في ذكرى أحداث الحادي عشر من سبتمبر
الحداثة المتفجِّرة
الاختلال الخطير بين داخل يجري تشويه تحوّله التحديثي إعداداً
للانقضاض عليه وحداثة ذات نزعة إمبريالية ولّد ظواهر شديد التفجرّ
والتناقض. فالتكنولوجيا المتقدمة صاحبتها ظواهر أصولية متطرفة وأصبح
العنف وسيلة مجابهة مع تلك التكنولوجيات المنبعثة من دوائر إمبريالية
تستحوذ عليها رغبة تحويل العالم الى سوق ضخم لتصريف منتجاتها، وتقسيم
العالم الى مجتمع منتج وآخر مستهلك، كتمظهر آخر لثنائية المستعمِر
والمستعمَر.
التحديث غير المتوازن في بلادنا قبالة حداثة معولمة وبصورة أدق
امبريالية في الخارج فجّرت وتفجّر على الدوام تلك الظواهر
الراديكالية التي أخذت هي الأخرى شكلاً آخر من أشكال العولمة ليس كرد
فعل على أوضاع محلية اقتصادية واجتماعية وسياسية مختّلة فحسب، بل
وعلى أوضاع دولية لا تقل إختلالاً.
توجيه النقد الى الخطاب الديني الاصولي، ومناهج التعليم الرسمي،
وفساد النظام السياسي والطبقة الحاكمة، والاوضاع الاقتصادية
المتردّية والتخلف الثقافي والعلمي، وهي علل قاصمة، قد يتطلب ـ
أحياناً ـ إدراجه في مدار تحوّل كوني أضفى صبغته الخاصة على هذه
الاختلالات. فالخطاب الديني المتخالف عولمياً نجم عن إنهيار الحدود
بين الخاص والعام، أي بين رسالة إصلاح الدار ورسالة اصلاح الكون،
فهذا العنف العابر للقارات يواجه كل ضغائن الحداثة تجاه الآخر، حتى
أصبحت قيم التحضر منبوذة نبذاً دينياً، لأنها تحولت الى قيم المجتمع
الغالب والحضارة الغالبة وفي النهاية الاستعمار.
إنه عالم إختطاف المبادرات من الشعوب من قبل فئة قليلة في هذا
العالم ثم تواصلت عملية الاختطاف لتطال الدول، وأن جماعات العنف
العابرة للقارات تعزز وجودها في المناطق التي تتم فيها صناعة مستقبل
تفقد فيها الشعوب والحكومات القدرة على المبادرة.
الانتقال المباغت في أوضاع إجتماعية واقتصادية وتقنية خلال فترة
زمنية وجيزة والانغماس في مشاريع تحديثية فائقة السرعة جنباً الى جنب
حداثة متغوّلة بنزعة إمبريالية استعمارية، كل ذلك أفضى الى تفجير
طائفة تناقضات صوّبت سهامها الى الذات والآخر، وتلك كانت خلاصة تعاكس
سيري بين الداخل والخارج.
