السعودية عام 2013
حصادٌ مُـرّ وتحديات وجوديّة
عمر المالكي
ماذا تغيّر في السعودية خلال عام 2013 وما يتوقع من
حولها القريب والبعيد حصوله في عام 2014 وما بعده. فالدولة
السعودية لم تعد هي التي كان يعرفها الآخرون، دول ومراقبون
وباحثون، وإن السياسة الخارجية إذا كانت تحمل في طياتها
السمة العامة للدولة في لحظة تاريخية معينة، فإن السعودية
الآن هي كيان مختلف في أدائه، وسماته، وتطلعاته.
لقد شهدت السعودية خلال عام 2013 تحولات جوهرية في
ضوء متغيرات محلية وإقليمية ودولية تركت آثارها المباشرة
على مجمل مناشط والحصاد الاجمالي لسياسات السعودية خلال
عام ويتوقع استمراره في أعوام مقبلة.
تقليدياً، تستمد السعودية مشروعيتها وقوتها من مصادر
فريدة تميّزت بها خلال فترة زمنية طويلة نسبياً. فقد حصلت
على مكافأة من السماء (رعاية الحرمين الشريفين) وأخرى
من الأرض (النفط)، وشكّلا رافعة للدولة السعودية لجهة
ترسيخ دعائم السلطة المركزية ووحدة الكيان.
ولكن، لم يعد يحتفظ هذان المصدران بنفس الزخم السابق،
نتيجة متغيرات جديدة وشيكة تركت تأثيراتها المباشرة على
مكانة السعودية في السوق النفطية العالمية من بينها: اكتشاف
النفط الصخري في الولايات المتحدة وبلدان أخرى عديدة في
العالم وبكميات هائلة، واكتشاف الغاز وبكميات تجارية في
أكثر من قارة في العالم، وبروز أسواق جديدة واعدة في الشرق
الأقصى والتي تشكّل اليوم مصدر اهتمام ومنافسة لدى القوى
الدولية الكبرى والفاعلة.
من جهة ثانية، واجهت الجهود الاستثنائية التي تبذلها
السعودية للحفاظ على مكانتها كراعي وحيد للإسلام السني،
تحديات جديّة تمس صميم الأيديلوجية الدينية، برزت في ضوء
تراجع واضح في مكانة المؤسسة الدينية الرسمية وتمثّل في
رفض العمل بفتاوى علماء السلطة، وخارجياً، وقف قطاع كبير
من المسلمين السنّة ضد الدولة السعودية كرد فعل على ضلوعها
في إسقاط حكم الاخوان في مصر..
ومن أجل إلقاء الضوء على الدولة السعودية في ضوء التحوّلات
المحلية والخارجية إقليمية ودولية خلال عام 2013، هناك
قائمتان من المتغيرات، منها بنيوية/داخلية تستغرق فترة
زمنية طويلة نسبياً، وأخرى خارجية وقعت في غضون السنوات
الثلاث الأخيرة، أي منذ بدء الربيع العربي وحتى الوقت
الراهن.
يمكن التوقّف عند مجموعة متغيرات فرضت نفسها على بنية
المجتمع ولا تزال مفاعيلها مستمرة، ومنها:
أ ـ انكماش الطبقة الوسطى:
الطبقة الوسطى، ببساطة، هي القادرة على ضمان الاحتياجات
الاساسية لأفرادها دون اللجوء الى مصادر أخرى، وتشمل،
أي الطبقة، معلمي المدارس، والموظفين في قطاع الخدمة المدنية،
والضباط العسكريين، والحرفيين والتجار. وقد ارتفع عدد
أفراد الطبقة الوسطى في السعودية من 22.200 سنة 1970 الى
4.6 مليون شخص في السنة الحالية، منهم 11 بالمئة فحسب
من العوائل التي تنفق على وسائل الترفيه والادخار أي القادرة
على تغطية نفقات المعيشة وأكثر. (أنظر: د. حسن العالي:
الطبقة الوسطى في دول مجلس التعاون الخليجي: الخصائص والآفاق،
مركز الجزيرة للدراسات، 22 تموز 2013).
