|
مصالحة بعيدة المنال!
|
تفاؤل مفتعل في خلاف الدوحة والرياض
تسويّة مؤقتة أم مصالح متعارضة؟
عبد الوهاب فقي
التوقيع على وثيقة الرياض، كان بمثابة وقف اطلاق نار
فحسب، وما قيل عن بداية انفراج الأزمة هو الإشارة التي
أراد المشاركون في لقاء الرياض التقاطها وتعميمها إعلامياً
لتحقيق هدف تكتيكي يتعلق بتطوّرات واستحقاقات مستعجلة
في المنطقة، فرضت انسجاماً خليجياً مؤقتاً لأن خسارة السعودية
لقطر في هذه المرحلة ستكون مكلفة.
مثل كرة ثلج تدحرج الخلاف السعودي القطري، وبلغ ذروته
بسحب السفراء من الدوحة. موضوعات الخلاف باتت معروفة،
ومواقف الطرفين، وكذلك هوية الوسطاء «لرأب الصدع في البيت
الخليجي»، ولكن ثمة تباينات حول تداعيات الخلاف وآثاره
ومدياته، وبقي السؤل الكبير: هل نجحت الوساطات واللقاءات
الثنائية والمشتركة في الكويت والرياض في وضع نهاية حاسمة
للخلاف؟
ونبدأ باجتماع الرياض الذي عقد في القاعدة الجوية بالقرب
من مطار الرياض في 17 إبريل الماضي وحضره وزراء خارجية
دول مجلس التعاون الخليجي. بدت أجواء ما قبل وبعد الاجتماع
كأنها بهرجة إعلامية مفتعلة ومريبة الى حد ما. لم يخرج
أي من وزراء خارجية الدول الخليجية الأربع المعنيّة بالخلاف
الى الإعلام ليزفّ بشارة المصالحة، واكتفى المتخاصمون
ببيان مشترك.
وحين يجري الحديث عن (آلية) لتنفيذ اتفاق الرياض نكون
أمام معطيين: عدم الاتفاق بصورة نهائية وحاسمة على المسائل
الخلافية، وأن ثمة مدى زمنياً طويلاً نسبياً لتنفيذ بنود
الاتفاق. هذا خلاصة ما ورد في البيان الصادر عن (لقاء
الرياض)، وإن العبارات المفتوحة على تفسيرات متعدّدة كفيلة
بتغيير وجهة التفاؤل المفتعل.
ساعة ساخنة أمضاها وزراء خارجية السعودية والامارات
والبحرين الى جانب قطر قبل أن يلتحق بهم في الساعة التالية
وزيرا خارجية الكويت وعمان. وبخلاف ما كان متوقعاً كان
وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل أقل تشدّداً
بالمقارنة مع وزير الخارجية الاماراتي الشيخ محمد بن زايد
الذي عاد الى بلاده خالي الوفاض، لأن الشروط المطلوب من
قطر تنفيذها قبل السماح بعودة السفراء الى الدوحة، لم
تكن مطروحة على نفس الدرجة من الحدّة، وقد أغضب ذلك قيادة
دولته التي شعرت بأن مصداقيتها قد تضرّرت كثيراً.
وكانت السعودية قد وضعت خمسة شروط لتحقيق المصالحة
مع قطر، خلال لقاء جمع الملك عبد الله والشيخ تميم بحضور
الشيخ صباح الأحمد في الرياض في نهاية نوفمبر 2013. وقد
وجّه الملك اتهامات بنبرة غاضبة لضيفه القطري بدعم جماعة
الاخوان، ووقوفها ضد وزير الدفاع السابق والمرشح الرئاسي
الحالي في مصر عبد الفتاح السيسي، وتحريض قناة (الجزيرة)
على نظام الحكم المصري بعد 30 يونيو 2013.
قيل حينذاك، بأن الأمير القطري الشيخ تميم، وعد بالتجاوب
مع النقاط الخمس الواردة في مذكرة الاتفاق، ووقع أمير
الكويت الشيخ صباح الأحمد، كشاهد.
