المؤسسة الدينية.. الإنهيار الاقتصادي.. الوحدة الهشّة
مصادر التوتر في السعودية
1 ـ المؤسسة الدينية
يمثّل الدين مصدر شرعية الدولة السعودية وصبغتها العامة، منذ التحالف
التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود عام 1744، والمؤسس
على إنشاء دولة تقوم على المبادىء الدينية كما صاغها الشيخ محمد بن عبد
الوهاب والحق السياسي لعائلة آل سعود. وبعد أكثر من قرن أعاد الملك عبد
العزيز تأكيد هذا التحالف عبر رفع لواء الدعوة الدينية وبناء جيش عقائدي
ممثلاً في الاخوان، وإستيعاب العلماء ضمن المشروع السياسي والديني للدولة
الناشئة. فقد أمدّت المبادىء الدينية بحسب التفسير الوهابي المشروع السياسي
لابن سعود زخماً معنوياً ومادياً ظهر في توطين وحشد القبائل البدوية
النجدية المعروفة للانخراط في جيش ابن سعود وإكتساح المناطق وإخضاعها
تحت سلطته.
وهكذا قامت الدولة عام 1932 على أساس تقاسم السلطتين الدينية والزمنية،
أو كما رمز اليها الملك عبد العزيز بـ السيف والقرآن. فقد أسهم التحالف
الديني السياسي في تشكيل طبيعة الدولة، ومنحتها شرعية الحرب والنشأة
والسيطرة. وبالرغم من المواجهة العسكرية التي وقعت بين الاخوان وابن
سعود عام 1929 بعد ثورة الاخوان والتي أسفرت عن نهاية الحركة الا أن
ابن سعود حافظ على الصبغة الدينية للدولة السعودية، من خلال صناعة مؤسسة
دينية داعمة لسلطته، من خلال انشاء هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
التي ضمّت أبناء القبائل الحليفة وبقايا فلول الاخوان، وهكذا إبقاء حلقة
التواصل بينه وبين العلماء، والرجوع اليهم للتشاور واستصدار الفتاوى
الدينية لاضفاء مشروعية دينية على قراراته السياسية.
إن التبدّلات الحاصلة في العلاقة بين ابن سعود ورجال الدين وهي تبدّلات
أملتها طبيعة الدولة بما تفرضه من هيمنة وقيمومة، أخلَّت بدرجة كبيرة
في معادلة القسمة بين الأمراء والعلماء، حيث بدأ ابن سعود يؤكد على إستفراده
بالسلطة باعتبارها إرثاً تاريخياً أكثر مما هي نتاج تحالف من أي نوع،
وتدخل عنصر الدعم الخارجي (البريطاني تحديداً) لتعزيز نزعة الاستئثار
بالسلطة. ولكن بقي التأثير الديني متراوحاً إنخفاضاً وهبوطاً حتى بعد
دمج المؤسسة الدينية وإخضاعها الى المؤسسة الرسمية. ففي عهد الملك فيصل
الذي تربطه صلة قرابة بعائلة آل الشيخ من جهة الأم، بقي تأثير المؤسسة
الدينية منخفضاً رغم وجود شخص قوي مثل الشيخ محمد ابن ابراهيم آل الشيخ،
ولكن الشخصية القوية للملك فيصل وإستعماله الخطاب الديني بعد إنحسار
المد الناصري ساعده في إجراء العديد من التعديلات المتعارضة مع رغبة
العلماء، وخصوصاً في مجالي التعليم والاتصالات، والتشريعات المدنية.
ولكن بعد انفجار الثورة الايرانية عام 1979 ونشوء خطر ما عرف بـ (تصدير
الثورة) المصاحبة لدعاية كثيفة ضد النظام الملكي في السعودي، مهّدت الدولة
السبيل أمام المؤسسة الدينية للتوسع والانتشار والنشاط بصورة غير مسبوقة
لمواجهة تأثيرات النموذج الايديولوجي الايراني، فجرى تبعاً لذلك تجميد
كثير من الاجراءات التحديثية في الدولة، وأصبحت الدولة تنزع الى تبني
سياسة محافظة، إنعكس ذلك على التعليم والاعلام والنشاط الدعوي الداخلي.