ولكن ما ظهر من خلال معطيات إجتماعية واقتصادية يفيد
بأن الطبقة الوسطى لم تتطوّر ضمن نسق التحولات البنيوية
التي تشهدها الدولة ضمن برامج التحديث التقليدية (أي ما
يعرف بالخطط الخمسية التي بدأت سنة 1970)، فقد تآكلت الطبقة
نتيجة عجز أفرادها عن تلبية احتياجاتها الثابتة المتعلقة
بسبب تضخم مالي في الأسعار، ونمو سكاني عال، وثبات رواتب
لأكثر من 35 عاماً (أنظر: جريدة الرياض، 13 أيار 2013).
وفي النتائج، أن هذه الطبقة الوسطى لم تعد قادرة على احتضان
مشاريع الاصلاح السياسي أو توليد مبادرات لجهة تغيير وجهة
الدولة أو حتى المساعدة على دفع الأفراد لصنع إطارات للتعبير
عن مصالحهم العامة عبر مؤسسات المجتمع المدني كحاضن للديمقراطية.
ب ـ مأزق الدولة الريعية
في بلد يعتمد على الاقتصاد الريعي، يعيش الافراد على
ما توفّره الدولة من تقديمات اجتماعية ومصادر دعم مادية.
وبعد مرور أكثر من أربعة عقود على تجربة الاقتصاد الريعي
في المملكة، بدا أن الدولة عاجزة عن تلبية الحد الادنى
من شروط الرعاية. ومن المفارقات أنه في الفترة ما بين
2003 ـ 2012 بلغ الفائض المالي المتراكم أكثر من من تريليوني
ريال سعودي.
وتستثمر السعودية قسماً كبيراً من ايراداتها من النفط
في شراء أصول أميركية، وتعتبر السعودية رابع أكبر مستثمري
سوق سندات الخزانة الأميركية، وتأتي بعد الصين واليابان
وبريطانيا. وبحسب تقارير اقتصادية نشرت في تشرين أول الماضي،
يقدر حجم الاستثمارات السعودية في سوق سندات الخزانة الاميركية
بنحو 229 مليار دولار، وهي تمثل بين 70% الى 90% من الاستثمارات
السعودية في الخارج. ويلف الغموض طبيعة هذه الاستثمارات
وحجمها، بالنظر الى خسائر السعودية في السندات الاميركية
المبنية على الدين العام الاميركي وتقدر الخسائر بنحو
40 مليار دولار أي ما يعادل 20 بالمئة من إجمالي الاستثمارات.
مهما يكن، فإن الفائض المالي المتراكم فشل في معالجة
أزمات البطالة والفقر والسكن. وفيما تمسكّت الحكومة السعودية
بنسبة بطالة تدنو عن 10% وهو المعدل العالمي لنسبة العاطلين
والتي لا تضعها في مستوى الأزمة، أشار نائب مدير عام صندق
النقد الدولي مِن زو خلال زيارته الى السعودية في كانون
الأول الجاري الى أن نسبة العاطلين بين الشباب تمثل 1
من كل 4 أشخاص.
ملف الفقر يشكّل هو الآخر أحد تمظهرات الاختلال الاجتماعي،
حيث تقدّر نسبة الذي يعيشون تحت خط الفقر في المملكة بربع
إجمالي السكان، أو ما تعداده 4 ملايين نسمة (أنظر: واشنطن
بوست، 1 كانون الثاني 2013). يقابل ذلك، تفشي الفساد في
أجهزة الدولة، وبحسب تقرير صادر عن مجلس الغرف التجارية
السعودية في 17 تشرين الثاني 2012 أن الفساد في السعودية
يأكل من حق المواطن ودخله السنوي بمقدار الثلثين، فيما
ذكرت صحيفة (الجارديان) اللندنية في 29 كانون الثاني 2013
أن السعودية من بين دول أخرى لا تقوم بأي إجراء يذكر في
مكافحة الفساد في تجارة الأسلحة.
يقترح الخبير الاقتصادي السعودي عبد العزيز الدخيل
إعادة هيكلة سياسية كمدخل حتمي لأي عملية إصلاح اقتصادي
أو إعادة هيكلة اقتصادية. ويتوقع الدخيل وصول الدولة السعودية
الى ما أسماها هاوية اقتصادية في حال سارت الامور على
النسق ذاته (صحيفة الحياة، 10 كانون أول 2013).
