من الغلو الى الأشدّ غلواً
الجذور والرؤى والمصالح، في خلاف «القاعدة» و«داعش»
محمد الأنصاري
يعود الخلاف بين «داعش» و»القاعدة» الى تجربة أبو مصعب
الزرقاوي منذ هجرته من الاردن الى أفغانستان في ظل حكم
طالبان، حين رفض مبايعة ملا عمر، وكذا أسامة بن لادن بوصفه
أمير الجهاد (قبل أن يبرز إسم القاعدة على التنظيم في
نهاية التسعينيات من القرن الماضي)؛ حيث كان الزرقاوي
يميل مع من مالوا الى بطلان القتال تحت راية طالبان، كما
كشف عن ذلك عبد الله الموحّد في كتابه (كشف شبهات المقاتلين
تحت راية من أخلّ بأصل الدين) الذي صدر في منتصف سنة 2000؛
فهو وإن لم يصرّح بكفر طالبان الا أن عنوان الكتاب نفسه
يدل عليه، وأن محتواه وما فيه من رصد وتتبّع لكل الأدلة
التي تثبت وقوع طالبان في المحظور، أي الإخلال بأصل من
أصول الدين، قد جعل دولتهم أقرب الى الكفر منها للإيمان،
وتالياً بطلان القتال تحت رايتهم.
بل جعلهم الموحد «من أولياء الشيطان» وأن سبيلهم سبيل
الطاغوت. وخلص في كتابه الى نتيجة صادمة في ضوء القتال
تحت راية طالبان بأن «المسلمين قد خُدِعوا وانساقوا وراء
كثير من رايات قتال غير شرعية، تحمل في طياتها الكفر الصراح،
وقاتلوا مع من لا يجوز القتال معهم، فقاتلوا في سبيل المجرمين
وهم يحسبون أنهم يقاتلون في سبيل الله، تارة محتجين بدفع
الصائل وتارة بالقتال مع كل بر وفاجر وتارة أخرى بالمصالح
والمفاسد، وتارة بالسياسة ومستدعياتها، وغير ذلك..». وعدّ
من بين الرايات التي لا يجوز القتال تحتها هي «راية حركة
طالبان القبورية التي توالي أعداء الله وتحكّمهم في قضاياها
وتتزلف للانضمام إلى الأمم الملحدة (المتحدة)، أو راية
النظام السعودي الأمريكي في قتاله ضد العراق..».
|
الزرقاوي: القتال تحت راية الطالبان غير شرعي!
|
وبالرغم من محاولة أبو قتادة الفلسطيني التخفيف من
وطأة الكتاب من خلال ردّه على الكتاب بآخر بعنوان (جؤونة
المطيبين) في بيان أخطاء رسالة (كشف شبهات المقاتلين تحت
راية من أخلَّ بأصل الدين)، صدر في تشرين أول (أكتوبر)
2000 وقدّم له وصوّب أبو محمد المقدسي، حيث استنكر وضع
طالبان مع من وصفها بالأنظمة المرتدة وتساءل: (هل من الإنصاف
والعدل الذي قامت به السماوات أن تحشر الطالبان وأمثالها،
وتحشر رايتها مع راية صدام حسين أو راية علي عبد الله
صالح أو راية النظام المصري أو راية النظام السعودي أو
راية ياسر عرفات أو نحوها من الرايات الكافرة المرتدة)(أبو
قتادة الفلسطيني، جؤونة المطيبين، مقدّمة أبو محمد المقدسي،
طبع خاص، ص 7).
وردّ ابو قتادة على تكفير طالبان لكونها «قبورية وتوالي
أعداء الله وتتزلف للإنضمام للأمم المتحدة»، وقال عن الكاتب
بأنه «غالٍ جاهل في دين الله تعالى لا يدري ما يخرج من
رأسه..». وقال بأن «تكفير الديوبندية ـ وهي عقيدة طالبان
ـ لأنهم ماتريدية؛ بدعة خارجية وافتراء على مذهب أهل السُّنة
والجماعة، لأني لا أعلم عالماً على ظهر الأرض كفّر الأشاعرة
وأخرجهم من أهل القبلة، أو كفَّر الماتريدية وأخرجهم من
أهل القبلة..».
وهذا قول غريب من أبي قتادة لأن عقيدة الوهابية تقوم
على تكفير الأشاعرة كما جاء في كتاب «التوحيد» لمؤلفه
الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، والمخصص للصف
الأول ثانوي، والصادر عن وزارة التربية والتعليم لسنة
1424هـ الموافق 1999، حيث وصف الأشاعرة والماتريدية بالشرك،
وقال عن المشركين الأوائل: «فهؤلاء المشركون هم سلف الجهمية
والمعتزلة والأشاعرة». وأدخل الشيخ محمد بن صالح العثيمين
في محاضرة له في بدايات أيار (مايو) 1992 الأشاعرة والماتريدية
في أهل البدع.
مهما يكن، فإن تسامح ابو قتادة في عدم تكفير من يتبنى
الديمقراطية وعبّاد الأضرحة والقبور وانتقاده لعلماء نجد
في الدولة السعودية الثانية، وموقفهم من الدولة العثمانية،
وضعه في خانة الإرجاء والتجهّم (أنظر: غلو أبو قتادة الفلسطيني
في الإرجاء والتجهم، مدونة الخلافة، بتاريخ 2 مارس 2014).
على النقيض، كتب عمر عبد الحكيم، المعروف باسم (أبو
مصعب السوري)، في كتابه (مختصر شهادتي على الجهاد في الجزائر)،
الحلقة السادسة من (سلسلة قضايا الظاهرين على الحق)، وهو
يرصد تجربة القتال في الجزائر في الفترة ما بين (1988
ـ 1996).
وكان ابو مصعب السوري قد التقى بأبي قتادة في العاصمة
البريطانية، لندن، في أواخر 1993 وقال عنه بأنه «تحصّل
خلال فترة وجيزة على اللجوء السياسي فيها. واتخذ من إحدى
القاعات في لندن مصلّى للجمعة، وبدأ فيه نشاطاً خطابياً
ودعوياً. ولما كانت بضاعة الجهاد هي الرائجة في أوساط
الصحوة آنذاك ولاسيما قضية الجزائر، فاتخذ أبو قتادة منها
مسألته المحورية. حيث صار ذلك المصلى مكانا لتوزيع المنشورات،
وجمع التبرعات، والتقاء الجهاديين والمتحمسين لقضاياهم».
ويضيف «وببساطة وسهولة صار (أبو قتادة الفلسطيني) المرجع
الديني لأولئك الشباب الجزائريين وغيرهم من الأفغان العرب
ومن التحق بمدرستهم في لندن، ثم في غيرها من العواصم الأوربية
بعد فترة بسبب سهولة الاتصالات».
يقدّم ابو مصعب السوري سردّية تفصيلية حول علاقة ابو
قتادة بالجهاديين الجزائريين خلال وجوده في بريطانيا،
ويقول «ورغم أن أبا قتادة لم يكن من الجهاديين، ولم يكن
له أي ماض في ذلك الميدان، ولكن خلفيته السلفية وحماسه
الخطابي وتبنيه لأفكار الجهاديين، والتعطش في أوساط الجهاديين
لأي عالم أو طالب علم يدعم منهجهم ويسد حاجتهم، قدمه لذلك
الوسط بصفته شيخاً ومرجعاً جهادياً. خاصة وأن المجموعة
الإدارية الصغيرة للجزائريين كانت من الذين اتخذوا من
المدرسة السلفية منهجاً لهم وكانوا من المتعصبين جداً
- كما كان حاله - حتى لجزئيات ذلك الاختيار. وكان هذا
قاسماً مشتركاً بينهم وبين أبو قتادة»(المصدر ص 21).
