داعش.. ذاكرة الوهابيين الأوائل!
سعد الشريف
لم يقدّر لأحد من الأحياء أن يعيش تجربة التأسيس الأولى
للدولة السعودية الوهابية. ولم يقرأ أكثر سكان العالم
عنها، ولكن بالتأكيد هناك كثيرون في أرجاء العالم شاهدوا
ارتكابات مقاتلي داعش في سوريا والعراق.. الاعدامات الجماعية،
ونحر الرقاب، وقطع الرؤوس، وحرق الأجساد، وجلد الظهور،
وقطع الأطراف، وسرقة الممتلكات كغنائم، وفرض الإتاوات،
وهدم الأضرحة والقبور والدور، وتحطيم التماثيل والرموز..
هذه كلها مشاهد بدت مرتبطة بتنظيم داعش الارهابي. يفعل
ذلك كله بغطاء شرعي وديني، ويحتمي بسجل من الفتاوى والنصوص
الدينية والسوابق التاريخية التي تبرّر إنزال الرعب وإشاعة
الهلع في قلوب الكافرين.. وسوف نتوقف هنا عند داعش في
ضوء التجربة الوهابية الأولى، ومدى التطابق بينهما في
الأفكار والسلوك والأهداف.
|
هنا جيش الإخوان الوهابي : باسم الله يذبحون وينهبون
|
رؤية البغدادي من خطبته
في اليوم الثاني من رمضان لسنة 1435هـ الموافق للأول
من يوليو لسنة 2104، الموافق لليوم الثاني من إعلانه أميراً
للمؤمنين على الدولة الاسلامية التي تضم أجزاء من سوريا
والعراق، وجّه ابو بكر البغدادي (ابراهيم بن عواد البدري)
(رسالة إلى المجاهدين والأمة الإسلامية) تناول فيها طائفة
من المسائل في مقدمتها الجهاد وقال:
وليس مِن عمل في هذا الشهر الفضيل ولا في غيره أفضل
مِن الجهاد في سبيل الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وسيروا
على نهج سلفكم الصالح؛ انصروا دين الله بالجهاد في سبيل
الله، فهبّوا أيها المجاهدون في سبيل الله؛ أرهبوا أعداء
الله، وابتغوا الموت مظانّه؛ فالدنيا زائلة فانية، والآخرة
دائمة باقية..وطوبى لمن فارق دنياه في رمضان، ولقي ربه
في يوم من أيام المغفرة.
فيا أيها المجاهدون في سبيل الله؛ كونوا رهبان الليل
فرسان النهار، أثلجوا صدور قوم مؤمنين، وأروا الطواغيت
منكم ما يحذرون..
السلاح السلاح يا جنود الدولة! والنزال النزال! إياكم
أن تغترّوا أو تفتروا، واحذروا!
وتحدث عن مشروعه الكوني حيث قدّم نفسه ودولته باعتبارهما
أمل الأمة الاسلامية كافة وقال:
إن أمة الإسلام؛ ترقب جهادكم ونزالكم بأعين الأمل،
وإن لكم في شتى بقاع الأرض إخوانًا يُسامون سوء العذاب؛
أعراضًا تُنتَهَك، ودماء تُراق، وأسارى تئن وتستصرخ، ويتامى
وأراملَ تشكو، وثكالى تنوح، ومساجد تُدنَّس، وحرمات تُستَباح،
وحقوقًا مسلوبة مغتصَبَة؛ في الصين والهند وفلسطين والصومال،
في جزيرة العرب والقوقاز والشام ومصر والعراق، في إندونيسيا
وأفغانستان والفلبين، في الأحواز وإيران، في باكستان وتونس
وليبيا والجزائر والمغرب، في الشرق والغرب؛ فالهمة الهمة
يا جنود الدولة الإسلامية! فإن إخوانكم في كل بقاع الأرض
ينتظرون نجدتكم، ويرقبون طلائعكم.. فَوَ الله لَنثأرنّ!
والله لَنثأرنّ ولو بعد حين لَنثأرنّ! ولَنردّنّ الصاع
صاعات، والمكيال مكاييل.
وقدّم رؤيته الكونيه، القائمة على أساس تقسيم العالم
الى دارين: دار ايمان ودار كفر، بحسب التصوّر الوهابي.
وقال:
يا أمة الإسلام؛ لقد بات العالم اليوم في فسطاطين اثنين،
وخندَقَين اثنين، ليس لهما ثالث؛ فسطاط إسلام وإيمان،
وفسطاط كفر ونفاق، فسطاط المسلمين والمجاهدين في كل مكان،
وفسطاط اليهود والصليبيين وحلفائهم، ومعهم باقي أمم الكفر
وملله، تقودهم أمريكا وروسيا، وتحرّكهم اليهود.
وتحدث عن سقوط الخلافة، وانتقد ما اعتبرها شعارات براقة
خدّاعة «كالحضارة والسلام والتعايش، والحرية والديمقراطية
والعَلمانية، والبعثية والقومية والوطنية..".
كما انتقد تحكيم القوانين الوضعية الشركية حسب وصفه
والتي تهدف الى انسلاخ المسلم عن دينه والكفر بالله، حسب
قوله.
ثم خاطب المسلمين في كل مكان وبشّرهم بأن لهم «دولة
وخلافة، تعيد كرامتكم وعزّتكم، وتسترجع حقوقكم وسيادتكم..”
خلافة تضم من كل الجنسيات “القوقازي والهندي والصيني،
والشامي والعراقي واليمني والمصري والمغربي، والأمريكي
والفرنسي والألماني والأسترالي..”، وهم مقاتلو داعش الذين
تحوّلوا الى مواطنين في دولة الخلافة التي يتولاها..
وطالب المسلمين بالالتحاق بها «فهلموا إلى دولتكم أيها
المسلمون، نعم دولتكم؛ هلموا؛ فليست سوريا للسوريين، وليس
العراق للعراقيين..”.
ووجّه نداء واضحاً ودعوة مفتوحة للمسلمين عامة «فيا
أيها المسلمون في كل مكان؛ مَن استطاع الهجرة إلى الدولة
الإسلامية فليهاجر؛ فإن الهجرة إلى دار الإسلام واجبة..ففرّوا
أيها المسلمون بدينكم إلى الله مهاجرين..”.
يا شَبابَ الإسلام انفِروا الى أرض الشام المباركة
أرض الهِجرة والجِهاد والرِباط هَلِمّوا إلى دَولَتِكُم
لِتُعلوا صَرحَها، هَلِمّوا فإن السَواعِد قد شُمِّرت،
وإن الملاحِم قَد أوشَكَت، وإنَهُما والله الفِسطاطان
فِسطاط إيمانٍ لا نِفاقَ فيه وفِسطاطُ كُفرٍ لا إيمان
فيه”. انظر: أبي بكر الحسيني القرشي البغدادي، «باقية
في العراق والشام»، مؤسسة ألفُرقان للانتاج الاعلامي بتاريخ
15 يونيو 2013.