ج ـ ثورة الوعي
إن منسوب الوعي لدى غالبية سكّان المملكة السعودية
قد تضاعف في العقد الأخير بفعل الثراء الاتصالي، بدأ أول
مرة مع الفضائيات ثم الانترنت وصولاً الى وسائل التواصل
الاجتماعي. وبات الشعب في أغلبه صانعاً للحدث، وهو اليوم
قادر على التأثير في السياسات والقرارات الرسمية عبر حملات
منظمة يقوم بها عبر مواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً (فيسبوك)
و(تويتر)، ما دفع بجريدة (نيويورك تايمز) للقول بأن ثورة
السعوديين تتم عبر تويتر (20 أكتوبر 2012).
نشير هنا الى دراسة نشرت في 11 كانون أول الجاري تفيد
بأن عدد مستخدمي شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في السعودية
بلغ 7.8 مليون مستخدم، وأن أكثر فئة عمرية على "فيسبوك"
في السعودية هي ما بين 25 و34 عاماً بنسبة 46 في المائة،
فيما ذكرت دراسة أجراها قسم الإحصائيات في موقع "بيزنس
إنسايدر" ونشرت في 8 تشرين الثاني الماضي أن عدد مستخدمي
تويتر في السعودية بلغ 4.8 ملايين مستخدم، بما يجعل السعودية
أكبر دولة في مجال استخدام تويتر، بنسبة تصل الى 41% من
أجمالي مستخدمي الانترنت في هذا البلد (12 مليون مستخدم
للانترنت في السعودية) يضعها في المرتبة الأولى عالمياً.
يبدو واضحاً، في ضوء هذه المعطيات، أن الغالبية الساحقة
من المواطنين، وخصوصاً الشباب، لم تعد تخضع تحت تأثير
مصادر التوجيه الرسمي، بل هي تتفاعل مع ثقافة إنسانية
كونية تتطور خارج الحدود وتؤسس لقطيعة نفسية وفكرية مع
السلطة بكل أشكالها. والأهم من ذلك كله، أن انفتاح الغالبية
السكانية على وسائل الاتصال الاجتماعي وما يدور فيها من
تفاعلات ثقافية وسياسية تشكّل مادة تحريض على إحداث تغيير
في الواقع، ولذلك تحوّلت مواقع فيسبوك وتويتر الى ما يشبه
مضمار إحماء لحركة تغيير شعبية واسعة النطاق، الأمر الذي
دفع بالحكومة للتفكير بصورة جديّة في حجب مواقع التواصل
الاجتماعي لصعوبة مراقبتها.
متغيرات خارجية
التحوّلات الكبرى التي فرضت نفسها على المشهد الجيوسياسي
في الشرق الأوسط بعد مرور ثلاث سنوات على الربيع العربي،
وضعت المملكة السعودية في مركز الزلازل السياسية والاجتماعية
والامنية.
تواجه المملكة أخطاراً جديّة على أمنها في أبعاده الثلاثة:
الوطني، والقومي، والاستراتيجي، الأمر الذي دفعها الى
تبني مقاربات تبدو اليوم متناقضة تماماً مع خصائص الدولة
المحافظة، التي كانت تسبغ عليها في العقود السابقة.
تأسس مفهوم الأمن لدى العائلة المالكة في السعودية
على، أولاً، توفير متطلبات وحدة السلطة المركزية ودرء
الأخطار الداخلية المحدقة بها من قبل القوى السياسية والاجتماعية
الطامحة نحو السيطرة على السلطة أو التي تخطط للمنافسة
أو المشاركة في السلطة بما يكسر احتكارية العائلة المالكة،
ويعرّف بـ (الأمن الوطني). وثانياً، توفير بيئة متصالحة
مع النظام السعودي، بأن يكون الجوار الإقليمي منسجماً
معه، ويخضع في مستوى آخر لنفوذه، ويمكن أن نسميه (الأمن
القومي). وثالثاً: (الأمن الاستراتيجي)، ويقوم على بسط
نفوذ في مناطق بعيدة لغايات أخرى: مشاغلة الخصوم في مناطق
نائية من أجل إبعاد الخطر عن الحدود، أو بناء شبكة تحالفات
من أجل المساعدة في احتواء أخطار تأتي من دول مستهدفة
بهذه التحالفات، أو تعزيز نفوذ في دول أخرى لها تأثير
في النظامين الاقليمي أو الدولي. ويمتد نطاق الامن الاستراتيجي
السعودي الى باكستان شرقاً، والى المغرب غرباً، والى تركيا
شمالاً والى بحر العرب جنوباً..