بحسب رواية ابو مصعب السوري، أصبح أبو قتادة من أبرز
منظري «غلاة السلفية الجهادية» واندفع مع آخرين في التصدّر
للفتوى بحسب ما كان يطلبه هؤلاء. ومنذ عام 1995 فرض أبو
قتادة نفسه كمرشد روحي وفقهي لتيار الجماعة المسلّحة في
الجزائر، وكان يكتب الفتاوى في نشرة (الأنصار) التي كانت
تصدر في لندن، وكتب مقالات تحت باب (بين منهجين) أحدثت
موجات جدل واسعة بين الجهاديين، وكذلك فعلت فتاويه وتسويغه
لجرائم السلفية الجهادية المتطرفة ومنها فتواه في «جواز
قتل النساء والأطفال» من عوائل رجال الأمن والسلطة، ردّاً
على أفعال أجهزة الأمن بعوائل الجهاديين (المصدر ص ص 31
ـ 32).
على أية حال، فإن ابو قتادة الذي دافع عن طالبان وانتصر
للجهاديين الجزائريين، لم يستطع إقناع الزرقاوي بمشروعية
حكم طالبان أو حتى البقاء معهم، وفضّل العمل منفرداً،
حيث هرب الزرقاوي من أفغانستان بعد الحرب الأميركية عليها
وسقوط حكم طالبان، وذلك الى كردستان ونزل ضيفاً على جماعة
«أنصار الاسلام» وهي جماعة سلفية كردية من العراق تأسست
في أواخر عام 2001، وكانت تسيطر على أجزاء من الأرض في
شمال العراق قرب سلسلة الجبال التي تفصل حدود العراق وايران.
وكانت الجماعة تتبنى العمل المسلح، وأقامت لها معسكرات
ومراكز تدريب في شمال العراق. وفي ديسمبر 2001 انضمت جماعة
جند الاسلام بزعامة أبو عبد الله الشافعي مع حركة أخرى
انفصلت من الحركة الاسلامية الكردستانية، وكان يتزعم المجموعة
نجم الدين فرج احمد الملقب بملا كريكار، الذي يعيش في
النرويج كلاجىء سياسي. واتهمت الجماعة بارتباطها بالمخابرات
البريطانية وصنّفت كمنظمة ارهابية، وأصدرت السلطات النرويجية
في مارس 2003 مذكرة اعتقال بحق ملا كريكار بتهمة ضلوعه
وتخطيطه لعمليات ارهابية، حيث صنّفت الولايات المتحدة
جماعة «أنصار الإسلام» كأحد التنظيمات التابعة للقاعدة.
كما اتهمت الولايات المتحدة الجماعة بإيواء أبو مصعب الزرقاوي.
قرر الزرقاي بعد وقوع الحرب على العراق وسقوط بغداد
في إبريل 2003 أن ينتقل الى وسط العراق وتشكيل مجموعة
أطلق عليها «جماعة التوحيد والجهاد»، ولكنه حينذاك لم
يكن يحظى بدرجة عالية من الثقة والمكانة التي تؤهله للقيادة؛
وكان بحاجة الى التقرّب من الجيل المؤسس لحاجته الى الدعم
المالي واللوجستي والبشري، فقرر مبايعة قيادة «القاعدة»
ممثلة في ابن لادن، ولكن لم تكن تلك البيعة الشرعية المطلوبة،
إذ لم تكن فيها «صفقة اليد وثمرة القلب»، وكانت أقرب الى
بيعة المصلحة، حيث كان يخطط للتفرّد بـ «الجهاد» و»المجاهدين».
وبعد ان كان الزرقاوي وجماعته فصيلاً مسلّحاً صغيراً،
تحوّل بفعل دعم القاعدة الى أن يكون الفصيل الأكبر، وشجّعه
ذلك على تأسيس «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» وصار
مرجعاً لكل تنظيمات القاعدة في المنطقة.
اختار الزرقاوي لنفسه استراتيجية عمل لا تنسجم بالضرورة
مع توجهات قيادة «القاعدة»، ولكن الأخيرة كانت تكتفي بـ
«نصيحة السر» كي لا يطلع خصومها على خلافاتها ونقاط ضعفها،
ومن ذلك قتال المدنيين من كل الطوائف، والمطالبة بتركيز
وجهة السلاح نحو «العدو المفضّل» أي الولايات المتحدة،
إلا أن الزرقاوي جعل من قتال الشيعة مقدّماً وأولوية.
وسوف تبدأ مع الزرقاوي رحلة الخلاف بين «القاعدة» و»الدولة»
بعد مقتله، فكانت أولى ثمار الخلاف تعيين أبو حمزة المهاجر
قائداً لتنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» وهو ما رفضته
قيادة «القاعدة» أول مرة، كما رفض العراقيون في التنظيم
أن يتولى غير عراقي منصب القيادة، فتشكّل حلف المطيبين
الذي أنتج الدولة الاسلامية في العراق بإمامة ابو عمر
البغدادي، فيما بايع ابو حمزة المهاجر (أو أبو أيوب المصري)
الأخير وتولى هو إدارة التنظيم ولكن دون أن تكون له سلطة
القرار، ومن هناك بدأ «داعش» يستقل تدريجاً عن «القاعدة».
|
ابو محمد المقدسي: شيخ الزرقاوي! |
ويمكّن الوقوف على جذور الخلاف بين القاعدة و»الدولة»
من خلال ما تسرّب من أسرار كشفت عنها وثائق «أبوت أباد»،
والتي نشرها مركز مكافحة الإرهاب، التابع للأكاديمية العسكرية
الأميركية في وست بوينت عقب مقتل أسامة بن لادن في 2 مايو
2011.
الوثائق السبع عشرة المفرج عنها بعد مرور عام على مقتل
إبن لادن من قبل مركز مكافحة الإرهاب، هي عبارة عن رسائل
إلكترونية أو مسوّدات رسائل تصل إلى 175 صفحة في صيغتها
العربية الأصلية و197 صفحة مترجمة الى الإنجليزية. وهي
تعود في أقدمها إلى أيلول (سبتمبر) 2006 وآخرها الى نيسان
(إبريل) 2011. وهذه المراسلات الداخلية للقاعدة كتبها
عدد من القيادات، أبرزهم أسامة بن لادن ومحمود عطيّة وأبو
يحيى الليبي وأيمن الظواهري، ووجهت إلى مختار أبو الزبير
وأبي بصير (ناصر الوحيشي) ورسائل الى قادة الفروع في التنظيم
وردودهم.
في مقابل تصريحاته العلنية التي تسلّط الضوء على جور
من يعتقد بأنهم أعداء المسلمين، أي الحكام المسلمين المرتدّين
الفاسدين ورعاتهم الغربيين، فإن التركيز في الرسائل الخاصة
لابن لادن كان منصباً على معاناة المسلمين على أيدي الأخوة
المجاهدين. وسوف نتوقّف عند وثائق «آبوت أباد» للوقوف
على بعض ما كشفت عنه من خلافات بين قيادات القاعدة، أو
بين القيادة المركزية وقيادات الأقاليم.
وتكشف الوثيقة 0016 عن تباين واضح بين «القاعدة» و»الدولة»
حيث يؤكد ابن لادن على ضرورة تفادي الاصطدام مع الحكومات
المحلية عبر اعلان امارات اسلامية لم تنضح شروط نجاحها،
والتشديد على بناء مقومات الجهاد. ويتحدّث ابن لادن عن
الفارق بين جيلين في القاعدة، وفي هذه الوثيقة يفرّق بين
الاخوة الكبار الذين تشربوا سياسة القاعدة وجيل جديد من
الشباب الذين «انضموا الى مسيرة الجهاد ولم تتم توعيتهم
بهذا الأمر مما يؤدي الى القليام بعمليات فرعية بدلاً
من التركيز على الأصل» اي الاشتغال على العدو الأكبر الخارجي
وليس الداخلي.
