بالخطأ في ما قاله، وهذا شأنه وله الحق
في التمسّك بما يراه صحيحاً، وللمخالفين الحق في الرد
عليه ونفي كل ما بنى عليه احتجاجه ورؤيته في الهوية. ولكن
ما تنبّه له الحبيب هو بلغة سمير أمين نزعة (التمركّز
النجدي)، وهنا لا يدور الحديث حول علاقة بين مركز وطرف/
أطراف، ولكن عن علاقة تفوّق، وتبعيّة، ووصاية، وإلحاق،
وهي نفس مكوّنات العقلية السائدة في مركز السلطة، أي لغة
أهل الحكم في شكل آخر، وهنا يكمن سر غضب أهل الشمال والجنوب
بل وكل المناطق المكوّنة للمملكة.
نقرأ في اعتذار الحبيب عن تصريحاته لقناة (الرسالة)
شفافية مشوّهة لجهة الإلتفاف على الأسباب الحقيقية للغضب.
يحدد الحبيب أربعة أسباب لوقوعه في الخطأ: أنه اعتمد في
الوسطى، كأساس المثال، وقال (لأني قلت في بقية العبارة
عن انسان الجنوب إن انتماءه لدول مجاورة أكثر من الوسطى
(وأضفت الشمالية)، وهذا يدل أني كنت أتكلم عن منظومة وطن
كما قلت سابقا لا مدحا في المنطقة الوسطى إنما كان البدء
بالمثال فيها فاستدعت بقية العبارة أن تكون كذلك). حين
نتوقّف عند هذه الفقرة، نجدها تختزل كل أزمة هذا البلد.
فالحبيب في لحظة لاوعي أخرج ما يختمر في ذاكرة وثقافة
النجدي، الذي يضع ولاء أهالي المناطق الأخرى ليس لدولة
وطنية جامعة تكفل حقوقاً متساوية ومتكافئة للجميع، ولا
يشعر فيه مكوّن بأن لها امتيازات خاصة تختلف عن بقيّة
المكوّنات، بل اعتبر مركز السلطة، أي نجد، أو الوسطى هي
مركز الولاء والبوصلة التي يجب أن تشير إليها في كل القضايا
ذات الصلة بالولاء والإنتماء، فسكّان الدول الأربع بحسب
رأيه يجب أن يقدّموا الولاء والطاعة لنجد، أو المنطقة
الوسطى، لا لشيء سوى أنها مركز السلطة، وصاحبة الإمتيازات
والإثرة في كل شيء: الثروة والسلطة والثقافة والإعلام
والتجارة، والعادات، والفولكلور، والتاريخ المستحدث، والهوية
الغالبة. هو لم يعتذر عن خطأ شنيع، إلا ليقترف خطيئة أفدح،
حين حام حول حمى جذر الأزمة، وما لبث أن عاد ليجعلها قضية
ثقافية عادية. هو لم يبدأ بتشريح الأزمة ومن أين بدأت،
بل كما هي عادة النجدي يعتبر ولاء أهالي المناطق/ الأطراف
تحصيل حاصل، ولابد أن يكون حاضراً على الدوام، سواء كانت
نجد تحتكر 87 بالمئة من السلطة أم لا، فالمطلوب من السكّان
السمع والطاعة والإنتماء لدولة وإن كانت شمولية إستئصالية.
في اعتذار الحبيب كما جاء في صفحته على موقع التواصل
الاجتماعي (facebook) متمسّكاً (بـ) ومشدّداً (على) أن
حديثه قد يكون فُهم بشكل غير صحيح، وأوضح: (تريدون مني
اعتذارا.. لكم مني ألف اعتذار يا أهل الشمال والجنوب..
سمعت كلامي مرات عديدة.. فوجدت أنه ربما يخطئ في فهمه
بعض الناس فأعتذر لمن فهم مرادي على غير قصدي).
وما يلفت في اعتذار الحبيب، أنه لم يشتمل على اعتراف
بالخطأ إطلاقاً، وإنما هو حسب قوله إحترام للرأي الآخر،
وأن مشكلة الآخر هو في الفهم، ولأولئك هو يعتذر لأن كلامه
الذي أسيء فهمه جرح مشاعرهم (فلنحدد الإعتذار أولاً هل
نعني بالإعتذار أنني كنت قاصدا الإساءة إلى الناس فاعتذر
عن ذلك؟. وأما الإعتذار لأي شيء خارج عن هذا، أني جرحت
أحدا دون أن اقصد أو أسأت في اختيار عبارة أو لم يكن المثال
مناسباً أو أي فهم طرأ بسبب عبارتي ضاق منه احد فأقدم
له أصدق كلمات الاعتذار). وكما يبدو، فإن الحبيب لم يشعر
بخطأ ليس في فهم الآخر، بل في الطريقة التي قارب بها موضوعة
ولاء أهل الشمال والجنوب، رغم أن ما قاله يعتبر كارثياً
حين يوضع في سياق الجدل حول الهوية، فهو يؤكّد ما كان
يخشى منه كثيرون من التمحوّر النجدي على الدولة، أو تنجيد
الدولة، وهو ماقاله الحبيب بطريقة صادمة، حين وضع ولاء
أهل الشمال والجنوب في سياق تجاذب بين دول مجاورة أو المنطقة
الوسطى، أي نجد، ما يعني أننا أمام أزمة كيانية في هذا
البلد، بحيث لا يعود فيها الحبيب يشعر بوجود كيان دولة
ووطن إلا ما اعتاد رؤيته والتعايش معه.
