قوائم الإرهاب والعنف تترى، والمكافآت المالية كبيرة
الحلول السياسية لأزمة الإستقرار في المملكة
تكاد خيارات الحكومة السعودية في مواجهتها لموجات العنف تتقلّص في
حدود الحلول السهلة، وهي الحلول الأمنية ودفع المزيد من الإغراءات المالية
في المواجهة. ونقول الحلول السهلة، فلأنّها حلول مؤقتة، ولأنّ الحلول
الدائمة ـ أي الحلول السياسية والإجتماعية ـ تحتاج وقتاً أكبر، وتنازلات
ضخمة من قبل صانع القرار لا يريد في الوقت الحاضر مناقشتها
فضلاً عن تلبيتها. ورغم تنبيه الكتاب والصحافيين السعوديين المبكّر الى
أن هذا النوع من الحلول هو على الأقل (غير كافٍ) لإعادة الإستقرار وإيقاف
مفاعيل الدم والتخريب، ولا بدّ ان يكون هناك برنامج أوسع وشامل لاستئصال
جذور المشكلة.. إلاّ أن المسؤولين الأمنيين لا يبدون قدراً ذا بال لذلك.
فهم غير قادرين على مكافحة إغواء وإغراء هذا النوع من الخيارات باعتبارها
خيارات جاهزة للإستعمال اعتادت (السلطة) على استخدامها، مع أنها لا تقضي
ـ في أفضل نتائجها ـ إلا على مظاهر المرض وأعراضه، ولا تعالج ظاهرة العنف
إلاّ بسطحيّة تجعله ما يلبث أن يعود من جديد الى واجهة الأحداث.
إغراء الخيار الأمني
وبرغم أن الخيار الأمني مغرٍ بطبعه، سهل بطبعه، جاهز بطبعه، خاصة
لدى وزارات الأمن والداخلية.. فإن استخدامه بتوسّع، يعني أن هناك قصوراً
في فهم دوافع العنف وكيفية محاربته، وهو قصور يبدو واضحاً لدى (الأمنيين)
أكثر منه لدى (السياسيين). وإذا كانت مواجهة الإنفلات الأمني من صميم
عمل وزارة الداخلية السعودية، فإنها للأسف وبسبب تضخمها صارت مانعاً
أمام السياسيين من استخدام الحلول الأخرى، أو جعلها رديفاً للحل الأمني
وليس بديلاً له. ومع الأخذ بعين الإعتبار أن القرار السياسي السعودي
موزّعاً بين عدد غير قليل من الأمراء، فإن الحل الأمني يطغى دائماً على
ما عداه، ويعزز رؤية وزارة الداخلية على ما عداها، بحيث يمكن للمراقب
ـ للشأن السعودي ـ أن يتوقع تمادياً في استخدام الخيار الأمني كحلّ وحيد
ولمدّة طويلة، الى أن يثبت للجميع عياناً أن الحلول كانت قاصرة، وأن
لا بدّ من تجربة حلول أخرى.
بطبيعة الحال، فإن المجتمع السعودي، الذي فاجأته أحداث العنف، تصور،
وصوت السلطة السياسية والأمنية له، بأن (الحديد لا يفله إلا الحديد)
ولربما اقتنعت مجاميع كثيرة من المواطنين بمقولة الأمير نايف من أنه
سيواجه دعاة العنف (بالسيف والبندقية) كما قال قبل بضعة أسابيع. ولكن..
يمكننا استقراء الأحداث المستقبلية، واستقراء النتائج للسياسة الحالية
المتبعة، وهي سلبية على كل حال. فحتى لو نجحت أجهزة الأمن في التخفيف
من ظاهرة العنف، وهو ما ينتابنا الشكّ بشأنه، فإن جذوة العنف ستبقى كبركان
خامد، ستنفجر في المستقبل.