ولكن بعد قيام دولة الخلافة فإن دعوته بالهجرة اليها
تضم كل أجزاء الدولة. ومن الواضح ان الدعوة تستبطن موقفاً
عقدياً من كل الكيانات السياسية القائمة ويعتبر دولته
ومن فيها على الاسلام وغيرهم دولاً وشعوباً على الكفر.
ووجّه دعوة خاصة الى «طلبةَ العلم والفقهاء والدعاة،
وعلى رأسهم القضاة وأصحاب الكفاءات؛ العسكرية والإدارية
والخدَمية، والأطباء والمهندسين في كافة الاختصاصات والمجالات،
ونستنفرهم..فإن النفير واجب عليهم وجوبًا عينيًّا؛ لحاجة
المسلمين الماسّة إليهم..”. فهو يتحدث عن دولته الاسلامية
وكأنها واقع قائم ويجب التعامل معه وله أحكامه، وفروض
على المسلمين اتباعها.
وأوصى جنود دولته بـ «المسلمين وعشائر أهل السنّة خيراً،
فاسهروا على أمنهم وراحتهم، وكونوا لهم معيناً..»، ولا
ريب أن هذه الفقرة ستكون موضع جدل واسع في صفوف من نحر
مقاتلو داعش رقابهم وقتلوهم في سوريا والعراق دونما سبب،
وخصوصاً من السنّة من مقاتلي جبهة النصرة والجبهة الاسلامية.
وصايا البغدادي لم تتوقف عند حدود دولته الاسلامية
بل بشّر جنوده في ختام الكلمة قائلاً: “هذه وصيتي لكم؛
إن التزمتموها: لَتفتحُنّ روما، ولَتملكنّ الأرض ..”.
مأزق التنظير السلفي
خطبة ابو بكر البغدادي في المسجد الكبير بالموصل تستعيد
مأزق التنظيرالسلفي لقبول مبدأ ولاية المتغلب بالشوكة،
من خلال دعوته المسلمين عامة لمبايعته وطاعته لمجرد تغلب
داعش وإقامته للخلافة.
لأول وهلة، قد تبدو وصايا البغدادي وكأنها خلاصة تأملات
عميقة في النص الديني، والواقع التاريخي والمعاصر للمسلمين،
ولكن ما تلبث تكتشف تطابق النص والرؤية والموقف مع ما
كان لدى الشيخ محمد بن عبد الوهاب والمتحدّرين من خطه
الفكري.
الطريف في رسالة البغدادي الى جانب تعمّده تكثيف حضور
الآية القرآنية، وإن كان يستخدمها في غير محلها أحياناً
كالهجرة الى دولته التي أراد استغلال فقرة «ألم تكن أرض
الله واسعة فتهاجروا فيها..» كدليل على وجوب الهجرة الى
دولته ما يدلل على أن معرفة الرجل بتفسير الآيات القرآنية
تخضع لعملية أدلجة فارطة أو ما يسبغ عليه داريوش شايغان
سمة «أدلجة المأثور».
يضاف الى ذلك، تعمّد استخدام عبارة «إتقوا الله» في
غير مكان يبدو متكلّفاً مقتفيّاً سيرة مشايخ الوهابيين
في تدجيج الخطاب بالمفردة الدينية وتلك التي تتضمن عنصر
الترويع والتشويق.
التكفير محصلة الهجرة والجهاد
ولفهم رسالة البغدادي لا بد من توضيح مفهوم الهجرة
كما الجهاد الذي عناه في رسالته، إذ إن الهجرة والجهاد
مفهومان بدلالة دينية خاصة إلى جانب الدلالة التاريخية
لكل منهما. فالهجرة هنا تصدق فحسب على هجرة مسلمين من
دار شرك وكفر الى دار توحيد وإيمان، وبالتالي فإن فحوى
دعوة البغدادي بوجوب الهجرة الى دولته إنما تبطن موقفاً
عقدياً وحكماً بكفر كل من هم خارج دولته الاسلامية، أو
من يرفض الالتحاق بها طوعاً أو كرهاً. وبالعودة الى أدبيات
داعش التي تتقاطع فيها مع القاعدة يظهر بوضوح الموقف من
الدول القائمة في العالم الاسلامي.
لفهم أعمق للعلاقة بين التكفير والهجرة والجهاد، يربط
عبد المنعم مصطفى حليمة في كتابه (الهجرة.. مسائل وأحكام)
المنشور في 9 ديسمبر 2001، يربط بين الهجرة والجهاد، وهما
خطّان متوازيان «فمن أراد أن يُحيي فريضة الجهاد لا بد
له أولاً من أن يُحيي في نفسه فريضة الهجرة والتمايز إلى
الله ورسوله”. والهجرة لا تكون الا من بلاد شرك الى بلاد
إيمان، وهذا يعني أن المهاجر حسم موقفه العقدي من المجتمع
الذي هاجر منه، إن كان مجتمعاً مسلماً أم كافراً، والا
لما هاجر منه. ولذلك فإن الكاتب يضع استثناء مقصوداً “وهذا
لا يعني ضرورة انعدام الاحتكاك أو الاتصال بالتجمعات الجاهلية
المعاصرة المحيطة بالدعوة بقدر ما تقتضيه الضرورة والمصلحة
أو السياسة الشرعية..”. وإن كان يؤكد على العزلة الشعورية
والهجرة الباطنة “عن كل ما يمت للجاهلية من صلة”.
فالهجرة شرعاً بحسب تعريفه هي «الخروج في سبيل الله
من دار الكفر إلى دار الإسلام، ومن دارٍ شديد الفتنة إلى
دارٍ أقل منه فتنة”. والهجرة نوعان مكانية مرتبطة بالخروج
والانتقال من أرض الكفر الى أرض الاسلام، وهذا ما دعا
اليه ابو بكر البغدادي في خطاب التتويج بأمرة المؤمنين!
وهجرة الذنوب والمعاصي والآثام. والهجرة المكانية واجبة
لأن الله نهى عن «الإقامة بين أظهر المشركين”.
في الواقع أن تلازم الهجرة والجهاد يبدو ناقصاً ما
لم يستكمل الضلع الثالث هو التكفير. فالهجرة لا تكون شرعية
الا اذا كانت من دار كفر وشرك الى دار ايمان، خصوصاً حين
تتعلق بجهاد وليس بأي شيء آخر.
