شخصنة الدولة في ظل التحديات الراهنة
من أجل معرفة كيف يمكن تقديم تقييم صحيح لأداء الدولة لابد حينئذ
أن نعرف ماهي الآليات التي تملكها في تسيير سياساتها، كما أن فهم
مصادر قوة الدولة يعني معرفة كيف يمكن لها إدارة التحديات التي
تواجهها. أهمية هذا التقييم تكمن في الكشف عن طريقة تعاطي الدولة مع
الشأن العام، وفي الحلول التي يمكن لها أن ترسم من قبل الطبقة
الحاكمة.
في الدول المتقدمة المحكومة بسلطة القانون، هناك آليات واضحة
ومنظّمة لتسيير السياسات العامة للدولة ولصناعة القرار، ومن خلال تلك
الآليات التنظيمية يتم تنفيذ القانون، وتحقيق الأهداف المرسومة من
سياسات الدولة، كما يتم أيضاً رفد الدولة بما يعترض تنفيذ القانون من
عقبات اجتماعية وقانونية لم تستدرك لدى المشرّعين القانونيين. وبخاصة
حين يتعلق الأمر بالحقوق العامة مالية كانت أو إجتماعية، إذ يتطلب
إقرارالقوانين والعمل بها إخضاعها لمداولات مستفيضة بين المجتمع عبر
ممثليه والحكومة، قبل أن يتم التوصل الى إتفاق بشأنها ومن ثم
إقرارها.
من جهة أخرى، إن إمتلاك الدولة لسلطة تطبيق القانون يعني أنها
متوافرة على منظومة آليات ممتدة قادرة على وضع هذا القانون حيز
التنفيذ. فمن علامات ضعف الدولة وانحسار ظلها أن القانون يفقد قيمته
وقوته ولا يعد هناك من ينظر اليه كجزء من إلتزام متبادل بين الناس
والحكومة. فالالتزام بالقوانين هو تعبير عن قوامية الدولة على
الرعية.
في بلادنا، وبفعل المركزية الشديدة أصبحت الآليات التي تسيّر شؤون
الدولة مشخصنة إذ لم يعد هناك دور فاعل للمؤسسات والأجهزة الحكومية،
فهي مرتبطة بدرجة أساسية بأشخاص هم كبار الأمراء النافذين، الذي
يمارسون أدواراً متعددة، فهم يرسمون سياسات الدولة الخارجية
والداخلية والمالية والدفاعية والاعلامية، فالوزارات المختصة بهذه
السياسات تخضع الى أشخاص من خارجها في أحيان كثيرة، فوزير الداخلية
قد يمارس دور وزير الاعلام ولا يملك الأخير سوى التسليم والقبول رغم
أن كليهما حائزان على مرتبة متساوية من حيث كونهما وزراء، وعضوين في
مجلس الوزراء، ولكن في حقيقة الأمر أن وزير الداخلية يتمتع بسلطة
وصلاحيات تمتد الى وزارات عديدة، الاعلام والحج والأوقاف والعمل
والتعليم وغيرها، وهكذا الحال بالنسبة لأمراء كبار آخرين مثل سلطان
وسلمان.. فالدولة في هذه الحالة لا تخضع تحت سلطة القانون ولا تسيّر
سياساتها وفق آليات واضحة ومحددة، فهذه الآليات تظل غير فاعلة بسبب
الشخصنة الطاغية.
