بعد إنفجارات المحيا
الحكومة أمام الخيارات المتوازية
مرة أخرى تنجح الجماعات الارهابية في اختراق النظام الأمني الداخلي
من خلال تنفيذ سلسلة إنفجارات متزامنة هزّت العاصمة الرياض في الثامن
من نوفمبر وحصدت أرواح عدد من الابرياء القاطنين في مجمع المحيا السكني
بالقرب من وادي اللبن. وبالرغم من تحذيرات أجهزة الاستخبارات الأميركية
والاوروبية بأن الجماعات الارهابية إنتقلت من مرحلة التخطيط الى التنفيذ
وأنها في طريقها الى الهدف، الا أن تلك التحذيرات لم تحل دون وصول السيارات
الثلاث المفخخة الى الموقع المستهدف، الامر الذي كشف مجدداً ضعف البنية
الأمنية في السعودية. إن التبرير المتداول حول المساحة الشاسعة للمملكة
والتي تسمح بتهريب السلاح وتنفيذ عمليات ضخمة كالتي جرت في الثاني عشر
من مايو والثامن من نوفمبر لم يقنع كثيراً من السكان المحليين والاجانب،
فهذه المساحة ثابتة طيلة عمر الدولة السعودية وأن وجود ثغرات أمنية في
جدار الدولة ليس طارئاً، فلماذا الآن باتت هذه المساحة الشاسعة مشكلة؟
إن العملية الانتحارية الاخيرة تأتي بعد خمسة شهور على عملية مماثلة
وقعت في العاصمة الرياض، وما تلاها من حوادث عنف متفرقة في أجزاء مختلفة
من المملكة..هذه العمليات المتوالية ساهمت في تصعيد الاوضاع الأمنية
الداخلية، ونقلت الدولة والمجتمع وعلى نحو سريع الى مرحلة شديدة الحراجة
والخطورة في ظل إستمرار تدهور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية. إن المؤشرات
الحالية تفيد بأن هناك عمليات عديدة قد تم التخطيط لها وبعضها قد جرى
إحباطه بسبب أخطاء فنية وقعت فيها جماعات العنف، فيما تحقق الأخيرة إختراقاً
كاسحاً داخل أجهزة الأمن. إن الخطر المتعاظم الذي تشكله جماعات العنف
حالياً دفعت الحكومة الى تجنيد المؤسسة الدينية وإحباط تأثيرات خطاب
العنف على الشارع المحلي، حيث بدأت وسائل الاعلام المحلية بحملة توجيهية
مضادة تبتغي إشاعة مناخ عدائي ضد الجماعات الارهابية وفي نفس الوقت تحقيق
غرض وقائي يمنع إنضمام أفراد جدد الى هذه الجماعات. ولكن الشكوك مازالت
قائمة حول قدرة الحكومة في القضاء على بؤر العنف كونها مازالت تعتمد
منهج الاصطدام المباشر مع الاعضاء المنخرطين في شبكات العنف.
بكلام آخر، إن إستمرار حوادث العنف بوتائر متصاعدة يثبت بأن الحكومة
لا يمكنها السير في تبني الخيار الأمني منفرداً في القضاء على العنف
ومصادره والجماعات المتورطة فيه. والسبب ببساطة، أن الحكومة فقدت ثقة
المجتمع ولم تعد تحظى بقاعدة شعبية ودعم صلب من قبل السكان، فالاحتقانات
الداخلية لا تسمح بصناعة إجماع وطني ولا خلق إصطفاف شعبي خلف الدولة.
ومن أجل أن تكسب الحكومة تعاطفاً داخلياً وتأييداً شعبياً، لابد ـ كما
يرى البعض ـ أن تدرج الخيار الأمني ضمن إستراتيجية إصلاحية شاملة وعاجلة،
والتشديد هنا على فتح أفق الأصلاح السياسي من أجل إشراك السكان المحليين
في مواجهة العنف، وإجهاض مبرراته، فهنا ستدخل الدولة والمجتمع معاً في
مواجهة مع جماعات العنف، والتي يمكن عزلها وإحباط مخططها من خلال ازالة
الاحتقانات الداخلية وإعادة بناء الثقة بين المجتمع والدولة، بحيث يمكن
أن يشكل المجتمع أكبر قوة قادرة على القضاء على مصادر التوتر، وتالياً
تحييد جماعات العنف.
