موتوا.. أنّى كنتم!
هل عاد المقاتلون الى الديار؟
محمد الأنصاري
نقول سوف يمضي وقت طويل قبل أن تحصل عوائل القتلى السعوديين
في سوريا على الرواية الحقيقية عن أبنائها، كيف هاجروا،
ومن أجل ماذا، ومن المحرّض والمموّل، وأين قتلوا، وكيف
قتلوا، وما مصير أبدانهم، هل دفنت أم أحرّقت، أم تناثرت
أشلاءً أم تفسّخت في العراء أم طمرت بين ركام البنايات
المهدّمة؟ أسئلة قد يحسمها المؤدلجون بكلمة: شهداء، ولسان
حالهم: ولست أبالي حين أقتل مسلماً..على أي جنب كان في
الله مصرعي، وفي قول آخر: على أي أرض كان في الله مصرعي..
للرهط المسؤول عن صوغ أيديولوجية النفير الى الهجرة
والجهاد أن يختار ما يشاء من تفسيرات مريحة أو بالأحرى
مرضية للذات، لأن من غير الجائز بعد سقوط المئات من القتلى
أن ينقلب هذا الرهط على عقبيه، ويقدّم الدليل على ضلوعه
في جريمة قتل جماعية، وينزع القداسة عن فعل كان موصولاً
في لحظة بالسماء وإذا برائحته النتنة يأنف منها أديم الأرض.
نقلت صحيفة (عكاظ) في 25 مارس الماضي عن السفير السعودي
في أنقره عادل مرداد تصريحاً له باهتاً يزعم فيه (تدفق
الشباب على مقرات السفارة بتركيا رغم انتهاء المهلة..)،
وقال بأن أعداداً كبيرة من السعوديين الشباب ممن تورطوا
في الصراع المسلح في سوريا ما زالوا يتوافدون على مقرات
السفارة في أنقرة واسطنبول حتى بعد انتهاء المهلة المحددة.
وأوضح بأن (واقع الحال يشير إلى أن كثيراً من الشباب العائدين
من مناطق الصراع المسلح كانوا واقعين تحت تأثير حملات
التغرير، ودعاوى الجهاد التي اكتشفوا زيفها في ميادين
القتال حيث فوجئوا هناك بالواقع المختلف تماما عن الصورة
ذهنية التي رسمت لهم).
وحين سئل السفير عن أعداد المقاتلين السعوديين المتواجدين
في مناطق الصراع في سوريا أو العائدين منها، قال: «السفارة
ليست جهة الاختصاص في هذا الشأن، ومن الصعب إحصاء الأعداد
بدقة..»، فلم يقدّم رقماً ولو تقديرياً حول أعداد المقاتلين
العائدين حتى عبر السفارة السعودية في تركيا..
في المقابل لحظنا أن هناك مقاتلين سعوديين ظهروا على
الكاميرا وهم يمزّقون جوازات سفرهم ويصرّون على القتال
في سوريا، بل ويتوعّدون النظام السعودي الذي خدعهم بمعركة
مقبلة.
نعم أجرت القناة الاولى الرسمية مقابلة مع شخصين كان
من بين مقاتلي داعش، ونقلا كلاماً لم يكن جديداً بل قيل
أمثاله عن السعوديين الذين كانوا يقاتلون في العراق..
وهنا نسلّط الضوء على قضية المقاتلين السعوديين، ونضع
بعض الحقائق أمام القارىء لمعرفة بعض ما يجري على هؤلاء
الذين ذهبوا نتيجة خدعة جديدة..
تفاوتت التقديرات حول أعداد المقاتلين السعوديين في
سوريا، بلغ أقصاها نحو عشرة آلاف مقاتل سعودي مدنياً وعسكرياً،
وأدناها نحو ألفي وخمسمائة مقاتل. لغة الأرقام مفتوحة
على جدل واسع ومشروع. وبصورة إجمالية، يمكن تصنيف المقاتلين
السعوديين على النحو التالي:
■ مقاتلون بهويات مزوّرة أو أسماء حركية ورمزية وهؤلاء
منبثون في صفوف الجماعات المسلّحة عموماً، وهم اليوم بين
قتيل وأسير ومرابط على خط النار.
