نموذج العجز الديمقراطي
هل تدوم الاستثنائية السعودية؟
السكان المحليون يطلقون على ما يجري هذه الأيام بأنه إنفتاح سعودي
أو ربيع سعودي، إنه نوع من الشفافية (أو الجلاسنوست)، وهي فترة
الانفتاح السياسي الذي أدى الى نهاية عقود من الرقابة والقمع في
الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينات. فهناك شعور عام بأن ثمة شيئاً
تاريخياً سيقع فالناس في البلد يتحدثون بصراحة وعلنية عن المشاكل
الداخلية، إحساساً منهم بأن الدولة لم تعد تحتفظ برصيد كبير من
المصداقية والهيبة، ولذلك فما كان يدور في الخفاء والمجالس المغلقة
قد تسرب الى الشارع والصحافة وأصبح متداولاً بين قطاع كبير من الناس.
فلا الدولة قادرة على إتخاذ القرار الصحيح، ولا هي في وضع يسمح لها
بإستعمال البطش لكسر الموجات النقدية المتصاعدة من كافة ارجاء
البلاد. فقد وصلت الدولة الى مرحلة انعدام الوزن، وليس بإمكانها
احتواء الاوضاع المتفجّرة بصورة دراماتيكية وغير مسبوقة، فثمة مفاجآت
غير سارة تنتظر الجميع، في ظل غياب دولة قادرة على صناعة الحل، إن لم
تكن قد تحوّلت فعلياً الى مشكلة حقيقية.
علامات التحوّل في الوضع الداخلي عديدة، ولعل أوضح تجسيد لها هو
تصدع هيبة الدولة كما تعكسه جرأة السكان على تناول أكثر الموضوعات
المحرّمة في السياسة الداخلية، فالحرية التي عجزت الدولة عن توفيرها
لرعاياها في أزمنة سابقة أصبحت منتزعة إنتزاعاً دون انتظار صدور
أوامر سامية لإقرارها أو البت فيها. وأن التغيير الذي طال انتظاره من
قبل القيادة السياسية أصبح السكان أنفسهم منخرطين في وضع أساساتها
الأولية وستؤدي بلا شك الى إرساء واقع جديد في البلاد، فالتدافع نحو
التغيير لم يعد حكراً على فئة بعينها، بل صار السكان أنفسهم صانعين
أساسيين له.
مشهد التحوّل خارج حدودنا
إن هذا الواقع المنتظر لا يقتصر على مساهمات محلية فحسب، فالعالم
من حول المملكة المضطربة يتغير بإيقاع سريع مؤكداً على أن الاصلاح
قدر المنطقة بل والعالم بأسرة. فكثير من بلدان المنطقة بما فيها عمان
قد سلكت طريق الاصلاح السياسي، ففي الثاني من أكتوبر بدأت الانتخابات
العمانية لترشيخ أعضاء مجلس الشورى، لتنضم الى البحرين والكويت وقطر
التي دخلت عالم الانتخابات.
فالعمانيون يحثون الخطى الآن نحو مشروع المشاركة السياسية، وقد
أصبح السلطان قابوس، الذي ساهم في ترسيخ الوحدة الوطنية ونقل عمان
الى دولة مزدهرة في الثلاثة عقود الماضية، أصبح من الحكام الأكثر
شعبية في المنطقة. فقد بدأ اصلاحات سياسية حيث لم يكن هناك تقليد
كهذا قبل عقد، بل وقبل بزمن طويل الضغوط الأميركية من أجل الاصلاح في
المنطقة بعد الحادي عشر من سبتمبر.
في السابق، كانت هناك فئة محدودة من الناس تستطيع التصويت من أجل
83 عضواً في مجلس الشورى، وبالتالي فإن ربع إجمالي السكان فقط ممن هم
فوق سن الحادي والعشرين عاماً يمكنهم المشاركة في الانتخابات، وأن
المصوتين مختارون من بين الزعامات القبلية، والمفكرين، ورجال
الاعمال. ولكن في الوقت الحاضر فإن الانتخابات مفتوحة أمام الكل، بما
في ذلك النساء. ورغم أن المجلس له سلطات استشارية محدودة وأنه لا
يمتلك صوتاً في الشؤون الأمنية والخارجية، الا أن هذا التطور تجاه حق
الاقتراح والتصويت وفق المعايير العالمية وتطويراً للنظام التشاوري
الذي لقي ترحيباً واسعاً في البلاد.