في الوقت الراهن، يتمترس المجتمع في جبهة محايدة، وأفراده غالباً
ما يلتزمون موقف المتفرج، لا يعنيهم من يخسر أو يكسب هذه المعركة، بل
هناك من يتمنى أن يقضي الخصمان على بعضهما. فالنظرة العامة لدى المجتمع
إزاء الدولة وخصمها الحالي لا تكاد تختلف، فكلاهما يمثلان مصدر شقاء
المجتمع، ولذلك فإن الحرب بينهما لا تعني له شيئاً كثيراً. ومؤسف القول،
أن الدولة وبعد إقحام المجتمع في معركة الأمن لم تقدّم ما فيه إشارات
مطمئنة الى قيامها بإجراءات كفيلة بإعادة بناء الثقة، حيث مازالت مبادراتها
المتلكئة في الاصلاح السياسي تصدر عن شكوك وهواجس في مجتمع تريد منه
أن يعينها على محاربة خصمها.
كان بإمكان الدولة أن تعيد تقييم الدور المركزي الذي يمكن للمجتمع
أن يضطلع به في مواجهة مشكلات الداخل، بوصفه ـ أي المجتمع ـ يمثل الرصيد
الاستراتيجي البشري القادر على مواجهة التحديات والمخاطر المحيقة بالدولة
والمجتمع، ولكن تفعيل دور المجتمع يتوقف على ما تقدّمه الدولة، فمازال
المواطنون ينتظرون مبادرة وطنية اصلاحية شاملة وفورية من قبل الدولة
كيما يقرروا الدخول الى المعركة ضد العنف. وهذا يعني أن الاصلاحات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية في بعديها الشامل والفوري كفيلة بكسر تيار العنف،
ودون ذلك فستبقى المعركة بين طرفين: الحكومة والجماعات الارهابية، وهذا
سيجعل منها معركة طويلة الأجل، وقد يؤدي ذلك الى استنزاف قدرة الدولة
على إخماد بؤر العنف، فيما قد ينقلب المجتمع في لحظة ما على الدولة حين
تفقد الاخيرة كفاءة ادارة المشكلات الراهنة.
وهناك سؤال مركزي: هل أن حوادث العنف ستدفع بإتجاه الاسراع نحو الاصلاح
السياسي أم أنها ستحبطه أو تؤجله لجهة تعزيز الخيار الأمني؟
يعتقد البعض بأن الحوادث الارهابية ستقرّب أجل الاصلاح السياسي وذلك
للأسباب التالية:
أولاً: لأن الحكومة السعودية لم تحقق حتى الآن إنجازاً أمنياً ملحوظاً،
وأن الاسترسال في سياسة مواجهة العنف بالعنف سيحيل السعودية الى دولة
بوليسية، بحيث تكثر التدابير الأمنية الصارمة وتوضع نقاط التفتيش على
طول الطرق السريعة، وعلى المنافذ الاستراتيجية المهمة، وستتزايد حالات
الاعتقال، وتتكثف المداهمات الامنية للمنازل، وهذا من شأنه إشاعة مناخ
توتر داخلي، وبالتالي إنتظار المزيد من التصعيد في الوضع الداخلي بعد
أن تتحول البلاد الى ساحة حرب مفتوحة بين الحكومة وجماعات الارهاب. نذكر
هنا بأن تذمراً واسعاً وسط عوائل المعتقلين في سجن الحائر وسجون أخرى
داخل المملكة إزاء ظروف ومدد اعتقال أبنائهم، فكثير من العوائل أبلغت
بأن أبناءها سيطلق صراحهم في شهر شعبان الماضي الا أنهم مازالوا قابعين
داخل معتقلاتهم.