وسوف يظهر كم مثّلت تجربة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
في تجسيد مشروع الخلافة الاسلامية في منتصف القرن الثامن
عشر النموذج المعياري الذي تحوّل الى مصدر إلهام لكل التنظيمات
السلفية التي ظهرت في طول التجارب السعودية الثلاث، وكذلك
التنظيمات الجهادية التي تعتنق الوهابية طريقة ونهجاً.
فكان انتقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب من قرية العيينة
الى قرية الدرعية وسط نجد في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي
تجسيداً لمفهوم الهجرة وإيذاناً بإقامة «دار هجرة وإسلام»
تكون مقدّمة تمهيدية لإقامة الخلافة الاسلامية. ويشرح
الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، حفيد ابن عبد الوهاب،
هذا المفهوم على النحو التالي: “ما يجب معرفته أنه حيثما
ساد الظلم والعصيان، فإن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالهجرة
من أجل حفظ هذا الدين وصون أرواح المؤمنين ضد الشرور.
فلا تخالط أهل الضلال والعصيان، حيث يتم تمييز أهل العدل
والإيمان من طائفة الفساد والعدوان، وحينئذ ترتفع راية
الإسلام. فبدون هجرة لا تقوم لهذا الدين من قائمة ولا
يعبد الله، ومن المستحيل بدون هجرة أن يجحد بالشرك والظلم
والشر».
في النتائج، إن عديداً من أتباع الشيخ محمد بن عبد
الوهاب هاجر الى الدار الجديدة والانضمام الى المجتمع
الناشيء من المؤمنين، حيث يتم تنظيم وتالياً تجريد الحملات
العسكرية ضد المناطق المجاورة. ولم يكن ذلك مشروعاً ما
لم تقسم العقيدة الوهابية العالم الى معسكرين: دار إسلام
ودار حرب، وتشمل المسلمين باستثناء الفئة التي قررت الهجرة
الى الدرعية واعتنقت الوهابية.
|
وهنا زعيم الوهابية ابن سعود مع بيرسي كوكس (المسلم!!)
قائد الحملة البريطانية على العراق في البصرة
بعد احتلالها وهزيمة العثمانيين (الكفار!!)
|
نماذج الهجرة والتكفير الوهابي
■ جاء في مقدمة كتاب (تاريخ نجد) المعروف بإسم (روضة
الأفكار والأفهام، لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي
الإسلام) للشيخ حسين بن غنام، المعاصر للشيخ ابن عبد الوهاب
ما نصه: (كان أكثر المسلمين ـ في مطلع القرن الثاني عشر
الهجري ـ قد ارتكسوا في الشرك، وارتدّوا إلى الجاهلية،
وانطفأ في نفوسهم نور الهدى، لغلبة الجهل عليهم، واستعلاء
ذوي الأهواء والضلال، فنبذوا كتاب الله تعالى وراء ظهورهم،
واتّبعوا ما وجدوا عليه آباءهم من الضلالة، وقد ظنوا أن
آباءهم أدرى بالحق، وأعلم بطريق الصواب.. وظلّوا يعكفون
على أوثانهم تلك.. وأحدثوا من الكفر والفجور، والشرك بعبادة
أهل القبور.. ولقد انتشر هذا الضلال حتى عمّ ديار المسلمين
كافة)(انظر: الشيخ الإمام حسين بن غنّام، تاريخ نجد، حرّره
وحققه الدكتور ناصر الدين الأسد، تقديم الشيخ عبد العزيز
بن محمد بن ابراهيم آل الشيخ، دار الشروق، بيروت، الطبعة
الرابعة 1994، ص ص 13، 14، وقد تمّ تنقيح الكتاب وحذف
كثير من الرسائل والمساجلات بين ابن عبد الوهاب وعلماء
عصره، كما وردت في طبعة مصر سنة 1368هـ).
■ وأورد ابن غنّام طائفة من رسائل الشيخ ابن عبد الوهاب
الى علماء نجد وخارجها تشتمل على أحكام بالتكفير والجاهلية.
ونعثر في الأدبيات السلفية القديمة على مواقف مماثلة لسلالة
الشيخ المؤسس، فنلحظ بأن أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قد نسجوا على منوال أبيهم في استعمال أحكام التكفير، فقال
الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في حكم من وجد متاعه
المغصوب منه.. وقال: (ومن أسلم على شيء في يده قد ملكه
في الجاهلية لم ينزع من يده في الإسلام لأن الاسلام يجبّ
ما قبله..) وقال في باب الوصية: (الذي أوصى في الجاهلية
بأعمال البر فالعادة ندعه على ما أوصى به ولا نتعرضه)
وكذا في مسائل الإرث والوقف بل حتى الزواج. ويقول الشيخ
حسين بن غنام عن سيرة محمد بن سعود (وكان الأمير محمد
بن سعود في جاهلية بحسن السيرة معروفاً...”(انظر: ابن
غنام، مصدر سابق، ج2،ص3).
■ وقد أسهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رمي خصومه
بألوان التهم مثل السفاهة، والإبتداع. بل نجده يمنّ على
أهالي الدرعية بالإسلام والهداية على يده: (فالرجل الذي
هداكم الله به ـ في إشارة إلى نفسه ـ لهذا إن كنتم صادقين
لو يكون أحب إليكم من أموالكم لم يكن كثيراً)، ومثل ذلك
رسالته إلى أهل الرياض ومنفوحة: (فاتقوا الله عباد الله
ولا تكبروا على ربكم ولا نبيكم، وأحمدوه سبحانه الذي منّ
عليكم ويسّر لكم من يعرفّكم بدين نبيكم)، المصدر السابق.
■ وكان نموذج الرسائل التي يبعثها أمراء آل سعود منذ
الدولة السعودية الأولى يحمل دلالات أيديولوجية واضحة،
فالسيف الذي يشهره الأمير يستظلُّ بحزمة مزاعم دينية.
وكان نموذج تلك الرسائل ما نصه: (من عبد العزيز إلى قبيلة
(..) سلام. واجبكم يدعوكم إلى الإيمان بالكتاب الذي أرسل
لكم. لا تكونوا وثنيين كالأتراك الذين يشركون بالله. إذا
آمنتم نجوتم، وإلا فسنقاتلكم حتى الموت). وفي رسالة الأمير
سعود إلى سكان المدينة المنورة يقول فيها: (إني أبتغي
أن تكونوا مسلمين حقيقيين، آمنوا بالله تسلموا وإلا فإني
سأقاتلكم حتى الموت) (لويس دوكورانسي، الوهابيون.. تاريخ
ما أهمله التاريخ، ص ص 62،92).
