كيف يجب أن نقرأ مشكلاتنا
صناعة الخارج الوهمي
النزوع المتنامي نحو التفتيش عن جذور وأطراف خارجية لأزمات البلاد
الامنية والسياسية بات يثير الدهشة والسخرية في آن، فقد حضر الخارج بكثافة
في بيانات وتصريحات المسؤولين في وزارة الداخلية. إنها في الحقيقة محاولة
يائسة لتبرئة الذات مما يصيب البلاد من محن، وافراطاً في تفسير الحوادث
تفسيراً مشوّهاً وكأن ما يجري على البلاد هو من صنع أناس لا ينتمون الى
جلدتنا، ولا يحملون فكرنا، ولا يخرجون من بيوتنا وجوامعنا وجامعاتنا
ومدارسنا وحلقات درسنا.
نتذكر حين بدأت وسائل الاعلامية الاجنبية تسلط أضواءها الكثيفة على
أيديولوجية التطرف الناشئة في ديارنا، إنبرى وزير الداخلية الأمير نايف
ليكيل التهم جزافاً لفكر جماعة الأخوان المسلمين، محمّلاً إياها مسؤولية
انتشار أفكار التطرف والغلو، بل يكاد يحمّلها مسؤولية انهدام البرجين
في الحادي عشر من سبتمبر، مما أثار لغطاً واسعاً في الداخل والخارج،
مهملاً عن عمد ما يختزن في مصادر التفكير الديني المحلي من جرعات عنف
شديدة المفعول، ومسدلاً ستاراً سميكاً على سيل الكتابات المتطرفة المنتجة
والرائجة في الداخل. وحين تفجّر العنف في أشكال غير مسبوقة في مناطق
عديدة من البلاد، حاولت أجهزة الأمن العثور على خيوط خارجية مهما كان
ضعفها وبعدها لتحيل منها عنصراً رئيسياً في معادلة العنف المحلية، في
إيحاء مقصود الى نفي الرابطة المحلية الأصيلة بما يجري من تحولات أمنية
خطيرة.
إن نزوعاً من هذا القبيل يعكس منهجية السلطة في تفسير أزمات الدولة،
الاقتصادية والسياسية والامنية، بما يبتعد كثيراً عن الملامسة المباشرة
لكل أزمة ووضع الحلول الصحيحة لها. إذ لا يمكن ممارسة نقد ذاتي للفكر
الديني السائد حين يكون فكر الجماعات الأخرى هو المسؤول المباشر عن تفجّر
ظاهرة العنف محلياً، ولا يمكن أن توضع حلول اقتصادية واجتماعية حين تكون
عناصر أجنية متسللة مسؤولة عن تنظيم وإدارة حوادث العنف في أرجاء البلاد،
ولا يمكن أن تتوصل الدولة الى حل سياسي طالما أن إرادة الشعب في الاصلاح
السياسي مرتبطة بتأثيرات قوى أجنبية ..أليس هذا كله ما توحي به بيانات
أجهزة الأمن وخطاب الدولة في الوقت الراهن؟ ومن المؤسف أن تنساق بعض
صحفنا المحلية الى ترديد مقولات الأمن والاسترسال في ترسيخها في أذهان
القارىء المحلي، إستخفافاً بوعي المواطن وإدراكه وتقييمه للأمور، وتكذيباً
لما يرى ويسمع.
إن الشفافية التي كانت البلاد بحاجة الى إعتمادها من أجل تشخيص أزمات
الدولة لم تتحقق حتى الآن، بل هناك من يريد اجترار منهج التعتيم وقذف
الآخر باللوم لما يجري في ديارنا، بما يعكس إصرار بعض أقطاب الحكم على
نفي أي دور لهم في كل ما جرى ويجري، وتنزيهاً للأيديولوجية المشرعنة
للدولة. فقد بقي الفكر الديني المتشدد متماسكاً حتى الآن، بل مازال يحظى
بالرواج والانتشار رغم الاجراءات الفنية السطحية في التعليم والاعلام
التي قضت الضرورة السياسية بتخفيف جرعة التشدد بداخلهما تلبية لرغبة
الغرب والادارة الأميركية، فيما ظل الفكر المتطرف متمدداً ورائجاً في
المساجد ومراكز التعليم الديني وفي النشرات الشعبية والمهرجانات الخطابية
العامة.