في رد فعل على آراء الحبيب، هاجم الشيخ عائض القرني
في مقابلة مع صحيفة (عكاظ) في 21 يونيو الماضي، وقال عنه
(إن لوثة عقلية أصابته ولعلها عدوى من بعض المرضى، مقترحا
أن يبرك الشيخ عادل الكلباني على صدر الحبيب ويرقيه بآيات
قرآنية عل الله أن يشافيه مما أصابه، فإن لم تنجح الرقيه
فبشيء من الكي مستشهدا بالحديث (آخر العلاج الكي).
ما أساء القرني لا صلة له بالهوية والإنتماء، بل اعتبر
آراء الحبيب تشكيكاً في ولاء أهل الجنوب والشمال للوطن.
ولذلك طالب القرني من الحبييب الإعتذار للملك والشعب السعودي
والوطن (وجميعها خاضع للجدل)، والسبب حسب قوله (لأنه جرح
مشاعر كل سعودي حريص على التوحيد والوحدة وبناء وطن قوي
صامد في وجه الأعداء). واعتبر القرني ما قاله الحبيب (ضد
المنطق والعقل والشرع والواقع والوحدة واللحمة الوطنية
التي جمع عليها الملك عبدالعزيز أفراد الشعب الكريم، إذ
لم يجتمع المواطنون على تصنيفات وأولويات لمناطق على مناطق
كما صنف هتلر العالم بعد الجنس الألماني الآري بل اجتمعوا
على أنهم إخوة في الدين والوطن والمغنم والمغرم لا فضل
لأحد على أحد إلا بالتقوى والصدق والإخلاص والعمل والإنجاز).
لا يخفي القرني جرعة الدعاية وتقديم أوراق الاعتماد
في مثل هذا التصريح الذي لا يزوّد القارىء بأي معلومة
جديدة فضلاً عن رؤية، وإنما هو يندرج في سياق آخر دعائي
وبخفّة واضحة، ولذلك لم يجد الحبيب ما يتفق فيه مع القرني
بقوله (أؤكد أنني لا اتفق مع خطاب أخي عائض القرني لا
من حيث المضمون ولا الأسلوب ولا أقول إلا كما قلت في صفحتي
على فايسبوك، (غفر الله لشيخي).
الأحكام الإجمالية التي وضعها القرني في حديثه لا تشكّل
أساساً لأي نوع مع التوافق معه، إلا أن تكون جزءاً من
ثقافة التزّلف التي تروج وسط بعض رجال الصحوة بعد ان تنكّبوا
عن ماضيهم الإعتراضي.
كان يمكن أن يكسب الحبيب الجولة في حلبة الجدل حول
الهوية والإنتماء لو أنه اختار إطاراً عاماً لمقاربة المشكلة،
ولم ينطلق من نزوعات فئوية ومناطقية، ما أفقده القدرة
على المناورة، ودفع كثيراً من الكتّاب والمفكّرين والنااشطين
الى نقده بشدّه والمطالبة بإخضاعه للمحاكمة وومنعه من
الظهور في وسائل الإعلام. مجموعة من الصحافيين المحليين
أصدروا بياناً اعتبروا فيه حديث الحبيب بأنه (ملغم بفكرة
الفتنة الطائفية والمناطقية..).
حين اضطر الحبيب إلى التفصيل، الذي كان بحاجة إليه
منذ البداية وليس بعد موجة ردود الأفعال الواسعة، خرجت
آراؤه أكثر دقة وصحّة. مع أنه حين قارب أزمة الوطن لم
يخطىء في ذلك، وإن كانت أمثلته أجهضت الفكرة الجوهرية
الصحيحة. فحين يتأوّه من غياب الوطنية، فهذا مدخل صحيح
لمناقشة أزمة الهوية الوطنية، ولكن حين يطبّق الأزمة على
منطقة دون سواها نصبح أمام مشكلة من نوع آخر، لا علاقة
لها بالوطنية، بل ندخل في متاهات الانتماءات الفرعية والفئوية.
تصحيح الحبيب كان مطلوباً وإن كان متأخراً كقوله بأن (كل
مناطق المملكة لا ينتمون للوطن بقدر انتماءاتهم الأخرى
بما في ذلك نجد والحجاز)، وهذا صحيح، بشرط ألا يقارب موضوع
الإنتماء بطريقة إنتقائية. فاتجاهات الهوية متعددة في
حياة كل إنسان، فهو إبن عائلة، وإبن مدينة، وإبن بلد،
وإبن ديانة، وإبن أمة وهذا لا يشكّل أزمة هوية، ولكن حين
يجري الحديث عن سكّان منطقة محددة بأن إنتماءهم لغير الوطن
نصبح أمام أزمة من نوع آخر..وهو ما نحن بحاجة إلى فهمه
قبل الدخول في جدل الهوية.
|