يسدي ابن لادن بألم نصائح الى قادة الفروع بوقف الهجمات
المحلية التي تتسبب في ضحايا مدنيين من المسلمين والتركيز
على الولايات المتحدة (هدفنا المفضّل) حسب قوله. الإحباط
الذي أصاب بن لادن من المجاميع الجهادية المحلية وعجزه
عن السيطرة على أعمالها وعلى تصريحات قياداتها العلنية
هي القصة الأكثر إثارة والتي يجب أن تروى في ضوء الوثائق
المفرج عنها، وهو الجانب المغفول عنه في حياة زعيم التنظيم.
تبدي الرسائل جانباً من المحنة التي عاشها ابن لادن
في السنوات الأخيرة من حياته، فكان يشعر بالوحدة فلا سمع
ولا طاعة لأوامره ونواهيه. في الواقع، إن هذه المحنة بدأت
ملامحها تتبدّى منذ أن سعى أبو مصعب الزرقاوي لأن يرث
القيادة من إبن لادن وهو على قيد الحياة، فصار يمارس دور
القائد العام للتنظيم، فيما بقي بن لادن ورفيقه أيمن الظواهري
في عزلة شبه تامة عن الأغلبية الساحقة من الكوادر القيادية
في التنظيم باستثناء قلة محدودة جداً جرى التواصل معها
عن طريق قنوات وترتيبات معقّدة للغاية، واشتدّ الخناق
على حركة بن لادن في السنوات الأخيرة من حياته، بعد أن
بدأت التنظيمات القاعدية الفرعية تمارس ما يشبه دور الإمارات
المستقلة، فكل تنظيم يقوده أمير ويتصرف باعتباره المرجعية
النهائية، فصادر دور القيادات العليا للتنظيم.
أحد الأسباب التي يمكن أن نعزوها الى هذه الفجوة هو
بروز قيادات فرعية لم ترتبط بالقيادة العليا للتنظيم في
أفغانستان، وبعضها لم يزر هذا البلد الا لبرهة من الزمن،
ولم يرد إسمه في سجل (قدامى المجاهدين)، الذين إمّا قرّروا
الإنسحاب من العمل القتالي كرد فعل على تبدّل إستراتيجية
العمل لدى (القاعدة) أو أن القيادات الشابة فرضت نفسها
على التنظيمات الفرعية في غفلة من الجيل الأول أو انهماكه
في مهمات أخرى قتالية أو لوجستية، والبعض الآخر وهم الأغلبية
التحقوا بتنظيم «الدولة»، وتحديداً بعد تولي الزرقاوي
قيادة تنظيم القاعدة إسمياً، فيما كان رفاق دربه يستعدّون
لمشروع مستقل.
في ضوء ثورات الربيع العربي وصعود «الاخوان المسلمين»
كبديل في أكثر من بلد عربي وخصوصاً في مصر وتونس، أجرى
بن لادن تعديلاً تكتيكياً على طريقة تعاطي التنظيم مع
الأحزاب والقوى السياسية الدينية في الدول العربية، ولذلك
نجده يذكّر رفاقه دربه (في الأقاليم بأهمية التحلي بالمكث
والأناة ونحذرهم من الدخول في أي مصادمات مع الأحزاب المنتسبة
للإسلام..)، وتثمير ما يجري لصالح التنظيم: (وواجبنا في
هذه الفترة أن نهتم بالدعوة بين المسلمين وكسب الأنصار
ونشر الفهم الصحيح فالأوضاع الحالية أتاحت الفرص بشكل
لم يتح من قبل..). وهنا يبدو الاختلاف واضحاً بين «القاعدة»
و»داعش» الذي أبقى على «تكفير الاحزاب الدينية والحكومات
والجيوش والرؤساء وقادة الاحزاب الدينية السنيّة بما فيها
الاخوان المسلمين وحزب النور في مصر، وحركة النهضة في
تونس.
في الرسائل التي بعث بها ابن لادن الى أمراء الأقاليم
أو بعض الشخصيات النافذة والقيادية في الجماعات القاعدية
في عدد من البلدان ما يكشف عن ألم شديد كان يعانيه بن
لادن، تكشف عنه نصائح كثيرة أسداها لعناصر القاعدة في
اليمن والعراق والصومال وبلاد المغرب، بما يلفت الى تباينات
في التوجهات حيث أن التشدد واضح على تلك المجموعات فيما
يحاول هو الحد من تلك النزعة المتطرفة لديها، وبلغة لا
تخلو من حسرة وحرقة حتى وكأن لهجته توحي بأنه شديد الإحباط
من أولئك الذين ينتسبون للتنظيم ويحملون إسمه ويخالفون
توجيهاته.
من بين الموضوعات الخلافية بين ابن لادن والتنظيمات
الفرعية العمليات القتالية داخل حدود الدول العربية والاسلامية
التي لم تقع تحت الاحتلال الاميركي. فمثلاً، في الرسالة
السابعة عشرة، بدا واضحاً أن بن لادن لا يميل الى أن يزج
نفسه وتنظيمه في اليمن في هذا الوقت قبل (أن تتهيأ الأوضاع..)،
ورأى بأن (تبقى اليمن هادئة، وإنا ندخرها كجيش احتياطي
للأمة.. مع استمرار استنزاف العدو في الجبهات المفتوحة،
الى أن يصل العدو الى مرحلة الضعف التي تمكننا من إقامة
دولة الإسلام..). وبناء على ذلك، كان بن لادن يميل الى
الهدنة بين النظام والتنظيم: (فالرأي عندنا أن توسطوا
كبار العلماء وشيوخ القبائل في السعي للاتفاق على هدنة
منصفة تساعد على استقرار اليمن، رغم علمنا بأن علي عبد
الله صالح قد لايستطيع الموافقة على الهدنة، فإن رفضت
الحكومة الهدنة فسيظهر أنها هي المصرّة على تصعيد الأمور
المؤديّة للقتال، وأن أمرها ليس بيدها، وبذلك يكون تعاطف
الشعب مع المجاهدين مستمراً وبشكل أكبر، ويتحمل الخصم
مسؤولية تبعات الحرب وليس نحن، ويظهر للناس أننا حريصون
على وحدة الامة الاسلامية وسلامة المسلمين بأسس سليمة).
هنا يبدو التباين بين توجيهات بن لادن وما يجري على
الأرض، حيث يواصل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب عملياته
القتالية ضد النظام اليمني وضد القوى السياسية والاجتماعية
التي تختلف معه سواء في الشمال أو الجنوب: (وبما أننا
لا نرى التصعيد لأننا مازلنا في مرحلة إعداد فليس من المصلحة
التسرّع في العمل على إسقاط النظام، فهو رغم ردّته وسوء
إدارته، إلا أنه أخف ضرراً ممن تريد أمريكا استبداله بهم.
