هل حان تخلّي آل سعود عن الوهابية؟
محمد فلالي
قبل عقد من الزمن كتب الدكتور تركي الحمد مقالة في
الشرق الأوسط: (الأيديولوجيا عبئاً) مشيراً الى أن الأيديولوجيات
المتطرفة خصوصاً، تتحوّل الى عبء بعد استخدامها للوصول
الى السلطة. كانت تلك المقالة تحوم حول الحمى دون أن تقع
فيه، وكان المعنى الذي اراد الحمد ايصاله، هو ان الوهابية
تحوّلت الى عبء على الدولة. بعد عقد من مقالته تلك، تغيرت
الاوضاع، وضاق المواطنون ذرعاً بتطرف الوهابية وتخريجها
للقواعد والدواعش، واستعدائها العالم على البلاد وأهلها،
فكتبوا بصريح العبارة مقالات في الصحافة المحلية تطالب
بالتخلّي عن الوهابية ـ او كما تسمى: دعوة محمد بن عبدالوهاب
السلفية، وإلا مات النظام السعودي الذي صنعته، او اختنق
في شرنقتها.
الى أي حد تعتبر هذه الدعوة ممكنة التطبيق؟ أو مرغوبة
من جانب العائلة المالكة؟ هل الحديث المحلي ـ الذي سمح
به الأمراءـ والمتعلق بالتخلّي عن الوهابية غرضه تكتكي:
إخضاع المؤسسة الدينية لرغبات الأمراء أكثر فأكثر، ودفع
المشايخ للدفاع عن آل سعود حتى النهاية؛ ام هي دعوة مقصودة
وجادّة ولها رصيد من الحقيقة؟
اكتشفت السعودية من خلال تجارب عديدة بأن الايديولوجية
المشرعنة لوجودها واستمرارها ليست شيئاً آخر سوى الإيديولوجية
التي تعتنقها تنظيمات «السلفية الجهادية» وعلى رأسها «داعش»
الذي يكتسب مشروعيته من امتثاله المطلق لتعاليم الوهابية
الأصلية، وهذا ما يشكّل خطراً على النظام.
إن الاكتشاف لا يتوقف عند مجرد أخذ العلم بما يعنيه
اعتناق «داعش» للوهابية الأصلية، بل بما يترتب عليه من
تداعيات. فقد كانت السعودية أمام مخاطر كبيرة فرضت عليها
الدخول في مراجعة جادة للأيديولوجية المشرعنة لها. فقد
لجأ مؤسس الدولة السعودية الأخيرة عبد العزيز بن سعود
الى المشايخ المقرّبين منه من أجل إعادة تفسير الوهابية
بما يتناسب مع شروط الدولة الحديثة، وقد جرّب مراراً في
إقناع جيشه العقائدي «الإخوان» ولكنّه فشل في ذلك واضطر
لخوض معركة فاصلة وشرسة ضدهم في السبله سنة 1929. ولم
يكن بالإمكان إعلان الدولة السعودية في ظل «الإخوان» الذين
تربّوا على إدامة العمل بفريضة الجهاد وتكفير الدول المجاورة
والهجرة المرتبطة بمشروع الفتوحات.
بقيت الوهابية الأصلية محفوظة في المرجعيات الأصلية
وفي مناهج التعليم الديني الرسمي وفي حلقات الدرس التي
يقيمها علماء الوهابية. وإن الملاحظات التي دوّنها مفتي
الديار السعودية الشيخ محمد بن ابراهيم حول القوانين الوضعية
التي تسرّبت الى النظام التشريعي السعودي قد أسّست لحركة
احتجاج هادئة وقادت في نهاية المطاف الى تكفير الدولة
السعودية، بحسب ما جاء في «مذكرة النصيحة» التي رفعها
أكثر من 120 رجل دين وهابي من الطبقة المتوسطة في التراتبية
الدينية المحلية، ثم جاء منظّر «القاعدة» أبو محمد المقدسي،
أو عصام البرقاوي، الأردني من أصل فلسطيني، ليؤصّل لتكفير
النظام السعودية كما في كتابه «الكواشف الجلية في كفر
الدولة السعودية».
|
تحالف أيديولوجيا الاستبداد الديني،
مع أطماع أرباب الإستبداد السياسي.. هل ينفصم؟
|
وقد حاول جهيمان العتيبي ومجموعة «الجماعة السلفية
المحتسبة» في إعادة انتاج تجربة «الإخوان» عن طريق مرحلة
تعبوية دعوية تقود الى مرحلة جهادية. وكان الهدف المرسوم
لحركة جهيمان واضحاً بإحياء تجربة الدولة السعودية الأولى
حين كانت تعاليم الوهابية مؤثرة بصورة مطلقة في أداء السلطة،
وكان الشيخ مرشداً للأمير وموجّهاً لسياساته العامة..
سقطت تجربة جهيمان بالضربة القاضية سياسياً، ولكن أفكاره
بقيت تروج بين شباب الصحوة الذين أفادوا من تجربة الجهاد
الافغاني الذي انطلق في مطلع الثمانينات، كما استثمروا
الدعم السخي والمطلق الذي قدّمه الملك فهد للوهابية بعد
وصوله العرش سنة 1982 لمواجهة ما كان يعتقده خطر الثورة
الايرانية على نموذج الإسلام السعودي..