الصورة المقابلة التي تكشّفت بوضوح مثير للذعر هي انهيار صرح
البرجين في الحادي عشر من سبتمبر. فهذا الحدث الضخم فجّر بحجمه
نزوعات إمبريالية كامنة ومؤجلة داخل دوائر القرار وجماعات المصالح في
الدولة العظمى الوحيدة، فأحضرت الى الواجهة نظرات كانت تتأرجح للسقوط
في الصراع الدولي، فتعززت مقولات فوكوياما في (نهاية التاريخ)
واطروحة صموئيل هنتغتون في (صراع الحضارات) وهما من بين اطروحات أخرى
صدرت في فترات متقاربة لتقدم رؤية فلسفية لغزو العالم، على أساس أن
النموذج الليبرالي الغربي في نسخته الأميركية وحده النموذج القابل
للتعميم كونياً. وراحت هذه النظريات تقدّم الطعم لجماعات عديدة في
العالم للانزلاق الى ساحة مواجهة غير متكافئة على أساس صراع الخير
والشر، وانبعثت من جديد مرحلة الاستعمار في طوره الجديد متسلحاً بنفس
مبررات القوى الاستعمارية القديمة، بضرورة أن يعاد للغرب دوره
الامبريالي في السيطرة على العالم. وبهذا فإن الخطيئة التي وقعت في
الحادي عشر من سبتمبر رهنت إستقلال الشعوب وسيادة الدول الى خيارات
قهرية حين منحت القوة العظمى في العالم نفسها حق استعمال القوة بسفه
شديد والاطاحة بالدول ووضع خرائط للعالم دون اكتراث لقوانين الامم
المتحدة والاتفاقيات الدولية. هذا الجنوح المفرط في إستغلال حوادث
الحادي عشر من سبتمبر لانزال العقاب الجماعي ضد العالم لابد له
وبصورة طبيعية أن يفجّر ردود فعل لانمطية على التنكيل الامبريالي
بالعالم، ثم جاء هذا الاصطفاف المشين مع الارهاب الاسرائيلي ضد الشعب
الفلسيطيني محمولاً على عنوان مكافحة الارهاب، ليضخ مزيداً من شحنات
التوتر لدى جماعات جاهزة للموت، أنتجتها مشاريع التحديث المشوّهة في
بلدانها وجاءت الحداثة الامبريالية لتملي الرغبة في إقتحام محرقة
الموت من أجل التحرر من فورانات القهر المفروض عليها.
ولربما ساهمت الاستعلانات الكثيفة لنوايا مبيتة بإعادة تنظيم
العالم والشرق الأوسط بخاصة على أساس رد فعل إزاء أحداث الحادي عشر
من سبتمبر في إدخال المنطقة العربية والاسلامية الى ساحة مواجهة
مفتوحة بين الولايات المتحدة وحركات التطرف. فإعادة تنظيم العالم إذن
مثّلت إحدى مرتكزات الاستراتيجية الأميركية الجديدة في (دولة ما بعد
الحداثة) كما نظّر لها روبرت كوبر الخبير في الشؤون الآسيوية وقضايا
الارهاب الدولي. فهذه الدولة تشكل الاطار المفهومي الجديد للعلاقات
الدولية وتشرعن عودة نظام إمبريالي جديد يتخذ من هجمات الحادي عشر من
سبتمبر ذريعة مضخّمة لقلب أوضاع العالم كما تشي مقدمة رئيس الوزراء
البريطاني توني بلير، الذي اعتبر بأن البحوث التي ضمها الكتاب تمثل
تصميماً لعالم آخر تسوده قيم الغرب.
في حقيقة الأمر، أن أطروحة دولة ما بعد الحداثة وطروحات أخرى
مماثلة زرعت مادة تفجيرية هائلة في مناطق عديدة من العالم، ولكن
إعتماد الشرق الأوسط كمنطلق لتطبيق الأطروحة، قد أشعل مصادر التوتر
في بلدان عديدة من الشرق الأوسط، وكانت السعودية الجزء الأكثر
إلتهاباً بسبب فرضية العلاقة الوطيدة بينها وبين أحداث الحادي عشر من
سبتمبر. فالحملة الاعلامية المكثفة ضد جماعات التطرف المنبعثة من
الأراضي السعودية، والمتضمنة لتهديدات بخرق السيادة الوطنية عن طريق
تغيير خارطة المنطقة واستبدال نظم سياسية مصنّفة ضمن قائمة دول ما
قبل الحداثة من خلال القوة الغاشمة، لا شك أنها حرّكت نازعاً مغموراً
لسنوات، والممثل في حركات التحرير والنضال ضد الاستعمار، في فترة ما
قبل الحرب الباردة. فالعودة الى الاستعمار المباشر كما حدث في
أفغانستان والعراق يستعمل الآن كإستراتيجية وسلوك سياسي في قضية
الصراع العربي الاسرائيلي ويعيد دون ريب وبصورة تلقائية إحياء قوى
التحرر الوطني. غير أن العنصر الاضافي في المواجهة مع الاستعمار هو
دخول جماعات جديدة متسلحة بخطاب ديني راديكالي كانت في فترة سابقة
تقاتل في خط موازٍ مع الخط الأميركي وأجندته السياسية.