■ مقاتلون حملوا معهم هوياتهم الثبوتية وهم قلّة، وقد
وردت أسماؤهم في قوائم القتلى سواء لدى السلطات السورية،
والتركية، والعراقية، والسعودية..
■ مقاتلون لا يعرف مصيرهم، فقد انقطعت أخبارهم منذ
سنوات بعد انخراطهم في تنظيم القاعدة وفروعها.
ما يعنينا هنا هو بداية النفير الكبير للمقاتلين السعوديين،
ورقعة انتشارهم على الخارطة السورية، وكيف قتلوا. سؤال
النفير يبدو مركزياً، لأننا نسجّل هنا شهادة إدانة ضد
الجهة الضالعة في التحريض، والتمويل، والتدريب، والتسليح
وصولاً الى القتل. في مطالعة متأنية لقائمة القتلى السعوديين
حتى نهاية العام 2013، على أساس العمر، ومكان القتل، وتاريخه،
يتبين التالي: أن الغالبية الساحقة من القتلى السعوديين
كانت في الفترة التي تولى فيها بندر بن سلطان، رئيس الاستخبارات
العامة، الملف السوري. أي منذ صيف 2012 وحتى نهاية 2013.
قبل ذلك، كانت نسبة المشاركة السعودية في القتال السوري
متدنية بل تكاد تكون نادرة، سوى من أولئك الذين التحقوا
بالقاعدة في العراق أو اليمن في سنوات لاحقة، وكانوا يتنقّلون
من (أرض رباط) إلى أخرى. أما الموجة الكبرى من المهاجرين
السعوديين فبدأت من الناحية الفعلية مع إمساك بندر بن
سلطان الملف. حينذاك، انطلقت حملة تعبئة شاملة على مستوى
المملكة والخليج بصورة عامة تنادي بالنفير محثوثة بالشعار
الوهابي الشهير: الدم الدم..الهدم الهدم..
خطب التحريض على القتال في سوريا كانت ولا تزال تغمر
مواقع التواصل الاجتماعي، بما يقطع الريب في دور النظام
السعودي والغطاء الواسع والسميك الذي وفّره لخطباء المساجد
والدعاة الذين ما كانوا لينخرطوا في مشروع الجهاد إلا
بعد أن أشعل المولجون به الضوء الأخضر.
قبل صدور الأمر الملكي في 3 شباط الماضي، كان كل ما
يتعلّق بالقتال في سوريا يبدو عادياً، بل من مستلزمات
الخطة المعتمدة من بندر بن سلطان ورفيقه ديفيد بتريوس،
مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سابقاً، في
توظيف كل المقاتلين من أي تنظيم أو دولة في مشروع إسقاط
النظام السوري. لم يكن الإرهاب حاضراً، ولم يكن محمد بن
نايف، وزير الداخلية، معنياً بإدارة ملف مكافحة الإرهاب
الخاصة بالمقاتلين السعوديين. بل على العكس، كانت الداخلية
نفسها ضالعة في التحريض على القتال، كما كشفت وثيقة بتاريخ
19 نيسان 2011 عن إتفاق بين الداخلية السعودية و1334 سجيناً
من جنسيات عربية وإسلامية «على إعفائهم من إقامة الحد
الشرعي عليهم وصرف معاشات شهرية لعائلاتهم وذويهم الذين
سيتم منعهم من السفر خارج السعودية مقابل تأهيل المتهمين
وتدريبهم من أجل وإرسالهم الى الجهاد في سورية»، بحسب
نص الوثيقة..
يحلو لمن يريد إعادة قراءة التاريخ بأثر رجعي، أن يضع
الوثيقة في سياق الحرب على الارهاب، ولكن بقذف كرة القاعدة
خارج الحدود. مهما يكن، تأبى الحقيقة إلا المحافظة على
ثوريتها، بحسب سارتر.