وفي أكتوبر ـ 2002 ـ بدأ البحرينيون بالادلاء بأصواتهم لأول مرة
منذ ثلاثين عاماً لانتخاب برلمان. وكان لأول مرة ايضاً أن تتسنم
امرأة منصباً رسمياً على المستوى الوطني.. كما أعلنت قطر قبل ذلك
بأنها ستبدأ بوضع دستور جديد إستعداداً لانتخابات برلمانية قادمة.
وفي اليمن لم يتوقف التطوير عند نظام حزبي تعددي وبرلمان منتخب ولكن
تجاوزه الى انتخاب محافظي البلديات ومنذ عام 1999 بدأت الانتخابات
الرئاسية. وفي أعقاب حرب الخليج الثانية أعادت الكويت إحياء مجلس
الامة الذي يتم انتخاب أعضاؤه بصورة مباشرة، وقد أنهت في الصيف
المنصرم انتخابات الدورة الجديدة لمجلس الأمة.
فالديمقراطية التي تثير قلقاً من نوع ما لدى النخبة الحاكمة في
السعودية مثّلت الوصفة الأكثر نجاعة لأنظمة المنطقة، فقد منحتهم
التغييرات الديمقراطية رصيداً هائلاً من المصداقية والشعبية وعززت من
أسس علاقاتهم مع الرعايا المحليين. فالديمقراطية إذن لم تسقط أنظمة
ولم تأكل من سلطة هذه النخب الحاكمة، بل إن التعويضات التي حصلت
عليها عن طريق الديمقراطية في هيبتها ومصداقيتها ومشروعيتها
واستقرارها تفوق ما تعتقد بأنها تنازلات كبيرة في الملك والسلطة.
إذن لماذا تبدأ الملكيات الصغيرة في الخليج بما في ذلك عمان
والكويت وقطر والبحرين في السنوات الأخيرة بالتحرك الثابت نحو
مبادرات سياسية ملحوظة، فيما تبقى السعودية استثناءً مثيراً للحيرة؟.
فهناك ثمة مفارقة ملحوظة في الوقت الراهن: فبالرغم من كونها الدولة
الأكثر محافظة الا أنها الآن الأشد نزوعاً نحو التغيير. فالمراقبون
المحليون والدوليون يترقبون قراراً تاريخياً يصدر من أعلى سلطة في
البلاد، ممثلة في ولي العهد الأمير عبد الله الذي يدير البلاد نيابة
عن الملك المعلول منذ عام 1995. هذا القرار المأمول يقضي بإدخال
اصلاحات سياسية جوهرية في المستقبل القريب. فالسعودية التي منها خرج
15 خاطفاً من بين أصل تسعة عشر خاطفاً في أحداث الحادي عشر من سبتمبر
تواجه ضغوطاً مكثفة من واشنطن من أجل تغيير نظامها السياسي.
أما على صعيد الاشكالية الايديولوجية التي أنتجها الخطاب الديني
السعودي بعدم التوافق بين الاسلام والديمقراطية، فإن التجارب
الاصلاحية الحيوية التي تجري في أجزاء عديدة من العالم الاسلامي تظهر
بأن
الديمقرطية والاسلام متوافقان. وهناك شواهد يمكن تسليط الضوء
عليها في قائمة طويلة: في المغرب، صوّت المواطنون في سبتمبر عام 2002
في انتخابات حرة ونزيهة وشفافة في تاريخ البلاد، مسفرة عن برلمان
جديد متنوع. وأن المسلمين يشاركون بصورة كاملة وفاعلة في الحياة
المدنية للبلدان الديمقراطية والتي لا يشكلون فيها أغلبية. فهناك
أربعين بالمئة من المسلمين الذين يعيشون كأقلية، بما في ذلك عدة
ملايين في الولايات المتحدة يلعبون دوراً فاعلاً وهاماً في
الديمقراطية الأميركية. وفي بلدان مثل الهند وفرنسا وجنوب أفريقيا
فإن المسلمين يدحضون عملياً دعوى عدم تطابق الحياة الاسلامية مع
المشاركة الديمقراطية.