فعلي عبد الله عاجز عن قمع النشاط الاسلامي، وكونه رجل
غير اسلامي وموالياً للغرب كان بمثابة مظلة للنشاطات الاسلامية
طيلة السنين الماضية، فاستفاد من ذلك الاخوان والسلفيون
والسلفية الجهادية. فيبقى الإستمرار في استنزاف أمريكا
من خارج اليمن، كذهاب بعض العناصر الى الصومال أو إلينا،
ومنها ينطلق الاخوة الى العمليات الخارجية، وفي حالة لم
توافق الدولة على الهدنة والمصالحة تركزون على الإخوة
اليمنين المغتربين القادمين في إجازات، ويمتلكون فيزة
أو جنسية أمريكية للقيام بعمليات داخل امريكا، شريطة أن
لا يكونوا قد أعطوا عهداً لأمريكا بعدم الاضرار بها، كما
ينبغي توسيع دائرة العمل وتطويره في التخطيط للعمليات
وتطويرها وأن لا نحصر أنفسنا في تفجير الطائرات هناك فقط).
من الواضح في هذا المقطع، أن بن لادن يميل الى نقل
العمليات القتالية الى الولايات المتحدة ووقف المواجهات
المسلحة مع النظام اليمني، بل وافساح المجال أمام علي
عبد الله صالح للبقاء لأن في ذلك تقوية للجماعات الإسلامية.
وهنا يبدو أيضاً الاختلاف شديداً بين «القاعدة» و»داعش»
حيث يميل الأخير الى تشكيل إمارات دينية في كل مكان يمكن
له أن يحقق فيه مبدأه، أي تطبيق الشريعة. بينما يتمسّك
ابن لادن بحسب وثيقة 0016 بحصر القتال ضد الولايات المتحدة
، فالقاعدة إنما «تميزت في تركيزها على العدو الأكبر الخارجي
قبل الداخلي وإن كان الأخير أغلظ كفراً إلا أن الأول أوضح
كفراً كما أنه أعظم ضرراً في هذه المرحلة، فأمريكا هي
رأس الكفر فإذا قطعه الله لم يعص الجناحان..».
يكشف بن لادن عن سر استقلال التنظيمات الفرعية بالقرار،
والمؤلّفة من عناصر التحقت بالتنظيم في مرحلة متأخرة،
ولم تتشرّب مبادىء القاعدة في وجوب حصر القتال ضد الولايات
المتحدة، الى درجة أن اخبار العمليات الفرعية تصله عن
طريق وسائل الاعلام الخارجية، ما يعني أنه لم يعد مرجعية
عليا للتنظيم ولم يتم الرجوع اليه قبل تنفيذ العمليات.
فكرة بن لادن في الدعوة الى التركيز على أمريكا (ساق الشجرة)
حسب قوله، يتلخص في الهدف التالي (أن نشر الساق سيؤدي
الى تساقط الفروع الواحد تلو الآخر..).
|
ابو قتادة منظراً لغلاة السلفية من لندن |
هذه الاستراتيجية التي يلخّصها بن لادن تؤسس لتطلع
نهائي: (فيجب أن نضع نصب أعيننا في هذا الوقت أن ترتيب
العمل في قيام الدولة المسلمة يبدأ بإنهاك الكفر العالمي
فإن لديه حساسية قصوى من قيام أي إمارة اسلامية..). ولذلك
يذكّر المقاتلين في القاعدة بالتالي: (تعلمون أن كثيراً
من الجماعات المجاهدة التي أصرّت على البدء بالعدو الداخلي
قد تعثرت مسيرتها ولم تحقق أهدافها كالإخوان المسلمين
في سوريا.. وكذلك في محاولة الجماعة الاسلامية في مصر
وجماعة الجهاد وكذلك الإخوة في ليبيا وفي الجزائر ومثل
ذلك في جزيرة العرب رغم أن العمل كان على بعض المراكز
الأمريكية وليس لإسقاط الدولة، وقد حقق فوائد من أهمها
إخراج قواعدهم الكبرى من بلاد الحرمين، وكذلك توعية الناس
بعقيدة الولاء والبراء، وانتشار روح الجهاد بين الشباب،
ثم ما لبث العمل العسكري أن تعثر للأسباب السابق ذكرها).
ونبّه ابن لادن الى خطورة المواجهة مع المجتمع المحلي،
وكيف تحوّل التعاطف مع عناصر القاعدة الى كره بعد أن حصلت
بعض الأخطاء، وكان من أكبرها وأخطرها ضرب بعض أبناء قبائل
الأنبار في غير حالة الدفاع المباشر عن النفس (كأن يكونوا
متوجهين الى الإخوة لقتالهم؛ وإنما كانوا في تجمع للإكتتاب
في قوى الأمن مما ألهب مشاعر القبائل ضد المجاهدين وانتفضوا
عليهم..). وكما يظهر من هذه الفقرات أن بن لادن يوجّه
نقداً لأداء الزرقاوي في العراق، والذي كان مسؤولاً بصورة
مباشرة عن مقتل كثيرين من أفراد قبائل الأنبار، وهو من
دفع الأخيرة الى الإنخراط في (الصحوات) التي نشأت حصرياً
لمواجهة القاعدة وعناصرها.
حذّر ابن لادن من الإسراف في استخدام لغة التكفير من
قبل قيادات التنظيم أو ما وصفه (مزلق التشدد والتكفير
بلا ضوابط شرعية) وقال: (بدأ ينتشر في الشبكة العنكبوتية
مصطلح: منهج السلفية الجهادية، فيقال فلان ليس على منهج
السلفية الجهادية ونحوه، وهذا أمر في غاية الخطورة، وخصوصاً
مع بداية ظهور رموز من هذا التيار المنسوب الينا يتبني
أقولاً في غاية التشدد والقطعية في مسائل اجتهادية ظنية،
وأصبح على ضوء ذلك يميز الناس ويصنفون بطريقة لا يظهر
أنها بريئة من أيدي أجهزة الأمن والمندسين..).
وفي لحظة بدا فيها بن لادن ناقداً بشدّه لأولئك الذين
يفرطون في الشعور بالتميّز السلفي ونفي الآخر، يقول لهم:
(فلسنا حكراً على السلفيين ولا على مقلدة المذاهب بل ننتسب
لكل الأمة ونستشهد بكل علمائها وفق إصابتهم للحق بدليله،
وليس عندنا في ذلك أدنى غضاضة، ولسنا في منأى عن أتباع
المذاهب المسلوكة وإن تسنموا التقليد ولا السلفيين وإن
امتطوا صهوة الاجتهاد، والكل من الأمة، والكل يؤخذ من
قوله ويترك..).
وهنا يكشف ابن لادن عن تسامح إزاء المذاهب الأخرى،
ويناقض منهج «الدولة» في تعاطيها مع المذاهب الأخرى. وفي
الوقت نفسه دعا الى تطوير خطاب القاعدة على (أن يكون هادئاً
رصيناً مقنعاً سهلاً واضحاً ملامساً لقضايا الجماهير ومعاناتهم
لا ينفر جماهير الأمة والرأي العام..). وكان بن لادن يسعى
الى إقناع عناصر التنظيمات الفرعية بأن ينأوا عن مصادمة
الحركات والجماعات السياسية الإسلامية.
ونتوقف هنا عند رسالة على درجة كبيرة من الأهمية، من
أحد رفاق الدرب لابن لادن من الرياض، كما توضح مقدّمة
الرسالة، ويبدو من كاتبها أنه رجل دين، وعلى اطلاّع وثيق
وواسع باستراتجيات عمل تنظيم القاعدة، كما يبدو عليه عمق
الرؤية، والتحليل، والتوجيه. من المؤكّد أن الرسالة كتبت
بعد عام 2003، وليس (22 شعبان 1421هـ) الموافق 20 نوفمبر
2000، كما جاء في نهاية الرسالة، كون الرسالة تتناول وقائع
جرت بعد ذلك التاريخ مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001،
واحتلال العراق سنة 2003، وهجمات القاعدة في المملكة في
الفترة ما بين 2003 ـ 2004.