إن أهم ما نتج عن ربيع العرب، أنه أفضى الى انكشاف
المملكة أمنياً، حيث سقطت على إثره نظرية الأمن القومي
السعودي. خلال أقل من عقد خسرت السعودية حصنين لهما صلة
حيوية بأمنها القومي، الاول نظام الحكم في العراق قبل
نيسان 2003، والثاني نظام مبارك في مصر قبل شباط 2011،
ثم توالى سقوط الحصن: انفجار ثورة شعبية في اليمن جنوباً
وفي البحرين شرقاً بما وضع الأمن الوطني والقومي السعودي
على محك خطير.
وبالرغم من مساعي المملكة السعودية للحيلولة دون انتقال
الاحتجاجات الى أراضيها عبر الثورة المضادة، التي يبدو
أنها حققّت نجاحات نسبية في اليمن عبر المبادرة الخليجية،
وفي البحرين عبر التدخل العسكري المباشر، وفي مصر عبر
دعم العسكر، وفي ليبيا وسوريا عبر تمويل الجماعات المسلّحة،
إلا أن ذلك لم ينعكس في هيئة نتائج محسومة لصالح المملكة
السعودية. فلا تزال أوضاع هذه البلدان غير مستقرة، ما
يجعل الكلام عن احتواء المملكة وبصورة تامة لثورات الربيع
العربي مجرد تكهنات أو تمنيات.
بلمحة عامة لخارطة التحالفات السعودية الإقليمية، نرى
أن الرياض خسرت موقعها كزعيمة للعالم العربي، فلم يتبق
لها من الحلفاء سوى (بعض) دول الخليج، والى حدّ ما مصر
السيسي، ومملكتا الأردن والمغرب. الدول الرئيسة كالعراق
وسوريا والجزائر، في عداء مع الرياض، هذا غير السودان
وتونس. الرأي العام العربي بمجمله أكثر عداءً اليوم للرياض
مما كان عليه قبل بضع سنوات، ولاتزال الرياض تهدر مكانتها
في الصراعات المحلية العربية.
الرهان على حرب سوريا
أوكل الملك عبد الله إدارة ملف سوريا لرئيس الاستخبارات
العامة بندر بن سلطان في حزيران الماضي، كونه الأقدر على
التنسيق مع الولايات المتحدة وأجهزتها الأمنية على وجه
الخصوص، للعمل على مشروع إسقاط نظام بشار الأسد.
كانت الخطة التي رسمها مدير السي آي أيه السابق ديفيد
بتريوس مع الأمير بندر منذ توليه جهاز الاستخبارات العامة
في 11 تموز 2012 تقوم على استيعاب المقاتلين الاسلاميين
من تنظيم «القاعدة» وغيره في الحرب السورية، من أجل استنزاف
الجيش السوري في حرب طويلة ومفتوحة، والتمهيد لتدخل عسكري
دولي بقيادة الولايات المتحدة وصولاً الى إسقاط النظام.
نجحت الخطة في تحشيد مقاتلين ينتمون بحسب تقديرات النظام
السوري الى ثمانين جنسية، وباتت الأراضي السورية مليئة
بالتنظيمات المسلّحة المرتبطة بتنظيم القاعدة والسلفية
الجهادية. واحتدمت المعارك الدموية على كامل التراب السوري،
وسقط عشرات الآلاف من الضحايا من عسكريين ومدنيين ومن
سوريين وعرب وأجانب، ولحق الدمار الهائل بالمدن والمحافظات
السورية، ولكن لم تؤد الخطة الى سقوط النظام السوري، ما
اضطر الغرب لأن يعيد النظر في خيار الحرب، برغم من محاولات
توفير مبرراتها، عبر اتهام النظام بارتكاب مجازر جماعية،
أو استخدام أسلحة الدمار الشامل، أو تحت شعار حماية المدنيين..ولكن
في نهاية المطاف توصّل الغرب الى تسوية في الملف الكيماوي
السوري يفضي الى تسوية شاملة للأزمة..