بدت المطالب السعودية تعجيزية وتمسّ بالسيادة القطرية،
ما دفع بأمير قطر السابق الشيخ حمد للتدخل من أجل وقف
العمل بالبنود لأن ذلك يتطلب تغييرات بنيوية في الدولة
القطرية. فقررت السعودية والامارات والبحرين سحب سفرائها
من الدوحة في سياق سلسلة خطوات تصعيدية، من بينها اغلاق
الحدود البرية والجوية وإلغاء عضوية قطر في مجلس التعاون
الخليجي والجامعة العربية.
بقيت الأزمة تتفاعل خلف الكواليس، وتوقفت الوساطات
من كل الأطراف، الكويتية والاميركية، ببساطة لأن الرياض
كانت متمسّكة بخيار التصعيد حتى النهاية، فيما أصرّت قطر
على حقها في التصرف باعتبارها دولة ذات سيادة، ولديها
سياسة خارجية مستقلة تنسجم مع مصالحها الوطنية.
لقاءات في السر جرت بين مسؤولين خليجيين وأميركيين
وأوروبيين لجهة احتواء تداعيات الأزمة، وتقرر وضع صيغة
أولية لتفاهم خليجي يأخذ نصيبه في الاعلام أكثر منه في
الواقع السياسي، فكان لقاء الرياض والبيان المشترك الصادر
عنه بعباراته الغامضة وبنوده المفتوحة.
لعل تغريدات وزير الدولة للشؤون الخارجية الاماراتية
أنور قرقاش تومىء لأبرز مطلب إماراتي، حيث أوضح في حسابه
الخاص على «تويتر»، بأنه (في ترميمنا لعلاقاتنا الخليجية
المشتركة، يبرز مبدأ عدم التدخل ركناً أساسياً، ومنه عدم
التعرض لبعضنا البعض إعلامياً بصورة مباشرة أو غير مباشرة).
ولفت الى ضرورة تحصين البيت الخليجي، وقال: (علاقاتنا
تحتاج إعادة بناء الثقة..). يشير الوزير الى انتقادات
كان الشيخ يوسف القرضاوي قد وجّهها للإمارات في وقت سابق
لوقوفها الى جانب الحكم في مصر بعد سقوط الاخوان.
بيان الرياض لم يشر الى أي التزام قطري حيال شروط الدول
الخليجية الثلاث بخصوص وقف دعم جماعة الاخوان وايواء شخصيات
معارضة خليجية أو عربية، ووقف التجنيس لعوائل بحرينية،
وعدم التدخل في شؤون مصر السيسي.
غابت الشروط السابقة وجرى التأكيد على مبادىء عامة
من قبيل الحفاظ على وحدة الصف الخليجي، وعدم السماح لأطراف
خارجية التدخل في شؤون دول مجلس التعاون الخليجي، وعدم
تدخل أي دولة بشؤون دولة أخرى من دول المجلس، أو القيام
بما من شأنه الإضرار بمصالحها.
في حقيقة الأمر، فإن التوقيع على وثيقة الرياض، كان
بمثابة وقف اطلاق نار فحسب، وما قيل عن بداية انفراج الأزمة
هو الإشارة التي أراد المشاركون في لقاء الرياض التقاطها
وتعميمها إعلامياً.
|
أحباب في الظاهر وأعداء في الواقع! |
تصريح وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي لصحيفة (الحياة)
في 18 إبريل حول نهاية الأزمة وأن الخلاف بين الدول الاربع
أصبح (من الماضي) حمل إشارة ملتبسة، بخلاف ما يعتقد البعض،
لأن تصريحاً كهذا يفترض صدوره من أحد الوزراء الأربعة
المعنيين بالخلاف، أو على الأقل من الأمين العام لدول
مجلس التعاون الخليجي. وأيضاً، إن النهاية المفترضة للخلاف،
بحسب الوزير العلوي، تقتضي عقد مؤتمر صحافي مشترك يتلى
فيه بيان البشارة بنهاية الأزمة. كل ذلك لم يحصل، بل لحظنا
أن حرباً إعلامية ناعمة اندلعت في صحافة الدول الخليجية
الأربع، على قاعدة أن كل طرف يسوّق لـ (انتصارات) حققها
على الطرف الآخر.