مهما يكن، فإن الرسالة قد تركت تأثيرات واضحة على مواقف
بن لادن، ما يكشف عن أن صاحبها لم يكن شخصاً عادياً بل
كما يبدو يحتل موقعاً متقدماً في الهرم الديني السلفي.
اشتملت الرسالة الى التفاتات هامة، ومن بينها السبب في
توجيه عمليات قتالية ضد المملكة السعودية دون غيرها، وتساءل:
«لماذا أرض الجزيرة فقط؟ هل يهمكم فقط حماية أنفسكم وتحقيق
أمنكم وبقية العالم يحترق؟». وقدّم مبررات عدم العمل في
داخل البلاد الاسلامية، وخصوصاً الجزيرة العربية التي
يعتقد بأن «لها خصوصيتها وتميزها، وبخاصة في دعم الجهاد
بالكوادر وتمويله المادي والمعنوي، وتعتبر أرض الجزيرة
القاعدة الخلفية لكل الأعمال الجهادية في العالم من أفغانستان
والشيشان الى العراق وفلسطين، وضرب هذه القاعدة مؤثر بشكل
واضح وجلي على كافة تلك الاعمال الجهادية».
الأخطر في الرسالة، كما يبدو، هو حين يلفت نظر بن لادن
الى موقف رفاق دربه السابقين من الأهداف الكامنة وراء
استهداف المملكة السعودية، ويقول: «يخشى بعض الاخوة من
قدامى المجاهدين الذين تعاملوا مع بعض قيادات التنظيم
ممن قد يكون وراء هذه الاحداث في الجزيرة، أن السبب في
استهداف الجزيرة هو الحقد والحسد والكراهية لأبناء الجزيرة
بسبب بعض المواقف، وقد عرف عنه الأخوة ذلك من قبل».
في هذه النقطة إشارة واضحة الى المشاعر المتنافرة التي
تسود التنظيم وفق جنسيات العناصر، ولذا يرى صاحب الرسالة
بأن من يشجّع على العمليات المسلّحة في السعودية هم من
جنسيات عربية أخرى يضمرون الكراهية والحسد والحقد على
أبناء الجزيرة العربية، ما يلمح الى بعد الثراء. وتساءل
كاتب الرسالة عن مبررات عدم القيام بأعمال قتالية في باكستان:
(مع أنها الأقرب جغرافياً، والأسهل، وبخاصة مع موقفها
المتشدّد من المجاهدين، وقد سلّمت عدداً من القيادات وغيرهم
الى أمريكا وساندت الاحتلال الأمريكي بشكل سافر، وشاركت
بفعالية في إسقاط الإمارة الاسلامية)، وتساءل أيضاً: (ولماذا
لم يحدث ذلك في الكويت وقطر وهما الأكثر عمالة وانبطاحاً
ومجاراة للأمريكان؟).
وهنا كما لو أن صاحب الرسالة قد كشف سرّاً، وفي الوقت
نفسه أثار شجون وآلام لدى بن لادن الذي شعر بأن هناك من
بات يعلم بأن التنظيمات الفرعية لم تعد تمتثل لأوامر القيادة
العليا، وأنها تسير على خلاف قناعاته. يقول صاحب الرسالة
بأن الاحداث أثبتت بأن الاعمال العسكرية في الداخل إجتهاد
خاطىء ولها آثار سلبية كبيرة منها:
ـ الإضرار بالجهاد والمجاهدين في جميع الساحات.
ـ مقتل كثير من القيادات والكوادر التي قتلت أو اعتقلت
بسبب هذه العمليات.
ـ التضييق على الداعمين للساحات الجهادية في الشيشان
والعراق وأفغانستان وفلسطين وغيرها وقطع تمويلها بشكل
حاسم.
ـ منع الشباب من الإلتحاق بساحات الجهاد وتشديد الرقابة
على جميع المنافذ المؤدية إليها واعتقال الذاهبين اليها
والعائدين منها.
|
الجولاني لا يمثل القاعدة أيضاً! |
ـ اعتقال أعداد كبيرة من الشباب المجاهدين ومن حولهم
ومن المتعاطفين.
ـ تعقّب كل من له صلة بالأعمال الجهادية ومطاردته.
ـ تضرر الكثير من أسر المقتولين والمعتقلين والمطاردين.
ـ منع الحديث عن الجهاد والترغيب فيه في المحاضرات
والخطب والمنتديات.
ـ نفرة الناس من مصطلح الجهاد وتشويهه من قبل الاعداء.
ـ خسارة التيار الجهادي لكثير من العلماء والدعاة من
المؤيدن والمدافعين عن الجهاد وقضاياه.
ـ الإضرار بالعمل الخيري مثل إغلاق مؤسسة الحرمين..
ومنع التبرعات وتجميد الحسابات البنكية واعتقال المشتبه
بضلوعه في أعمال التبرّعات، وتوقّف الكثير من الأعامال
الخيرية والإغاثية.
ـ الاضرار بالدعوة والاحتساب وجميع ميادين العمل الاسلامي.
ـ اعطاء ذريعة للإتجاهات المنحرفة للنيل من الاسلام
عموماً والجهاد خصوصاً ودفع مشاريع التغريب والعلمنة الى
الامام.
ـ اعطاء العدو المتربص فرصة للتدخل أكثر من ذي قبل
ودفع الدولة للإرتماء في أحضانه.
ـ تحفيز الجهات الرسمية ودفعها للتفاعل بشكل أكبر في
مشروع مكافحة الارهاب، وتغيير المناهج، وفرض الرقابة على
وسائل الاعلام بما يتوافق مع الحملة الاميركية ضد ما تسميه
بالإرهاب.
ـ الأضرار الكبيرة التي حصلت لعموم المسلمين في الأرواح
والممتلكات والحريات.
وختم صاحب الرسالة بدعوة ابن لادن للتركيز على الهدف
الكبير «قطع رأس الأفعى» أي حصر الاعمال القتالية بالولايات
المتحدة «وعدم تشتيت الجهود والقوى خارج الهدف مع ضبط
الإستهداف بحيث لا يقع في البلاد الاسلامية المستقرة مما
يترتب عليه الآثار السلبية...».
بدا واضحاً أن الرسالة تركت أثراً عميقاً في بن لادن،
وانعكس ذلك في رسائله اللاحقة التي كان يشدّد فيها على
ذات النقاط الواردة في الرسالة السابقة. ففي الرسالة التاسعة
عشرة ـ وهي رسالة مطولة وضع فيها بن لادن تصوراته للعمل
العسكري والإعلامي في المرحلة القادمة ـ نجد أثراً لتلك
الرسالة بما نصّه: «بعد أن اتسعت الحرب وانتشر المجاهدون
في أقاليم عديدة إنهمك بعض الاخوة في القتال ضد الأعداء
المحليين وازدادت الاخطاء التي تقع نتيجة خلل في حسابات
الاخوة المخططين للعمليات أو نتيجة لأمر يجد قبل التنفيذ،
إضافة الى توسع البعض في مسألة التترس مما أدى الى سقوط
بعض القتلى من المسلمين..». ولفت الى ضرور إعادة البحث
في مسألة التترس حتى (لا يقع ضحايا من المسلمين إلا في
ضرورة قصوى). وذكر من الأخطاء أيضاً: (قتل بعض من لا يفقه
عامة المسلمين إباحة قتلهم.. فهذه المسائل أدّت الى خسارة
المجاهدين لجزء لا يستهان به من تعاطف المسلمين معهم..).
وأضاف: (أن قيامنا ببعض العمليات التي لا تتوخى الحذر
فيما يؤثر على تعاطف جماهير الأمة مع المجاهدين سيؤدّي
الى كسبنا لبعض المعارك وخسارتنا للحرب في نهاية المطاف).