كشف تراجع إدارة أوباما عن الضربة العسكرية على سوريا،
ودخولها في تسوية مع روسيا في الملف الكيماوي السوري ومن
ثم مع ايران، في الملف النووي، عن صدع بنيوي عميق في التفكير
الاستراتيجي السعودي، انعكس بصورة فورية على الأداء الدبلوماسي
والسياسي المرتبك على المستويين الاقليمي والدولي، تمثّل
في إلغاء: زيارات رؤساء دول (لبنان، ايران)، وكلمة السعودية
في الامم المتحدة، ثم تخلّيها عن المقعد غير الدائم في
مجلس الامن، وكرّت سبحة التوترات في علاقاتها مع تركيا
وقطر على خلفية الانقلاب ضد حكم الاخوان في مصر، ثم في
العلاقة مع اليمن وصل الى حد التدخل العسكري، واخيراً
انفجار أزمة في العلاقات السعودية ـ العمانية بعد اعلان
السلطنة رفض فكرة الاتحاد الخليجي، الى جانب التوترات
التقليدية في علاقاتها مع ايران والعراق وسوريا وقوى المقاومة
في لبنان وفلسطين..
ما يلفت الإنتباه أمام هذه التمزّقات في علاقات السعودية
مع الدول العربية والاقليمية غياب أي نشاط دبلوماسي سعودي
على الساحة العربية منذ اندلاع الازمة السورية، فلا يكاد
نسمع عن زيارة قام بها الملك أو ولي العهد أو وزير الخارجية
الى بلد عربي باستثناء ما يتعلق بالاستجمام (المغرب) أو
بالأزمة السورية (مصر والاردن).
الخلاف مع ايران: رهانات مبتورة
على امتداد العقدين الماضيين، وتأكّد في السنوات الخمس
الأخيرة، ان المملكة السعودية سخرّت إمكانياتها المالية
والدبلوماسية والاعلامية لمواجهة ما تسميه المشروع الايراني.
وعكس التحرّك السعودي نفسه في مستويات ثلاثة: محلي، واقليمي،
ودولي. وجرى استعمال الاسلحة السياسية والطائفية والاقتصادية
والاستخبارية والعسكرية والارهابية (ممثلة في القاعدة)،
ورفضت بشكل قاطع أي حديث عن تسويات سياسية لا على مستوى
العلاقة المباشرة بين الرياض وطهران، ولا على مستوى مناطق
نفوذهما.
قبل سفر الرئيس الايراني حسن روحاني الى نيويورك لالقاء
كلمة بلاده في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول
الماضي، حاول الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية، تشكيل
وفد خليجي برئاسة الشيخ صباح الأحمد، أمير الكويت، بهدف
إيصال رسالة خليجية مشتركة الى الإدارة الاميركية تنطوي
على انزعاج من أي تطور للعلاقات الايرانية الأميركية وتداعياتها
الخطيرة على استقرار المنطقة، ولكن الفكرة فشلت لرفض أمير
الكويت رئاسة الوفد، كما فشلت فكرة رئاسة سعود الفيصل
نفسه لوفد من وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي.
شعرت المملكة بأن شقيقاتها ليست على استعداد للدخول في
مواجهة مع الاخ الأكبر، الولايات المتحدة، بل على العكس
بادرت أكثر دول مجلس التعاون بالاتصال بايران بصورة مباشرة
أو عبر وسطاء، فزار سلطان عمان طهران، وحمل معه رسالة
قطرية بالرغبة في عودة العلاقات الطبيعية مع ايران، فيما
أبلغ ولي العهد الاماراتي محمد بن زايد الروس بأنه على
استعداد للبدء بمحادثات استراتيجية مع ايران..
وجاءت زيارة محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الايراني
الى كل من الكويت والامارات، وما تضمنته من مواقف إيجابية،
أشعرت السعودية بأن المزاج الخليجي العام ليس على توافق
مع توجهات الشقيقة الكبرى، وظهر في حدّه الأقصى برفض عمان
فكرة الاتحاد الخليجي، ما دفع بجريدة (الحياة) المموّلة
سعودياً لأن تتحدث عن مساع إيرانية عمانية لتفكيك مجلس
التعاون الخليجي (الحياة، 9 كانون أول/ديسمبر 2013)، فيما
لوّحت السعودية بقطع مساعدات دول مجلس التعاون الخليجي
عن عمان، بحسب جريدة (القدس العربي) في 11 كانون أول/ديسمبر
2013.