صحافة الدول الثلاث السعودية والاماراتية والبحرينية
تواطأت على اعتبار ما جرى في الرياض بين وزراء خارجية
دول مجلس التعاون الخليجي بمثابة اختراق أدى الى إذعان
الدوحة لشروط هذه الدول بعودة السفراء وتطبيع العلاقات..
والحال، لم يعد السفراء حتى اليوم، ولم يجر الحديث حتى
الآن عن مواقيت لعودتهم.
في المقابل، كانت الصحافة القطرية تبتهج لأن المطالب
السعودية التي طرحت في بداية الأزمة بإغلاق قناة (الجزيرة)،
ووقف كل أشكال الدعم لجماعة الاخوان المسلمين، وإغلاق
مراكز بحثية أميركية، لم تتحقق، ولم يأت البيان المشترك
الصادر بعد لقاء الرياض على ذكرها البته.
أكثر من ذلك، فإن لقاء الرياض نفسه فقد طابعه الاستثنائي
ووضع في سياق اللقاء التشاوري، نصف السنوي، الذي يعقده
وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بحسب مقررات قمة
أبو ظبي العادية في ديسمبر 1998، لمناقشة آخر المستجدات
في الخليج والمنطقة والعالم.
ما أعقب لقاء الرياض من بيانات وتصريحات ومواقف من
مسؤولين خليجيين من مستويات متعدّدة لم يقنع المراقبين
بقرب زوال الأزمة ناهيك عن نهايتها التامة. صحيفة (وول
ستريت جورنال) ذكرت في 21 إبريل بأن «وثيقة الرياض» هي
مجرد «حبر على ورق» وقالت: «إن محاولات وضع حد للصدع بين
دول الخليج جديّة، ولكن الشروط وبنود المصالحة لا تزال
غامضة»، خصوصاً لناحية تحقيقها أو تنفيذ بعض منها.
نعم، قيل عن التزام قطر بطرد نحو 15 عضواً من الاخوان
المسلمين من مواطني مجلس التعاون الخليجي 5 منهم إماراتيون،
وبينهم سعوديان، والبقية من البحرين واليمن، وهؤلاء يقيمون
في قطر. ومع أن السعودية طالبت قطر بإبلاغهم بضرورة مغادرة
الاراضي القطرية، إلا أنه لم يصدر حتى الآن ما يفيد بقيام
قطر بخطوة من هذا القبيل، وكذلك الحال بالنسبة لتخفيف
هجوم الاعلام الفضائي القطري على مصر، حيث لا تزال البرمجة
على حالها دون تغيير والتي تعكس سياسة قطر إزاء الحكم
العسكري في مصر. مطلب الدول الثلاث بطرد الشيخ يوسف القرضاوي
من الدوحة رفضته الأخيرة على لسانه حين قال بأنه قطري
وسوف يدفن في قطر.
قد تزهد السعودية في المطالب الأخرى، باستثناء التحريض
على النظام المصري الحالي عبر توجيه انتقادات لانتخابات
الرئاسة القادمة، أو استضافة معارضين مصريين من الاخوان
وغيرهم في الاعلام القطري وخصوصاً قناة (الجزيرة) لانتقاد
الأوضاع السياسية في مصر.
ما يلفت في كل ما ورد حول مطالب الثالوث الخليجي من
قطر أن ثمة تراجعاً واضحاً في النبرة السعودية، بالقياس
الى الايام الأولى للأزمة، ويرجع ذلك الى حاجة دول الخليج
الى تحقيق أكبر قدر من الانسجام لمواجهة الاستحقاقات الكبرى
المقبلة في مصر وسوريا والعراق ولبنان.
أياً يكن الحال، فإن الاحتفالية التي رافقت لقاء الرياض
وبعده كانت بمثابة إطلاق غمامة إعلامية لتحقيق هدف تكتيكي
يتعلق بتطوّرات مستعجلة في المنطقة، وهذا يفرض انسجاماً
خليجياً في الموقف السياسي وأن خسارة قطر في هذه المرحلة
سوف يكون مكلفاً للسعودية ولدول مجلس التعاون مجتمعة على
المدى البعيد.