وثانياً، إن تكثيف التدابير الأمنية سيؤدي الى تأزيم الوضع الداخلي،
الذي يحمل بداخله عناصر تفجر هائلة بسبب أزمات إقتصادية وسياسية واجتماعية.
وهذا في الواقع سيؤدي الى عزل السلطة وليس الجماعات الارهابية وفي ذلك
مقتل السلطة، فقد عبّر كثيرون عن استيائهم من الاجراءات الأمنية الصارمة
التي إتبعتها وزارة الداخلية مع المواطنين، حيث يتم إيقاف سائقي السيارات
في الشوارع العامة ويتم إنزال الركاب بطريقة إستفزازية، وإخضاعهم لعملية
تفتيش دقيقة وصارمة، إن تدابير كهذه من شأنها خلق توترات داخلية واسعة
النطاق، وهذا ما بدأ يطفح على السطح بعد التفجيرات الأخيرة.
ثالثاً: هناك البعد الاقتصادي، فوجود تدابير أمنية مشددة في تواصل
مع العمليات الارهابية من شأنه أن يحرم الدولة من فرص إستثمارية هي اليوم
في مسيس الحاجة اليها، من أجل تخفيف بعض الاعباء الاقتصادية المتنامية
على كاهل الدولة. فالبيانات الصادرة عن حكومات الولايات المتحدة وأوروبا
الى رعاياها والبعثات الدبلوماسية في السعودية بإتخاذ أقصى تدابير الحيطة
والحذر تحسباً لأعمال إرهابية وشيكة يحدث دويّاً في المجتمع الاقتصادي
الدولي، ومراكز القرار الاقتصادي في الشركات العالمية..
لهذه الاسباب مجتمعة، يميل أصحاب هذا الرأي الى الاعتقاد بأن الحكومة
تجد نفسها حالياً أمام مواجهة مباشرة مع خيار الاصلاح السياسي الشامل
والفوري من أجل درء المزيد من التدهور الأمني في الداخل، الأمر الذي
قد يسوقها ـ حال قررت المضي في تجاهل المطلب الاصلاحي ـ الى عزلة شبه
تامة محلياً ودولياً. فالمجتمع يتكبد حالياً خسائر فادحة نتيجة إصرار
الدولة على الاستعمال المفرط للخيار الأمني، وأن إخضاع المجتمع بالكامل
الى عمليات تفتيش صارمة لا يمكن أن يبررها سوى وجود ما يوازيها من إصلاحات
سياسية واقتصادية واجتماعية.
هناك رأي آخر يقول بأن الدولة ستواصل سيرها الحثيث نحو توسيع إطار
عملياتها الأمنية لأنها تجد نفسها في تحدي مع مجموعات تهدد إستقرار الدولة
ومصيرها. فالعمليات الإرهابية تمثل خطراً محدقاً بالسلطة أولاً وأخيراً
وأن زوال الخطر يكمن في الاصطدام المباشر بجماعات العنف من أجل إعادة
بناء هيبة الدولة المحطمة.
ويزيد أصحاب هذا الرأي بأن إقدام الدولة على الاعلان عن برنامج إصلاحي
جديد قد يفسّر على أنه تنازل وعلامة ضعف، وهو ما لا تريد الحكومة إظهاره
أمام القوى الاجتماعية والسياسية في الداخل، وبخاصة التيار الاصلاحي
العريض في المملكة الذي أصابه الاحباط من جراء الخطوات الاصلاحية المرتبكة
المعلن عنها مؤخراً. يضاف الى ذلك، أن الحكومة تشعر بأن العنف والاصلاح
السياسي تحديان يهددان استقرار الدولة، وبالتالي فهي تتعامل معهما بمنهجية
شبه موحدة، فلا فرق بين من يمتطي شاحنة مفخخة ومن يقدّم برنامجاً اصلاحياً
في عريضة. إن العقلية السائدة في دوائر صناعة القرار السياسي داخل العائلة
المالكة تحتكم الى تصنيف المجتمع بكافة شرائحه وقواه السياسية بوصفه
خصماً ممكناً، يحاول الافتئات على تركة العائلة المالكة وامتيازاتها
في الدولة، وبالتالي فإن خيار الأمن مريح من حيث كونه لا يتطلب تنازلاً
سياسياً ولا يعكس ضعفاً ظاهراً في الدولة.