ومن الأخطاء استهداف من وصفهم (بعض المرتدين) في المساجد
أو قريباً منها، مثل محاولة اغتيال رشيد دستم في مصلى
العقيد، وعملية اغتيال الجنرال محمد يوسف في أحد المساجد
في باكستان، ويعلق قائلاً: (ومن المؤلم جداً أن يقع الإنسان
في الخطأ أكثر من مرة). وذكر بن لادن موضوع التترس ونبّه
إلى ضرورة تجنّب القيام بعمليات في الدول الاسلامية من
أجل تجنّب سقوط ضحايا من المسلمين، مع أن هناك توسّعاً
في مسألة التترس (مما يحملنا المسؤولية أمام الله سبحانه
وتعالى أولاً ثم يحمّلنا في الواقع العملي خسارة واضرار
بالدعوة الجهادية). وكذلك (الضررالكبير الذي يلحق بالأخوة
في القطر الذي يبدأ فيه العمل تبعاً لاستنفار الدولة على
الشباب المنخرط في العامل الجهادي). يقول: (وعندما يصل
الكفر العالمي لدرجة من الاستنزاف تؤدي لانهياره عندها
ندخل في صراع مع الحكام بعد أن يكونوا قد ضعفوا تبعاً
لضعفه ونجد إخواننا هناك بكامل قوتهم وطاقتهم).
الرسائل السبع عشرة حوت جانباً هاماً غير مرئي في حياة
بن لادن خصوصاً التباين بين التكوين الفكري والذهني والنفسي
لدى بن لادن والجيل الجديد من المقاتلين الذين نشأوا بعد
حوادث الحادي عشر من سبتمر، وبعد الاحتلال الأميركي للعراق
الذين تشربوا العقيدة السلفية في بعدها الطائفي، كما قرروا
الإنخراط في القتال الداخلي في أكثر من قطر عربي ما أضرّ
بالمشروع الكوني للقاعدة في محاربة (رأس الأفعى) أي الولايات
المتحدة، على حد توصيفه.
كان وجود بن لادن على رأس «القاعدة» أسدل ستاراً وهمياً
على التنظيم، وبدا كما لو أنه متماسك، فيما كان قادة الفروع
يستقلون تدريجاً بالقرار والامكانيات، وان أبقوا على مسمى
«القاعدة». وكان الزرقاوي هو من أرسى مبدأ التمرد على
قيادة القاعدة، وراح من بعده من قيادات «الدولة» يقتفون
سيرته. بدأ ذلك بتعيين أبو حمزة المهاجر قائداً للتنظيم
رغم رفض القيادة المركزية المتمثلة في ابن لادن والظواهري،
ثم في الاعلان عن تنظيم «الدولة» ومتوالياتها وصولاً الى
اعلان الخلافة.
في كلمته المعنوّنة «عذراً أمير القاعدة» بدا أبو محمد
العدناني، متحدّث «الدولة» واضحاً في موقفه الثابت على
رفض الانضواء تحت راية الظواهري، متّهماً إياه بالإنحراف
عن نهج «القاعدة» ودوره في تمزيق الصف بقبوله بيعة الجولاني،
أمير جبهة النصرة، بالرغم من وجود بيعة في عنقه للبغدادي.
ينطلق العدناني من رسالة ابن لادن لأهل العراق خاصة والمسلمين
عامة، بهدف التصويب على الظواهري، في سياق إعادة تثبيت
معتقدات «السلفية الجهادية» بفروعها كافة «القاعدة» و»داعش»،
في موضوعات تحكيم الشريعة، وحرمة الانتخابات، وردّة الحكومات،
وتكفير طوائف بعينها، واعتبار الدساتير المعمول بها في
الدول العربية بأنها دساتير جاهلية.
وراح العدناني يسرد أقوال أمراء القاعدة السابقين مثل
ابو يحيى الليبي وقوله في الملك عبد الله بأن «طاغيةُ
بلاد الحرمين يسوقُ الناس إلى الكفر والردة السافرة سوقا
حثيثاً؟!». وقول سليمان بو غيث، الشيخ القاعدي من الكويت،
وخطبته المعنوّنه «المرتدون في الكويت» وحكمه على الدستور
الكويتي بأنه «كافر، والذي يحكم بهذا الدستور كافر»، وعليه
فهو «ضدّ نظام الحُكم كلّه في هذا البلد». ونقل أيضاً
رأي أبو مصعب الزرقاوي في الديمقراطية ومن يمارسها.. وقال
عن المرشّحين للإنتخابات بأنهم «أدعياء للربوبية والألوهية،
والمنتخبون لهم قد اتّخذوهم أرباباً وشركاء من دون الله،
وحُكمُهُم في دينِ الله: الكفرُ والخروجُ عن الإسلام».
يريد القول بعد سرد تلك الآراء بأن تلك هي «القاعدة»
الحقيقة والأصلية التي انحرف الظواهري عن نهجها، وأن «داعش»
هي من تمثّل النهج الأصلي. وقد قالها صراحة: «هذه القاعدة
التي أحببناها، هذه القاعدة التي والَيناها، هذه القاعدة
التي ناصَرناها». ويضيف «قادتُها هُم الرموز، لا نسمحُ
لهاجسٍ مجرّد هاجسٍ أن يُراوِدَ أعماقَ أحدِنا فيطعنُ
في رمزٍ من رموزِها، أو يُشنّعُ بكلمةٍ على قائدٍ من قاداتِها
أو ينتَقِص». وبقي قادة «الدولة» على ولائهم الظاهري لقادة
«القاعدة» حتى مقتل أبو حمزة المهاجر الذي كان يتولى قيادة
«تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» بالرغم من عدم موافقة
بن لادن والظواهري في بادىء الأمر، و»ظلّ أمراء الدولة
الإسلامية يُخاطبون قاعدة الجهاد خِطابَ الجنود للأمراء،
خطاب التلميذ لأستاذه، والطالب لشيخه، خطاب الصغير لكبيره»
حسب العدناني.
ويقول العدناني بأنه بسبب نصائح قيادة «القاعدة» لم
تقم «الدولة» بأعمال قتالية في ايران والسعودية ومصر وليبيا
وتونس «وظلت تكظم غيظها وتكبح جماح جنودها على مر السنين».
بعد تلك المقدمة الاعتذارية، يوجّه العدناني كلامه للظواهري
حين أخرج «مقاطع من رسائل سريّة على الإعلام» لتحميل «الدولة»
مسؤولية نكث البيعة والغدر والخيانة وشق صف المجاهدين..
ولكّنه ذكّره بأنه هو من «شقّ صف المجاهدين وسفك دماءهم»
لقبوله «بيعة الخائن الغادر الناكث»، حسب قوله.
|
الزرقاوي ثم داعش سرقا القاعدة وهمّشا القيادة
|
وأعلن العدناني بعد ذلك بأن «الدولةُ ليست فرعاً تابعاً
للقاعدة، ولم تكن يوماً كذلك، بل لو قدّر اللهُ لكم أن
تطأوا أرض الدولة الإسلامية، لَما وسعكم إلاّ أن تبايعوها
وتكونوا جنوداً لأميرها القرشيّ حفيد الحسين، كما أنتم
اليوم جنودٌ تحت سلطان المُلاّ عمر، فلا يصحّ لإمارةٍ
أو دولةٍ أن تُبايع تنظيماً».