في سنة 1216هـ غزا عبد العزيز بن سعود العراق، وأناخ
على كربلاء فقتل أكثر أهلها، ونهب البلد، ويعلّق البصري
بما نصّه: (حتى يقال أنه ما غنم ابن سعود في مدة ملكه
بعد خزائن المدينة المنورة أكثر من غنائم كربلاء من الجواهر
والحلي والنقد، ثم قفل إلى نجد متبجّحاً بما فعله من سفك
دماء..)(انظر: الشيخ عثمان بن محمد بن أحمد بن سند البصري،
مطالع السعود بأخبار الوالي داود، اختصار أمين الحلواني،
نسخة مقتطعة من كتابة خزانة التواريخ النجدية، جمع وترتيب
الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، ص ص 283 - 283).
■ وفي سنة 1223 هـ أمر السلطان العثماني محمود، والي
مصر محمد علي باشا، أن يجهّز جيشاً لإزالة الوهابية بقيادة
الأمير فيصل بن سعود بعد ما استولى على الحرمين، ونهب
جميع مافي الحجرة النبوية من الذخائر والجواهر، ومنعه
حجاج مصر والشام من أداء الفريضة باعتبارهم مشركين فلا
يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا (البصري، المصدر السابق،
ص 295 - 296) .
■ وكان من تلامذة الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ، قاضي
بلدة الحلوة، في إقليم نجد، الشيخ حمد بن عتيق (1227 -
1301هـ). وهذا الشيخ العتيق، له رسالة في جواب لمن ناظره
في حكم أهل مكة وما يقال في البلد نفسه جاء ما نصه من
قوله: (جرت المذاكرة في كون مكة بلد
كفر أم بلد إسلام..) وخلص الى (أن هذه البلاد محكوم عليها
بأنها بلاد كفر وشرك ولا سيما إذا كانوا معادين أهل التوحيد،
وساعين في إزالة دينهم، وفي تخريب بلاد الإسلام). بل زاد
على ذلك بالقول (بل الظاهر عندنا وعند غيرنا أن شركهم
اليوم أعظم من ذلك الزمان) (أنظر: مجموعة الرسائل
والمسائل النجدية، فتاوى ورسائل لعلماء نجد الأعلام، مطبعة
المنار بمصر، الطبعة الأولى سنة 1928، الجزء الأول، ص
ص 742 - 745).
■ وكتب الشيخ عبد الرحمن ال الشيخ رسالة الى الأمير
فيصل بن تركي آل سعود، من أمراء الدولة السعودية الثانية،
يذكّره فيه بدور الدين في إقامة الدولة السعودية وقال:
(وأهل الإسلام ما صالوا من عاداهم، إلا بسيف النبوة وسلطانها،
وخصوصاً دولتكم، فإنها ماقامت الا بهذا الدين) (الدرر
السنيّة في الأجوبة النجدية، الجزء 14 ص 70). وكان الشيخ
عبد الرحمن يخاطب فيصل بن تركي بهذه الأوصاف: (من عبد
الرحمن بن حسن إلى إمام المسلمين وخليفة سيد المرسلين،
في إقامة العدل والدين، وهو سبيل المؤمنين، والخلفاء الراشدين،
فيصل بن تركي..) (الدرر السنية، ج14، ص 77) متجاهلاً وجود
الدولة العثمانية التي قامت على أساس ديني، وتحظى بقبول
غالبية المسلمين بوصفها امتداداً للخلافة الاسلامية التاريخية.
■ وفي أوائل شهر رمضان 1217هـ (الموافق 25 كانون الأول
1802) توجّه سعود إلى مكة على رأس جيش ودخلها دون مقاومة،
فقام بعزل قاضي مكة منيب أفندي ثم أعدمه لعدم تقيّده بالتعاليم
الوهابية، ولحق به عشرون من المشايخ ذهبوا ضحية رفضهم
اعتناق الوهابية .(انظر: لويسي دوكورانسي، الوهابيون:
تاريخ ما أهمله التاريخ، دار رياض نجيب الريس، بيروت،
2003، ص 88).
■ ورد كتاب على الكتخدا بيك نائب والي بغداد في زمن
الدولة العثمانية من سعود ابن عبد العزيز في زمن الدولة
السعودية الثانية يقول فيه (أما بعد: فما عرفنا سبب مجيئكم
إلى الحسا، مع أن الحسا روافض، ونحن جعلناهم بالسيف مسلمين)
(البصري، ص 283). وفي ردّه على مقاتلة
المسلمين بدعوى أنهم كفّار قال (فهذا أمر ما نتعذّر عنه،
ولم نستخف فيه، ونزيد في ذلك إن شاء الله، ونوصي به أبناءنا،
ومن بعدنا، وأبناؤنا يوصون به أبناءهم من بعدهم، كما قال
الصحابي: على الجهاد ما بقينا أبداً. ونرغم أنوف الكفار،
ونسفك دماءهم، ونغنم أموالهم بحول الله وقوته، ونفعل ذلك
إتّباعاً لا ابتداعاً؛ ولا لنا دأب الا الجهاد، ولا لنا
مأمل إلا من أموال الكفار. وقولك إنا أخذنا كربلاء، وذبحنا
أهلها، وأخذنا أموالها، فالحمد لله رب العالمين، ولا نتعذر
من ذلك ونقول (وللكافرين أمثالها). وما ذكرت من جهة الحرمين
الشريفين، الحمد لله على فضله وكرمه، حمداً كثيراً كما
ينبغي أن يحمد وعز جلاله، لما كان أهل الحرمين آبين عن
الاسلام، وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومقيمين
على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد،
وجب علينا الجهاد بحمد لله فيما يزيل ذلك عن حرم الله
وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما ضاق بهم الحال، وقطعنا
عليهم السبل، ثم بعد ذلك فاؤوا ورجعوا، وانقادوا إلى أمر
الله ورسوله، وأذعنوا للإسلام وأقرّوا به، وهدمنا الأوثان،
وأثبتنا فيها عبادة الرحمن، وأقمنا فيها الفرائض، ونفينا
عنها كل قبيح مما حرم الله. وأرجو أن تموت على ملتك النصرانية،
وتكون من خنازير النار إن شاء الله. فإن أردت النجاة وسلامة
الملك فأنا أدعوك إلى الإسلام، كما قال صلى الله عليه
وسلم لهرقل ملك الروم: (إسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين،
فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) (انظر: الدرر
السنيّة في الأجوبة النجدية، الجزء التاسع، القسم الثاني
من كتاب الجهاد وأول كتاب المرتد، ص ص 264، 289).