وبصرف النظر عن كل ما سبق، فإن الكلام عن تراجع او
انتهاء الخلاف القطري السعودي وبدء الاجتماعات التنسيقية
في إطار مجلس التعاون الخليجي وما يحمله من انطباعات إيجابية،
ينطوي على تبسيط لملف العلاقات السعودية القطرية.
ليس هناك خلاف بين الرياض والدوحة في الموضوع السوري
مثلاً، بل صرّح المسؤولو القطريون بأن خلاف الدوحة مع
الرياض لن يؤثر على تعاونهما في الملف السوري. وليس هناك
خلاف بين البلدين حول التعاون الأمني، ولا الموقف من تنظيمات
«القاعدة» والتنظيمات التكفيرية، فالدولتان الخليجيتان
تدعمان «داعش» في العراق، وتدعمان جبهة «النصرة» في سورية.
بل أكثر من ذلك، ليس هناك خلاف حول بقاء النظام العائلي
الوراثي في البلدين وفي بقية بلدان مجلس التعاون الخليجي.
إذاً أين يكمن الخلاف بين قطر والسعودية، على الأقل
في الوقت الراهن؟.
الخلاف بينهما يتركز في ثلاث قضايا أساسية:
القضية الأولى، الموقف من الإخوان المسلمين: فلا تزال
قطر تدعم هذه الجماعة، في حين أن السعودية تحاربها، ولذلك
دعمت إطاحتها في مصر، وصنفتها كجماعة إرهابية.
القضية الثانية، الموقف من إيران: فمن المعلوم أن السعودية
سعت وتسعى إلى توحيد الموقف الخليجي حول سياستها من إيران،
ولكنّ دولا خليجية مثل عُمان وقطر رفضت الامتثال لإرادة
السعودية إزاء هذه القضية. وإذا كانت مسقط انتهجت دائماً
نهجاً مختلفاً عن السياسة السعودية، فإن قطر في موقفها
وسياستها من إيران عبّرت أيضاً عن إرادة مستقلة وتوجّهاً
ينطلق من مصلحة قطرية بدرجة أولى قبل أي شيء آخر، في حين
ان هناك إصرارا سعودياً على فرض الوصاية على بقية دول
مجلس التعاون، وتحويل الأخير الى ما يشبه إطاراً لممارسة
هذه الوصاية.
القضية الثالثة، التنافس على لعب دور سياسي فاعل بين
السعودية وقطر على مستوى الخليج والمنطقة. وتغذي المصالح
المتضاربة سياسة التنافس هذه في إطار استراتيجية قائمة
على مبدأ تنويع وسائل التعامل مع قضايا وتحدّيات منطقة
الشرق الأوسط.
فثمة خلافات واضحة بين السعودية وقطر في ملفات اليمن
ولبنان ولييبا والسودان ومصر وتونس وتركيا وفلسطين، ولطالما
عبّرت عن ذلك في هيئة مواقف واتصالات سريّة وعلنية.
وتأتي المكالمات الهاتفية المسرّبة لأمير قطر السابق
الشيخ حمد مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي في 2008،
والتي كشفت فيها قطر عن عمق خلافها مع النظام السعودي،
وما تحمله من تصوّرات حوله، وما تتوقعه أيضاً منه وله
في المستقبل. ولذلك، فإن حديث الشيخ حمد عن سقوط وشيك
للنظام السعودي، أي في غضون ست سنوات، وأن أسعار النفط
وحدها التي دفعت عنه خطر الزوال ينطوي على أكثر من مجرد
موقف سياسي بل يحمل في طياته تمنيات برحيله، بعد أن تحوّل
حكم آل سعود الى عبء على المنطقة وشعوبها، وهذا ما يؤشر
الى منسوب التوتر الذي بلغته العلاقات السعودية القطرية.
في ضوء ذلك كله، لا يمكن القول بأن الخلاف السعودي
القطري قد سوّي نهائياً، فالخلاف سوف يستمر، لأن السياسات
التي ترسم في البلدين لا تخدم التصالح والتوافق بل تعزّز
التباين والانقسام، فقد باتت لقطر منظومة حلفاء وشبكة
مصالح لا تنسجم بل قد تتعارض مع نظيرتها السعودية، وبالتالي
فإن التسوية في الخلاف بينهما تصبح جزئية ومؤقتة.
|