فقد أطلقت يد المطوعين في أرجاء البلاد وأصبحوا يمارسون دور الشرطة الدينية
بصلاحيات شبه مطلقة، فقد تجاوزت حدود واجباتهم من الدعوة الى الالتزام
بمواقيت الصلاة وإغلاق المحال التجارية أثناء مواعيد الصلاة، والالتزام
بالامتناع عن الشرب والأكل والتدخين في شهر رمضان، الى حد إختراق خصوصيات
السكان، فبالاضافة الى الحضور الكثيف لرجال الهيئة في المراكز التجارية
والحدائق العامة، كانوا يلجأون الى إقتحام البيوت فيما لو تطلب الأمر.
لقد إرتبط سلوك المطوعين بسمته القاسية بنزعة الدولة الى فرض سيطرتها
على الاوضاع الداخلية، بيد أن هذه السيطرة فقدت جزءاً كبيراً من تأثيرها
منذ بداية التسعينيات، وتحديداً بعد وصول القوات الأميركية الى الاراضي
السعودية لمواجهة تهديدات النظام العراقي السابق بعد غزو الكويت في الثاني
من آب/أغسطس 1990، حيث أظهر المطوعون وكثير من رجال التيار الديني السلفي
انتقاداً حاداً لقرار الحكومة بدعوة القوات الأجنبية للاراضي المقدسة.
ورغم نجاح الحكومة في إقناع كبار علماء المؤسسة الدينية بالافتاء لصالح
القرار، الا أن إنشقاقاً واسعاً حصل في هذه الفترة على خلفية دعوة القوات
الأجنبية للدفاع عن المملكة، وأخذ التعبير عن الاعتراض أشكالاً تصاعدية
بلغت ذروتها في أحداث الحادي عشر من سبتمبر ثم في حرب الخليج الثالثة
والتي بدأت الفتاوى تصدر بشن حرب على القوات الأميركية وطردها ليس من
جزيرة العرب فحسب بل ومن كل أرجاء العالم الاسلامي. في الوقت نفسه، إستعمل
المطاوعة كقوة مناهضة للمطالب الاصلاحية في الداخل، كما في مثال مظاهرة
النساء في نوفمبر عام 1990 والمطالبة بمنح المرأة حق قيادة اليسارة،
حيث صدرت الفتاوى بطردهن من الوظائف، وسحب جوازات سفرهن. لقد أدارت الحكومة
الصراع مع التيار الديني بطريقة ذكية الى حد كبير، وعمدت الى ضرب أطراف
التيار ببعضه من أجل الخروج بأقل الخسائر، والاحتفاظ بالجزء المؤثر فيه،
فأقفلت الباب في وجه الطرف الأكثر عداءً لها ومنحت الطرف الآخر إمتيازات
جديدة تبقي عليه كحليف ديني مساند لها لمواجهة المطالب الاصلاحية التي
رفعتها القوى الدينية والوطنية.
ولكن التركة الثقيلة للمؤسسة الدينية المتراكمة منذ بداية الثمانينات
وحتى الآن جعلت من الصعب على الدولة إحتواء تأثيراتها السياسية والأمنية
على المستويين المحلي والدولي. فقد أفرزت التركة جماعات غير خاضعة لسيطرة
المؤسسة الدينية الرسمية رغم أنها كانت فيما مضى تستلهم منها التعليمات،
وتسترشد بما يصدر عنها من فتاوى، الا أن ظهور طبقة جديدة من الرموز الدينيين
الشعبيين والتي تحوّل كثير من أفرادها الى أصحاب فتيا، أسقط من يد الحكومة
سلاحاً كانت تحارب به خصومها الداخليين، فصارت الفتاوى الصادرة عن هؤلاء
الرموز أشد تأثيراً في الشارع من فتاوى كبار العلماء، نتيجة للشعبية
الواسعة التي حظيت بها هذه الطبقة، ونوعية القضية التي يناضل من أجلها
هؤلاء الرموز، وظهر تبعاً له ما يعرف بالعلماء الرسميين والعلماء الشعبيين
أو المستقلين.