■ نقرأ أيضاً في كتاب الأمان الذي قدّمه سعود بن عبد
العزيز إلى وفد الشريف عبد المعين جاء فيه: من سعود بن
عبد العزيز إلى كافة أهل مكة والعلماء والأغاوات وقاضي
السلطان:
فأنتم جيران وسكّان حرمه آمنون بأمنه، إنما ندعوكم
لدين الله ورسوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة
سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً
ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا
فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون). فأنتم في وجه الله، ووجه
أمير المسلمين سعود بن عبد العزيز، وأميركم عبد المعين
بن مساعد، فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع الله والسلام. (انظر:
د. عبد الفتاح حسن أبو عطية، محاضرات في تاريخ الدولة
السعودية الأولى 1744 ـ 1818، ص 60).
وكما هو ظاهر في نص الكتاب، أن الأمير
سعود صنّف أهالي مكة وعلمائها في خانة النصارى،
ودعاهم بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب،
بحسب نصّ الآية القرآنية.
■ وفي رسالة سعود إلى سليمان باشا والي الشام بتاريخ
14 ذي القعدة 1225هـ: (أما بعد.. فقد وصل إلينا كتابكم،
وفهمنا ما تضمّنه خطابكم، وما ذكرتم من أن كتابنا المرسل
إلى يوسف باشا، على غير ما أمر الله به ورسوله من الخطاب
للمسلمين بمخاطبة الكفار والمشركين، وأن هذا حال الضالين
وأسوة الجاهلين. فنقول في الجواب عن ذلك بأننا متّبعون
ما أمر الله به رسوله، وعباده المؤمنين، بقوله تعالى (أدع
إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن)..
ومن النصح لهم بيان الحق لهم بتذكير عالمهم، وتعليم جاهلهم،
وجهاد مبطلهم، أولاً بالحجة والبيان، وثانياً بالسيف والسنان،
حتى يلتزموا دين الله القويم ويسلكوا صراطه المستقيم،
ويبعدوا عن مشابهة أصحاب الحجيم وذلك أن من (تشبّه بقوم
فهو منهم). ومن تلبيس إبليس، ومكيدته لكل جاهل خسيس، أن
يظن إنما ذمّ الله به اليهود والنصارى والمشركين لا يتناول
من شابههم من هذه الأمة.. ومن أنكر وقوع الشرك والكفر
في هذه الأمة فقد خرق الإجماع، وسلك طريق الغي والابتداع
ولسنا بحمد الله نتّبع المتشابه من التنزيل ولا نخالف
ما عليه أئمة السنة من التأويل، فإن الآيات التي استدلنا
بها على كفر المشرك وقتاله، هي من الآيات المحكمات في
بابها لا من المتشابهات.
وأما قولكم: فإنا لله الحمد، على الفطرة الاسلامية،
والاعتقادات الصحيحة، ولم نزل بحمده تعالى عليها، عليها
نحيا، وعليها نموت..فنقول: غاض الوفاء وفاض الجور وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل، وليس الإيمان بالتحلي،
ولا بالتمنى، ولكن ما وقر في القلوب، وصدّقته الأعمال،
فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، أنا مسلم،
أنا من أهل السنة والجماعة، وهو من أعداء الاسلام وأهله،
منابذ لهم بقوله وفعله لم يصر بذلك مؤمناً، ولا مسلماً،
ولا من أهل السنة والجماعة، ويكون كفره مثل اليهود.. فشعائر
الكفر بالله، والشرك به هي الظاهرة عندكم.. وأمّا إن دمتم
على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشرك الذي أنتم عليه، وتلتزموا
دين الله، الذي بعث الله به رسوله، وتتركوا الشرك والبدع
والمحدثات، لم نزل نقاتلكم حتى تراجعوا دين الله القويم،
وتسلكوا صراطه المستقيم كما أمرنا الله بذلك..”
(الدرر السنية في الأجوبة النجدية، مصدر سابق، ج1، ص ص
287 ـ313).
■ وبعث امراء آل سعود وعلماء الوهابية الى ولاة وسكّان
بلاد الشام والعراق وتركيا وشمال أفريقيا، وتتفق جميعها
على دعوة واحدة: إما القبول طائعين بالمذهب الوهابي على
قاعدة (إسلم تسلم) أو السيف.
وكانت أولى الحملات العسكرية الوهابية على منطقة الحجاز
وقعت في شهر ذي القعدة سنة 1217هـ/1804 على مدينة الطائف.
ويصف السيد أحمد بن السيد زيني دحلان
ماقام به الوهابيون في هذه المدينة بالقول:
“ولما دخلوا الطائف قتلوا الناس
قتلاً عاماً واستوعبوا الكبير والصغير، والمأمور والأمير،
والشريف والوضيع، وصاروا يذبحون على صدر الأم الطفل الرضيع،
وصاروا يصعدون البيوت يخرجون من توارى فيها، فيقتلونهم.
فوجدوا جماعة يتدارسون القرآن فقتلوهم عن آخرهم حتى أبادوا
من في البيوت جميعاً. ثم خرجوا إلى الحوانيت والمساجد
وقتلوا من فيها، ويقتلون الرجل في المسجد وهو راكع أو
ساجد، حتى أفنوا هؤلاء المخلوقات..”. (انظر: السيد
أحمد بن زيني دحلان، خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد
الحرام، القاهرة 1305هـ، ص 297 ).
■ ويقول السيد إبراهيم الراوي الرفاعي أن عدداً من
العلماء قتل في غارات الوهابيين على الحجاز من بينهم السيد
عبد الله الزواوي مفتي الشافعية بمكة المكرمة، والشيخ
عبد الله أبو الخير قاضي مكة، والشيخ سليمان بن مراد قاضي
الطائف، والسيد يوسف الزواوي الذي ناهز الثمانين من العمر
والشيخ حسن الشيبي والشيخ جعفر الشيبي وغيرهم . السيد
إبراهيم الراوي الرفاعي، (رسالة الأوراق البغدادية في
الحوادث النجدية، تركيا 1976، ص 3).
وأحدثت القوات الوهابية السعودية مجازر جماعية في دقاق
اللوز ووادي وج ونهبوا النقود والعروض والأساس والفراش
أما الكتب (فإنهم نشروها في تلك البطاح وفي الأزقّة والأسواق
تعصف بها الرياح. وكان فيها من المصاحف والرباع ألوفاً
مؤلّفة، ومن نسخ البخاري ومسلم وبقية كتب الحديث والفقه
والنحو، وغير ذلك من بقية العلوم شيء كثير. ومكثت أياماً
يطؤونها بأرجلهم لا يستطيع أحد أن يرفع منها ورقة) (السيد
دحلان، خلاصة الكلام، مصدر سابق، ص 298).