ما يلزم قوله هنا، إن هذا الفكر لم يكن في يوم ما مستمداً من تراث
جماعة الاخوان المسلمين، بل إن قادة الاخوان الذين قدموا الى المملكة
في زمن الرئيس عبد الناصر مثل محمد قطب والشيخ محمد الغزالي تبنوا فكراً
دينياً معتدلاً واصطدموا بسبب موقفهم هذا مع تيار التطرف الديني في الداخل
لأنهم دعوا للتسامح والحرية الدينية..فأدبيات الأخوان الشائعة في أسواق
الكتاب المحلية لم تحمل من التشدد بالقدر الذي حمله فكرنا الديني المحلي
النشأة والصناعة والقاعدة. بل هناك من يحمّل هذا الفكر مسؤولية نشوء
ظواهر متطرفة في كل من مصر وبلاد الشام والشمال الأفريقي فضلاً عن بقاع
عديدة من العالم. فقد مثّلت السلفية الجهادية أخطر ظاهرة إجتماعية سياسية
في هذه المناطق، الأمر الذي يثير تساؤلاً جدياً عن السبب الذي يجعل بلدانا
عديدة كان فيها لجماعة الاخوان المسلمين وجودات تنظمية مثل الاردن والشام
والسودان وتونس غيرها في منأى عن منحدر التطرف والعنف..ولماذا تكون ديارنا
وحدها أرضية خصبة لنشوء التطرف وجماعات العنف؟
إن الشفافية في بعدها الفكري تتطلب غربلة واسعة النطاق لتراث ديني
ضخم مازال يغذي بدرجة كبير وعي الأفراد والجماعات، ويضخ الاقتناعات العقدية
حول مجتمعات الأرض قاطبة، ويرسم طريقة في التعامل مع الآخر تجنح الى
استعمال القوة ضد كل من يقف على غير جادتنا ويستلهم من غير مصادرنا الدينية.
لم يعد هذا التراث سراً حتى نضلل الآخرين بنفي التهمة عنه، وجرّ الانتباه
الى تراث غيرنا، لكونه قد تعرض لنقد من قبل حكومات عربية مثل مصر وسوريا
التي كانت لها أغراضها الخاصة في مواجهة انتشار الفكر الديني بكل أشكاله،
وخشية وصول التيار الديني الى السلطة، والتهديدات المحتملة والمتوهمة
التي قد يشكّلها ذلك على الداخل والخارج.
إن الفكر المتشدد لا وطن له، ولا جنسية ولا هوية، كما يقول منظرو
وزارة الداخلية..وكل ذلك صحيح، ولكن لا يجب أن يصرفنا عن الحقيقة الدامغة،
فهناك قراءة علمية وموضوعية تفرض على المضطلعين بمحاربة ظواهر التشدد
والعنف القيام بها من أجل إمتصاص مفعولات التوترات الاجتماعية والسياسية
والامنية. فنحن هنا نتعامل مع معطيات واقعية تشكل مجتمعة عناصر في التحولات
الاجتماعية والسياسية، ولو أريد منا إيجاز عناصر معادلة العنف المحلي
لأمكن القول بأنها على النحو التالي: فكر ديني متشدد زائداً أزمات اقتصادية
واجتماعية خانقة، إنحباس سياسي في الاعلى، ضخ اتصالي كثيف (الانترنت،
الفضائيات)، ظروف سياسية اقليمية ودولية متغيرة، وعناصر أخرى أقل أهمية.
إن هذه تمثل عناصر الاحتراق القابلة لتوليد ظواهر متشددة في الداخل،
وإن محاولة اختزال هذه العناصر في عنصر واحد يجعل المعالجة مشوّهة وأحياناً
كارثية.
إن الركون الى الرأي القائل بأن حوادث العنف المتكررة في مدن المملكة
تمثل إستجابات فورية وعاطفية لمؤثرات خارجية بدرجة أساسية هو ما يبرر
حالياً اللجوء بإسراف الى الخيار الأمني للقضاء على جماعات العنف، التي
يراد تصويرها وكأنها قطع معزولة عن المحيط، أو كأنها نبتات أجنبية عن
البيئة المحلية. يذّكرنا ذلك كله بالمزاعم الاولى لوزير الداخلية بأن
لا وجود لعناصر من تنظيم القاعدة على الاراضي السعودية، وقد تمسك الأمير
نايف بموقفه هذا لفترة من الوقت حتى صدّقه البعض، وحتى إذا بدأ دوي الانفجارات
يسمع في مركز السلطة تبددت تلك المزاعم وأصبحت بيانات وزارة الداخلية
تردد إسم شبكة تنظيم القاعدة بصورة متكررة ولكن مع الاحتفاظ بدعوى (الخارجية)،
فقد حمّلت هذه الشبكة كل حوادث العنف بما يشمل تلك التي لم يثبت بالدليل
القاطع تورّط شبكة القاعدة فيها. في كل الاحوال كانت الارادة العليا
تميل الى نفي وجود جذور محلية للعنف والإرهاب، ولكن التكاثر المثير للقلق
لجماعات العنف، وتزايد وتائر العمليات الارهابية يجعلا من دعوى القلة
المتورطة مثار سخرية، فقد أثبتت حوادث العنف بأن الضالعين فيها هم بأعداد
كبيرة، بل هناك ما يشير الى دخول أعداد أخرى الى مسرح العمليات، والابواب
مازالت مفتوحة لانضمام المزيد..