في إيران، الدولة الدينية المنافسة للسعودية شهدت تجربة ديمقراطية
مثيرة للانتباه، حيث يتوجه الايرانيون كل أربعة اعوام الى صناديق
الاقتراح لانتخاب رئيس للجمهورية. وتشهد ايران منذ عدة أعوام ظهور
تيار اصلاحي متنامي ينادي من أجل اصلاح شامل وجوهري والذي قد يفضي
الى ديمقراطية متطورة وإنفتاح أكبر..في الدورتين الانتخابيتين
للرئاسة الايرانية الأخيرتين وفي الانتخابات المحلية والبرلمانية،
فإن الشعب الايراني صوّت لصالح الاصلاح السياسي والاقتصادي.
وهناك الآن تجارب ديمقراطية ناشئة تتطور بصورة تدريجية في كل من
الجزائر واندونسيا والاردن ونيجيريا وتركيا وغيرها، فهذ الدول تسير
نحو الديمقراطية رغم ما يعتري هذه التجارب من عيوب وثغرات ولكن ذلك
لا يقلل من أهمية ميول هذه الدول نحو التوصل الى شكل من أشكال
المشاركة الشعبية والتمثيل السياسي.
الرؤية الأميركية الجديدة:
الديمقراطية لمحاربة الارهاب
يعتقد محللون ومراقبون دوليون بأن قاعدة صناعة القرار رغم ضيقها
والبنى السياسية المغلقة في المنطقة تمثل عاملاً مسؤولاً عن الزيادة
الدراماتيكية في التطرف الديني والارهاب في هذا الجزء من العالم. في
ديسمبر سنة 2002 ألقى ريتشارد هاس مدير موظفي تخطيط السياسات التابع
لوزارة الخارجية محاضرة في مجلس العلاقات الخارجية حول موضوع
الديمقراطية في العالم الاسلامي. محاضرة هاس وصفت بأنها بيان رئيسي
من مسؤولي حكومي كبير حول عنصر مركزي في استراتجية الرئيس بوش في
الشرق الأوسط. فبينما كانت الادارات الجمهورية والديمقراطية السابقة
تؤكد على (الاستقرار) في مقابل (الدمقرطة) فإن النقطة الجوهرية في
محاضرة هاس هي أن (الاستقرار القائم على السلطة وحده يعد وهماً وفي
نهاية المطاف يستحيل بقاؤه).
يعتقد هاس بأن الديمقراطية تبقى نقطة محورية في السياسة الأميركية
اليوم. فاستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة تشدد على أن
اميركا يجب أن تقف بقوة من أجل المطالب غير القابلة للتفاوض للكرامة
الانسانية: حكم القانون، قيود على السلطة المطلقة للدولة، حرية
الكلام، حرية العبادة، العدالة المتساوية، احترام المراة، التسامح
الديني والاثني، واحترام الملكية الخاصة.
في إجابته عن السؤال المحوري التالي: لماذ تشدد الولايات المتحدة
غالباً على الديمقراطية؟، يقول هاس (إن هناك أسباباً عملية تدعو
الولايات المتحدة لتطوير الديمقراطية في الخارج..وببساطة تامة، نحن
سنزدهر بصورة أكبر كشعب وكأمة في عالم من الديمقراطيات أكثر منه في
عالم الانظمة الشمولية والفوضوية). ويشرح ذلك قائلاً:
(إن العالم الديمقراطي هو عالم أكثر أمناً. نمط الديمقراطيات
القائمة التي لن تساق للحرب واحدة تلو الأخرى يعتبر من الاكتشافات
الواضحة في دراسة العلاقات الدولية. وهذا لا يعني أننا نستطيع تغليب
المصالح والتعاون المثمر مع الانظمة غير الديمقراطية، كما لا يعني
بأنه سيكون لنا تعارضات مع الديمقراطيات الصديقة. ولكن حين تكون هناك
ديمقراطيات قائمة فإن ذلك يعني بأن هناك منطقة شاسعة في العالم، حيث
تستطيع الامم تسوية خلافاتها عبر الطرق الدبلوماسية). ويلتقي هذا
التفسير مع تصريح للرئيس الأميركي حول هذه النقطة في الأول من يونيو
عام 2002 حيث قال (حين يأتي الكلام حول الحقوق والحاجات المشتركة
للرجال والنساء، لن يكون هناك صدام حضارات. إن متطلبات الحرية تنطبق
بالكامل على افريقيا واميركا اللاتينية والعالم الاسلامي بأكمله.