■ وصلت أنباء المجزرة الوهابية في الطائف إلى أسماع
أهالي مكة المكرمة، فالتمسوا من علمائها الذهاب إلى سعود
للحيولة دون استمرار مسلسل الدم في أجزاء أخرى من الحجاز،
فاستجاب عدد من العلماء منهم الشيخ محمد طاهر سنبل، والشيخ
عبد الحفيظ العجيمي والسيد محمد بن محسن العطاس والسيد
محمد ميرغني، والد السيد عبد الله ميرغني مفتي مكة، وتوجّهوا
إلى سعود، فقابلوه في وادي السيل، وطلبوا منه الأمان فكتب
لهم أماناً؛ وعلّق السيد أحمد دحلان على كتاب سعود بالقول:
(كان وصول هذا الكتاب الذي جعل أهل مكة فيه مثل اليهود
يوم الجمعة سابع شهر محرم الحرام عام ثمانية عشر بعد المائتين
والألف، فصعد به المنبر السيد حسين مفتي المالكية بعد
صلاة الجمعة والناس مجتمعة وقرأ هذا الكتاب على رؤوس الأشهاد،
فقالوا: حباً وكرامة وحمد الله تعالى على حصول السلامة).
المصدر السابق ص 301.
وفي اليوم الثامن من محرم من نفس العام، دخل سعود مكة
وطلب من الناس الإجتماع بعد صلاة العصر بالمسجد الحرام
بين الركن والمقام لأخذ البيعة والتبشير بالدعوة الوهابية:
(فلما كان العصر إجتمعوا فجاء وصعد المقام الذي على ظهر
زمزم والمفاتي معهم، ففهمهم وبلّغهم وتشدّق وتكلم والناس
تحته ملأوا الحرم. وصار يعلمهم دين رعاة الغنم، وأجهل
أهل مكة من أكبرهم أعلم. ثم وقف يخاطب الملك عبد الملك
ويعلمه الدين، لا يتوقف في قوله ولا يرتبك كلما علّمه
مسألة يقول له: علموا الناس حتى يعرفها الجهلة. فكان أول
ما علمه من كلام لغة هو قوله إعلموا أيها الناس إن الأمير
سعوداً يقول لكم: إن الخمر حرام، والزنا حرام إلى آخر
الكلام الذي يعلمه البهائم والأنعام). المصدر السابق ص
302.
وفي اليوم الرابع عشر من المحرم، أي اليوم السادس من
دخول سعود مكة، أبطل الوهابيون صلاة الجماعة في المسجد
الحرام بالطريقة التي كانت جارية وبقيت صلاة الجمعة فقط،
بعد أن (كان يصلي الصبح الشافعي والظهر المالكي والعصر
الحنبلي والمغرب الحنفي والعشاء يصليه كل راكع وساجد،
وأمر أن يصلي بالناس الجمعة المفتي عبد الملك القلعي)
. وأمر سعود علماء مكة بتدريس المذهب الوهابي، ولاسيما
كتاب (كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
كتب أحمد أمين: (فلما دخلوا مكة، هدموا كثيراً من القباب
الأثرية كقبة السيدة خديجة، وقبة مولد النبي (ص) ومولد
أبي بكر وعلي). ويضيف: “إنها ـ أي الوهابية ـ حيث استولت
على بلد نفّذت تعاليمها بالقوة ولم تنتظر حتى يؤمن الناس
بدعوتها».(انظر: أحمد أمين، زعماء الاصلاح في العصر الحديث،
موسوعة أحمد أمين الإسلامية ، دار الكتاب العربي، بيروت
ـ لبنان (د.ت)، ص 20).
وكتب إليكسي فاسيلييف (بعد أداء مراسيم الحج أخذوا
يدمّرون كل الأضرحة والمزارات ذات القباب والتي أنشئت
تكريماً لأبطال فجر الإسلام، ومسحوا من وجه الأرض كل المباني
التي لا تناسب معتقداتهم). (اليكسي فاسيليف، تاريخ العربية
السعودية، شركة المطبوعات، بيروت ـ لبنان، 1995، ص 120).
أما السيد دحلان فيقول (بادر الوهابيون ومعهم كثير
من الناس لهدم المساجد ومآثر الصالحين فهدموا أولاً مافي
المعلّى من القبب فكانت كثيرة، ثم هدموا قبة مولد النبي
(ص) ومولد أبي بكر ومولد سيدنا علي وقبة السيد خديجة وتتبعوا
جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين وهم عند الهدم يرتجزون
ويضربون الطبل ويغنون. وبالغوا في شتم القبور التي هدموها
وقالوا إن هي إلا أسماء سميتموها، حتى قيل بأن بعض الناس
بال على قبر السيد المحجوب). السيد دحلان، مصدر سابق،
ص ص 302 - 303.
وينقل مؤلف كتاب (لمع الشهاب) مشهداً آخر من ارتكابات
الغزاة من آل سعود والوهابيين في المسجد النبوي بما نصّه:
(فطلب ـ أي سعود ـ الخدم السودان الذين يخدمون حرم النبي،
فقال: أريد منكم الدلالة على خزائن النبي، فقالوا بأجمعهم..نحن
لا نوليك عليها، ولا نسلطك، فأمر بضربهم وحبسهم، حتى اضطروا
إلى الإجابة، فدلّوه على بعض من ذلك، فأخذ كل ما فيها،
وكان فيها من النقود ما لا يحصى، وفيها تاج كسرى أنوشروان،
الذي حصل عند المسلمين، لما فتحت المدائن، وفيها سيف هارون
الرشيد وعقد كانت لزبيدة بنت مروان زوجته، وفيها تحف غريبة
من جملة ما أرسله سلاطين الهند بحضرته (ص)، تزيناً لقبّته
(ص). وأخذ قناديل الذهب وجواهر عديدة..). مؤلف مجهول،
لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب، تحقيق د. أحمد
أبو حاكمة، مطبعة بيبلوس الحديثة، لبنان، 1967، ص 108
ويضيف السيد دحلان (أخذ الوهابي كل ما كان في الحجرة
النبوية من الأموال والجواهر وطرد قاضي مكة وقاضي المدينة
الواصلين لمباشرة القضاء سنة إحدى وعشرين، وأقاموا الشيخ
عبد الحفيظ العجيمي من علماء مكة لمباشرة القضاء بمكة
وأقاموا لقضاء المدينة بعض علماء المدينة ومنعوا الناس
من زيارة النبي (ص). السيد دحلان، مصدر سابق، ص 326
تجربة آل سعود الإخوانية الداعشية
حين نقرأ وقائع التجربة التأسيسية لمشروع
الدينية الوهابية ونقارنها بما يقوم به عناصر داعش في
المناطق الخاضعة تحت سيطرته من قتل جماعي، ومصادرة للممتلكات،
وهدم للآثار، وتحطيم للقبور والرموز والأضرحة والقباب
والتماثيل وغيرها، ويفعلون ذلك كله بوحي من خلفية عقدية
محدّدة، أي كون تلك مما يتنافى وصحة الإيمان وعقيدة التوحيد
ويؤدي الى الوقوع في الشرك والضلال المبين يظهر في النتائج
أننا أمام تجربة إحيائية جديدة تحاول تجسيد ما عجرت تجارب
التصحيح في الدولة السعودية التي يعتقد كثيرون من أتباعها
بأنها انحرفت عن تعاليم الوهابية المؤسسة وأخفقت في الحفاظ
على نقاوة المشروع الوهابي العابر للحدود بالغائها لفريضة
الجهاد، وفي التعامل مع بقية المسلمين بأنهم مشركون، بالرغم
من أن الدولة السعودية ما قامت الا على هذه التصوّرات
العقدية.