وبعد أن كانت الوهابية تلفظ أنفاسها نتيجة هيمنة الدولة
ومؤسساتها الحديثة، حصلت على ما يشبه إكسير حياة طويل
الأمد، فحققت الوهابية أكبر انتشار كوني في تاريخها. فقد
خصّصت الحكومة السعودية ما يقرب من 80 مليار دولار لنشر
الوهابية في أرجاء العالم، عبر بناء المدراس الدينية والمساجد
والمراكز الدعوية وتمويل الدعاة ورجال الدين ومؤسسات إعلامية
ونشرية وأغرقت العالم بأطنان من النشريات والكتب والمطويات
الوهابية، وحدث ما يشبه ثورة وهابية لمواجهة خطاب الإسلام
الثوري..وكان الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص
قد وجدت في مشروع الوهابية المحافظة داعماً لها في مواجهة
خصمها الإيراني، ولم يكن يدرك أحد في الغرب بأن الوهابية
قد تنجب وحشاً سوف يشكل تهديداً للسلام العالمي.
كان على الغرب أن يرغم الحليف السعودي على مراجعة ايديولوجيته
الوهابية بعد سقوط البرجين في نيويورك في الحادي عشر من
سبتمبر 2001. لم تكن صدفة مشاركة 13 من أصل تسعة عشر انتحارياً
سعودياً في الهجمات، ولم تكن مجرد مزحة كلام أحد المشايخ
على شاشة القناة السعودية الأولى بعد أيام من الهجمات
عن أن الولايات المتحدة لن تأمن الا بدخولها الإسلام.
التقرير المتعلق بالتحقيق في هجمات 9/11 خلا من «القسم
الخاص» عن ضلوع السعودية بطلب من الإدارة الأميركية، وكان
ذلك أول تواطؤ من قبل الأخيرة في التعمية على خطر الأيديولوجية
الوهابية على الأمن العالمي. وفي يوليو 2002 وصف موراويك
العضو في الهيئة الاستشارية في البنتاغون المملكة السعودية
بأنها (بؤرة الشر). ولكن كما في وثيقة كريستوفر هيل حول
ضلوع السعودية في الارهاب داخل العراق، فإن وصف موراويك
مضى كما لو أنه مجرد تصريح إعلامي دون أثر على الأرض.
كان يمكن للإرهاب داخل العراق أن يبقي الوهابية في
مأمن من النقد، وسوف يلجأ أمراء آل سعود الى اللعبة القذرة
مجدداً بتحميل جماعة «الإخوان المسلمين» المسؤولية عن
كل ما يصيب العالم من ويلات. لم يجهل الضحايا هوية الجاني،
ولا فكرها التحريضي، وإن الدخول في اللعبة الطائفية من
قبل السعودية واستخدام الارهاب كورقة فيها فجّر أزمة شاملة
امتدت الى آل سعود أنفسهم. فقد بات واضحاً أن العمليات
الانتحارية التي جرت في لبنان واليمن وتجري الآن في العراق
وسوريا تتم بتحريض أيديولوجي من مشايخ الوهابية. فلم يعد
هناك من ريب بأن الانتحاريين إما أن يكونوا سعوديين أو
محرّضين من سعوديين وفي كل الأحوال تلعب الوهابية النجدية
الدور التحريضي على ارتكاب العمليات الانتحارية.
بعد صعود نجم «داعش» باتت الحاجة أشد إلحاحاً على قراءة
خطاب التنظيم وتركيبته ومصادر تمويله والايديولوجية التي
يركن إليها. لم يتطلب الكشف عن الهوية الفكرية والعقدية
للتنظيم عملاً جبّاراً فقد تكفّل قادة وأمراء «داعش» بمهمة
تقديم كل المساعدات المطلوبة من أجل إقناع العالم بأنه
يمثل «الوهابية النقيّة» في مقابل كل الأطراف التي تزعم
بأنها على مذهب محمد بن عبد الوهاب بما في ذلك النظام
السعودي..وهذا ما جعل مشايخ الوهابية السعوديين في حرج
بالغ، لأنهم وجدوا أنفسهم بين خيارين إما الإقرار بأن
معتقدات داعش هي بالفعل ما كان محمد بن عبد الوهاب قد
بشّر بها أو الانحياز الى النظام السعودي وإن على حساب
تعاليم المذهب..
يقف آل سعود اليوم على مفترق طرق، فإما أن يخوضوا معركة
الهوية، بالتخلي عن الإيديولوجية الوهابية التي لم تعد
صالحة في إدارة شعب يزداد انقساماً نتيجة خطاب أيديولوجي
متعارض مع أي مدّعيات وطنية، أو التمسّك بالوهابية المعدّلة
التي تقدّم مسوّغات من حرّاسها الحقيقيين والمخلصين مثل
«داعش» لأن تشكّك في مشروعية النظام السعودية بنفس الأداة،
أي بنفي اعتناقه للوهابية الأصلية، وفي هذه الحالة يصبح
النظام فاقداً للمشروعية الدينية والمشروعية الشعبية..
إن السير في خيار وسطي، لا مع الأيديولوجية الوطنية،
ولا مع العقيدة الوهابية كما هي حال النظام الآن قد ينقذه
لبعض الوقت وقد يربح المعركة، ولكن بالتأكيد سوف يخسر
الحرب على المدى البعيد، وحينئذ لن يجد من يقبل له هذه
المراوحة بين الوطن والعقيدة، بالنظر الى التأثيرات الكبيرة
التي يتركها على واقع المجتمع، من حيث تماسكه واستقرار
وقناعته بجدوى النظام السياسي الذي يحكمه.
|