الإستثمار الرسمي للعنف
يكاد تصاعد العنف أن يختطف الأضواء كلّها، ويعمي الأبصار عن المواضيع
الأخرى اللصيقة بالموضوع الأمني، وفي مقدمتها الأوضاع السياسية المتردية
والتي هي بحاجة إلى إصلاح.. حتى لكأنّ الأمراء قد شعروا بأن موجة العنف
قابلة للإستثمار على أكثر من صعيد:
* فبسبب موجة العنف تعيد الحكومة ترتيب أولويات المواطنين، فتؤخر
استحقاقات التغيير والإصلاح المطالبة بالمشاركة الشعبية عبر الإنتخابات
ووضع دستور للبلاد، وتشغل من جهة اخرى المواطن بأمنه اليومي، خاصة في
العاصمة الرياض التي احتضنت أكثر أعمال العنف وأشدّها دمويّة. وحتى بعض
الواعين من دعاة الإصلاح، يجدون أفواههم مكمّمة، وهم يدركون بأن لا أمن
حقيقي بدون حريات وإصلاح سياسي، وأن العنف جاء نتيجة أوضاع بائسة فكرية
وثقافية واقتصادية وسياسية. ورغم هذا، فإنهم يترددون في فتح مواجهة مع
الحكومة على هذه الأرضية، قبل أن يثبت للجمهور قبل الحكومة أن المعالجة
الحالية سقيمة، وأنها لا تحدّ من العنف بل قد تزيده اشتعالاً.
* الإستثمار الأخطر للعنف، قامت به الحكومة على الصعيد الخارجي، فلأول
مرّة أُتيحت لها الفرصة للدفاع عن نفسها وتأكيد مدّعاها بأنها ليست (مفرخة
للإرهاب) بل (ضحيّة له) مع أنّها (مصنّعة له) وما يحدث جاء بسبب أخطائها
المتراكمة ولا يلام غيرها فيه. حين ووجهت الحكومة بهذا العنف، تأجّلت
الضغوط الأميركية على السعودية أو خفّت حدّتها، فالأميركيون لا يهمهم
(الديمقراطية) وقد عودونا على انتهازيّة واضحة، فهم مرّة يضغطون بإسمها
لاستحصال تنازل سعودي بشأن فلسطين أو أفغانستان أو العراق أو لتمويل
مشاريع سياسية واقتصادية أميركية هنا وهناك. وفي هذه المرّة، فإن همّ
الأميركيين الأول هو (مكافحة الإرهاب) وهو مقدّم على تحقيق (الديمقراطية).
ورغم أنهم يعلمون بأن الموضوعين متداخلين كثيراً ولا يمكن بأيّ حال فصلهما،
إلاّ أنهم يغضّون الطرف عن الثاني لتحقيق الأول، أو خشية أن تكون نتيجة
العنف والإرهاب تغييراً شاملاً يستتبعه تغيير النظام السياسي السعودي،
وهو ما تمّ التعبير عنه عبر المعادلة القائلة: سعودية غير ديمقراطية،
خير من دولة طالبانية!
بالطبع فإن خيارات المجتمع والدولة في المملكة أوسع بكثير مما يطرح
هنا، ولكن يجب الإلتفات الى أن الحكومة السعودية وهي تستثمر العنف المحلي
لتبرئة ساحتها أمام حلفائها الأميركيين فيما يتعلق بتداعيات 11 سبتمبر،
فإنها تدرك بأن تخلخل المشروع الأميركي في العراق قد أضعف التيار اليميني
المحافظ في الإدارة الأميركية، والذي يختزن عنفاً وحقداً على العائلة
المالكة، وهو الذي يقود التوجّه العدائي لآل سعود في المحافل الأميركية
المختلفة.
* الوجه الثالث لاستثمار العنف رسميّاً، غير تعطيل مسيرة الإصلاح
السياسي، وتجاوز عقدة 11 سبتمبر والعلاقة المتوترة مع أميركا.. هو أن
العنف وفّر للحكومة السعودية خياراً في تقليم أظافر التيار السلفي، وليس
ضربه بالضرورة. فالعائلة المالكة تريد إشعار أقطاب ذلك التيار بأنها
تمتلك البدائل الأخرى، وأن بإمكانها ضربه وتقليص صلاحياته على قاعدة
حقّها في الدفاع عن نفسها أمام تجاوز رجال التيار الحليف. والعائلة المالكة
ـ وبذكاء لا يخلو من خبث ومكر السياسي ـ تظهر بين فترة وأخرى طرفاً من
أسلحتها لحليفها (اللدود) لتنبّهه الى أنها تمتلك أنواعاً من الأسلحة
لم تستخدمها بعد. هي في المحصلة تريد تدجين التيار وإعادته الى (حظيرة)
الطاعة، ولتقول له بأن تنازلاتها الكثيرة لم تكن ناتجة عن ضعف بل هي
(هبة) و (مصلحة) مشتركة، تنتفي حين ينقضها أحد الطرفين.