وعاد العدناني لتصويب عبارته حول علاقة الدولة بالقاعدة
بأن علاقتها علاقة الجندي بأميره وقال «هذه الجنديّة يا
دكتور لجعل كلمة الجهاد العالميّ واحدة، ولم تكُن نافذةً
داخل الدولة، كما أنّها غير مُلزمةٍ لها، فإنّما هي تنازلٌ
وتواضعٌ وتشريفٌ وتكريمٌ لكُم مِنّا..».
يلفت العدناني الى التباين في الموقف من قتل عوام الشيعة،
وهو تباين لا يقتصر على الظواهري بل كان بن لادن قد أثاره
في رسائله، وتحدّث عنه أيضاً أبو محمد المقدسي في مراسلاته
مع الزرقاوي. يذكّر العدناني الظواهري «عدم استجابتنا
لطلبك المتكرّر بالكفّ عن استهداف عوام الروافض في العراق
بحكم أنهم مُسلمون يُعذَرون بجهلهم..» ويعلّق «فلو كُنّا
مبايعين لك لامتثلنا أمركَ حتّى ولو كُنّا نخالفك الحكمَ
عليهم والمُعتقدَ فيهم، هكذا تعلّمنا في السمع والطاعة،
ولو كنتَ أمير الدولة لألزمتَها بطلبك ولعزلتَ مَن خالفَك،
بينما امتثلنا لطلبكُم بعدم استهدافهم خارج الدولة في
إيران وغيرها».
ويوّجه العدناني قائمة أسئلة مشحونة بالعتب والاستنكار
والتهكم والترفّع، ويمكن اختصارها بسؤال واحد: من أنت
حتى نطيع أمرك؟ كيف وأنت لم تقدّم لنا شيئاً واحداً؟ وذّكره
أيضاً بأن العلاقة بين القاعدة والدولة كانت شبه مقطوعة،
ولم يخاطب الظواهري قادة «الدولة» «إلاّ بعدَ أن فجّرتَ
الكارثةَ في الشام وفجعتَ الأمّة بقبولكَ بيعةَ الخائن
الغادر»، في إشارة الى الجولاني.
وخيّر العدناني الظواهري بين: الاستمرار في الخطأ وتالياً
مواصلة الاقتتال بين المجاهدين في العالم أو الاعتراف
بالخطأ وتالياً تصحيحه، برد بيعة الجولاني، وتصحيح المنهج
بأن يصدع «بتكفير الروافض المشركين الأنجاس، وبردّة الجيش
المصري والباكستاني والأفغاني والتونسي والليبي واليمني
وغيرهم من جنود الطواغيت وأنصارهم، واستبدال نعتهم بالمتأمركين
وغيرها من النعوت، وتُسمّيهم بما سمّاهم به ربّ العالمين:
بالطواغيت والكفّار والمرتدّين، وعدم التلاعب بالأحكام
والألفاظ الشرعية كقولك: الحكم الفاسد، والدستور الباطل،
والعسكر المتأمركين».
لفت العدناني الى ما أوصاه به وحذّر منه الزرقاوي والليبي
من أن الظواهري قد يؤدي بالقاعدة «إلى ضلالٍ كبيرٍ وفسادٍ
عريض..» لاستعمال مصطلحات دخيلة حسب وصفهم مثل «المقاومة
الشعبية» و»الانتفاضة الجماهيرية» و»الحركة الدعوية»،
و»الشعب» و»الجماهير» و»الكفاح» و»النضال» وغيرها، وعدم
استعمال «ألفاظ الجهاد الشرعية الواضحة»، وطالبه أيضاً
بالدعوة الصريحة «لحمل السلاح ونبذ السلميّة وخصوصاً في
مصر لقتال جيش الردّة، جيش السيسي فرعون مصر الجديد، وإلى
التبرؤ من مرسي وحزبه والصدع بردّته..».
وتهكم العدناني على الظواهري لأنه جعل من نفسه وقاعدته
«أُضحوكةً ولعبةً بيدِ صبيٍّ غِرٍّ خائنٍ ناكث للبيعة
لم ترَهْ، وتركتَهُ يلعبُ بكُم لعبَ الطفل بالكرة، فأذهبْتَ
هيبتَك، وأضعْتَ تاريخَكَ ومجدَك، فبادِر واحذَر من خاتمة
السوء». ولفت العدناني الى أن رأيه هذا ليس فردياً بل
هو «ما يتحدّث به المجاهدون من المهاجرين والأنصار..».
وكان الظواهري قد وصف عناصر «الدولة» بالخوارج والحرورية
وعدّهم من أحفاد ابن ملجم، فطالبه العدناني بالحديث الصريح
عن هوياتهم، وهل هم عناصر «الدولة»، فيما وصف هو جبهة
النصرة بأنها «جبهة الضرار» والمجلس العسكري بأنه «المجلس
العسكري الكفري» ووضعهم جميعاً تحت مسمى «الصحوات» ويضم
«الجبهة الاسلامية» وان لم ترتبط بالقاعدة تنظيمياً.
شكّك العدناني في أهلية الظواهري للقيادة، وراح يعدّد
المواصفات المطلوبة في القائد، وختم بالقول نقلاً عن رأي
الظواهري بأن «الخلافَ بين الدولة الإسلامية وبين قيادة
تنظيم القاعدة خلافٌ منهجيّ»(انظر: أبي محمد العدناني
الشامي، المتحدث الرسمي للدولة الاسلامية في العراق والشام،
عذراً أمير القاعدة، مؤسسة الفرقان عن وكالة الأنباء الإسلامية
ـ حق، بتاريخ 12 مايو 2014).
لا بد من الإشارة الى الافتراق بين «القاعدة» و»داعش»
على قاعدة من أولى بالإتباع، والذي ظهر بصورة علنية مع
تمرّد أبو محمد الجولاني على ابو بكر البغدادي. وكان الأخير
قد أعلن ضم جبهة النصرة الى تنظيم الدولة الاسلامية في
العراق، وأعلن عن تنظيم داعش (الدولة الاسلامية في العراق
والشام). وبالرغم من أن البغدادي يزعم في كلمة له حول
قرار الضم بأنه استشار من يثق بحكمته ودينه، الا أنه لم
يرجع لقيادة القاعدة وخصوصاً الظواهري أو أي من قيادات
(الجهاد العالمي). بل عبر البغدادي في كلمته (باقية في
العراق والشام) عن تحفظه على رسالة الظواهري بالفصل النطاقي
وقال بأن له عليها «مؤاخَذاتٍ شَرعية ومَنهَجيةٍ عَديدة».
واعتمد البغدادي مشاورة «مَجلِس شُورى الدَولة الاسلاميةِ
في العِراق والشام مِن مُهاجِرين وأنصار، ومِن ثَمّ إحالة
الأمر إلى الهَيئة الشَرعية «اخترتُ أمر رَبي عَلى الأمر
المخالِف له..». وبذلك يكون البغدادي قد أعلن صراحة ما
كان يمارسه الزرقاوي عملياً من قطيعة وتجاوز لقيادة القاعدة.
وقد ردّ ابو محمد العدناني في كلمته (لن يضروكم إلا
أذى): «ما كان لنا أن نشاور مِن الفصائل مَن يخالفنا المنهج
والمشروع، ويعمل ضدنا في الخفاء والعلن». وفي كلمة أخرى
للعدناني يقدّم فيها ما يعتقدها «الأدلة القاطعة والتفصيل
الشافي وبرؤية منهجية علمية متعمقة المخالفات الشرعية
والمنهجية البالغة للرسالة المنسوبة للظواهري..». ولفت
العدناني الى أن انشقاق الجولاني لم يكن وليد خطاب البغدادي
الأول، بل حدث قبل اعلان الدولة، وكان ذلك من أهم الأسباب
التي دفعت ابو بكر البغدادي «إلى الإعلان عن الدولة الإسلامية
في العراق والشام لتدارك أمر الجهاد في الشام قبل أن يضيع..».