التطور الخطير في العلاقة بين التيار الديني السلفي والدولة، تمثّل
في أن أسلحة المجتمع الديني بكافة أشكاله الرسمية والشعبية كانت فيما
مضى تتجه الى خصوم الدولة في الداخل أو تمارس أدواراً خارجية، ولكن جزءا
خطيراً منها بات يستعمل مؤخراً ضد الدولة وربما المجتمع، إنطلاقاً من
عقيدة التكفير. وبحسب ما كشفت عنه إعترافات الشيخ الخضير والفهد فإن
ثمة فتاوى صدرت توصم المجتمع والدولة بالكفر وتبيح إستعمال السلاح ضد
المصالح والجماعات المصنّفة في دائرة الكفر. وهناك ما ينبىء عن تطور
مستقبلي جديد قد تبدأ فيه جماعات التكفير بحملة تصفيات جسدية ضد أفراد
العائلة المالكة، بالرغم من التقدم الملحوظ الذي تحقق في مجال ملاحقة
رموز التيار التكفيري الجهادي. نشير هنا أيضاً الى فتاوى صادرة ضد أفراد
من المجتمع من صحافيين ورجال إعلام وعلماء دين وكتّاب تبيح سفك دماءهم
وتصفيتهم جسدياً، إضافة الى أنباء عن محاولات تفجير في أماكن عامة في
عدد من المناطق. إن تطوراً خطيراً كهذا فيما لو حصل فسيكون بالتأكيد
مفصلاً حاسماً في تاريخ البلاد، وستكون له إنعكاسات مباشرة على وحدة
الدولة والمجتمع.
2 ـ زوال دولة الرفاه
شكّل العامل الاقتصادي كابحاً قوياً للتغييرات السياسية وبخاصة منذ
أن بدأت البلاد تشهد طفرة إقتصادية في منتصف السبعينيات، حيث كانت التنازلات
الاقتصادية الوسيلة التي يتم بها دحض الضغط نحو الاصلاح السياسي. فقد
أبدت الحكومة مرونة كافية في الاستجابة للمطالب الاقتصادية بسبب الوفرة
المالية الضخمة التي كانت كفيلة بإمتصاص الكثير من التوترات السياسية
والاجتماعية، وكبح جماح الميول الاصلاحية المحلية.
ولكن في منتصف الثمانينات من القرن الماضي أصبح الوضع يميل تدريجياً
الى التحوّل السلبي، حيث واجهت الحكومة ركوداً إقتصادياً وعجزاً مزمناً
في الميزانية، وبدأت ظواهر الفقر والبطالة تعكس نفسها في أوضاع السكان،
لتسفر عن أشكال إحتجاجية متنوعة. فقد أبصر أفراد الغالبية العظمى من
السكان، وهم من فئة الشباب، النور على بداية إنهيار دولة الرفاه، وإن
الشريحة التي كانت تقبل بشرعية الدولة في مقابل الحصول على المنافع قد
تقلصت، بالمقارنة مع الغالبية العظمى المحرومة، والتي لم تدخل في معادلة
شرعية المنافع.
من جهة ثانية، أن إستقلالية الدولة في مقابل المجتمع والقائمة على
هيمنة الدولة على مجمل النشاط الاقتصادي بدأت تشهد في ظل إختلال هذا
النشاط تحدياً داخلياً يفرض عليها السير باتجاه خيار الخصخصة وتحدياً
خارجياً من خلال الامتثال لقوانين السوق النفطية والتحولات السياسية
والاقتصادية على المستويين الاقليمي والعالمي. يجب الاشارة هنا الى عامل
آخر، وهو النشاط الاصلاحي الداخلي حيث أكّدت عرائض القوى السياسية الدينية
والوطنية منذ عام 1991 وحتى هذا العام على ضرورة إعادة توزيع الثروة
الوطنية بصورة عادلة، وتقليص النظام الضريبي، ووضع آلية للمحاسبة والشفافية،
وتشجيع القطاع الخاص على تحمّل مسؤولية أكبر في العملية التنموية والنشاط
الاقتصادي بصورة عامة، وأخيراً محاربة الفساد الاداري والاقتصادي. وكل
هذه المطالب تضعف تلقائياً استقلالية الدولة بصورة وأخرى عن المجتمع.