ما نقصده هنا، هو أن الحكومة استثمرت العنف ضمن اللعبة السياسية الداخلية،
فهي تغري بعض الليبراليين الصداميين بأنها بصدد ضرب التيار السلفي، وبالتالي
لا بدّ أن يقف مع الحكومة في محنتها وهي تواجه عنف ذلك التيار. وفي نفس
الوقت تهدد الحكومة التيار السلفي بأنها (قد) تميل الى التيار الليبرالي
وتغير خارطة التحالفات، و (قد) تقلص من صلاحيات المؤسسة الدينية إن لم
يتوقف العنف ويعود الولاء والطاعة كسابق عهدهما. لكن لا يبدو أن الحكومة
تنوي فعلاً اتخاذ سياسة جذرية، تستأصل التيار السلفي، أو تغير خارطة
التحالفات الداخلية، وإنما هي تستخدم القوى المحلية لضرب بعضها بعضاً،
وتخويف بعضها بالآخر، حتى لا يقوم إنسجام داخلي ووحدة موقف تفضي الى
ضغوط مشتركة على العائلة المالكة لتقديم تنازلات سياسية.
مواجهة فكر العنف والتطرف
الفكر العنفي المتطرف ليس دخيلاً على المملكة. هو لم يأتِ من الخارج،
وليس طارئاً على الساحة المحلية. إن وجوده سابق لوجود الدولة، على الأقل
في نجد، حاضرة الحكم ومركزه. وقد اشتدّ الفكر المتطرّف في فترة قيام
الدولة، لأن الملك عبد العزيز أجّجه لغرض توسيع سلطانه. فالتكفير الذي
نراه اليوم كان موجوداً طيلة التاريخ السعودي، ويُبنى على ذات الأسس
والقواعد الفقهية السلفية. الشيء الجديد فيه أنه وصل الى تخوم السلطة،
وصار يوجه الى العائلة المالكة ورجالها. الفكر التكفيري هو نفسه الفكر
السلفي (وهابي الطبعة). هو نفس الفكر الذي أباح لعبد العزيز غزو الآخرين
واحتلال أراضيهم لأنهم كفار، سواء كانوا في الحجاز أو غيره. هو نفس الفكر
الذي أباح قتل الآخرين الى أن قامت الدولة. وهو نفس الفكر التكفيري الذي
وجهته الدولة الى خصومها من الشخصيات والمذاهب والمجاميع الكثيرة في
المجتمع. وهو نفس الفكر الذي استخدمته السلطة ضد أعدائها في الخارج فكفرت
به عبد الناصر والقذافي والخميني وصدام حسين وغيرهم.
الضجّة التي تثار اليوم هي بسبب تخطيه حدود الأفراد والجماعات والمذاهب
في المملكة وغيرها الى العائلة المالكة والنظام السياسي. أي أن التكفير
والعنف طالما يمارسان بعيداً عن حريم السلطة فلا مانع منه، وهو ما يقوم
به رجال المؤسسة الدينية الرسمية اللصيقة بالعائلة المالكة، كما يقوم
به حواريو مشايخ السلطة. لم يقم دعاة العنف اليوم في المملكة أو يؤسسوا
لتحركهم قاعدة فقهية فكرية مختلفة. حين يكفرون أهل الحجاز وشيوخهم وأتباع
المذاهب الأخرى في البلاد، فإنهم لم يأتوا بجديد. لقد سبقهم الى ذلك
الشيخ ابن باز ـ مفتي المملكة السابق ـ في أكثر من فتوى صريحة، شأنه
في ذلك شأن أسلافه السابقين ونظرائه اللاحقين والحاليين.