حاول ظريف أن يبعث رسالة طمأنة الى السعودية، الى جانب
بطبيعة الحال الرغبة بفتح صفحة معها، ولكن بلا طائل. في
مؤتمره الصحافي الكويت في الأول من كانون أول (ديسبمر)
2013، اعتبر ظريف السعودية "دولة مهمة وصاحبة نفوذ في
المنطقة". ولكن، لا يبدو أن الرياض في وارد إحداث استدارة
كاملة نحو العمل الدبلوماسي، في وقت لا تزال تراهن على
الميدان السوري، وقد يتطلب منها وقت إضافي قبل أن تستعيد
توازنها وتنظر بواقعية الى المتغيرات من حولها.
وفيما عبّر الامير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة
السابق في المملكة السعودية، عن موقف واضح إزاء النفوذ
الايراني وكرر الاتهامات لإيران بالتدخل في شؤون الدول
العربية "من البحرين إلى فلسطين" وقبل كل شيء سوريا، بحسب
ما جاء في كلمته في منتدى (حوار المنامة) الأمني في 7
كانون الاول 2013، في المقابل قال مسؤول إيراني سابق (إن
على الجمهورية الإسلامية وجيرانها ان يتعلموا التعايش
السلمي بدون اعتماد دول الخليج العربية على الغرب في حمايتها).
ما يظهر مما سبق أن الأوضاع المحلية خضعت تحت تأثير
أوضاع إقليمية مضطربة، ما يعزّز الحكمة الدارجة بأن السياسة
الخارجية لأي دولة إنما هي انعكاس لسياستها الداخلية.
وقد ظهر أن الشأن الخارجي اندغم في الشأن المحلي، الى
حد باتت القضايا الخارجية خصوصاً تلك ذات الطابع الخلافي
شأناً داخلياً سعودياً (شعبياً ورسمياً). خلافات السعودية
مع الأسد، ومع طهران، ومع الحكم المركزي في بغداد، وحزب
الله في لبنان، والاخوان المسلمين في مصر، والحوثيين في
اليمن، وحماس في فلسطين، وفي لحظة ما قطر، والآن مع سلطنة
عمان، تندمج في النقاشات الداخلية، وتمثّل أحد مولّدات
المشروعية الدينية والسياسية للنظام السعودي، على الأقل
وسط البيئة الحاضنة له، أي منطقة نجد. إثارة موضوعات خلافية
مثل هذه تهدف الى نقل المعركة من الداخل الى الخارج، للحيلولة
دون نجاح أي تجربة ديمقراطية في الخارج لما لها من تأثيرات
على الداخل.
وكما يبدو، فإن الانخراط الكامل في النزاعات الخارجية،
كما هو الحال في سوريا الآن، ينطوي على رفض ضمني لأي عملية
اصلاحية محلية شاملة اقتصادية وسياسية واجتماعية.
في ضوء المعطيات سالفة الذكر، فإن ثمة مخاطر جمّة تحدق
بالدولة السعودية نتيجة مقاربتها لملفات المنطقة، وانتقالها
المفاجىء الى سياسة الهروب الى الامام، في ظل تبدّلات
مفاجئة في خارطة التحالفات والمصالح الغربية، وبروز قوى
دولية جديدة ناهضة، وتبدّلات بنيوية عميقة في اقتصاديات
الدول، وتالياً تراجع مكانة السعودية في الاستراتيجية
الاميركية.
وإذا كان هناك ما يمكن استخلاصه فإن المملكة السعودية
بحاجة الى مراجعة نقدية شاملة للمقاربات المعتمدة خلال
السنوات الثلاث الماضية، والتي ساهمت في تمزيق شبكة علاقاتها
العربية والاقليمية والدولية، وتركت آثاراً مباشرة على
أمنها القومي والاستراتيجي، وإن زيادة وتيرة الانغماس
في أزمات المنطقة يحمل في طياته ارتدادات خطيرة في المستقبل
على الداخل، ولا مناص من بدء عملية إصلاحية شاملة تبدأ
بالسياسة أولاً وتنتهي بالدفاع أخيراً، وما بينهما إصلاحات
اقتصادية وقضائية واجتماعية وثقافية.
ما يلزم الإضاءة عليه في ظل التغير الدرماتيكي في العلاقة
بين واشنطن والرياض، هو كيف ينظر الى الدور السعودي في
المنطقة والعالم. فقد كانت السعودية تواجه التحديات الداخلية
والخارجية لاعتقادها بأن ثمة مصدراً للحماية والغطاء يجعلها
مطمئنة لكل التداعيات التي يمكن تنجم عن تلك الأخطاء..