هناك فريق ثالث يقول بالجمع بين خياري الامن والاصلاح السياسي، إذ
أن تصاعد مستوى العنف لا يجبه بالانفتاح السياسي وتنفيذ أجندة إصلاحية
شاملة، حيث أن ذلك قد يمنح جماعات العنف تسهيلات إضافية لتنفيذ المزيد
من العمليات الارهابية، أي أن الاصلاح السياسي قد يتم اختطافه واستغلاله
بصورة سيئة لجهة تحقيق مآرب خاصة. ولذلك، فإن المطلوب هو حماية المشروع
الاصلاحي من خلال رسم سياسة متوازية تجمع بين خياري الأمن والاصلاح السياسي،
وتلبي تطلعات الدولة والمجتمع معا من خلال المشاركة الجماعية في إعادة
بناء الوطن على أسس الاحساس بالخطر المشترك، والمصلحة المتبادلة. بيد
أن ثمة تحفظات مشروعة حيال قدرة الدولة على الجمع بين الخيارين بما لا
يطغى أحدهما على الآخر. وهناك من يرى بأن الامن والاصلاح السياسي نقيضان
لا يجتمعان في مكان وزمان واحد، إذ أن تطبيق اجراءات أمنية تعسفية يتطلب
تضييقاً شديداً على حريات الافراد والجماعات، كما أن وضع نظام أمني صارم
يملي بصورة تلقائية تعطيل بعض من المصالح العامة. وتخبر تجارب الدول
العربية التي عاشت حالة طوارىء معلنة ومستترة بأن التدابير الأمنية إستعملت
كذريعة لإنتهاك الحريات العامة، وتعطيل العمل بالدستور، ومصادرة الحقوق.
وسيبقى السؤال الهاجس دائماً: هل ستنجح الحكومة في تطبيق خطة دقيقة قادرة
على الجمع بين المهمة الأمنية والمشروع الاصلاحي؟
إن وضع السؤال في السياق التاريخي للتجربة السعودية يبعث على القلق،
فقد كان اللجوء الى الخيار الأمني يتم على حساب الاصلاح السياسي، بل
وتقويضاً له، وفيما يبدو فإن هناك قناعة شبه تامة في الوقت الراهن بأن
هذا الخيار مازال يحتفظ بمفعول قوي في مجابهة الخصوم الداخليين، فيما
لا يزال التفكير في الخيار الاصلاحي كبديل أو كخيار إضافي الى جانب الخيار
الأمني ضعيفاً. فقد نجحت الحكومة في إدارة المعركة بذكاء مع التيار الاصلاحي
الذي جرى إنهاكه وتأطير دوره في الضغط على الحكومة لتنفيذ مطالبه الاصلاحية،
بل إن خيبة الأمل التي أصابت رموز التيار الاصلاحي أسقطت من يده سلاحاً
كان يعوّل عليه كثيراً وهو العرائض ومنهج التناصح مع ولاة الأمر، فيما
قفزت الى الواجهة جماعات أخرى أدخلت الى الفعل السياسي الضاغط تقنيات
جديدة كالمظاهرات التي لم يكن التيار الاصلاحي مؤهلاً نفسياً وسياسياً
بالقدر الكافي لاعتمادها كوسيلة ضغط اضافية، إما لأنه مازال يعاني من
أمراض النخبة المعزولة عن محيطها الاجتماعي، أو لأنه يفتقر الى التضحية
الكافية بمكتسبات يخشى زوالها فيما لو أقدم على خطوة تصعيدية من هذا
القبيل.
|