فشعوب الدول الاسلامية تريد وتستحق الحريات والفرص نفسها كشعب في كل
دولة. وأن الحكومات يجب أن تستمع لتطلعات وطموحات شعوبها).
وفيما يريد الاميركون رؤية حركة باتجاه الاصلاح الديمقراطي كجزء
من حربهم العالمية على الارهاب، تبدأ عدد من دول الخليج بالانفتاح
لأن شعوبها تريد ذلك. فالبلدان الخليجية قد توصلت الى نتيجة مفادها
أن الاصلاحات المتأخرة قد تكون أشد خطراً من البدء بها الآن. وبدلاً
من منح الولايات المتحدة فرصة الضغط من أجل الاصلاح، فإن المنطقة قد
توصلت الى قناعة بقيمة التحرك في طريق الاصلاح بما يتوافق مع
الاعتبارات المحلية.
فالضغط الأميركي من أجل إصلاحات من الخارج تتوافق الآن مع مطالب
بالتغيير من الداخل. فمنذ أن رفع نحو 104 من دعاة الاصلاح في المملكة
عريضتهم (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) والبلاد تتوقع بين يوم وآخر ذلك
القرار الموعود ببدء مرحلة جديدة من الاصلاحات السياسية الجوهرية.
فهذه الرؤية توافقت مع المستويات العالمية في برنامج الاصلاح السياسي
حيث نصت العريضة على قائمة الحقوق والحريات المتفق عليها دولياً، كما
طالبت ببرلمان وانتخابات حرة، وتوزيع عادل للثروة ومحاربة الفساد
وحقوق المراة..
فالضغط الأميركي من أجل إصلاحات من الخارج تتوافق الآن مع مطالب
بالتغيير من الداخل. فمنذ أن رفع نحو 104 من دعاة الاصلاح في المملكة
عريضتهم (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) والبلاد تتوقع بين يوم وآخر ذلك
القرار الموعود ببدء مرحلة جديدة من الاصلاحات السياسية الجوهرية.
فهذه الرؤية توافقت مع المستويات العالمية في برنامج الاصلاح السياسي
حيث نصت العريضة على قائمة الحقوق والحريات المتفق عليها دولياً، كما
طالبت ببرلمان وانتخابات حرة، وتوزيع عادل للثروة ومحاربة الفساد
وحقوق المراة.. وحين طلب الأمير عبد الله لقاء عدد من الموقّعين على
العريضة للتشاور كانت المؤشرات كلها في السعودية تتجه الى أن بداية
وشيكة ستؤرخ لتطورات حقيقية في البلاد باتجاه اللبرلة للنظام السياسي
بعد نهاية الحرب على العراق. وفي مؤشر آخر على نوايا الاصلاح، فإن
الحكومة السعودية استقبلت فريق حقوق الانسان التابع لهيئة الامم
المتحدة ووفد منظمة مراقبة الشرق الأوسط (ميدل ايست واتش) لحقوق
الانسان وهي الزيارة الأولى من نوعها الى المملكة. وكان الاعتقاد
الأولي يشير الى أن قرارات ما قد إتخذت لبدء انتخابات في المؤسسات
المحلية ومجالس المناطق، وتنامى التوقع الى حد انتظار ولادة مجلس
وطني منتخب سيقدر له رؤية النور خلال فترة تتفاوت بين خمس الى ست
سنوات.
فالمملكة المتناقضة تواجه اليوم ضغطاً متنامياً في الداخل والخارج
من أجل الاصلاح السياسي، ففي مواجهة النداءات المحلية والخارجية من
أجل الاصلاح والالحاحات المتصاعدة من العولمة، تقف العائلة المالكة
اليوم أمام مفترق طرق. الاصلاحات التي يتطلبها الاقتصادي العولمي
تتناقض مع كل من مصالح النخبة الحاكمة ومطالب السكان المحليين.
فالسعودية حسب داريل شامبيون في دراسته The
Paradoxical Kingdomتواجه خمس موضوعات مترابطة: اكتشاف
التيارات الدينية المتداخلة والمعقدة، الأعراف والتقاليد، الاقتصاد
المحلي والعالمي، والسياسة، وسلطة الدولة، حيث أن الدولة السعودية
ستواجه صعوبة في الدخول الى القرن الحادي والعشرين. |