هذه الجماعات لم يكتمل نموها الا داخل مشروع تحديث مشوّه في
بلدانها الاصلية، ولما أبصرت طريقها الى التغيير على تعارض مع حداثة
امبريالية التقت بعناصر إحتراق محلية فأدت الى هذه الاشتعالات
المتواصلة في داخل بلدان هذه الجماعات وخارجها، وكما تنبىء كلمة
لزعيم تنظيم القاعدة الشيخ أسامة بن لادن، فإن الولايات المتحدة
والغرب عموماً لن ينعم بالأمن قبل أن ينعم به أبناء فلسطين، وهي
تلخّص بدقة ماذا تسببت به حداثة امبريالية في العالم من كوارث
اجتماعية واقتصادية وثقافية. فالتسوير الجماعي لأوروبا والولايات
المتحدة من خلال تكتلات سياسية وأحلاف عسكرية كان يهدف الى درء
تهديدات أمنية قريبة وبعيدة، ولكن صانعو السور يغفلون كثيراً وببلاهة
أحياناً عن أن الاضطرابات الهائلة التي تموج بها المناطق الواقعة
خارج السور ستفضي الى تحطيمه وتسلل جماعات ناقمة على عولمة مؤمركة
ذات نزعة امبريالية، كيما تعيد لها بضاعة مستوردة فاسدة.
دولة ما بعد الحداثة مصممة على محاربة دول ما قبل الحداثة، التي
لازالت تنوء بثقافة تقليدية نائية عن العصر، وبتخلف اقتصادي واجتماعي
وسياسي لا يمكن لها بحسب فحوى اطروحة دولة ما بعد الحداثة الا
بإخضاعها الى نظام تبعية جديد لاعاقة أي حركات مقاومة بكافة أشكالها
يمكن لها النهوض لتهديد المصالح الحيوية لدولة ما بعد الحداثة، وهذه
الأخيرة ما هي الا نسخّة معدّلة للتمركز الأوروبي الأميركي ونظام
المركز والاطراف الذي تناوله سمير أمين في اطروحته المعروفة.
ولكن دولة ما بعد الحداثة لا تسلم من نشوء ظواهر مضادة، تماماً
كما أن دولة الحداثة خلقت خارجها ظواهر الفقر والتخلف والاستبداد في
دول ما قبل الحداثة، والتي جرى التعامل معها بالدبلوماسية المتوحشة
والحرب، فالظواهر الدينية المتطرفة هي رد فعل تلقائي على دولة ما بعد
الحداثة التي تتوسل الآن بإستراتيجيات قديمة ومن أبرزها الاستعمار
المباشر، مع إقحام العنصر الديني في المعادلة.
هذه الاستراتيجيات تقدّم كافة مبررات الاصطدام في المستقبل، وتصنع
مناخات لنشوء ظواهر أكثر راديكالية من السابق، بحسب قانون الفعل ورد
الفعل. فحين تكون سيادة الدول مهددة ما لم تحصل على صك براءة بعدم
رعاية الارهاب، وحين تطلق دولة ما بعد الحداثة يدها في أرجاء العالم،
لا يمكن حينئذ الا إندلاع معارك التحرير والنضال، وحين توصم أديان
الشعوب الأخرى وثقافاتها بالعنف والتخلف والرجعية والارهاب لتحريك
أساطيل الطائرات واطلاق الصواريخ شديد التدمير على بلدانها، دون
مبررات صلبة يكتسب النضال ضد الاستعمار اليوم زخماً شعبياً وسياسياً
أقوى من ذي قبل يوم كان مشروع التحديث المشوّه في مرحلته الطفولية،
والدولة في تحالف مع الخارج، والاستعمار نفسه لم يكن بهذه المباشرة
والوقاحة.