من جهة ثانية، إن افتقار الدولة الى مصادر قوة حقيقية أو تحلل هذه
المصادر في ادارة التحديات الراهنة والمستقبلية يفتح الطريق أمام
مصادر قوة أخرى من خارج الدولة للانتعاش. فالدولة كانت تملك قبل
عقدين إقتصاداً متيناً، وقوات أمن رادعة، وبرامج تنموية نشطة،
وعلاقات استراتيجية على المستوى الدولي، ولديها المكانة المتميزة في
العالم الاسلامي، ولكن هذه المصادر تآكلت على مدى العقدين الماضيين،
فلا هي قادرة على معالجة الدين الداخلي المتراكم والذي يصل الآن الى
نحو 200 مليار دولار، ولا هي قادرة على معالجة مشكلة البطالة التي
تجاوزت معدلات مخيفة، وقد قدّر بعضهم نسبة البطالة بنحو 37 بالمئة،
ولا هي تملك الآن قدرة على ضبط الأمن والاستقرار في الداخل، فمعدلات
الجريمة بأشكالها المختلفة تزداد بوتائر متسارعة، ودخل عنصر العنف
المنظَّم ليهدد الدولة والمجتمع بحرب أهلية دامية، فيما توقفت برامج
التنمية بصورة شبه كاملة، وانهارت شبكة التحالفات الاستراتيجية مع
الخارج، وفقدت الدولة السعودية تلك المكانة التي كانت تتمتع بها في
السابق بين الدول، فالنظرة اليها الآن بوصفها بؤرة إرهابية.
فمصادر القوة تلك أصبحت غير متوفرة الآن، وهذا مؤشر خطير على أن
الدولة تواجه تحديات جدّية في الداخل والخارج، إذ ليس بالإمكان
الاحتفاظ بوضع لم تعد الدولة تملك شروط البقاء فيه. ولهذا السبب
تواجه الدولة أزمة أخرى تكمن في آليات الحل، فالشخصنة التي حكمت
سياسة الدولة طيلة العقود السابقة أفضت الى إضعاف دور مؤسسات وأجهزة
الدولة، بما في ذلك المؤسسات الناشئة حديثاً كمجلسي الشورى والمناطق،
بحيث لم تعد هذه المؤسسات مؤهلة للعب دور فاعل وحقيقي في مجابهة
التحديات، فكثير من هذه المؤسسات تضم نخبة ممتازة من الكفاءات
العلمية وربما المتخصصة ولكنها مسلوبة الفعل والارادة.
الاسترسال في شخصنة الدولة سيؤدي بطبيعة الحال الى اضمحلال دور
المؤسسات، وسيفقد الطبقة الحاكمة الغلاف الحامي، إذ أن من شأن تلك
التحديات تدمير كل السواتر التي تحيط بمركز السلطة، وحينئذ سينسحب من
هم داخل الدولة الى خارجها إبراءً لذممهم أمام الرعية، ففي الهزيمة
يكثر المتنصلون من المسؤولية، ويتركون من تسببوا في وقوعها بمفردهم.
البلد الآن على شفا مرحلة خطيرة للغاية، ولا نقول ذلك تشفياً ولا
تقوّلاً، وكل يوم يمرّ على البلد يأكل من رصيد المستقبل، ويهدد فرص
الحل المتاحة، فالحال لم يعد خافياً على الناس والسلطة معاً،
فتجسيدات الأزمة الشاملة باتت شديدة الوضوح، صوتاً وصورة، وأن طريق
الحل بات هو الآخر واضحاً بنفس القدر، فإنتظار اللحظة المناسبة التي
لن تأتي يعني انتظار المستحيل.
ما لم يتم الفصل بين الدولة والشخصنة المفروضة عليها، وتنشيط
الآليات القائمة من وزارات ومؤسسات حكومية وغير حكومية ومراكز أبحاث
ومجالس بلدية وغرف تجارية وغيرها للاضطلاع بدورها التام في التعامل
مع المشكلات الراهنة بحسب تخصصاتها، فإن النتيجة النهائية ستكون
انفصال الطبقة الحاكمة عن السلطة. فتآكل الثقة في الدولة من قبل
الناس، بما في ذلك القريبين منها يشير الى تلك النتيجة، فتلك القرابة
القريبة كانت قائمة على تبادل مصالح وهذه لم تعد قائمة، فالجشع الذي
تولّده شحة المصادر المالية قد انتقل الى الدائرة الضيقة، أي الى
داخل العائلة المالكة التي يتنافس أفرادها الآن على الجزء المتبقي من
ثروة البلاد. |