ليس الخلاف بين من يحمل السلاح اليوم بوجه الحكومة وبين من يعتبرون
وعاظاً للسلاطين من المشايخ الرسميين حول أصل التكفير وحرمة الدم المسلم،
وإنما الخلاف حول استخدام العنف ضد السلطة وتكفيرها. بل حتى تكفير السلطة
يحظى بإجماع غير قليل بين الجميع، ولكن الإفتراق حول جدوائية العنف.
الخلاف تكتيكي إذن، ولا يتعلق بالإستراتيجيا الفكرية. والدليل أننا لانزال
حتى اليوم ومن خلال ما نرقبه من خلال المنابر الرسمية وعلى القنوات الفضائية
السعودية.. نرى المشايخ الرسميين يكفرون مواطنين ومسلمين فضلاً عن غير
المسلمين ويدعون الى قتالهم.
لقد ظهرت حملة إعلامية ضدّ ما يسمّى بالفكر المتطرف، وحاول السلفيون
إبعاد تهمة العنف عن أنفسهم من خلال وصف العنفيين بأن فكرهم (خارجي)
وهي تهمة طالما وجهت لأقطاب الوهابية حالياً وسابقاً، وكذلك محاولة اعتبار
دعاة التكفير والعنف مجرد (شرذمة) محدودة لا تمثل التيار السلفي العام،
وهي ذات الأوصاف التي تطلق عادة كلما خرجت علينا الوهابية وعنفها بمنتج
جديد، منذ حركة الإخوان في العشرينيات الميلادية الى حركة جهيمان في
أواخر السبعينيات الميلادية.
لا شك أن أحد أهمّ أوجه الأزمة السياسية في المملكة يعود الى الفكر
السلفي الوهابي. فهذا الفكر الإقصائي الأحادي اختطف الدولة والمجتمع،
وألبسه لباساً واحداً لا يتحمّل أيّ لون أو تعدد، بالرغم من أن أتباع
هذا الفكر لا يمثلون أكثرية المواطنين، ولا يعبر عن فهمهم للدين، بل
هو فكرٌ صدامي ضد الآخر قبل وبعد قيام الدولة. لقد كانت النزعة الإستغلالية
للفكر الوهابي من قبل العائلة المالكة المادة التي تقوّى بها هذا الفكر،
فغطّى ما عداه وساق المجتمع باتجاه الجمود والتطرف وقسم المجتمع الى
أشلاء تغذّت عليها السلطة ردحاً من الزمن، الى أن تحوّل تطرّف التيار
الى أزمة للعائلة المالكة نفسها.
بلا شك هناك حاجة لمراجعة الفكر السلفي، وعدم إفساح المجال له ليمثل
المجتمع بكل فئاته، وإنما يمثل أتباعه فقط لا أن يفرض رأيه على الآخرين
بقوة الدولة وجبروتها. لا تنحصر المشكلة في وجود فكر وهابي متطرف، بل
في فكر متطرف تتبناه الدولة وتشرعن نفسها من خلاله، وتسعى لترويجه داخل
وخارج المملكة باعتباره (الإسلام والعقيدة الصحيحة). وإذا لم تتخلّ السلطة
عنه، فإن التطرف باقٍ يزرع القنابل والعنف في كل مكان.
هناك جهود ظهرت من خلال الكتابات في الصحافة المحلية لمناقشة هذا
الفكر المتطرف، وإن كان بحذر، وقد كان قليل من الكتاب قد أكدوا على حقيقة
أن الفكر الرسمي الديني هو نفسه فكر العنف سواء بسواء. لكن رأي العائلة
المالكة يختلف: فهي تريد من جهة أن يقوم (الأقل) تطرّفاً بمحاربة (الأكثر)
عنفاً. ولذا سمحت لمن يزعمون أنهم وسطيون من بين التيار السلفي بمكافحة
العنف وحصره في خارج المملكة، أي فليجاهدوا في أفغانستان والعراق! أما
السعودية فبلد مسلم لا يحتاج الى جهاد!