من خلال مقارنة بسيطة بين المتعاطفين مع الفكر المتشدد والآخر المعتدل،
تكشف مواقع الحوار على شبكة الانترنت بأن الفكر المتطرف يكتسب رواجاً
مذهلاً لدى كثير من الافراد، الذين يترشح تحوّلهم الى مناصرين للخيارات
الراديكالية في التغيير والتعامل مع الآخر المختلف. إن هذه المواقع تعكس
جانباً من تفكير الجماعات الدينية في بلادنا، وتمثل الاحتياطي الاستراتيجي
للعنف المحلي، بل منهم من كتب ونظّر للمجابهات الدينية المفترضة مع الجماعات
المنحرفة والكافرة والضالة، بما في ذلك الدولة، وقد وجد من بينهم قتلى
في سوح الجهاد الداخلي! لم يكن بين كتّاب ومحرري هذه المواقع من يرجع
الى البنا وسيد قطب والهضيبي والغزالي والترابي والغنوشي من قادة الأخوان،
فهناك من المصادر والمصنّفات لعلماء ورموز جهاديين محليين من أمدّوهم
بمؤونة الجهادة ضد أعداء الله وشريعة رسوله، مشفوعة بمجاميع الفتاوى
التكفيرية والتبديعية التي تمثل أوامر دينية عاجلة للتنفيذ وإبراء الذمم.
انقسام الخطاب الديني الى متشدد ومعتدل لم يعد كافياً من أجل ترويض
الميولات المتشددة في الوسط الديني، فالمعتدلون يخضعون لعملية عزل مستمرة
لأنهم جاءوا في الوقت الضائع، أي في وقت لم تعد تملك فيه الدولة سيطرة
تامة على مجتمعها الديني، تماماً كما أن المعتدلين مثّلوا النتوء المتأخر
في بنية الجماعة الدينية المتشددة، فقد خلّف هؤلاء وراءهم جيلاً تربّى
على أفكار كانت من بناتهم بالأمس القريب، بل إن هناك من ترجمها الى برنامج
عمل واستراتيجية مواجهة في الداخل والخارج.
إن نقطة البدء في تصحيح مسار الفكر الديني مازالت غير واضحة، لأن
هناك من يريد أن يبتعد عن وضع الاصبع على موقع الداء. ولتحقيق هذه الغاية
لابد من مكاشفة صريحة مع الذات، فهناك معضلات خطيرة تشهدها البلاد لم
يتم حتى الآن توصيفها بدقة ووضوح وعلانية، وهذا يتطلب معرفة أسباب هذه
المعضلات وجذورها وأبعادها، ومالم يتم الاعتراف بها فإن معالجات عميقة
وحاسمة ستكون مستبعدة. وكما في التعامل مع الأمراض الجسدية حيث أن التشخيص
الدقيقة للأزمة وحده الكفيل برسم مسار صحيح للعلاج، فإن المشكلات الاقتصادية
والسياسية والاجتماعية تنطبق عليها ذات القاعدة. إن المحاولات الرامية
الى الهروب من الحقيقة لا تعدو كونها ترسيباً للأزمة الراهنة وتعطيلاً
لمسارات الحل المفترضة، فليس هناك ما يمكن اخفاؤه من مشكلات، فقد بلغت
حداً فرضت نفسها بقوة حتى على تصريحات الكبار من الأمراء، غير أن ما
يجعل الحل عسيراً هو الرغبة في عدم الاعتراف بالمسؤولية عنها، وبالتالي
عدم البحث عن حلول لها.
ليس هناك من يحمّل الخارج مسؤولية البطالة المتزايدة بوتائر مرعبة،
وليس هناك من يرى للخارج دوراً في تعطّل مسار الاصلاح السياسي والاجتماعي،
وليس هناك من يستريح لمقولة بأن إنعدام الحريات وانتهاك الحقوق كانت
بفعل قوى خارجية، ولا توقف التنمية، وارتفاع معدلات الجريمة، والفساد
الاداري، والاختلات الاجتماعية والعائلية كان للخارج دور فيها..فمن هذا
الخارج المقصود إذن؟ ولماذا إضطراب أمن الوطن والمواطن يكون وحده بفعل
عامل خارجي؟ أليس كل ذلك محاولة لفصل المشكلات عن ردود الافعال عليها
والافرازات الناشئة عنها؟
إن ما يجري الآن من حوادث عنف مرشح للتواصل والتفاقم، لأن المغذيات
مازالت متدفقة، والحواضن ايضاً متوفرة. إن التذمر المكبوت والذي لا يسمح
له بمجرد التعبير عن نفسه في شكل كلمة حرة، ومظاهرة سلمية، وعريضة مطلبية،
ومقالة ناقدة، يتحوّل الى مادة مرشحة للإنفجار. إن فشل الدولة في صناعة
إطارات متاحة للتعبير الجمعي عن مشكلات وهموم مشتركة، في ظل غياب مؤسسات
المجتمع المدني، وفّر فرصة لنشوء ظواهر راديكالية، كما أن إخماد بؤر
التوتر لا يتم من خلال الاستعمال المفرط للقوة، فإشاعة الحريات العامة
والبدء الفوري بإصلاحات سياسية جوهرية وشاملة وفورية كفيل بإحباط مبررات
العنف، تماما كما حدث في دول عديدة إختفت من شوارعها الجماعات المسلحة.
فحين تبدأ الحرية بالتبرعم والازدهار يختفي السلاح عن الانظار، وحين
تنعدم الحريات يكون دوي القنابل وأزيز الرصاص وحده الصوت المسوع.
|