هيئة بلجرشي: جريمة مؤسسة ونظام!
فريد أيهم
ليست جريمة مقتل مواطن وبتر يد زوجته وإصابة أبنائه
إصابات خطيرة مسؤولية أفراد أو هيئة محافظة بلجرشي وحدها
رغم أن ما قامت به جريمة كافية لاسقاط نظام، ولكنها جريمة
هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والأيديولوجية التنزيهية
والاقتلاعية التي تديرها بل والنظام السياسي الذي يوفّر
لها الحماية.
إنها جريمة بحجم وطن، لأنه ما كان لهذه الجريمة أن
تقع لو لم يكن هناك من أفتى وأشاع الفتوى وحصّنها بخطاب
التهويل والتنزيه واستعان بالقوة المجرّدة لتطبيقها، فجاءت
في هيئة جرائم قتل ذهب ضحيتها أفراد من هذا الشعب دون
وجه حق.
جريمة بلجرشي هي ببساطة جريمة تتكرر في كل ربوع هذا
الوطن المثخن بقصص الضحايا الأبرياء قديماً وراهناً. تبدأ
الجريمة بمطاردة (جيب الهيئة) لمواطن أو عائلة متفاوتة
العدد يفترض رجال الهيئة أنهم وقعوا على ما يعتبرونه منكراً
ثم ما يلبث أن يقع ما لا يحمد عقباه، وكأنهم اكتشفوا العجلة
أو سرّاً عظيماً من أسرار الكون.
ما حدث للمواطن عبد الرحمن الغامدي وعائلته في بلجرشي
في 7 تموز (يوليو) الجاري يعتبر صادماً لجهة كونه جاء
بعد قرار وقف الملاحقات من قبل رجال الهيئة للمواطنين.
فقد تسببت المطاردة القبيحة من قبل إحدى دوريات الهيئة
في بلجرشي، غرب البلاد، لسيارة الغامدي الذي كان بصبحة
عائلته، في مقتله وبتر يد زوجته وإدخالها وأولادها الى
وحدة العناية المركزة.
وكان الغامدي خارجاً مع زوجته وأولاده في نزهة، حين
سمع أحد رجال الهيئة المتواجدين على بوابة المنتزه صوت
المسجل زاعماً بأنه كان مرتفعاً، فأمره بالتوقف دونما
سبب وجيه، فلم يمتثل الغامدي للأمر ببساطة لأن لا دخالة
لرجال الهيئة، ولكن عناد الأخيرين دفعهم الى ملاحقة الغامدي
وكانت دورية الهيئة مصحوبة بدورية أمن، فتسبب في تدهور
سيارة الغامدي عن الطريق وأدى ذلك الى مقتله فيما بترت
يد زوجته وأدخلت مع أبنائها العناية المركزة في مستشفيي
بلجرشي والباحة.
حجم الجريمة ووقعها دفعا شرطة الباحة للإكتفاء بالمطالبة
بانتظار نتائج التحقيقات، رغم أن صور سيارة الهيئة وهي
تطارد سيارة الغامدي كانت واضحة وهي بحد ذاتها مخالفة
بعد صدور قرار وقف الملاحقات، فكيف وقد أدّت الملاحقة
الى جريمة قتل وانهيار عائلة بكاملها بعد وفاة الاب وبتر
يد الزوجة والاصابات الخطيرة التي لحقت بالطفلين.
شقيق قتيل الهيئة قال بأن الأطباء قرروا بتر يد الزوجة
فيما بقي طفل في غيبوية والطفلة الأخرى بدأت في الحديث..
والسؤال هل تستحق هذه العائلة عقاباً مأساوياً بهذا الحجم
مهما بلغ المنكر، إن صدقت رواية الهيئة. نلفت الى ما ورد
في أحد التقارير أن ثلاثة من المتجمهرين في موقع الحادث
أغمي عليهم ونقلوا للمستشفى جراء مشاهدة حال العائلة بعد
وقع الحادث.