إن إمكانية الدولة على تقديم تنازلات اقتصادية من أجل إحتواء الضغوط
الداخلية نحو الاصلاح باتت ضعيفة، بل بدلاً عن ذلك قامت الدولة بتشديد
الاجراءات الضريبية ورفع الرسوم المفروضة على الكهرباء والماء والغاز
والتلفون اضافة الى الضرائب المفروضة في المطارات والموانىء البرية والبحرية
والبضائع المستوردة وغيرها. وبالرغم من الاستجابة المتقطعة لالغاء أو
تخفيف بعض الضرائب بسبب الضغوط الداخلية، الا أن هذا الأجراء ما لبث
أن أخذ شكلاً تصاعدياً وبصورة غير مسبوقة, ويفوق غالباً قدرة كثير من
العوائل.
إن الرهان التقليدي على إشغال السكان بالمنافع الاقتصادية عن التفكير
في الاصلاح السياسي قد سقط بصورة شبه كاملة، بسقوط الدافع وراءه ومبرر
استمراره، رغم أن هذا الرهان ليس بالضرورة صحيحاً من حيث المبدأ، فدولة
الرفاه تخلق معها تطلعات سياسية وإن لم تكن غير منظورة دائماً، فالتحديث
بمقدار ما يصنع تغييرات في البنى التحتية فإنه يخلق معه أيضاً فرصاً
فريدة للتحول في البنى الفوقية، وتحديداً في شكل النظام السياسي.
تواجه الدولة اليوم تحدي الاستقرار السياسي القائم على مبدأ الرفاه،
وأن خيار الاصلاح والتحديث السياسي يمثل خياراً استراتيجياً من أجل تفادي
إنشعابات حادة في بنية المجتمع والدولة، والحيلولة دون تفجّر الانقسامات
الداخلية في ظل إنعدام وحدة وطنية جامعة. فالدولة التي نشأت عام 1932
ضمَّت مناطق متعددة ذات خصائص تاريخية وإجتماعية ومذهبية وإجتماعية متباينة،
ولم يجر دمجها سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً، فبقيت حلقات
الربط قائمة على أساس هيمنة الدولة كإطار جيوبوليتيكي تشدّه عناصر قوة
غير ذاتية أو متغيرة، وفي بعضها خلافية كالعامل الديني والتفوق العنصري
النجدي وتحديداً منذ وفاة الملك فيصل عام 1975، الذي دشّن مرحلة تنجيد
الدولة بإستبعاد تدريجي للعنصر الحجازي، فيما أصبحت عسير والمنطقة الشرقية
بفعل الشعور بالحرمان لدى سكانهما مكانين يضخّان توتراً في مصادر استقرار
للدولة.
إن الخوف الذي كان يحول دون تبني الدولة لبرنامج إصلاحي شامل كان
يدور حول الانقسام الداخلي في المجتمع بما يؤثر على إستقرار الدولة ووحدة
السلطة، وقد تضاعف هذا الخوف بعد أن تآكلت مصادر قوة الدولة، بما قد
ينمّي الاحساس بالخطر من الانشقاقات الداخلية وتفكك الدولة.
في مقابل تلك المشاعر المتنامية بالخطر من التفكك، أظهرت القوى السياسية
الدينية والوطنية لياقة عالية في توفير قدر من الاطمئنان حيال موضوع
الوحدة الوطنية كمرتكز للاصلاح السياسي، بما يشكِّل حافزاً قوياً للعائلة
المالكة كيما تسارع في البدء ببرنامج إصلاحي شامل وجذري. فقد تخفي الدولة
خوفها من الاصلاح عبر دعاوى أيديولوجية غير رصينة مثل أن الديمقراطية
غير متطابقة مع الاسلام، أو أن المجتمع غير مؤهل تأهيلاً كافياً لتبني
الديمقراطية، وهكذا مقاومة الدعوات الخاصة بحقوق الانسان على أساس المضامين
المتعارضة بين معاهدات حقوق الانسان الدولية مع الاسلام. وعلى أية حال،
فإن هذه الدعاوى تبقى مجرد ملاذات مفبركة للتنصل من الالتزام بأجندة
إصلاحية شاملة بما يتطلب تنازلات سياسية واقتصادية واحترام حقوق الانسان.
خلاصة القول، إن مصادر عدم استقرار الدولة باتت تتطلب تغييرات جوهرية
ليس بالامكان الاكتفاء بتعديلات سطحية من أجل إستردادها، فقد يفضي تدهور
هذه المصادر الى تهديدات جديدة تتصل بوحدة الدولة.
|