بقي حلم العودة الى التجربة الأولى يراود
كل من جاء في المراحل اللاحقة..
سقطت الدولة السعودية الأولى لأسباب عديدة منها، موت
المؤسسين وعدم اكتمال شروط النمو لدى مشروع الخلافة، نتيجة
لتفوق القوى المضادة عدّة وعتاداً.
جرت محاولة أخرى لاعادة إحياء التجربة الاحيائية الوهابية
في وقت لاحق، على قاعدة استدراك أخطاء التجربة السابقة
منها انحراف أهل الحكم عن المبدأ الذي قامت عليه الدولة
السعودية الاولى، وهو ما ذكّر به الشيخ عبد الرحمن ين
حسن آل الشيخ، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالة
الى الامير فيصل بن تركي، من أمراء الدولة السعودية الثانية،
جاء فيها (إعلم إن الله أنعم علينا
وعليكم، وعلى كافة أهل نجد، بدين الاسلام، الذي رضيه لعباده
ديناً، وعرفنا ذلك بأدلته وبراهينه، دون الكثير من هذه
الأمة، الذين خفى عليهم ما خلقوا له، من توحيد ربهم، الذي
بعث به رسله، وأنزل به كتبه). (الدرر السنية في
الاجوبة النجدية الجزء 14 ص 77) ويذّكره في رسالة اخرى
بقوله (وأهل الاسلام ما صالوا على من عاداهم، الا بسيف
النبوة، وسلطانها، وخصوصاً دولتكم، فإنها ما قامت الا
بهذا الدين..) (الدرر السنية في الاجوبة النجدية الجزء
14 ص 70).
وكانت تجربة الاخوان، وهم الجيش العقائدي الذي تربى
في الهجر، محاولة لإعادة إحياء المجتمع الوهابي النقي،
الذي يتطلع لأن يستعيد تجربة الاخوان الأوائل الذي تحلّقوا
حول الشيخ المؤسسس محمد بن عبد الوهاب. وحين سيطرة عبد
العزيز على الرياض عام 1902، قرر التمدّد خارج نجد، وتحديداً
باتجاه السيطرة على الإحساء سنة 1912، استعان بجيش الاخوان،
الذي اكتشف بأسهم وشراستهم في القتال، فعاد معهم من الاحساء
إماماً بعد أن كان قائداً عسكرياً.
تعزّز لدى الاخوان حلم إحياء الدولة الدينية التي تقوم
على الجهاد في الأرض وتتمدد في كل اتجاه يمكن أن تصل اليه
راية التوحيد والجهاد. فكان عبد العزيز يرسلهم الى المناطق
للسيطرة عليها، وتتم ذلك في الغالب بارتكاب المجازر والقيام
بأعمال السلب والنهب وتخريب الممتلكات وسفك الدم، وما
تقوم به القاعدة وداعش إلا تكرار حتى في التفاصيل، كالذبح
وقطع الرؤوس مثلاً.
يومها اصطدم الحلم الوهابي بوقائع على الأرض، فكان
عبد العزيز أمام معادلات جيوسياسية دولية فرضتها القوى
الاستعمارية حينذاك، الأمر الذي وضعه في مواجهة جيشه العقائدي،
الذي حاول أن يثنيه عن مواصله ما يعتقده واجباً وفريضة.
بدأت مشاكل عبد العزيز مع قادة الاخوان تبرز في مرحلة
مبكرة قبل أن تنفجر بعد السيطرة على الحجاز في الفترة
ما بين 1924 - 1926، حيث شعروا بأن عبد العزيز لم يعد
إماماً بل حاكماً زمنياً. وبدأوا يروّجون وسط أتباعهم
بأن عبد العزيز يعطّل فريضة الجهاد، ويمالىء الكفار.
وفي سنة 1919 عقد الملك عبد العزيز مؤتمراً في الرياض
حضره علماء وقادة من الاخوان، لمعالجة مشكلات داخلية مثل
إشكالية لبس العقال والعمامة، والفرق بين الحضر الأولين
والمهاجرين الآخرين، والفرق بين ذبيحة البدوي، الذي في
ولاية المسلمين، ودربه دربهم، ومعتقده معتقدهم، وبين ذبيحة
الحضر الأولين والمهاجرين. وفي حقيقة الأمر، أن المؤتمر
كان يهدف لمنع إنقسام اجتماعي عميق على أساس معتقدات الوهابية
الأصلية التي آمنت بها.
وفي اعقاب انتصار الإخوان على قوات الشريف حسين، شعر
عبد العزيز ومن ورائه البريطانيين بأن مشروع الاخوان يشكل
خطراً عسكرياً وعقائدياً. التزم الاخوان بالتعاليم الوهابية
الأصلية وقرروا مواصلة فريضة الجهاد، ووقفوا ضد حاكم الكويت
كونه تهاون في تطبيق الشريعة وخصوصاً في بعدها الأخلاقي،
وقرروا منع التعامل التجاري معها أو زيارتها.
قاد الاخوان المعارك بعنون الجهاد فبعد السيطرة على
الاحساء سنة 1913، توجهوا نحو الحجاز، وقاموا بمعركة دموية
في تربة، بالطائف، ضد شريف مكة، في 25 مايو 1919م، ومعركة
الجهراء ضد سالم بن مبارك الصباح، في 10 أكتوبر 1920م،
ثم شنّوا معركة ضد ابن رشيد، في حائل، سنة 1921م. ولم
يتوقف مشروع الجهاد في حدود الجزيرة العربية بل بدأوا
بعد السيطرة على الأطراف الشمالية لشبه الجزيرة العربية
بالتطلع نحو السيطرة على فلسطين وسورية. وشنّوا الغارات
على شرق الأردن، وخصوصاً المدن القريبة من عمّان وأوقعوا
فيهم مقتلة عظيمة، وكانوا يقتلون من يلقون في طريقهم بلا
رحمة ولا شفقة، ولولا قيام الطائرات الحربية البريطانية
بقصف تجمعاتهم فقتلت منهم عدداً كبيراً، لتمددوا أبعد
مما هم حالياً.