ما هو أشد إنكاراً، أن رجال الهيئة ومعهم دورية الأمن
وبعد التسبب في تدهور السيارة عن الطريق العام وما جرى
بعد ذلك، لاذوا جميعاً بالفرار دون إسعاف المصابين، ما
ينبىء عن جريمة عن سابق إصرار وتصميم.
وبحسب رواية الدكتور خالد الغامدي، شقيق المتوفى: (كان
أخي، البالغ من العمر 35 عاماً وزوجته الحامل، البالغة
من العمر 28 عاماً، وطفله 9 سنوات وطفلته 4 سنوات، يتنزهون
في إحدى حدائق بلجرشي. وحدثت مشادة بينه وبين أعضاء الهيئة
بسبب ما قيل إنه رفع صوت المسجِّل؛ فغادر الموقع رافضاً
التوقف ومعه عائلته).
وأضاف: (أكد شهود عيان أن فِرقة الهيئة، وبداخلها 4
أعضاء، ودورية أمنية، كانت تُقِلُّ رجلَيْ أمن، لاحقتاه
حتى تعرض للحادث على مفرق الحميد، قبل أن تغادرا الموقع
دون أن تُسعفا المصابين)، وتابع: (عدد من الأشخاص كانوا
يتابعون الموقف، وهم مَنْ أسعف المصابين، قبل أن تصل فِرق
الهلال الأحمر، وأكّدوا مطاردة سيارة العائلة من قِبل
فرقة الهيئة والدورية الأمنية).
الدكتور الغامدي الذي فجع في شقيقه بهذه الطريقة المأساوية
طالب بالتحقيق واتخاذ إجراءات رادعة (تمنع هذه الممارسات
الغريبة والتصرفات اللاإنسانية)، التي راح ضحيتها شقيقه،
وتعرضت أسرته لإصابات متفرقة، دون أي مبرر يُذكر. مشيراً
إلى أن ما حدث لا يستدعي المطاردة، وكان بالإمكان تسجيل
رقم اللوحة وإحضاره في وقت لاحق بدلاً من مطاردة الأسرة،
والتسبب في هذا الحادث المأساوي. وأكد المتحدث الرسمي
لشرطة منطقة الباحة، المقدم سعد طراد الغامدي، أن التحقيقات
جارية في الحادث، مشيراً إلى أنه سيُصدر بياناً تفصيلياً
عن الحادث خلال الساعات المقبلة.
الجريمة ذات أبعاد عدّة، تبدأ بأصل الملاحقة الذي تقرر
بعد أن ضجّ الأهالي من أساليب رجال الهيئة التي تنتهك
خصوصيات الأفراد وحرياتهم، بذريعة المحافظة على الأخلاق
العامة، وتطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
دون ضوابط أو محددات ملزمة وأهمها احترام الخصوصية الفردية
والحريات الشخصية التي لا يحدّها الا قانون عام.
هل الإدانة كافية؟
في هذا البلد كل الجرائم التي تصدر عن أجهزة الدولة
ورجالها تصبح فردية ويتم التعامل معها على أنها مجرد حالة
فردية ولا تستوجب معالجة سياسات أو تطهير أجهزة أو حتى
الغائها، ولذلك لحظنا في قضية الغامدي أن لجنة التحقيق
اكتفت باتهام رجال الهيئة بالتسبب في مقتل وإصابة أسرة.
وقالت اللجنة بأنه: ثبت مسؤولية وإدانة الدورية الأمنية
ودورية هيئة الأمر بالمعروف لعدم تقيدهم بالأوامر والتعليمات.
وأكّد التقرير: ثبوت مسؤولية وإدانة الدورية الأمنية ودورية
هيئة الأمر بالمعروف عن الحادثة، إثر تصرفهم الفردي وعدم
تقيدهم بالأوامر التي تقضي بمنع المطاردة ما لم يكن الأمر
يستدعي ذلك. وكذلك تمّت إدانة الشركة المنفذة لكوبري الحميد
(شركة الحربي) والذي وقع فيه الحادث لافتقار الموقع لأدنى
وسائل السلامة المرورية، وعدم وجود مصدات خرسانية، ما
ساهم في وقوع هذه الحادثة المأساوية وما نتج عنه من قتلى
ومصابين من أسرة واحدة.