الخيارات السعودية، كما رهاناتها، حسمت في صيف 2012،
وبدا الاختلال واضحاً في الثنائية المخاتلة: ممانعة القتال
في سوريا والتحريض عليه. ليس من قبيل الصدفة البته أن
يخرج مئات الشباب السعوديين في أوقات متقاربة ومن منافذ
جويّة معروفة وتكون وجهة السفر: تركيا، لبنان، الأردن.
وما هو أبعد عن كل دعوى، أن يغادر عسكريون الديار وبأعداد
كبيرة من دون إذونات خاصة من القيادة العسكرية..وفي كل
الأحوال، لم يخطأ الأمر الملكي في تقسيم المقاتلين السعوديين
في الخارج الى مدنيين وعسكريين، ولو كان الكلام يقتصر
على عدد ضئيل من العسكريين لما اضطر لذكرهم في الأصل ولما
خصّص لهم قائمة عقوبات أشدّ من غيرهم.
نلفت هنا الى دور نائب وزير الدفاع الأمير سلمان بن
سلطان، وكان الوكيل الحصري للأمير بندر بن سلطان في متابعة
شؤون المقاتلين من سعوديين وغيرهم، وكان يتخّذ من العاصمة
الأردنية، عمّان، مقرّاً له..
الوثائق التي بحوزتنا حول أسماء القتلى السعوديين في
سوريا، وتاريخ ومكان القتل تمثّل مصدر غنى عن كل مزاعم
ومزاعم مضادة. أول معطى يظهر في القائمة هو انتشار المقاتلين
السعودييين في كل المحافظات السورية، ولكن ثمة مناطق كان
فيها أعداد القتلى مرتفعاً كما في إدلب، دير الزور، وحمص،
وحلب. يومىء هذا المعطى الى أن العدد الأكبر من المقاتلين
دخلوا الأراضي السورية من منفذين: تركيا ولبنان. وأيضاً،
يلفت هذا المعطى الى أن القتلى السعوديين كانوا يعملون
في المناطق الخاضعة تحت سيطرة تنظيمات «داعش» و»النصرة»،
والقاعدة بعناوين مختلفة.
وهناك مقاتلون سعوديون توّلوا مواقع قيادية في تلك
التنظيمات مثل أبو تراب النجدي، أمير داعش في مدينة الرقّة
قتل في 13 أيلول 2013، ومنور بن مفضي بن محمد الخالدي،
قائد الجناح العسكري في جبهة النصرة في مدينة تدمر، قتل
بريف حمص بتاريخ 2 آذار 2013، وأحمد خالد حسين العتيبي،
قيادي في تنظيم القاعدة، قتل في تل دو بريف حمص بتاريخ
19 كانون الثاني 2013.
وهناك أمراء شرعيون، من بينهم الشيخ عبد الله المحيسني
الذي توسّط بين داعش والنصرة والجبهة الاسلامية لوقف النزاع
بينها عبر مبادرة أطلق عليها إسم (مبادرة الأمة). وقد
ظهر المحيسني مؤخراً في معارك كسب وهو يبشّر أهل دعوته
ورفاق دربه بالنصر. ومن الأمراء الشرعيين، عثمان آل نازح
العسيري، دكتور أصول الفقه في جامعة الملك خالد بأبها،
وقد قتل في آيار 2012، وسلطان بن عيسى العطوي، عضو نادي
تبوك الأدبي سابقاً، وأمير شرعي في جبهة (النصرة).
معطى آخر يتمثل في أعمار القتلى التي تتراوح بين العشرينيات
والثلاثينات، وقلّة منهم، وهم القادة، في أواخر الثلاثينيات
والاربعينيات. دلالة هذا المعطى تكمن في كون غالبية هؤلاء
لم ترتبط بتجربة القاعدة في أفغانستان ولم تتواصل مع قيادتها.
نشير الى أن من بين المقاتلين السعوديين من تقل أعمارهم
عن العشرين عاماً مثل يزيد محمد ظافر الشهري، من الخرج،
وعمره 18 عاماً، قتل في إدلب بتاريخ 16 نيسان 2013.