وبسبب هجمات الاخوان فرضت بريطانيا معاهدات حدودية
بين عبد العزيز وكل من حكومات العراق وشرق الأردن والكويت
وغيرها..
من وجهة نظر الاخوان، المعاهدات هي شكل من أشكال الموالاة
للكفار.
كان عبد العزيز يتوسل التعليم الديني لتحريض الاخوان
على القتال، كما في معركة الحجاز الذي عقد من أجلها مؤتمراً
في الرياض حضره علماء نجد ورؤساء القبال والقرى وزعماء
الاخوان، وكان موضوع المؤتمر هو شكوى الاخوان من منع الشريف
حسين لهم من أداء فريضة الحج.
فاستغل عبد العزيز الشكوى لتحريض الاخوان على مقاتلة
الشريف حسين وحصل عبد العزيز على فتوى لشن الحرب من علماء
نجد. وتحرّك الاخوان نحو الحجاز و صدرت الأوامر إلى قائديها
الشريف خالد بن منصور بن لؤي، وسلطان بن بجاد، بالتحرك
نحو الطائف. وزُوِّدت القوات بأمر الهجوم على الطائف،
عقب انتهاء موسم حج عام 1342هـ. وفي سبتمبر 1924م، هاجمت
قوات الإخوان، بقيادة الشريف خالد بن لؤي، بعض القرى الصغيرة،
حول مدينة الطائف ثم استولوا على المدينة، وقد وصفت ارتكابات
الاخوان في تربة بأوصاف سلبية فقد استباحوا البلدة وقتلوا
ونبهوا واضطر أهلها الى الفرار منها. وقد سبقت أنباء بطش
الاخوان ودمويتهم الى مكة والمدينة، حيث كانت سبباً من
أسباب تسليم أهلها لتفادي سفك الدماء وحفظ الارواح والممتلكات.
وفي 18 أكتوبر 1924 دخل الاخوان مكة بالسلاح وقاموا
بهدم القباب.
وفي 1925 أعلن فيصل الدويش ومجموعة من الاخوان عن خلافهم
مع عبد العزيز وعقدوا اجتماعاً في مكة حضره كبار قادة
الاخوان.
وكان محور خلافهم يكمن في تخلي عبد العزيز عن المبادىء
الوهابية، فيما أصبح فيصل الدويش رمزاً وهابياً وأسطورة
وسط الاخوان، أما سلطان بن بجاد فكان يعرف بين أتباعه
«أميناً لمبادئ الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب”.
كان قادة الاخوان يتّهمون عبد العزيز بأنه أدخل المخترعات
الحديثة والبدع الى البلاد، وأنه عطّل فريضة الجهاد.
وفي رده على انتقادات الاخوان ومطالبهم عقد عبد العزيز
في الرياض اجتماعاً مع زعماء الإخوان ورؤساء القبائل.
وحضر نحو ثلاثة آلاف شخص في الاجتماع، الذي عقد في يناير
1927، أكد فيه عبدالعزيز على ولائه للشريعة، وأنه لم ينحرف
عن مبادئها، وكرر أنه لا يزال قائدهم، الذي يعرفونه.
وانتهى الاجتماع بإصدار فتوى من علماء نجد، تضمنت ما
يشبه ترضية واستجابة لمطالب الاخوان. منها إزالة كل القوانين
المعمول بها في الحجاز «ولا يُحْكم إلاّ بالشرع المُطَهَّر”.
وقد أصدر عبد العزيز أمراً باعتماد التشريع الحنبلي في
كل المعاملات ولا يتم التقاضي الا على أساس الاحكام الحنبلية.
ولكن بقيت مسألة فريضة الجهاد عالقة، وهي ما تسببت في
انفجار النزاع الدموي بينه وبين الإخوان، حيث واصلوا غزو
العراق باسم الجهاد على قاعدة أن أهله من الكفار، وبالرغم
من محاولات سلطات العراق وضع تدابير تمنع تعدي الإخوان
على حدود بلادها بإقامة المخافر وغيرها الا ان الاخوان
اعترضوا على ذلك فيما وجّه عبد العزيز عتاباً شديداً لهم
لأنهم كانوا يغزون العراق بدون إذنه ولو تشاوروا معه لربما
وافق ولكن في إطار ترتيبات مسبقة. ولكن الإخوان بقوا يشكّكون
في عبد العزيز واتهموه بأنه باع نفسه للإنجليز النصارى،
وأنه تحالف معهم على حساب التزامه بالتعاليم الوهابية
بمحاربة الكفار ونشر عقيدة التوحيد عن طريق مواصلة العمل
بفريضة الجهاد، وهو ما أدى الى اندلاع معركة السبله سنة
1929، حيث تدخل الانجليز بطائراتهم واستعان عبد العزيز
بقوات من القبائل الموالية له وقضى على حلم الاخوان في
إعادة احياء التجربة الوهابية الأولى.
داعش تحيي الحلم الوهابي الأصلي
المحاولات التي جرت لاحقاً سواء كانت فردية أم جماعية
في طول تاريخ الدولة السعودية الثالثة لم تنجح، وجاء تنظيم
داعش كمشروع سياسي/ ديني ينتمي للوهابية عقيدة ومشروعاً
سياسياً فوق قطري وفوق قومي، ليجدد إحياء الحلم الوهابي
بالعودة إلى تعاليم الجيل المؤسس ومشروعه. ما تخشاه السعودية
اليوم هو أن مشروع داعش ينشأ ويترعرع خارج حدودها وخارج
سيطرتها وقد تغذيه في مقارعة خصومها ولكن لا يعني أن داعش
يتخلى عن مشروعه الأصلي في تجسيد حلم الوهابية الأول.
الأخطر من وجهة نظر آل سعود، أن داعش هدّد مشروعية
الدولة السعودية، تلك المشروعية القائمة على الامتثال
الأمين لتعاليم مؤسس المذهب الوهابي، ولعقيدة التوحيد
ومنظومة المبادىء الدينية التي قامت عليها الدولة السعودية.
حارب آل سعود جماعة الاخوان المسلمين كونهم يحملون
مشروعاً دينياً داخل المجال السني العام، فجاءهم داعش
بمشروع ديني آخر ولكن هذه المرة داخل المجال الوهابي الخاص،
وهذا ما يثير فزع ال سعود ويرعبهم.
|