تحويل الاسلام الى خصم حضاري لدولة ما بعد الحداثة يحمل رسالة
شديدة الوضوح، تساعد على وضع تصور لطبيعة المواجهات المحتملة، فهي
ليست صدام بين أصوليات كما ينزع الباحث الباكستاني طارق علي الى
تقريره، بل هو صراع بين دولة ما بعد الحداثة والعالم، ولكن دفع
الاسلام الى قلب المواجهات وتحويله الى جبهة عداوة مناوئة للدولة
المزعومة يستدرج جماعات دينية عديدة الى معركة تؤكد الدعوى المرفوعة
ضد الاسلام بكونها محرضاً أساسياً على تهديد الأمن والسلام الدوليين
(بحسب المفهوم الغربي)، وبخاصة لشعوب دولة ما بعد الحداثة الاوروبية
ـ الأميركية، تمهيداً وتبريراً لتغيير العالم بأسره.
ولا مناص في ظل السير الحثيث نحو إطالة أمد قرن العبودية بحسب وصف
طارق علي للقرن العشرين، من تكاثر الحركات الاصولية التي ستخرج من
الأحياء الفقيرة وبيوت الصفيح ومعامل الأسياد، طالما أصرّت الحداثة
الامبريالية على انتهاك حقوق الشعوب في الاستقلال والحرية والكرامة،
وستظل فلسطين قضية عربية وإسلامية محرّضة على النضال بكافة أشكاله.
فالحداثة الإمبريالية ترفد الآن وبتبجح غير مسبوق الافكار الصهيونية
اليمينية المتطرفة بكل الوقود الارهابي لاستعماله ضد الشعب
الفلسطيني، ونشر الدمار في القرى والمدن الفلسطينية، وهذا كله يغذي
مكائن الغضب والتطرف في الشرق الأوسط. فلا يمكن بعد الآن إشهار مأساة
نيويورك وواشنطن في وجوه أطفال فلسطين.
إن الاسترسال مع رواية الدراما الأميركية لحوادث سبتمبر وإكراه
العالم على الاستمرار في البكاء على ضحايا نيويورك وواشنطن، ريثما
تتموضع كتائب القوات الأميركية على الخارطة الدولية، يجب أن يوضع
الآن في حدوده، فهذه الرواية المأساوية كسبت تعاطفاً دولياً يفوق
بأضعاف ما حصل في هيروشيما وناجازاكي، وفي فلسطين ولبنان وفيتنام،
وفي نفس الوقت جرى استغلالها أبشع استغلال حين سمحت الادارة
الأميركية لنفسها وبإسم ضحايا البرجين بغزو العالم بحثاً عن أثمان
تعود أولاً واخيراً لفئة من أصحاب المصالح داخل الادارة الاميركية.
هذا الانجراف الحاد نحو إحتلال مناطق مختارة من العالم بإسم
مكافحة الإرهاب يؤكد مرة أخرى بان التطرف والإرهاب تصنع ظروفهما دولة
ما بعد الحداثة الاميركية قبل أن يصل الى دولنا. هذا لا يحبط مطلقاً
وبأية حال دعوى أن مناهجنا تشتمل على مواد صناعة التطرف، ولا يهز
مطلب التيار الاصلاحي العام في بلادنا بأن الارهاب يجابه بالاصلاح
السياسي وليس بالإرهاب كما توهّم الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن في
خطاب بعيد الحادي عشر من سبتمبر. مؤسف القول بأن إلصاق التهمة كاملة
بتيار عنفي نشأ في ديارنا في ظل عملية تحديث مشوّهة تتحمل مسؤوليتها
الدولة، أسدل ستاراً سميكاً على حداثة إمبريالية تقودها أميركا
للعودة بالعالم الى مرحلة الاستعمار المباشر. |