ولأن الولايات المتحدة كانت لديها أجندة في الشرق الأوسط،
وكانت السعودية هي أحد الأدوات الفاعلة في تنفيذ هذه الأجندة،
وهذا ربما ما جعل العلاقة السعودية الاسرائيلية ممكنة
بل مطلوبة لأن الدولتين تضطلعان بمهمة مشتركة وتعملان
في نفس حقل التحديات والأهداف، ولكن مع قرار واشنطن الانسحاب
من المنطقة ونقل ثقلها الاستراتيجي والاقتصادي الى مناطق
أخرى من العالم، وخصوصاً في الشرق الأقصى، شعرت السعودية
بأنها غير مقتنعة لا بالتغييرات التي جرت في الاستراتيجية
الاميركية ولا بأن دورها لم يعد مجدياً، أو تجاوزه الزمن
ولابد من التعاطي بعقلية جديدة تنخفض فيه وتيرة العداوة
والخصومة مع الآخرين وتعلو فيها خيارات الانفتاح والتعايش
معهم..
لا زالت تعتقد السعودية بأنها قادرة على تعويض الغياب
الاميركي عن المنطقة بالأموال، لأنها بلاشك تشعر بالخسارة
وتبحث عن دور مهما كلف الأمر، وما التقارب السعودي الاسرائيلي
الا إحساس بالخطر المشترك ومحاولة لملء الفراغ بعد الانسحاب
التدريجي للولايات المتحدة، والاهم أن هذا التقارب يراد
منه فرض معادلة يريد الطرفان السعودي والاسرائيلي من الولايات
المتحدة مباركتها ودعمها مهما كان قرارها..
قد تكون الأوضاع السائلة التي تمر بها الشرق الأوسط
حيث الفوضى السياسة التي تعيشها مناطق عديدة والتمزقات
السياسية والامنية التي تتعرض لها بلدان كبيرة مثل العراق
وسوريا ولبنان واليمن ومصر والسودان وليبيا وتونس تجعل
من إمكانية استغلال هذه الاوضاع واردة وراجحة في الوقت
الحاضر.
وهناك من يرى بأن السعودية تريد ان تظهر اقتناعاً بأن
بإمكانها ان تؤدي الدور الاميركي في منطقة الشرق الاوسط.
وهذا هو السبب الحقيقي للاختلاف والخلاف اللذين بديا بين
السعودية وأميركا في الاشهر الاخيرة. من ناحية أميركا
فإنها تبدي عدم اقتناع بأن تتولى السعودية دورها في المنطقة.
ولكنها لا تكف للحظة واحدة عن إظهار الاختلاف بينها وبين
السعودية. وقد حاول وزير الخارجية كيري اثناء وجوده في
الرياض توجيه الشكر للملك السعودي لدعمه جهود السلام،
وهذا هو السبب الرئيسي والاول الذي حاول حكام السعودية
استغلاله في محاولة القيام بدورهم الجديد، والذي بدا في
عدد من الخلافات مع الحكام الاميركيين بشأن احداث مصر
وأحداث سوريا بوجه خاص.
في السياق نفسه، هناك من ينظر الى الدور البارز الذي
يلعبه الامير بندر بن سلطان كونه ينبئ باستمرار اهتمامه
بالتقارب الخفي بين السعودية وإسرائيل. وهذا يعني ان السعودية
عازمة على القيام بدور كبير في تأزيم المنطقة. يزيد من
اهتمام السعودية بهذا الدور انها ترى من وجهة نظرها الخاصة
ان احداث مصر وسوريا بوجه خاص، انما تميل الى إضعاف مركزي
مصر وسوريا في المنطقة. وهو امر تحبذه السعودية الى أقصى
حد.
الأمر الذي يمكن توقعه من السعودية من الآن هو ان تلعب
دوراً بارزاً وخطيراً في المنطقة عموماً وفي سوريا ولبنان
والعراق واليمن بصورة خاصة، وإن تراجع الدور الاميركي
في المنطقة سوف يتواصل في المرحلة المقبلة، وإن محاولات
السعودية لملء الفراغ وإن تواصلت الا أنها لن تحقق الاستقرار
لا لها ولا للمنطقة، لأنها اعتادت أن تحقق استقرارها في
محيط مضطرب، وإن مشاغلة الاخرين في بلدانهم تعتبر بمثابة
نجاة لها من الأخطار الوجودية.
|