هذا المنطق، يعني تحديداً تصدير المشاكل والفكر السعودي الوهابي المتطرف
الى خارج الديار. فتلك ساحات مفتوحة ومشروعة للعنف. والغريب أن تأتي
مثل هذه الدعوات بصورة شبه رسمية ومن الفضائيات السعودية، ومن أشخاص
لهم كتابات بل كتب تكفّر المواطنين في الداخل وتفتي بقتلهم، مثل الحوالي
والقرني والعريفي والعمر وغيرهم ممن سبق لهم أن اعتقلوا على ذات الخلفية
الفكرية والمواقف السياسية المتطرفة وذلك في التسعينيات الميلادية!
العائلة المالكة في الحقيقة لا تواجه الفكر المتطرّف، وإنما تحاول
أن تحصر بلاءه (خارج إطار السلطة) وليس بالضرورة خارج إطار المجتمع،
فضلاً عن أن تحصره خارج إطار السعودية نفسها.
جدليّة استمرار العنف
هل ستقود الحملة الأمنيّة الى التخفيف من ظاهرة العنف في المملكة؟
لعلّ ظهور قائمة جديدة من الأسماء تعطينا فكرة عن مستقبل العنف، فأسماء
قائمة الـ19 التي ظهرت قبل بضعة أشهر لم تنته ولازال الكثير من الأسماء
التي وردت فيها تتعرض للملاحقة، وها هي قائمة أخرى تتبعها بـ 26 إسماً.
منذ بضعة أشهر وأحداث العنف تترى في المملكة، إذ لا يكاد يمرّ يوم إلا
وهناك خبر أو صدام أو محاولة اغتيال أو تفجير أو اكتشاف اسلحة وخلايا
ومراكز تدريب أو ما أشبه. أي أن مؤشر العنف في تصاعد رغم تصاعد الحملة
الأمنيّة، بعضهم فسّر تصاعد العنف بأن المتطرفين في حالة يأس وأنهم يقذفون
بآخر سهامهم.
هذا تضليل، أو إذا اخذنا الأمر بحسن نيّة، فهو جهل فاضح لصيرورة العنف.
أحد مسببات العنف هو وجود الفكر المتطرّف، وهذا هو المغذّي الأساس لاستمراره،
وهو مبثوث ومتخمّر ومستوطن في كل ثقافة (نجد) المحليّة. يعززه في ذلك:
مناهج التعليم، وقمع الحريات الثقافية، واعتماد الرأي الأحادي، وشرعنة
الفكر المتطرف من قبل الدولة، وإعطاء هذا الفكر شرعية التواجد والسيادة
على ما عداه.
ليس المنطقي بعدئذ، أن يكون حلّ المسألة الفكرية سهلاً، وفي سنوات
قلائل، بعد أن عُمّد وعشعش واستطال طيلة عمر الدولة السعودية الحديثة.
وليس من المعقول أن يتلاشى فكر العنف الذي تنمو على تأصيلاته وشروحه
شرعية الدولة. وليس من المتوقع أن يخمد بدون انفتاح واسع على كل الثقافات
والإجتهادات التي لا تعترف بها الوهابية. نحن بحاجة الى أجيال تتربى
من جديد على غير هذا الفكر. نحن باختصار بحاجة الى بديل لا أن نعتبر
هذا الفكر هو الأفضل في المملكة والعالم! وهذا يستلزم عمل سنين في حال
اقتنع المسؤولون بضرورة ذلك وهو ما لم يتم حتى الآن.
ومن مسببات العنف الإختناق السياسي وغياب الحريات العامة كمتنفس للتدهور
السريع للأوضاع الأمنية والإقتصادية. إذن، فالتدهور الإقتصادي، وارتفاع
مؤشر البطالة، والفساد الإداري، واستيطان الفقر، وتدهور الخدمات الإجتماعية
الأساسية للمواطن، كلها محفّزات للعنف وإن كانت لا تبرره. في حين يرى
المواطن في المقابل قلّة منتفعة بخيرات الوطن، وقلّة مستأثرة بإمكانات
الدولة، وقلّة تعبث بمقدرات الوطن في وقت يعيش هو على الكفاف، ويرى نظراءه
في بلاد النفط الخليجية من هم أحسن حالاً فيرتدّ على ذاته ليكتشف أن
العلّة ليست فيه وإنّما فيمن يقف على رأس الدولة من الأمراء وحاشيتهم
الصغيرة.