أما العسكريون، فأوردت قائمة القتلى عدداً من الأسماء
من بينهم عويض بن مسلط بن فهيد الحارثي، وكان جندياً في
الحرس الوطني، وسلطان بن الحميدي بن بتلاء الحربي، نقيب
في الجيش، وقتل في منطقة الباشورة بريف اللاذقية في 22
نيسان 2013، وسيف بن جمعان المالكي، رقيب في القاعدة الجوية
في مدينة جدة قتل في معارك حلب في أيلول 2013، وعلي عبد
الرحمن مؤمنة، مقدم في وزارة الدفاع والطيران السعودية
وقتل في دير سلمان بالغوطة الشرقية لدمشق بتاريخ 12 تموز
2013.
العمليات الانتحارية التي نفّذها شباب سعوديون تكاد
تمثّل سمة بارزة في قائمة القتلى، من بينهم: عبد الوهاب
بن عاطف الزهراني، 21 عاماً، قتل في تنفيذ عملية انتحارية
استهدفت معامل الدفاع ريف حمص في 6 شباط 2013، وسلطان
العصيمي، قتل بتنفيذ تفجير انتحاري في حمص بتاريخ 20 أيار
2013، وأبو الزبير المدني (إسم حركي)، وقتل بتنفيذ عملية
انتحارية استهدفت مبنى المرور في جبال القلمون بريف دمشق
بتاريخ 22 أيلول 2013، ووليد بن علي بن محمد يحيى آل مداوي
العسيري، وقتل بتنفيذ عملية انتحارية في جسر الشغور بتاريخ
26 أيار 2013، وأبو ضحى الجنوبي (إسم حركي)، وقتل في عملية
انتحارية في سعسع بريف دمشق في كانون الثاني 2013، ويوسف
الرويلي، وقتل في تنفيذ عملية انتحارية في قرية معارة
الأرتيق بريف حلب في 11 آب 2013، ويوسف محمد الناصر الملّقب
بـ «سيّاف النجدي» وقتل بتنفيذ عملية انتحارية في النبك
بريف دمشق بتاريخ 29 آب 2013، ورائد اللحيدان، المعروف
باسم «الكرّار النجدي» أحد عناصر الكتيبة الخضراء، وقتل
بتنفيذ عملية انتحارية في حسياء بريف حمص بتاريخ 31 تموز
2013، ومعاذ العبد الرحيم، وقتل بتنفيذ عملية انتحارية
في محيط مطار منغ العسكري في حلب بتاريخ 5 آب 2013، وعلي
المانع، والملقّب بـ (أبو حمزة القرشي)، وقام بتنفيذ عملية
انتحارية في قرية التوتة بريف حماة بتاريخ 18 حزيران 2013.
وهناك من يصنّف بأخطر الارهابيين السعوديين في سورية،
مثل عبد العزيز السبيعي، وكان يعمل على استقدام المقاتلين
السعوديين من خلال مواقع التواصل الاجتماعي باستخدامه
حسابين هما «الموحّد» و»قتال»، وقتل في جوبر بريف دمشق
في 24 حزيران 2013، ومعه علي الشهيلي، المعروف على مواقع
التواصل الاجتماعي بـ «سراقة الجوفي».
المعطيات الواردة هنا بحسب قائمة القتلى قد تشكّل جزءاً
من الصورة ولا تعكس بالضرورة تماميتها، ولكنها تقدّم دون
ريب الجزء الجوهري من الرواية التي يراد دفنها عن مقاتلين
سعوديين مدنيين وعسكريين سيقوا الى معركة يجهلون أهدافها
الحقيقية، وحين قضوا نحبهم، لم يمنحوا وسام الشهادة بل
وصموا بالارهاب، بعد أن كان المحرّضون يمنّونهم بمائدة
مع الأنبياء في الجنة، فوجدوا أنفسهم في قائمة المنسيين
والملاحقين بتهمة الارهاب أحياءً وأمواتاً.
|