يرد العدناني على رسالة الظواهري بعد اعلان الجولاني
البيعة له وعدم قبوله الانضواء تحت تنظيم «داعش». واعتبر
العدناني الرسالة بأنها تنطوي على مخالفات شرعية منها:
«تفريق صف فئة من أكبر فئات المسلمين المجاهدة على وجه
الأرض وتشتيتٌ لشملِها، بتقسيمها الى عراقية وأخرى سورية
بحسب الفصل النطاقي.. وقد اتهم العدناني بناء على هذا
الفصل الظواهري بأنه إقرار بحدود سايكس بيكو.. وهذا يعد
مخالفة شرعية. إن رسالة الظواهري موجهة الى جماعتين منفصلتين
ووصفت جماعة الجولاني «بالطائفة الشريفة الكريمة الفاضلة»،
وفي ذلك اعتراف بشرعية وجودها المستقل عن «الدولة». ويؤكد
العدناني على أن وحدة النطاقين السوري والشامي «سوف تبقى
العراق والشام ساحةً واحدةً، جبهةً واحدةً، قيادةً واحدةً،
ولن تَفصلَ بينهما حدود، وقسما قسما لنهدمَنَّ الساترَ
ولنردمَنَّ الخندقَ ولنُزيلَنَّ الأسلاكَ ولتُمسَحَنَّ
الحدودُ من الخارطة..». ونلفت الى أن العدناني قد وضع
رسالة الظواهري في سياق «مؤامرةً كبيرةً تحاك ضد الدولة
الإسلامية خاصة والمجاهدين عامة»(أبو محمد العدناني، «فذرهم
وما يفترون»، مؤسسة الفرقان للإنتاج الاعلامي، بتاريخ
20 يونيو 2013، مراجعة وتنقيح د. محمد غريب الشامي).
نشير أيضاً الى أن الظواهري كان قد أطرى كثيراً على
تجربة «الدولة» ودافع عنها وقال لمن اتهمها بقتل الابرياء
وسفك الدماء أن يقدّم الدليل، وقال «أبرئ الدولة من أن
يكون منهجها يستبيح دماء الأبرياء ويعتدي على الحرمات
وذلك لما علمته عن أهم قياداتها ولما أعلمه عن منهجها».
بل قلل الظواهري من شأن جرائم «الدولة» في مقابل «وقوع
بعض الجهات في عمالة واضحة وموالاة وقتال مع الأمريكان
ضد المسلمين المجاهدين». في إشارة الى الشيخ محمد بشار
الفيضي والدكتور مثنى حارث الضاري.
الظواهري أكّد ايضا على مرجعية «الدولة» في العراق،
ونفى وجود «القاعدة» فيها، وقال ما نصّه: «أود أن أوضح
أنه ليس هناك شيء الآن في العراق أسمه القاعدة، ولكن تنظيم
قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين اندمج بفضل الله مع غيره
من الجماعات الجهادية في دولة العراق الإسلامية حفظها
الله، وهي إمارة شرعية تقوم على منهج شرعي صحيح وتأسست
بالشورى وحازت على بيعة أغلب المجاهدين والقبائل في العراق»(اللقاء
الرابع لمؤسسة السحاب مع الشيخ/ أيمن الظواهري، 2007،
مؤسسة النخبة).
وزاد الظواهري على ذلك بأن نفى أن يكون كلام بن لادن
عن تخلف بعض الجهاديين عن الوحدة موجهاً الى «الدولة»
وقال عن كوادر الأخيرة ما نصّه: «فقد ضربوا أروع الأمثلة
على المبادرة إلى توحيد صفوف المجاهدين والمسلمين في العراق
بدءاً من بيعة الشيخ أبي مصعب الزرقاوي رحمه الله لقاعدة
الجهاد إلى قيام دولة العراق الإسلامية». وقد أفاد قادة
«داعش» من مثل هذه الشهادة ليحاربوا بها الظواهري نفسه
بعد قبوله بيعة الجولاني الذي انشق عن «الدولة» ونكث بيعة
«البغدادي».
وكان الظواهري قد وصف «دولة العراق الإسلامية» بأنها
«القوة الأولى في مواجهة العدوان الصليبي الصهيوني على
العراق»، وطالب بالتعاون معها. وخاطب الجهاديين في العراق
قائلاً: «إن دولة العراق الإسلامية هي دولتكم وإمارتكم
وحكومتكم، مع من ستتوحدون إن لم تتوحدوا معهم؟». وقال
عنها بأنها «من الحركات ذات المنهج الصافي والرؤية الواضحة
السباقة لإعلان الالتزام بالثوابت الشرعية في القِتال
والسياسة..». وأن «رايتها من أنقى الرايات في العراق ولم
تتلوث بما تلوث به غيرها، وهي القوة الأساسية اليوم في
وجه الأمريكان باعتراف الجميع بمن فيهم الأمريكان، ولذا
فإن دعمها أمانة في عنق الأمة المسلمة والمسلمين..».
قد لا يكون الظواهري مسروراً اليوم وهو ينظر الى حال
«القاعدة» وما فعله «داعش» بها، حيث تجاسر قادته على تحطيم
صورة الظواهري، وسرقة منجزات تنظيمه، بل والأخطر افتضاح
دموية «داعش» الذي تحوّل الى ما يشبه صاروخ عشوائي يسقط
في أي مكان ووسط أي جماعة. لربما ندم الظواهري على هذه
المواقف التي باعها بالمجان لتنظيم «داعش»، وأضر كثيراً
بسمعة «القاعدة».
أصبح «داعش» البديل والوارث لتراث وتاريخ وأمجاد «القاعدة»،
وراح يستوعب قيادتها في الفروع وقواعدها أيضاً تحت مظلة
دولة الخلافة، وأن يحقق ما لم يحالف «القاعدة» الحظ على
تحقيقه، فأصبح البغدادي القائد والخليفة الشرعي للتنظيمات
الجهادية قاطبة. ولذلك، لم تكن مستغربة دعوة قيادة «داعش»
المسلمين عموماً بالانضواء في الدولة والهجرة اليها، واعتبار
أن الوقوف ضد الدولة هو ضد شرع الله وإرادته التي اختارت
البغدادي خليفة للمسلمين وإماماً لدولتهم!.
وقد خاطب العدناني في كلمته (لن يضروكم إلا أذى): «نتوجه
إلى جميع الفصائل المسلمة المجاهدة الساعية لتحكيم شرع
الله، إلى كل المجاهدين الصادقين المخلصين العاملين لله،
ندعوكم قادة وجنوداً، جماعات وأفراداً أن تسرعوا بالالتحاق
بمشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام..». وهو ما
أعلنه صراحة البغدادي في خطبته التي ظهر فيها يوم الجمعة
في المسجد الكبير في الموصل في 4 يوليو 2014.
وسوف يزداد الخلاف بين «القاعدة» و»الدولة» اتساعاً
بمرور الوقت، لأن قيادة تنظيم «القاعدة» تشعر بأن عملية
اختطاف غادرة جرت على تركته وتجربته وميراثه وسوف تفتح
الباب أمام صراع دموي حاد، أو أن ينجح قادة «الدولة» في
استيعاب «القاعدة» في مشروعها بالمنجزات الميدانية وفرض
الأمر الواقع. وفي المجمل، فإن «داعش» أو «دولة الخلافة»
تمثّل النسخة المتطرّفة عن «القاعدة» وهي الأشرس على الإطلاق
في تجربتها، ولكنها الأٌقرب الى روح الوهابية الأصلية.
|