كل هذه الأمور يجب أن تتغير إن كان المسؤولون بحق يبحثون عن حل للعنف.
أما الخيار الأمني فهو نفسه غير قادر ـ في المدى القريب ـ على معالجته
حتى بشكل سطحي، بل هو غير قادر على تقليصه رغم الحملات الامنية الكبيرة
والأموال وتجنيد المزيد من المخبرين. ويجب أن نعترف بحقيقة ان المواطنين
لا يتعاونون مع الحكومة، وكأنهم يريدون القول بأنها هي من صنعت المشكلة
وأنها هي من عليه إيجاد حلّ لها. وهؤلاء المواطنون قد بدأوا برفع الصوت
عالياً ضد الحكومة نفسها، ويتهمونها بالفشل في تحقيق أوليات الحياة الكريمة
والإستقرار المنشود، فشرعية الدولة بدأت بالتراجع بسبب العنف، ولم تتقوّ
بمواجهته.
ثم إن العنف تقوم به جماعات صغيرة مفتتة، يهم الحكومة ان تلصقها بـ
(القاعدة) صدقاً أم كذباً، فذلك يوفّر لها غطاءً دولياً يحميها ويدعمها.
فالأمراء يريدون أن يقولوا للأميركيين بأنهم معهم في قارب واحد، وأنهم
جميعاً مستهدفون من قبل عدو واحد هو القاعدة! في حين أن معظم هذه الجماعات
الصغيرة غير المترابطة، وإن كانت تستقي مصادر تفكيرها من نفس مصادر القاعدة
ونفس مصادر الفكر الوهابي المتطرف، وهي وإن كانت تؤمن بأهداف القاعدة،
فإنه لم يثبت أنها تتبع القاعدة تنظيمياً وتأتمر بها، حتى وإن وجد بعض
قادة الجماعات الصغيرة ممن تدربوا في أفغانستان.
أثبتت الأحداث أن أغلب من يقوم بالعنف هم شباب صغار بين الثامنة عشرة
والخامسة والعشرين، ومعظمهم لم يسافر خارج المملكة بتاتاً، بل تربوا
في أحضان المؤسسة الرسمية وتتلمذوا على محاضرات مشايخها وتشكّلوا كمجموعات
صغيرة على حواشي التجمعات السلفية القريبة من السلطة. ولأن الجماعات
متعددة وصغيرة، فإن القضاء عليها صعب، وتتبعها شبه مستحيل، خاصة إذا
كانت تتوالد وتتزايد، بل وتتدرب في معسكرات في السعودية نفسها!
إن السيف والبندقية اللذان يهدد بهما نايف دعاة العنف، يدفعهم لاستخدامهما
ضدّه ـ كما قال أحدهم لمراسل أجنبي. وإذا كانت العائلة المالكة لا تبحث
عن هدنة، ولا تطمح الى استئصال، ولا ترغب في دفع أثمان سياسية مستحقة
للشعب، ولا تريد مكافحة الفكر، وترى أن الشذوذ جزئي! ومحدود.. فإنها
بكلمة أخرى، تبحث عن معالجة سطحية بدون أن تدفع أية فواتير. وهذا لا
يتمّ، خاصة إن كانت تريد الحل أن يكون معجّلاً!
إنها سياسة متناقضة، فالدولة ضيّعت الإتجاهات، والأحداث هي التي تقودها
والمجتمع وفق آليتها. وبذا يمكن التأكيد على أن العنف سيتواصل، والإنسداد
السياسي سيتواصل، والإنهيار الإقتصادي لن يتوقف، وبعد أن تصل الأمور
الى وضع غير متحمّل، وينفجر الشارع بوجه السلطة، (ربما) تكون هناك مهدئات
أخرى في جعبة العائلة المالكة قد تسعفها، أو لا يكون لديها شيء منها،
فتكون قد وصلت الى الموت السريري فيجري التخلص منها.
|