اللافت في بيان شرطة منطقة أبها في محافظة بلجرشي بتاريخ
20 شعبان الجاري والذي زعم بأنه التزم بالشفافية وتوضيح
الأمور حمّل بصورة غير مباشرة الضحية جزءاً من مسؤولية
الجريمة، بما نصّه (بمؤاخذته بعدم التوقف ومعرفة ما لدى
أفراد الدورية وأعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مما حدا بهم لمطاردته..)، وفي هذا النص المستهجن كلام
كثير وإن ختم بعبارة (أن الأمر لا يرتقي سواء للهروب أو
المطاردة)، فإذا كان الأمر كذلك، لماذا تذكر العبارة الأولى
لأن مسؤولية وقوع الجريمة هي بصورة كاملة وتامة على عاتق
رجال الهيئة ورجال دورية الأمن وكفى، ولا حاجة للّف والدوران،
ما يؤدّي إلى تمييع وتضييع القضية، بل يجب النص بصورة
واضحة وصريحة بأن رجال الهيئة والدورية الأمنية مسؤولون
مسؤولية كاملة ومطلقة عن وقوع الجريمة، أولاً لمخالفة
قرار عدم الملاحقة، وثانياً للتسبب في الحادث، وثالثاً
لعدم اسعاف المصابين بعد وقوع الحادث..
تقرير اللجنة هو الآخر ينطوي على هنّات وكأنه يفيد
بأننا سنقوم بارتكاب كل الجرائم بشرط توفير ما يحول دون
ثبوت أدلة على الدولة، وبالتالي فإن البحث عن كبش فداء
يصبح جزءاً من عملية التحقيق لأن في ذلك تبرئة لذمة الدولة
المسؤول الأكبر عن كل جريمة عامة تقع في هذه الديار.
والسؤال حتى لو تمّت إدانة رجال الهيئة والدورية الأمنية
فيما تبقى السياسات ذاتها، والرجال ذاتهم، والعقل ذاته
الذي يدير مؤسسات الدولة فيما لا محاسبة ولا قضاء مستقل،
ولا دور للشعب في الرقابة على عمل مؤسسات الدولة، كيف
يمكن تخيّل تصحيح الخلل، وتطوير الاداء، ومنح الشعب حقه
في أن يبني نظامه السياسي وأجهزة الدولة التي تخدم مصالح
العامة وليس مصالح فئة وعائلة.
في المحصلة: وعلى خلفية وفاة رب الأسرة وبتر يد زوجته
وإصابة طفليه، تقرر إيقاف خمسة أعضاء من رجال (الهيئة)
وإثنين من رجال الأمن..وجاء في التقرير أن شرطة محافظة
بلجرشي أوقفت خمسة أعضاء من هيئة الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ورجلا أمن يعملون في مركز نقطة الشكران، (للاشتباه)
في تورطهم في حادث السير..وراح ضحيته المواطن عبدالرحمن
بن أحمد بن ناصر الغامدي 34 عاماً وإصابة زوجته الحامل
بإصابة بالغة أدت إلى بتر يدها اليمنى وإصابة ابنه خالد
(تسع سنوات) بإصابة بالغة في رأسه يرقد على إثرها في مستشفى
الملك فهد بالباحة في حالة خطرة، بينما أصيبت طفلة عمرها
أربع سنوات بإصابات متفرقة وترقد بمستشفى بلجرشي العام
وهي بحالة مستقرة.. ونقلت صحف محلية عن شقيق المتوفي ناصر
ابن أحمد الغامدي: إن زوجة المتوفى التي كانت معه وقت
حدوث الحادث أفادت أن أحد أعضاء الهيئة استوقفهم وبدأ
بالنقاش الحاد مع زوجها بسبب ارتفاع صوت التسجيل داخل
السيارة رغم أنه لم يكن مرتفعاً، ما دعا السائق بالانطلاق
بعيداً عنهم وتبعته سيارة للهيئة وأثناء قيادته ضايقته
سيارة الهيئة ما أدى إلى انحراف سيارته وانقلابها بجانب
الطريق.
وفي رد فعل الصحافة على الجريمة النكراء التي أودت
الى انهيار عائلة بكاملها بعد مقتل رب الاسرة وبتر يد
زوجته بذريعة واهية، كتب حسن الحارثي في 10 تموز (يوليو)
الجاري تعليقاً بعنوان (من قتل الغامدي وشتت عائلته؟)
السؤال الذي يجب معرفة إجابته وإبلاغ الرأي العام بالإجابة
وتفصيلاتها، من كان سبباً في مقتل رجل وبتر يد زوجته ودخول
أطفاله العناية المركزة؟، من شتت عائلة بأكملها من أجل
صوت مسجل مرتفع؟ وإن صحت الرواية أن سبب المطاردة (المسجل)
فوالله إنها الجريمة الكاملة.
فلنقل إن المتوفى عبدالرحمن الغامدي كسر نقطة التفتيش
ورفض التوقف لها، كيف يسمح رجال الهيئة لأنفسهم، بتجاوز
الصلاحيات والانتقال بعملهم من الدعوة بالتي هي أحسن والمناصحة
إلى مطاردة الناس، والأدهى والأمر ما صرّح به شقيق المتوفى
نقلا عن زوجته، التي أكدت أن سيارة الهيئة ضايقت سيارة
الغامدي وتسببت في انحرافها.
ولو افترضنا أن دورية أمنية هي التي طاردت دون تدخل
من رجال الهيئة - كما يحاول البعض تصوير القصة - فيجب
أيضا محاسبة الدورية التي طاردت دون أمر رسمي أو سبب مقنع،
وفي كل الأحوال، الدورية الأمنية - بحسب الروايات - كانت
تحت إمرة رجال الهيئة وتحركت بناء على طلبهم.
هذه الحادثة مؤلمة بكل ما تعنيه الكلمة، والسكوت عنها
يعني السكوت عن خطأ فادح وممارسات تنهش في جسد المجتمع
وتفكك لحمته، وما زالت قصتا البلوي الذي مات في هيئة تبوك
والحريصي الذي توفي داخل هيئة الرياض، مترسخة في ذاكرة
المجتمع ولها وقعها تجاه علاقة المجتمع بالهيئة.
وكما نطالب بمحاسبة الفاسدين والاقتصاص من الإرهابيين،
فإن المجتمع بكل أطيافه يطالب بمحاسبة من يتسببون في قتل
المواطنين وإيذائهم، وقضية الغامدي تجاوزت التسبب في القتل
إلى تشتيت عائلة وإعاقة الأم ودخول الأطفال إلى العناية
المركزة بين الحياة والموت.
ومما سبق تبقى القضية المركزية هي في سلطة الدولة الشمولية
التي تستعين بأجهزة قمعية تحت عناوين دينية وأيديولوجية
وأمنية لجهة ترسيخ استبدادها وشموليتها والغرض ليس تطبيق
مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والا لكان أمراء
العائلة المالكة أولى بأن يتم تطبيق المبدأ عليهم لفسادهم
الاخلاقي الذي يخجل منه الخجل، بل يلزم إخضاع رجال الهيئة
أنفسهم الى المبدأ نفسه، بعد أن تسلل اليهم الفساد وتسرّبت
رائحته التي تزكم الأنوف، والمطلوب ليس توقيف مجموعة أفراد
بل استبدال نظام سياسي بآخر يصنعه الشعب بيده ويشتق منه
أجهزة تناسب حاجاته ومصالحه.
|